مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

السيد أمير محمد القزويني

مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

المناقشة في حديث آئتوني بكتاب أكتب لكم

قال : لو كان كتابة ذلك الكتاب عزيمة لما حال بين النبي (ص) وبين كتابته حائل مهما كان ، فعدول النبي (ص) عن كتابته دليل على أنّه لم يكن عزيمة؟!.

قلت : أولا : إنّ عزيمة كتابة ذلك الكتاب ثابتة بنصّ قوله (ص) : «لن تضلّوا بعده أبدا ، ولظهور الأمر في الوجوب كما قدمنا من أن الوقوع في الضلال لا يكون إلّا بترك الواجب أو فعل الحرام لا غيرهما.

ثانيا : لما واجه القوم رسول الله (ص) بتلك الكلمة القارصة ، والعبارة الجارحة ، خاصة وهو في آخر أيّامه من الدنيا رأى (ص) إنّ من الحكمة والمصلحة أن يعدل عن كتابته حفاظا على الدين ، وقياما بما أوجبه (ص) من تقديم الأهمّ على المهم لأنّه (ص) نظر إلى صدور الشك منهم ، فعلم (ص) أنّ ذلك الكتاب لا يرفعه ولن يرفعه أبدا ، كما أنّ عدوله (ص) عن كتابته لم يكن بعدم الفائدة فيه بعد تلك المعارضة ، وموافقة جمهور الصحابة لقائله. فحسب ، بل لأنّه (ص) لو لم يعتن بقولهم ، وكتبه ، لقالوا فيه كما قلنا (كتبه وهو يهجر)

٣٨١

أو (مغلوب للوجع) فهو يتكلم بكلام المرضى المحمومين الذي هو الهذيان والهذر ، وحينئذ تكون خلافة علي وبنيه الطاهرين من البيت النبوي (ص) الثابتة بالنصوص القولية القطعية موضعا للشكّ ، وموردا للطعن ، بل لا يبقى أثر لكتابة ذلك الكتاب سوى توسعة شقّة الخلاف ، واللغط بينهم ، على حدّ قول ابن عباس بل لا يؤمن من وقوع الفتنة من بعده في أنّه (ص) هل هجر (والعياذ بالله) فيما كتب ، أو لم يهجر؟ كما تنازعوا وأكثروا من الاختلاف واللغط بحضرته (ص) ، وفي آخر أيّام حياته (ص) ، فلم يتسنّى له (ص) يومئذ أكثر من أن يقول : «قوموا عنّي فلا ينبغي عندي تنازع» بل لو أصرّ ، على كتابته لأصرّوا على قولهم هجر ، وأكثروا في إشاعته ونشره ، ولتوسّع أتباعهم في إثبات هجره (ص) ، فسطروا الأساطير ، وملئوا الطوامير ردّا منهم على ذلك الكتاب ، وإسقاطهم له من الحساب ، وعن درجة الاعتبار لذلك كلّه اقتضت حكمته البالغة أن يعدل عن كتابته لئلا ينفسح المجال لأولئك المعارضين وأشياعهم إلى الطعن في نبوّته ، فيذهب الدين من أصله ، لا سيّما وهو (ص) يعلم أنّ عليّا (ع) وأشياعه خاضعون لمدلول ذلك الكتاب ، وأنّه يستهدف به أمر الخلافة ، وأنّه (ص) يريد أن يجعلها في علي والأئمة الأحد عشر من أبنائه الطاهرين بنصّ ذلك الكتاب ، تأكيدا لنصّه عليهم يوم الغدير ، وفي حديث الثقلين ، والنجوم ، والسفينة ، وغيرها المتقدم تفصيلها ، سواء عندهم أكتبه أم لم يكتبه.

وإنّ المعارضين له (ص) لا يعلمون به ، ولا يعتبرونه حتى لو كتبه (ص) وجملة القول لما كان كتابة الكتاب ممّا يضرّ بصالح القوم ، وموجبا لحلّ ما أبرموه من العهود والمواثيق ، على أن يكون أمر الخلافة فيهم لا في أهل بيت النبي (ص) ، وأن منع النبي (ص) من كتابة الخلافة لعلي وبنيه (ع) ، يحتاج إلى وثبة جبارة ، وصلابة شديدة ،

٣٨٢

وجرأة ، مسرفة ، في مجابهته (ص) ، رأوا أنّ من أقوى الأساليب ، وأمتن الوسائل الموجبة لمنعه عن ذلك الأمر الذي يقول (ص) فيه : «دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه» أن يقولوا فيه ذلك القول الخشن ، بلا تدبّر ، ولا روية.

هذا وهو لا يزال (ص) حيّا بين ظهرانيهم ، فكيف يكون حالهم من الاختلاف والتنازع بعد وفاته (ص)؟ لذا رأى (ص) أن من حسن تدبيره (ص) لهم ، ورعايته لشئونهم أن يضرب الصفح عن ذلك الكتاب ، خوفا من وقوع الفتنة ، وحفظا لكيان الدين ، وصيانة لدماء المسلمين ، واحتياطا على نصوصه في خلافة علي وبنيه (ع) من بعده ، لئلا تصبح غرضا لنبال الشكّ ، وهدفا لسهام الطعن والتشكيك ، من المعارضين.

وإن قلتم : كما قال غيركم إنّه أراد بالكتاب أن يكتب الخلافة لأبي بكر (رض) ويعهد بأمر الإمامة إليه (رض) فيقال لكم لو جاز أن يكتب الخلافة لأبي بكر (رض) ويعهد بالإمامة إليه لما نسي الراوي الوصية الثالثة ولا منعه القوم من كتابته ، ولما أسرعوا إلى السقيفة لعقد البيعة له (ص) ، تنفيذا لما تعاقدوا عليه من قبل على أن يكون هذا الأمر فيهم لا في أهل بيت نبيّهم (ص) ، ولكن سبق النصّ على عليّ (ع) يوم (الغدير) الذي كان على مرأى منهم ومشهد ، كان من الأدلّة الواضحة عندهم ، على أنّه (ص) كان يريد بالكتاب تجديد العهد والوصية لعلي وبنيه (ع) الطاهرين ، ويؤكّد عليهم الحجّة ، ففهموا ذلك ، وأبوا عليه (ص) تحقيقه ، فقالوا فيه (ص) تلك الكلمة الكزّة ، ولأنّ الذي يضرّهم كما قلنا هو كتابة الخلافة لعلي وبنيه (ع) دون غيره.

ويؤكّد لكم ذلك كلّه ما سجّله ابن أبي الحديد في (شرح نهج

٣٨٣

البلاغة) ص ٩٧ من جزئه الثالث عن أحمد بن أبي طاهر المعروف بابن أبي طيغوز وكان في العقد الثاني من الهجرة النبوية وهو صاحب (تاريخ بغداد) ، وهو من أئمة أهل السنّة على ما قاله الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) ص ٢١١ من جزئه الرابع عن ابن عباس أنّه قال في حديث طويل جرى بينه وبين الخليفة عمر بن الخطاب (رض) :

«قال عمر (رض) في بعض ما أجاب به ابن عباس ما ملخّصه : (إنّي لما علمت أنّ النبي (ص) أراد في مرضه أن يكتب لعلي (ع) بالخلافة ، ويعهد بها إليه ، فمنعته من ذلك ، لعلمي بأنّ العرب تنتقض عليه لبغضها له)».

وهو يرشدكم إلى أنّهم كانوا يعلمون مسبقا بالنصّ عليه (ع) ولكنهم يرون أنّ مصلحة الأمّة ، وانتقاض العرب ، وعدم رغبتهم في اجتماع النبوّة والإمامة في أهل بيت النبي (ص) ، كل ذلك يقتضي منع النبي (ص) ، والحيلولة بينه (ص) وبين ما أوحى الله تعالى به إليه ، من وجوب طاعتهم المطلقة لعلي (ع) من بعده ، وتنصيصه (ص) بالخلافة عليه (ع). وهذا واضح لا سبيل إلى إنكاره.

٣٨٤

الصحيح في حديث صلاة الخليفة

أبي بكر (رض) في مرض النبي (ص)

ثالثا : إنّ الصحيح المتواتر بين الفريقين أنّ رسول الله (ص) أخّر الخليفة أبا بكر (رض) من تلك الصلاة ، وصرفه عن إمامة المسلمين ، لأنّه خرج بعد سماعه بتقدم أبي بكر (رض) يتهادى بين علي (ع) والعباس مع ما فيه من ضعف الجسم بالمرض ، الأمر الذي لا يتحرك معه العاقل إلّا في حال الاضطرار ، لتدارك ما يخاف بفواته حدوث أعظم فتنة ، فعزل النبي (ص) لأبي بكر (رض) عمّا كان تولّاه من تلك الصلاة ، كما نطقت به أحاديث الفريقين ، يدلّكم على أن تقدّمه (رض) للصلاة لم يكن بأمر من النبي (ص) في شيء ، وإنّما كان من ابنته عائشة أمّ المؤمنين (رض) ، ولم تكن تلك الصلاة إلّا صلاة الصبح ، لا غيرها.

ويرشدكم إلى ذلك ما أخرجه الحافظ الكبير عند أهل السنّة الإمام مسلم في صحيحه في أواخر ص ١٧٨ من جزئه الأول في باب (استخلاف الإمام إذا عرض له عذر) من كتاب الصلاة.

عن عائشة أمّ المؤمنين (رض) : «قالت : لما ثقل رسول الله (ص) جاء بلال يؤذّنه بالصلاة ، فقال : مروا أبا بكر فليصلّ

٣٨٥

بالناس. قالت : فقلت : يا رسول الله! إنّ أبا بكر رجل أليف ، وإنّه متى يقم مقامك لم يسمع الناس ، فلو أمرت عمر! فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس! قالت : فقلت لحفصة قولي له إنّ أبا بكر رجل أسيف ، وإنّه متى يقم مقامك لا يسمع الناس ، فلو أمرت عمر! فقالت له : فقال رسول الله (ص) إنّكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصلّ بالناس! قالت فأمروا أبا بكر يصلّي بالناس ، فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله (ص) من نفسه خفّة فقام يتهادى بين رجلين ، ورجلاه تخطّان الأرض ، فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسّه فذهب يتأخر فأومأ إليه رسول الله (ص) فجاء رسول الله (ص) فجلس عن يسار أبي بكر فكان أبو بكر يصلّي قائما وكان رسول الله (ص) يصلّي قاعدا يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله (ص) ، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر».

وقد أخرجه الإمام البخاري في أواخر ص ٩٠ من صحيحه في باب (الرجل يأتمّ بالإمام ويأتمّ الناس بالمأموم) من جزئه الأول.

وأخرج مثله في باب (من أسمع الناس تكبير الإمام) ص ٩٠ من أبواب صلاة الجماعة من كتاب الأذان من جزئه الأول وأنتم تجدون هذا صريحا في أنّ أول صلاة صلّاها أبو بكر (رض) هي التي عزله عنها رسول الله (ص).

وأمّا كون تلك الصلاة هي صلاة الصبح لا غيرها فلما ذكره الطبري في ص ١٩٦ من تاريخه من جزئه الثالث عن عبد الله بن أبي مليكة قال : «لما كان يوم الاثنين خرج رسول الله (ص) عاصبا رأسه إلى صلاة الصبح ، وأبو بكر يصلّي بالناس ، فلما خرج رسول الله (ص) تفرّج الناس ، فعرف أبو بكر أنّ الناس لم يفعلوا ذلك إلّا لرسول الله (ص) فنكص عن مصلاه ، فدفع رسول الله (ص) في

٣٨٦

ظهره ، وقال صل بالناس ، وجلس رسول الله (ص) إلى جنبه فصلّى قاعدا عن يمين أبي بكر ، فلما فرغ من الصلاة أقبل على الناس وكلّمهم رافعا صوته حتى خرج صوته من باب المسجد يقول أيّها الناس! سعرت النار ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ...» (الحديث).

وهو صريح في أنّ تلك الصلاة لم تكن إلّا صلاة الصبح لا سواها.

وأمّا كونها في يوم وفاة النبي (ص) فلما أخرجه المتقي الهندي في (كنز العمال) ص ٥٧ من جزئه الرابع عن أبي يعلى في مسنده وابن عساكر عن أنس قال : «لما مرض رسول الله (ص) مرضه الذي مات فيه ، أتاه بلال فآذنه بالصلاة ، فقال (ص) : يا بلال قد بلغت فمن شاء فليصل ، ومن شاء فليدع. قال : يا رسول الله (ص) فمن يصلّي بالناس؟ قال مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فلما تقدم أبو بكر رفعت الستور عن رسول الله (ص) فنظرنا إليه كأنّه ورقة بيضاء عليها قميصة سوداء ، فظنّ أبو بكر أنّه يريد الخروج فتأخّر فأشار إليه رسول الله (ص) أن صلّ مكانك ، فما رأينا رسول الله (ص) حتى مات من يومه».

وفيه أيضا ص ٥٨ جزئه الرابع عن أبي الشيخ في الأذان :

عن عائشة أمّ المؤمنين (رض) قالت : ما مرّ عليّ ليلة مثل ليلة مات رسول الله (ص) يقول : يا عائشة هل طلع الفجر ، فأقول لا يا رسول الله (ص) حتى أذّن بلال بالصبح ، ثم جاء بلال فقال السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، الصلاة يرحمك الله! فقال النبي (ص) من هذا؟ فقلت : بلال. فقال : مري أبا بكر أن يصلي بالناس (الحديث).

فنتج ممّا أوردناه لكم إنّ الصلاة التي تقدم فيها أبو بكر (رض)

٣٨٧

هي التي نهاه رسول الله (ص) عنها ، وهي صلاة الصبح ، وكانت صبح الاثنين في اليوم الذي التحق فيه رسول الله (ص) بالرفيق الأعلى.

وأمّا كون أن ذلك كان بأمر من عائشة أمّ المؤمنين (رض) دون رسول الله (ص) فيدلّكم عليه أمور :

الأول : إنّ رسول الله (ص) لم يعيّن أحدا للصلاة فيهم كما يدلّ عليه قوله (ص) في حديث (كنز العمال) المتقدم ذكره «فمن شاء أن يصلّي ، ومن شاء فليدع» فإنّه (ص) يريد التخيير في أمر الجماعة ، لا التخيير في أصل الصلاة لوضوح بطلانه فحينئذ يكون ما في ذيل الحديث من قوله «مروا أبا بكر فليصل بالناس» من الزيادات التي قضت بها السياسة في ذلك الحين ، وإلّا لم يكن لهذا التخيير في منطوق الحديث معنى يفهم ، وإن فات ذلك على واضعي تلك الزيادة ، ولم يهتدوا إلى منافاتها لصدر الحديث.

الثاني : ما أخرجه ابن عبد البر في (استيعابه) في ترجمة الخليفة أبي بكر (رض) عن عبد الله بن زمعة قال : «قال رسول الله (ص) مروا من يصلّي بالناس».

وأمّا تذييل ابن زمعة للحديث بأنّه (ص) «أمر عمر بن الخطاب بالصلاة فلما كبّر سمع رسول الله (ص) صوته قال : فأين أبو بكر يأبى ذلك والمسلمون» فإنّه من زياداته التي لم يتفطن حينما وضعها إلى أنّها تنافي مقام النبي (ص) ولا يمكن نسبتها إليه. أمّا أولا فلاستلزامه قطع صلاة الخليفة عمر (رض) وأمره (ص) بإبطال صلاته ، وجهله بلزوم تقديم أبي بكر (رض) بعد تقديمه عمر (رض) ، وأمره له بالصلاة ، ومخالفته (ص) لصريح قوله تعالى في سورة محمد (ص) آية ٣٣ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ).

٣٨٨

فإذا كان الأمر كما ذكرنا فكيف يجوز لمسلم أن ينسب الجهل إلى النبي (ص) بأحكام شريعته ، ويعزو إليه مخالفة كتاب الله تعالى ، فيأمر عمر (رض) بقطع صلاته وإبطالها ، وقد أمره هو بإقامتها.

ثانيا : لو كان ذلك صحيحا لشاع وذاع ، حتى ملأ المسامع والأصقاع ، ولما لم يكن الأمر فيه كما ذكرنا ، علمنا أنّه موضوع لا أصل له.

ثالثا : إنّ تقديم النبي (ص) أبا بكر (رض) للصلاة إن كان واجبا على معنى لا يجوز لغيره التقدم عليه بها ، لزم ابن زمعة أن يقول إنّ رسول الله (ص) بتقديمه عمر (رض) عليه ، وأمره له بالصلاة دونه ، إمّا كان جاهلا (نعوذ بالله تعالى) بهذا الواجب ، أو كان عالما بوجوبه ، ولكنه (ص) ترك ما كان واجبا وفعل ما كان حراما ، بتقديمه (ص) عمر (رض) وأمره (ص) له (رض) بارتكاب ما هو حرام. وإذا كان يأبى الله ذلك والمسلمون على حدّ زعم ابن زمعة فكيف يا ترى لا يأباه رسول الله (ص) وهو سيد المرسلين فيأمر عمر (رض) بما يأباه الله والمسلمون؟ وليت ابن زمعة تفطن قليلا قبل أن يضع هذه الزيادة إلى أن فيها الطعن الصريح في قداسة النبي (ص) وعلوّ شأنه ، وكأن ابن زمعة لم يجد سبيلا إلى إثبات هذه الفضيلة لأبي بكر (رض) إلّا من طريق الغض من كرامة النبي (ص) ، والتنقص من قدره ، ونسبة الباطل إليه ، نعوذ بالله من التعصّب البغيض ، ونستجير به من الزلل في القول.

وإن لم يكن تقديم النبي (ص) لأبي بكر (رض) للصلاة واجبا ، بطل قول ابن زمعة (يأبى الله ذلك والمسلمون) لأنّ الله تعالى لا يأبى إلّا ما كان تركه واجبا أو فعله حراما ، وأيّا كان فذلك كلّه واضح البطلان.

٣٨٩

الثالث : ما قدمناه من إسراع النبي (ص) بالخروج وهو في ذلك الحال من المرض الشديد ، وصلاته من جلوس صلاة المضطرّ ، فإنّ في ذلك دلائل واضحة على أنّه (ص) أراد بخروجه أن يرفع ما أذاعوه بين الناس عن أنّه (ص) هو الآمر لأبي بكر (رض) بالصلاة فيهم ، لا سيما إذا لاحظتم خطبته في رواية الطبري المتقدمة من قوله (ص) : «سعرت النار وأقبلت الفتن» الدالّ صريحا على أنّ تلك الصلاة لم تكن من أمره ، وإنّما كانت فتنة اتّخذها أصحاب الخليفة أبي بكر (رض) ذريعة لإثبات ما يبتغون ، لذا ترون أنّ رسول الله (ص) لم يعتدّ بها وصلّى مبتدئا كما في رواية الطبري ص ٤٤٩ من تاريخه من جزئه الثاني مدلا للناس على عدم اعتداده بتلك الصلاة ، الأمر الذي يدلنا بصراحة على أنّه لم يكن من أمره (ص).

الرابع : إنّ الثابت في التأريخ الصحيح وصحيح الأحاديث عند أهل السنّة إنّ الخليفة أبا بكر (رض) كان وقتئذ في جيش أسامة بن زيد وتحت إمرته ، وقد لعن رسول الله (ص) من تخلف عنه ، كما سجله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) فكيف يصحّ هذا مع دعواكم أنّ النبي (ص) أمره بالصلاة في الناس؟ وإلّا لزمكم أن تقولوا بتخلّفه (رض) عن جيش أسامة وذلك مع كونه مانعا من أمر النبي (ص) له بالصلاة فيهم لا يمكنكم أن تذهبوا إليه كما تعلمون.

الخامس : لو كانت تلك الصلاة بأمر النبي (ص) لما كان يناسب خطاب أمهات المؤمنين (رض) بذلك الخطاب القارص ويقول لهن «إنكن لأنتن صواحب يوسف» ولا يجوز لمسلم أن يظنّ برسول الله (ص) إلّا بما هو أهله ، فإنّ النبي (ص) أعظم خلقا وأعلى قدرا ، وأجلّ شأنا عمّا يتحدّث عنه المفترون.

ومن كل هذا ونحوه تعلمون عدم إمكان صدور مثل هذا

٣٩٠

الحديث عن النبي (ص) ، وإن كان مسجلا في صحاح أهل السنّة لما قدّمناه لكم من الوجوه.

رابعا : لو فرضنا جدلا صحّة حديث عائشة أم المؤمنين (رض) ، وغضضنا النظر من تلك الوجوه المتقدّمة ، كل ذلك للتساهل معكم ، ومع ذلك فإنّ الأمر بالصلاة خلفه لا يوجب له الإمامة العامّة على المسلمين.

أ ـ أمّا أولا : فلما اتّفق عليه أئمة أهل السنّة وحفّاظهم من أنّ رسول الله (ص) صلّى خلف عبد الرحمن بن عوف على ما حكاه ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) ص ٢٢ من جزئه الخامس ، وهذا شيء لا تختلفون فيه ، فلم يوجب ذلك فضلا لعبد الرحمن على النبي (ص) ، ولا يقتضي أن يكون إماما واجب الطاعة عليه (ص) ، وعلى غيره من أصحابه (ص) ، فكما أنّ صلاة النبي (ص) خلف ابن عوف لم توجب له الإمامة على رسول الله (ص) ولا على غيره من الناس فكذلك لم توجب صلاة أبي بكر (رض) بالمسلمين إمامته عليهم.

ب ـ ثانيا : لا خلاف بين الفريقين في أنّ رسول الله (ص) قد استعمل عمرو بن العاص على الخليفتين أبي بكر ، وعمر (رض) ، وجماعة المهاجرين والأنصار ، وكان يؤمّهم في الصلاة مدّة إمارته عليهم في واقعة ذات السلاسل على ما حكاه ابن كثير في (البداية والنهاية) ص ٢٧٣ من جزئه الرابع ، والحلبي الشافعي في (سيرته الحلبية) ص ١٩٠ من جزئه الثالث وص ٨٢ من (تاريخ الخميس) من جزئه الثاني ، والدحلاني في ص ١٣١ من سيرته بهامش الجزء الثاني من (السيرة الحلبية) ، فلم يوجب صلاته فيهم ، إمامته عليهم ، ولا فضلا عليهم ، لا في الظاهر ، ولا عند الله تعالى ، على حال من الأحوال ، فكذلك الحال في صلاة أبي بكر (رض) فيهم ، لا توجب

٣٩١

إمامته (رض) عليهم ، ولا فضلا عليهم ، وهذا البخاري يحدّثنا في صحيحه ص ٨٩ من جزئه الأول في باب إمامة العبد من أبواب صلاة الجماعة من كتاب الأذان عن ابن عمر قال : «لما قدم المهاجرون الأولون (العصبة) (موضع بقبا) قبل مقدم رسول الله (ص) ، كان يؤمّهم سالم مولى أبي حذيفة ، وكان أكثرهم قرآنا» فكما أنّ إمامة سالم مولى أبي حذيفة للمهاجرين الأولين ، لم توجب له فضلا ولا الإمامة العامة عليهم ، ولم تقض له بخلافة الرسالة ، فكذلك إمامة أبي بكر (رض) للصلاة بالمسلمين ، لم توجب له فضلا ، ولا الإمامة العامة عليهم ، ولم تقض له (رض) بخلافة الرسول (ص).

جواز الصلاة خلف من لا يتجنّب المعاصي

ثم إنّكم متّفقون على أنّ رسول الله (ص) أرشدكم إلى الصلاة خلف كل برّ وفاجر ، وخلف كل من قال لا إله إلّا الله ، ويقول صديق بن حسن بن علي القنوجي البخاري في أواخر ص ٧٨ من كتابه (الروضة الندية في شرح الدرر البهية) في باب صلاة الجماعة من النسخة المطبوعة سنة ١٢٩٦ هجرية بالمطبعة المصرية ببولاق (وتصح بعد المفضول لأنّه (ص) قد صلّى بعد أبي بكر وبعد غيره من الصحابة كما في الصحيح ولا دليل يدلّ على أنّه يكون الإمام أفضل ـ إلى أن قال ـ والأصل إنّ الصلاة عبادة تصحّ تأديتها خلف كل مصل إذا قام بأركانها وأذكارها على وجه لا تخرج به الصلاة عن الصورة المجزئة ، وإن كان الإمام غير متجنّب للمعاصي ، ولا متورع عن كثير ممّا يتورع عنه غيره ولهذا إنّ الشارع إنّما اعتبر حسن القراءة ، والعلم ، والسنّ ، ولم يعتبر الورع والعدالة إلى أن قال في منح المنة وكان صلّى الله عليه (وآله) يقول : «صلّوا خلف كل برّ وفاجر ، وكانت الصحابة يصلّون خلف الحجاج وقد أحصى الذين قتلهم من الصحابة والتابعين فبلغوا مائة

٣٩٢

ألف وعشرين ألفا) فإذا كانت الصلاة تجوز عندكم خلف كل فاسق وفاجر ، والاقتداء بكل ظالم وعاص ، بإجماع أئمة أهل السنّة نصا ، وفتوى ، وعملا ، واذا كانت صلاة الخليفة أبي بكر (رض) بالمسلمين دليلا على خلافة الرسالة ، وإمامة الأمّة ، كان ذلك دليلا أيضا على إمامة هؤلاء جميعا ، ولكان كلّهم خلفاء النبي (ص) من بعده ، وكان قوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) باطلا لا معنى له ، وليس له في الوجود صورة ، وهذا باطل بالضرورة من الدين والعقل ، وذلك مثله باطل.

ج ـ ثالثا : لا شكّ في أنّ المسلمين مختلفون في تقديم النبي (ص) أبا بكر (رض) للصلاة في المسلمين ، فأهل السنّة جميعا يدّعون أنّ عائشة أم المؤمنين (رض) أمرت بلالا بتقديمه (رض) للصلاة في الناس ، بأمر النبي (ص) ، كما جاءت بذلك الأحاديث المتقدمة ، والشيعة كافة يقولون إنّها أمرته من نفسها دون النبي (ص) ، لذا خاطبها بذلك الخطاب المنصوص عليه في الأحاديث الصحيحة عند أئمة أهل السنّة. كما ثبت بالإجماع بين الفريقين أنّ رسول الله (ص) خرج إلى المسجد ، وأبو بكر (رض) في الصلاة ، فصلّى تلك الصلاة ، فحينئذ لا يخلو الأمر من أحد وجوه ثلاثة على سبيل منع الخلو :

١ ـ الوجه الأول : أن يقال إنّ رسول الله (ص) كان هو الإمام لأبي بكر (رض) ولجماعة المسلمين في تلك الصلاة ، وهذا ما يوجب بطلان دعواكم بإمامته العامّة (رض) في تلك الصلاة.

٢ ـ الوجه الثاني : أن يقال إنّ أبا بكر (رض) كان هو الإمام للنبي (ص) ، وكان دليلا على إمامة أبي بكر (رض) على الأمّة ، وهذا ما يلزمكم أن تقولوا إنّ رسول الله (ص) أصبح معزولا عن إمامة أمّته ، ومصروفا عن نبوته بتقديمه من أمره الله تعالى بالتأخر

٣٩٣

عنه (ص) ، وأوجب عليه غض الصوت بحضرته (ص) ، ويلزمكم أن تقولوا بنسخ نبوّته ، وما وجب فيها من إمامة الجماعة ، والتقدّم عليهم في الدين. وهذا كما تعلمون لا يذهب إليه مسلم عرف الإسلام ، وقوانينه وشرعه ، ومنهاجه.

٣ ـ الوجه الثالث : أن يقال إنّ رسول الله (ص) وأبا بكر (رض) ، كانا معا إمامين على وجه الاشتراك ، وكان ذلك آخر أعماله (ص) في الصلاة ، وهذا ما يوجب أن يكون سنّة في أمّته ، لأنّ فعله حجّة ، ولا أقل من دلالته على ثبوت مشروعيته ، وارتفاع البدعة عنه ، في حين أنّ الأمّة مجمعة على بطلان ذلك وفساد إمامة شخصين معا بالصلاة لجماعة من الناس.

ثم يقال لكم إن دلّ ذلك على إمامة أبي بكر (رض) ووجوب طاعته (رض) مطلقا ، كوجوب إمامة النبي (ص) ولزوم طاعته (ص) مطلقا ، لزم أن يكون أبو بكر (رض) إماما مستقلا في قبال إمامة النبي (ص) ، أو يكون شريكا للنبي (ص) في إمامته وحينئذ فلا يجوز لأحد الشريكين قطعا ، أن يتصرف فيما اشتركا فيه إلّا بإذن الآخر.

وعليه تكون إمامة النبي (ص) وتصرّفه فيما تقتضيه إمامته (ص) غير نافذة ، ولا ماضية في شيء من أمور الدنيا والدين ، إلّا برضا أبي بكر (رض) وإذنه. وتلك قضية اشتراكهما في الإمامة ، وبطلان هذا لا يشك فيه اثنان من أهل الإسلام.

وبعد هذا كلّه ، فلا يصح لكم أن تحتجوا بصلاة أبي بكر (رض) على الإمامة العامة ، والحكومة المطلقة ، بعد النبي (ص) ، لو سلمنا لكم جدلا صحّة هذا الحديث ، فكيف وقد بيّنا لكم بواضح الدليل على عدم صدوره من النبي (ص)؟!!.

د ـ رابعا : إنّ الحديث بصلاة أبي بكر (رض) بالمسلمين ، وإن كان

٣٩٤

أصله من ابنته عائشة أم المؤمنين (رض) على ما سجّله أئمة الحديث عند أهل السنّة ، إلّا أنّه جاء عنها على وجه التضاد والتنافي ، وذلك من أوضح الأدلّة على أنّ واضعيه لم ينتبهوا حينما وضعوه إلى هذا التضاد ليكفّوا عن وضعه ، فالمروي عنها عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود : «أنّ النبي (ص) صلّى عن يسار أبي بكر قاعدا على ما أخرجه البخاري (في صحيحه) في أوائل ص ٩١ من جزئه الأول في باب (الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم) من أبواب صلاة الجماعة من كتاب الأذان ، والمروي عن عروة عن أبيه عن عائشة (رض) : «قالت فجلس رسول الله (ص) حذاء أبي بكر إلى جنبه» على ما أخرجه البخاري في أواخر ص ٨٦ من جزئه الأول في باب (من قام إلى جنب الإمام لعلّة) والذي رواه الطبري في ص ١٩٦ من تاريخه من جزئه الثالث كما تقدم «فصلى رسول الله (ص) قاعدا عن يمين أبي بكر (رض)».

فأنتم ترون أنّ ناقل الحديث يقول تارة : إنّ النبي (ص) كان إماما لأبي بكر (رض) ، وطورا يقول كان أبو بكر (رض) ، إماما ، ومرة يقول صلّى النبي (ص) جالسا عن يسار أبي بكر (رض) ، وأخرى يقول صلّى النبي (ص) قاعدا عن يمين أبي بكر (رض).

وأخرج الإمام مسلم في (صحيحه) ص ١٨٧ من جزئه الأول في باب (استخلاف الإمام إذا عرض له عذر) عن عائشة أم المؤمنين (رض) أنّها قالت : «لقد راجعت رسول الله (ص) في ذلك ، وما حملني على كثرة مراجعته إلّا أنّه لم يقع في قلبي أن يحب الناس رجلا قام مقامه أبدا ، وإلّا فإنّي كنت أرى أنّه لن يقوم مقامه أحد إلّا تشاءم الناس به ، فأردت أن يعذل ذلك رسول الله (ص) عن أبي بكر (رض).

٣٩٥

فهذا الاستعفاء من عائشة أم المؤمنين (رض) يدل على صحّة قولنا ، أنّها هي الآمرة بالصلاة. لأبيها دون النبي (ص).

فهذه الأمور المتباينة المتضادة في الحديث ، من الأدلّة الواضحة على عدم صدوره من النبي (ص).

والذي أكّد هذا الاختلاف في الحديث ابن حجر العسقلاني في كتابه (فتح الباري في شرح صحيح البخاري) في أواخر ص ١٠٦ وما بعدها من جزئه الثاني في باب (حدّ المريض أن يشهد الجماعة) فراجعوا ذلك لتعلموا ثمة صحّة ما ذكرنا.

٤ ـ الوجه الرابع : إنّ الحديث المتواتر عن النبي (ص) ، على ما حكاه أهل الصحاح وأرباب السنن ، يحكم حكما قطعيا بعدم صحّة حديث صلاة أبي بكر (رض) وقد أخرجه البخاري في عدّة مواضع من أبواب صحيحه.

فمنها : في باب (إنّما جعل الإمام ليؤتم به) في أواخر ص ٨٧ من جزئه الأول.

ومنها : في باب (إقامة الصفّ من تمام الصلاة) ص ٩١ من جزئه الأول.

ومنها : في باب (إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة) في أول ص ٩٣ من جزئه الأول.

ومنها : في باب (يهوي في التكبير حتى يسجد) في أواخر ص ٩٩ من جزئه الأول : عن النبي (ص) أنّه قال : «إنّما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا صلى جالسا فصلّوا جلوسا» وقال (ص) : «إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به فإذا صلّى قائما فصلّوا قياما».

فهذا الحديث كما تجدونه يتضمن خلاف ما أمر به النبي (ص)

٣٩٦

وبتعبير أوضح نقول لكم : إن كان أبو بكر (رض) هو الإمام في تلك الصلاة لزمكم أن تقولوا ببطلان صلاة النبي (ص) قاعدا ، وإن كان النبي (ص) هو الإمام في تلك الصلاة لزمكم أن تقولوا ببطلان صلاة أبي بكر (رض) قائما ، وأيّا قلتم فهو دليل على بطلان الحديث ، وأنّه لا أصل له.

وجملة القول : إنّ الذي يؤكّد لكم صحة كل ما ذكرنا ، ويكشف لكم عن صدق ما تلوناه هو إجماع الأمّة من الشيعة وأهل السنّة :

على أنّ رسول الله (ص) خرج مبادرا ، عجلا ، يتهادى بين علي (ع) والعباس (رض) ، لتلافي الأمر بصلاة أبي بكر (رض) ، وتأخيره عمّا تصدّى له من الصلاة فيهم ، كما أنّهم أجمعوا على أنّه (ص) قال لعائشة وحفصة أمهات المؤمنين (رض) : «إنّكن لأنتن صواحب يوسف» ، نهيا وتوبيخا على ما أوقعا فيه أمّته (ص) من الفتنة التي أشار إليها (ص) في خطبته المتقدمة في رواية الطبري بقوله (ص) :

«أيّها الناس سعرت النار ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم» إلى آخر خطبته الشريفة التي سجّلها غير الطبري من مؤرّخي أئمة أهل السنّة ، وحفّاظهم ، وإخبارا لهم عما أرادت كل واحدة منهم أن تعطي أباها المكانة السامية بالصلاة في الناس.

إذ لو كان (ص) هو الآمر لكان قوله (ص) ذلك في أمهات المؤمنين ، وخروجه وقتئذ وهو في تلك الحالة ، عبثا باطلا ، ولغوا صرفا ، تعالى قول النبي (ص) وفعله عن اللغو والعبث! ومن قال فيه ذلك فقد طعن فيه وفي دينه ، وخرج عن الدين كليّة. ويزيد ذلك عندكم وضوحا وتأكيدا ما أخرجه البخاري في صحيحه ص ١٢٥ في باب (ما جاء في بيوت أزواج النبي (ص)) من جزئه الثاني عن

٣٩٧

النبي (ص) «أنّه قام خطيبا فأشار نحو مسكن عائشة أم المؤمنين (رض) فقال هاهنا الفتنة ثلاثا من حيث يطلع قرن الشيطان» (الحديث).

٣٩٨

قصة العريش

قال : لقد أوضحتم بما قدّمتموه لنا وجه الصواب في حديث الصلاة ، وأجدتم في الجواب عمّا ادّعاه خصومكم من دلالة الحديث على الإمامة العامّة بعد الرسول (ص) ، بما لم يبق معه شك ولا ارتياب ، ولكن مخالفيكم يقولون بأنّ الأمّة مجمعة على أنّ رسول الله (ص) خصّ أبا بكر وعمر (رض) في بدر بالجولس معه في العريش ، إشفاقا عليهما من ضرب السيوف ، وطعن الرماح ، وصونا لهما من القتل ، ورجوعا إليهما في الرأي ، والتدبير ، فهل ترون بعد هذا الفضل والمنقبة فضلا ومنقبة لأحد من العالمين؟.

قلت : ما ذا تقولون لو قال لكم قائل ممّن لا يقول بقولكم : لو تأملتم قليلا ، ونظرتم في هذا الأمر بعين بصيرة ، وفكر دقيق ، لعلمتم بما في هذا القول من الازدراء بحق النبي (ص) والتنقص من قدره ، ونسبة المخالفة لأمر ربه ، لعدلتم عن ذكره ، ولم تعرجوا على إثارته ، ولكن لما وجدناكم لإثارته راغبين ، ولتوضيح الحق فيه طالبين ، لم نجد أبدا من النزول عند رغبتكم ، وتلبية طلبكم ، فإليكم الجواب بعد تسليمنا لكم جدلا وجود العريش في واقعة بدر.

أولا : يقول خصومكم لو علم النبي (ص) بأنّ الخليفتين ، أبا

٣٩٩

بكر وعمر (رض) ، من المجاهدين في سبيل الله ، يبارزان الأبطال ، ويقاتلان الشجعان من أعداء الله تعالى ، وأعداء رسوله (ص) ، وأعداء دينه ، ويكون لهما (رض) جهاد يستحقان عليه أجر المجاهدين في سبيل الله تعالى ، لاستحال على رسول الله (ص) أن يحول بينهما وبين الوفاء بعهد الله تعالى ، والمنزلة التي هي أسمى وأشرف من القعود على الإطلاق.

وفي القرآن يقول الله تعالى لنبيه وصفيه (ص) في سورة الأنفال آية ٦٥ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ). وقال تعالى في سورة التوبة آية ٨٨ : (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ ، وَأَنْفُسِهِمْ ، وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وهو صريح في جهاد النبي (ص) ، وعدم قعوده في العريش ، ولا في غيره ، وإنّه كان يحرض المؤمنين أجمعين على القتال ، فكيف يجوز لهذا القائل إن كان مسلما أن ينسب إلى رسول الله (ص) مخالفته لأمر ربه في وجوب تحريض المؤمنين على قتال الكافرين ، ويأمر الخليفتين أبا بكر وعمر (رض) بالجلوس في العريش ، وقد أمره الله تعالى بتحريضهما (رض) ، وتحريض غيرهما من المؤمنين ، على القتال ، والقرآن يقرر هذا ويوجبه بقوله تعالى في سورة النساء آية ٩٥ : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ، وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، عَلَى الْقاعِدِينَ ، دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى ، وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً).

فهذه الآية كما ترونها صريحة في تفضيل المجاهدين على القاعدين ، ولو كان القاعدون من أولي الضرر والعاهة ، فضلا عن غير أولي الضرر.

٤٠٠