مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

السيد أمير محمد القزويني

مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

تفضيل عمرو بن العاص على الخليفتين (رض)

وحسبك في تفضيل عمرو بن العاص على الخليفتين أبي بكر ، وعمر (رض) ، تأمير النبي (ص) له عليهما في حياته في واقعة ذات السلاسل كما في كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير ص ٢٧٣ من جزئه الرابع في هذه الواقعة ، وذكره الحلبي الشافعي في (سيرته الحلبية) ص ١٩٠ من جزئه الثالث وص ١٣٠ من السيرة النبوية بهامش الجزء الثاني من السيرة الحلبية وص ١٢ من (تاريخ الخميس) من جزئه الثاني ، وأخرجه العسقلاني في إصابته ص ١٢ من جزئه الرابع وص ٢ من جزئه الخامس ، وحكاه أيضا في (تهذيب التهذيب) ص ٥٦ من جزئه الثامن ونقله الحاكم في (مستدركه) ص ٤٢ من جزئه الثالث.

ولم يتأخر إظهار عمرو بن العاص إسلامه عن يوم الفتح ليكون للخليفتين (رض) فضل عليه كما يدّعي في غيره ، فإنّ عمرو بن العاص (ورئيس الفئة الباغية التي تدعو إلى النار) تظاهر بالإسلام سنة ٨ من الهجرة النبوية (ص) في شهر صفر ، على ما في إصابة ابن حجر العسقلاني في ص ١٢ من جزئه الخامس ، و (تاريخ الخميس) ص ٧٢ من جزئه الثاني ، وكانا يأتمران بأمره ، ويؤمهما في صلاته ، وفي صحيح مسلم في باب من أحقّ بالإمامة ص ٢٣٦ من جزئه الأول عن النبي أنّه

٣٢١

قال (ص) : «أحقّكم بالإمامة أقرؤكم لكتاب الله» أي أعلمهم به. ومن ذلك تعلمون أنّ عمرو بن العاص أعلم من الخليفتين (رض) ، وأفضل منهما (رض) لذا أمّهما في الصلاة ، وغيرها بتأمير النبي (ص) له عليهما ، ولا يخفى عليكم بأنّ قولنا فيه (ورئيس الفئة الباغية التي تدعو إلى النار) إشارة منّا إلى ما تواتر نقله عن النبي (ص) من أنّه (ص) قال لعمّار بن ياسر الذي قتله معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، وأتباعهما في صفين : «ويح عمّار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» وقد ذكر هذا الحديث كل من جاء على ذكره وترجمته من حفّاظ أهل السنّة ومؤرّخيهم وحكموا بتواتره فلا سبيل إلى إنكاره.

وأمّا خالد بن الوليد فقد ثبت عندكم أنّ النبي (ص) قد أمره في حياته (ص) ، وأنفذه في سرايا كثيرة كما سجّل ذلك كل من جاء على ذكره من مؤرّخي أهل السنّة ، وحفّاظهم ، ولم يجد رسول الله (ص) للخليفتين (رض) أبي بكر ، وعمر (رض) ، ما يوجب تقديمهما على أحد أيام حياته.

فإنّ أخذتم جانب الإنصاف لجعلتم ما ذكر لهؤلاء القوم فضلا على من ادّعيتم اختصاص مضمون الآية بهم ، ولا أقلّ من أن تحكموا بالمساواة بين هؤلاء وأولئك في ذلك على سائر الأحوال ، وهذا كما تعلمون موجب لسقوط دعواكم التخصيص لأولئك دونهم كليّة.

رابعا : إنّ الآية تدلّ بصراحة على التفضيل ، وتقضي بالأجر والثواب لمن حاز الإنفاق ، والقتال معا ولم ينفرد بأحدهما دون الآخر ونحن لو فرضنا لكم جدلا أنّ للخلفاء أبي بكر ، وعمر ، وعثمان (رض) إنفاقا ، ولكن لم يكن لهم قتال قبل الفتح ، ولا بعده مع النبي (ص) ، على ما أثبتناه بالقطع لكم فيما تقدم حتى يجتمع لهم الأمران من الإنفاق والقتال ليكونوا مستحقين للتفضيل على غيرهم من سائر الناس.

٣٢٢

خامسا : إنّ مواقف النبي (ص) في الجهاد وغزواته لأعدائه (ص) معروفة والسؤال هنا منكم أن تخبرونا في آية غزوة من هذه الغزوات قاتل الخلفاء ، أبو بكر ، وعمر ، وعثمان (رض).

أمّا غزوة بدر فليس للخليفة عثمان بن عفان نصيب فيها بالإجماع ، ولم يحضرها باتّفاق أهل المعرفة بالتاريخ من الشيعة وأهل السنّة. أمّا الخليفتان أبو بكر وعمر (رض) فكانا جالسين في العريش فلم يقاتلا مشركا ولم ينازلا أحدا لأسباب نحن في غنى عن ذكرها على شرطنا في هذه المناظرات إلّا إذا رغبتم الوقوف عليها فليس لنا بدّ من التعريج عليها.

وأمّا غزوة أحد فالقوم بأسرهم ولّوا الأدبار على ما أثبتناه لكم بصحيح الأخبار ، ولم يثبت مع النبي (ص) سوى علي (ع) ونفر من بني هاشم والأنصار.

وأمّا غزوة خيبر فقد عرف العام والخاص ما كان من الخليفتين أبي بكر ، وعمر (رض) في ذلك من الرجوع براية النبي (ص) حتى قال (ص) : «لأعطين الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، كرار غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه!» فأعطاها عليّا فكان الفتح على يديه.

وأمّا الأحزاب فلم يكن لشجعان الصحابة وفرسانهم في الحروب إقدام سوى علي بن أبي طالب (ع) ، فقتل عمرو بن عبد ودّ العامري في قصة معروفة ، سجّلها مؤرّخو أهل السنّة في كتبهم كابن كثير في (البداية والنهاية) والحلبي الشافعي في (سيرته الحلبية) وغيرهما ممّن أرّخ هذه الغزوة من أعاظم أهل السنّة.

وأمّا حنين فكان الخليفة أبو بكر (رض) هو السبب لفرار المسلمين في ذلك اليوم لاعتزازه بالجمع الكثير ، وإعجابه بكثرتهم دون

٣٢٣

نصر الله تعالى لهم ثم ولوا مدبرين ، ولم يبق مع النبي (ص) سوى تسعة نفر من بني هاشم أحدهم علي بن أبي طالب (ع).

أمّا بقية الغزوات فكان حالهم فيها من التأخّر عن منازلة الأبطال معلومة عند المؤرخين من أهل السنّة ، ممّن أرّخ غزوات النبي (ص) كالحلبي الشافعي في (سيرته الحلبية) وابن كثير في (بدايته ونهايته) والطبري وابن الأثير في تاريخيهما ، وكثير غيرهم في تواريخهم ، وعلى عكسهم كان حال غيرهم من الطلقاء والمؤلّفة قلوبهم ، ومسلمي الفتح وأضرابهم من الناس في الجهاد والذبّ عن الإسلام ، مشهورة عند حملة الآثار من أهل السنّة ، وقد أشرنا إلى ما كان لأبي سفيان بن حرب ، وولديه يزيد ومعاوية ، في ذلك ممّا لا يمكن لمن وقف على شيء من تاريخ أهل السنّة أن يدّعي مثله منهم للمتقدمين على علي (ع) إطلاقا.

سادسا : إنّ الخليفة عمر بن الخطاب (رض) لم يكن له جهاد قبل الفتح ، ولا بعده ، ولم يكن له إنفاق في سائر الأحوال ، فكيف يصحّ لكم أن تشركوه مع الخليفتين أبي بكر ، وعثمان (رض) ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وسعيد ، ممّن ادّعيتم لهم من الفضل في منطوق الآية؟.

ولو فرضنا دخول الشبهة عليكم في أمر الخليفة أبي بكر (رض) بما ادّعيتم له (رض) من الإنفاق ، وفي الخليفة عثمان (رض) بما كان له من الإنفاق في تبوك ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وسعيد ، من الجهاد ، لكن كيف يا ترى دخلت عليكم الشبهة في الخليفة عمر (رض) وهو لا إنفاق له ، ولا قتال على الإطلاق؟ وليس هناك من يستطيع أن يدّعي أنّ له إنفاقا في حال ، وهل تجدون لذكركم له (رض) في عداد من ذكرتم إلّا المحاباة الأمر الذي نربأ بكم من الركون إليه مع وضوح الحكم لديكم في بطلانه؟!!.

٣٢٤

سابعا : إنّ الوعد بالحسنى مطلقا لو كان متوجها إلى طلحة والزبير على ما تدعون ، فإنّه لا يوجب لهم العصمة من خلاف علي (ع) وحربه ، واستحلال دمه ، وسفك دماء أنصاره ، وإنكار حقوقه التي أوجبها الله تعالى له (ع) ، ودفعهما إمامته ، ونكثهما بيعته (ع).

فإن زعمتم أنّه لم يقع شيء من ذلك ، وكانا معصومين كما يقتضيه ظاهر الآية في الوعد بالحسنى لمن دخل في مضمونها ، فقد خالفتم الوجدان ، وكابرتم الحقيقة ، وجحدتم الضروري من واقعهما العملي ، وإن قلتم : إنّ الوعد بالحسنى من الله تعالى لم يمنع طلحة والزبير ، عمّا ذكرنا لهما من الإنفاق على وقوع ذلك منهما فيقال لكم أيضا أنّ ذلك لا يوجب العصمة للخلفاء أبي بكر ، وعمر ، وعثمان (رض) ، من دفعهم عليّا (ع) عن حقّه ، وإنكارهم عليه إمامته ، وجحدهم النصوص من النبي (ص) عليه (ع) ، بعد تسليمنا لكم جدلا دخولهم في مدلول الآية ، ولا يمنع توجه المدح إليهم والوعد بالحسنى لهم على ما ترغبون.

* * * * * *

٣٢٥
٣٢٦

جهاد علي (ع) وإنفاقه

أمّا قتال علي (ع) ، وجهاده ، ودفاعه عن الدين مع النبي (ص) ، وإنفاقه لوجه الله تعالى في السرّ والعلانية ، فمعلوم بالضرورة من المسلمين أجمعين حتى ملأ المسامع والأبصار ، وطبق ذكره البقاع والأمصار ، وقد سجّل ذلك المؤرخون والمحدّثون من أئمة أهل السنّة في تواريخهم ، وصحاحهم ، ومسانيدهم ، بشكل يدعو إلى الإعجاب والإكبار ممّا لا سبيل إلى الإنكار ، إلّا لمن بلغ به التعصّب البغيض إلى إنكار ضياء الشمس في رابعة النهار.

ولله در الشاعر المسلم العربي حيث يقول :

يا من أنكر من آيات

أبي حسن ما لا ينكر

إن كنت لجهلك بالأيام

جحدت مقام أبي شبّر

فاسأل بدرا ، واسأل أحدا

وسل الأحزاب ، وسل خيبر

من دبّر فيها الأمر؟ ومن

أردى الأبطال؟ ومن دمّر

من هد حصون الشرك؟ ومن

شاد الإسلام؟ ومن عمّر

من قدمه طه وعلى

أهل الإيمان له أمر

من غيرك من يدعى للحرب

وللمحراب وللمنبر

أنى ساووك بمن ناووك

وهل ساووا نعلي قحبر

٣٢٧

آيات النجوى والإنفاق وإطعام الطعام وإيتاء الزكاة كلّها نازلة في علي (ع) خاصة

أمّا إنفاق علي بن أبي طالب (ع) فقد نزل به كتاب الله تعالى في آية المنفقين بالليل والنهار سرّا وعلانية وهي قوله تعالى في سورة البقرة آية ٢٧٤ : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، سِرًّا وَعَلانِيَةً ، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما حكاه ابن الصبّاغ المكّي المالكي في كتابه (الفصول المهمة) ص ١٢٢ ، والجلال السيوطي في تفسيره (الدر المنثور) ص ٣٦٣ من جزئه الأول ، والفخر الرازي في تفسيره الكبير ص ٣٥٦ من جزئه الثاني ، والزمخشري في تفسيره (الكشاف) ص ١٢٨ من جزئه الأول ، والخازن في تفسيره ص ٢٤٩ من جزئه الأول ، والبيضاوي في تفسيره ص ٢١٧ من جزئه الأول ، والبغوي في تفسيره ص ٢٤٩ بهامش الجزء الأول من تفسير الخازن ، ومحمد عبده في تفسيره ص ٩٢ من جزئه الثالث ، وغيرهم من أئمة التفسير عند أهل السنّة. وهذا لا خلاف فيه بين الأمّة على عكس غيره فإنّه مختلف فيه والحجّة في المتّفق عليه دونه.

وأمّا آية النجوى فقد جاء تفسيرها في علي (ع) خاصة لم يدخل معه في ذلك داخل ، ولا دخيل ، ولا دخيلة ، وهي قوله تعالى في سورة المجادلة آية ١٢ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) على ما أخرجه الحاكم في مستدركه ص ٤٨٢ من جزئه الثامن في تفسير سورة المجادلة وصححه ، والفخر الرازي في تفسيره ص ١٢١ من جزئه الثامن ، والزمخشري في تفسيره ص ٤٤٣ من جزئه الثاني ، وغيرهم من مفسّري أهل السنّة ، وهو الحجّة على الفريقين بالاتّفاق.

وأمّا إطعام الطعام فقد نزل فيه (ع) قوله تعالى في سورة الدهر

٣٢٨

آية ٨ وما بعدها : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً ، وَيَتِيماً ، وَأَسِيراً ، إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) على ما في تفسير (روح البيان) ص ٥٤٦ من جزئه السادس ، والفخر الرازي في تفسيره ص ٢٩٥ من جزئه الثامن ، والنيسابوري في ص ١١٢ بهامش الجزء التاسع والعشرين من تفسير ابن جرير في تفسير سورة الدهر. وهذا ما اتّفق عليه الفريقان فهو الحجّة عليهما دون غيره من المختلف فيه ، فإنّه لا حجّة فيه. وفي علي (ع) نزل قوله تعالى في سورة المائدة آية ٥٥ : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) عند ما تصدّق بخاتمه الشريف على ذلك الأعرابي ، وهو راكع في صلاته ، على ما سجّله السيوطي في تفسيره ٢٩٣ من جزئه الثاني ، والفخر الرازي في تفسيره ص ٤١٧ من جزئه الثالث ، وابن جرير في تفسيره ص ١٦٥ من جزئه السادس ، والبيضاوي في تفسيره ص ١٦٥ من جزئه الثاني ، والزمخشري في تفسيره ص ٢٦٤ من جزئه الأول ، والبغوي في تفسيره ص ٥٥ بهامش الجزء الثاني من تفسير الخازن ، وابن كثير في تفسيره ص ٧١ من جزئه الثاني ، وابن حبان في تفسيره الكبير ص ٥١٣ من جزئه الثالث ، ومحمد عبده في تفسيره ص ٤٤٢ من جزئه السادس ، وغير هؤلاء من مفسّري أهل السنّة وحفّاظهم. والحجّة في هذا ، لأنّه متّفق عليه بين الفريقين بخلاف غيره فإنّه مختلف فيه فلا حجّة فيه مطلقا.

ولا يمكن أن يراد بالذين آمنوا في منطوقها جميع المؤمنين ، لأنّ المخاطبين بقوله تعالى : (وَلِيُّكُمُ) هم المؤمنون فلو أرادهم جميعا لزم أن يكون جميع المؤمنين أولياء أنفسهم ، وبطلانه أوضح من أن يختلف فيه اثنان من أهل اللسان ، وشيء آخر يلزم أن يكون من شرط إيمان المؤمنين أجمعين أن يقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، وهم راكعون ، كما يدلّ عليه وصفهم به في الآية. وذلك معلوم بالضرورة من الدين

٣٢٩

بطلانه ، وبتعبير أوضح إنّه تعالى لو أراد جميع المؤمنين لكان المعنى واللفظ هكذا (إنّما ولي المؤمنين الله ورسوله والمؤمنون) فيكون من إضافة الشيء إلى نفسه المستحيل في أوائل العقول ، فلا يجوز حمل كتاب الله تعالى عليه إطلاقا.

٣٣٠

آية (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ)

قال : لا مفرّ من القول بما أدليتم ، ولات حين مناص ، عمّا ذكرتم ، ولكن خصومكم يقولون : إنّ الله تعالى يقول في سورة الفتح آية ٢٩ : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً ، سُجَّداً ، يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً ، سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ ، وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) ، ولا شك في أنّ الخلفاء أبا بكر ، وعمر ، وعثمان (رض) ، من وجوه أصحاب رسول الله (ص) ، وزعماء من كان معه ، وإذا كان كذلك فهم أحقّ الناس بما دلّت عليه الآية من وصف المؤمنين ، والمدح لهم ، والثناء عليهم ، وذلك يمنع الحكم عليهم بالانحراف والخطأ!.

قلت : أولا : إنّ الآية بعمومها الإطلاقي شاملة لطلحة ، والزبير ، وسعد ، وسعيد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبي عبيدة بن الجراح ، وأبي هريرة ، وأبي الدرداء ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي سفيان بن حرب ، وولديه يزيد ومعاوية ، وعبد الله بن أبي سرح ، ومالك بن نويرة ، وأبي معيط ، والوليد بن عقبة ، وعبد الله بن سلول ، وغيرهم من الناس ، لأنّ

٣٣١

هؤلاء كلّهم كانوا معه (ص) ، لا خصوص الخلفاء الثلاثة (رض) ، وذلك فإنّ كل ما أوجب دخول الخلفاء : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان (رض) ، في القرآن ، وثنائه ، فهو يقتضي بوجوب دخول من ذكرنا في الآية ، لأنّ هؤلاء كلّهم من أصحاب رسول الله (ص) ، وكانوا جميعا من الذين معه (ص) ، وكان لأكثرهم من الجهاد بين يدي رسول الله (ص) ، والنصرة للإسلام ، ما لم يكن شيء منها للخلفاء أبي بكر ، وعمر ، وعثمان (رض) ، فكيف يتسنّى لأحد تخصيص الآية بالخلفاء (رض) وحدهم؟ وبما ذا يا ترى اختصّ الخلفاء الثلاثة (رض) بما خرج عنه أولئك والجميع بمستوى واحد ، وفي ميزان واحد؟ وهل تجدون لذلك وجها إلّا التخصيص بلا مخصّص ، والترجيح بلا مرجح ، الباطلان عقلا؟!.

ثانيا : إن الآية كما ترونها قد وصفت من كان مع النبي (ص) بصفات أثبتتها له في منطوقها ، فهل ترون أنّ الآية تريد كل من كان مع النبي (ص) في الزمان؟ أو كان معه في المكان؟ أو كان بظاهر الإسلام؟ أو كان بظاهره وباطنه؟ أو كان من وصفه الله تعالى بها دليلا على تخصيص الموصوف بالمدح والثناء دون من سواه؟ أو بطائفة غير هؤلاء؟.

فإن قلتم : إنّها تريد كل من كان مع النبي (ص) في الزمان أو المكان أو بظاهر الإسلام ، فقد صرتم إلى أمر كبير ، وهو مدح الكافرين ، والمنافقين ، الذين معه (ص) في الزمان ، وكانوا يجتمعون بحضرته (ص) في المكان ، وكانوا يتظاهرون له (ص) بالإسلام ، ويبطنون النفاق كما نطق به القرآن ، وتلونا عليكم ذروة من آياته الكريمة فيما تقدم ، وهذا ما لا يقول به من كان على شيء من الدين أو العقل.

٣٣٢

وإن قلتم ؛ إنّها تريد من كان على ظاهر الإسلام وباطنه ، دون من عداه من الطوائف ، فيقال لا سبيل إلى معرفة البواطن ، ولا يعرفها إلّا الله تعالى وحده ، لذا فلا سبيل لكم إلى إثبات أنّ المتقدمين (رض) على عليّ (ع) كانوا في باطنهم كظاهرهم حتى يتسنّى لكم القطع بسلامة بواطنهم كظواهرهم من الخطأ ، والانحراف ، لتتمكنوا من إدخالهم في منطوق الآية ، وإلّا كنتم مدّعين ومتحكمين بما لم يثبت معكم به حجّة ، وليس لكم عليه برهان ، وكتاب الله تعالى وسنّة نبيّه (ص) خاليان من ذلك كليّة ، والاعتماد على غيرهما في إثباته اعتماد على الهوى ، والتعصّب البغيض ، وكل ذلك لا يجدي نفعا ، ولا يثبت حقّا ، ولا ينفي باطلا كما تعلمون.

وإن قلتم : إنّ ما دلّت عليه الآية من الأوصاف الخاصة ، والملكات المخصوصة ، إنّما هي إمارة على مستحقّي المدح والثناء من جماعة مظهري الإيمان ، لا جميعهم ، فيقال لكم دلّونا إذن على أنّ المتقدمين (رض) على علي (ع) ، كانوا مستحقّين لتلك الصفات المدلول عليها في الآية ليدخلوا في جملتهم ، فيتم لكم ما تدعون ، وهذا كما تعلمون لا سبيل لكم إلى التدليل عليه كما قلنا من أنّه من البواطن التي لا يعلمها إلّا الله تعالى ، ولا دليل لكم عليه يوجب القطع واليقين.

٣٣٣
٣٣٤

تمنيات الخليفتين أبي بكر وعمر (رض)

ثالثا : لو أنّكم اطّلعتم على تمنيات الخليفتين أبي بكر ، وعمر (رض) ، في حياتهما ، وعند موتهما ، لعلمتم أنّ الآية لا تنطبق عليهما إطلاقا فإن شئتم فراجعوا ص ٣٦١ من (منتخب كنز العمال) بهامش الجزء الرابع من (مسند الإمام أحمد بن حنبل) وص ٤١ من تاريخ السيوطي ، وص ١٣٥ من (الرياض النضرة) لمحبّ الدين الطبري من جزئه الأول ، وص ١٢٠ و ١٣١ و ١٣٢ من منهاج الإمام ابن تيمية من جزئه الثالث ، وص ٤٢ من (حليّة الأولياء) من جزئه الأول ، وفي أواسط ص ١٩٤ من صحيح البخاري من جزئه الثاني في باب مناقب عمر بن الخطاب (رض) ، وغيرهم ، لتعلموا ثمة صحّة ما قلناه ، ولا أراني بحاجة إلى التعريج على ذكر تلك التمنيات ، والتعليق عليها ، بالشكل الذي تفيده معناها ، لأنّا قد شرطنا على أنفسنا في هذه البحوث كما قلنا لكم غير مرّة أن لا نذكر في هذا الكتاب ما سجّله حفّاظ أهل السنّة في صحاحهم ومسانيدهم ، وتواريخهم ، ما من شأنه تكدير خواطر بعض الناس ممّن يؤلمهم كشف الحقائق المكتوبة من مقلدي الآباء والأمهات في الدين بغير دليل.

أمّا ما سجّله أئمة الحديث وحفّاظه عند أهل السنّة على ما كان

٣٣٥

يتمناه علي (ع) في حياته ، وعند وفاته (ع) ، فهو ما كان يكرره بقوله : «متى ألقى الأحبة محمدا وصحبه؟ متى يبعث أشقاها؟» ولما ضربه عبد الرحمن بن ملجم قال (ع) : «فزت وربّ الكعبة!» فأين يذهبون؟ وأنّى يؤفكون؟ والأعلام قائمة ، والآيات واضحة ، والمنار منصوبة ، فأين يتاه بهم؟ بل كيف يعمهون؟ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

الآية تريد عليّا والأئمة من بنيه (ع) خاصّة

قال : لقد قطعتم علينا السبيل بما أدليتم به من البراهين العلمية على عدم استطاعة أحد أن يثبت بأنّ الخلفاء : أبا بكر ، وعمر ، وعثمان (رض) ، كانوا في بواطنهم على مثل ما أظهروه من الإيمان ، ليتسنّى لنا الحكم بدخولهم في الآية ، لأنّ الباطن لا يعلمه إلّا الله تعالى ، ولكن إذا كانت الآية لا يمكن أن تريد الخلفاء ومن معهم ممّن تقدم ذكرهم ، فمن يا ترى تريد؟ ومن هم الذين يمكن أن تكون بواطنهم كظواهرهم ، ليكونوا في متناول الآية إذ لا يجوز أن يكون إخبار القرآن عن مجموعة من الذوات موصوفة بتلك الصفات إخبار عن أشخاص لا وجود لهم في كون الحياة ، لوضوح بطلانه ، فاللازم عليكم أن توضّحوا لنا الأمر فيها لنكون على بصيرة من أمرها.

قلت : إنّ الآية لا تنطبق على غير المعصومين ولا مصاديق لها سواهم ، وهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، والأئمة المعصومون من أبنائه الطاهرين ، من البيت النبوي (ص) ، ودليلنا على ذلك أنّ الله تعالى قد أخبر على الإطلاق عمّن ذكرهم بالشدّة على الكفار ، والرحمة لأهل الإيمان ، والصلاة له تعالى ، والاجتهاد في الطاعة له تعالى ، بثبوت وصفه في التوراة والإنجيل بالسجود لله تعالى ، وخلع الأنداد والأصنام بشتّى أشكالها وألوانها ، وليس من الممكن المعقول وجود ذلك

٣٣٦

الوصف لمن كان سجوده للأوثان ، وتقرّبه للأصنام ، من دون الله تعالى الواحد القهّار ، مدّة طويلة من الزمان ، لاستلزامه الكذب في إخباره تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، أو المدح والثناء بما يوجب الذمّ من الكفر والعصيان ، وكل أولئك يستحيل على الله تعالى أن يريده. والأمّة مجمعة على أنّ أبا بكر ، وعمر ، وعثمان (رض) ، وطلحة ، والزبير ، وسعدا ، وسعيدا ، وأبا عبيدة بن الجراح ، وعبد الرحمن بن عوف ، قبل بعثة النبي (ص) ، قد عبدوا الأوثان ، وسجدوا للأصنام ، من دون الله تعالى ، مدّة من الزمان ، وكانوا يشركون به تعالى الأنداد؟ فلا يجوز والحالة هذه أن تكون أسماؤهم مسجّلة في التوراة ، والإنجيل ، في عداد الساجدين لله تعالى على الإطلاق كما هو الصريح في منطوق الآية.

٣٣٧
٣٣٨

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأبناؤه المعصومين لم

يسجدوا لصنم قط

أمّا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، والأئمة الأحد عشر من أبنائه. المعصومين ، فقد أجمعت الأمّة على أنّهم (ع) لم يعبدوا غير الله تعالى ، ولم يسجدوا لصنم قط ، ولم يتقرّبوا إلى أحد سواه تعالى ، فينطبق عليهم قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) انطباقا كاملا وإنّهم (ع) هم المستحقون لهذا المدح والثناء لإخلاصهم لله تعالى وحده ، دون غيرهم. ممّن تقدم عليهم مطلقا وبلا استثناء ، وقد أشرنا إلى ما يدلّ على عصمتهم (ع) من الخطأ كحديث الثقلين ، وحديث النجوم فلا نحتاج إلى تكراره بالإعادة.

وجهة أخرى : إنّه لا خلاف بين المسلمين أجمعين في أنّ عليّا (ع) كان ظاهر العدالة ، واجبا له الإمامة ، وإن اختلفوا فقالت طائفة منهم وهم الشيعة كان مع عدالته معصوما من الكبائر والصغائر من الذنوب ومعصوما من السهو والنسيان كما تقدم تفصيله مشفوعا بدليله وبرهانه ، وقالت طائفة أخرى منهم ، وهم أهل السنّة : لم يكن معصوما كعصمة الأنبياء (ع) ، ولكن كان عدلا ، برا ، تقيا ، ورعا على الظاهر ، حتى توفّاه الله تعالى. وإذا ثبت هذا ثبت أنّ باطن علي (ع) مثل ما أظهره من الإيمان.

٣٣٩

باطن علي أمير المؤمنين مثل ظاهره

قال متعجبا : كيف تقولون إنّ باطن علي (ع) مثل ما أظهره من الإيمان وأنتم لم تأتوا عليه بدليل ولم تشفعوه ببرهان.

قلت : نحن ما أهملنا الدليل على أنّ باطن علي (ع) مثل ما أظهره من الإيمان ، وإنّما أتينا به واضحا ، صريحا ، جليّا ، وما كنت أحسب أنّه يخفى على مثلكم وأنت الفطن الذي لا يفوته شيء إلّا ألم به! ألا تذكرون ما أجمع عليه الفريقان من الشيعة وأهل السنّة ، من قول النبي (ص) لعلي (ع) فيما تقدم ذكره مفصلا «أنت مني بمنزلة هارون من موسى ألا إنّه لا نبي بعدي»؟ وذلك فإنّ رسول الله (ص) الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلّا وحي يوحى ، ما كان ليقول هذا القول في علي (ع) ، إلّا وهو يعلم بواسطة الوحي : أنّ باطن علي (ع) مثل ما أظهره من الإيمان.

وهكذا قوله (ص) فيه (ع) على ما تقدم من حديث خيبر الذي لا ريب فيه أنّه (ع) يحبّ الله ورسوله (ص) مطلقا ، ويحبّه الله ورسوله (ص) مطلقا ، فإنّه (ص) لا يمكن أن يقول هذا القول فيه إلّا وهو يعلم أنّه في الباطن مؤمن راسخ الإيمان والعقيدة ، وأنّه مثل ظاهره في الإيمان ، وإلا لزم الكذب في قوليه (ص) وهو الصادق الأمين بالضرورة من العقل والدين. والقول بتكذيب النبي (ص) كفر صراح نعوذ بالله منه! وكذلك حال الأئمة الهداة من أبنائه (ع) من البيت النبوي (ص) لقول النبي (ص) فيهم (ع) مضافا إلى ما تقدم من حديث الثقلين ، وحديث النجوم ، فيما اتّفق الفريقان على صحّته : «مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق» وفي حديث آخر هوى كما تقدم نقله عن حفّاظ أهل السنّة فإنّه (ص) لا يقول هذا القول فيهم (ع) إلّا وهم عنده في الباطن

٣٤٠