مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

السيد أمير محمد القزويني

مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

باطلا عقلا ثبت أنّه تعالى جعل لهم أئمة هداة بعد نبيّه (ص) ، وأوجب عليهم معرفتهم ، ودلّهم على أشخاصهم على لسان نبيّه (ص) دلالة موجبة لرفع الالتباس بما أوجب لهم من الطاعة عليهم (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) كما جاء التنصيص عليه في القرآن في سورة الأنفال آية ٤٢.

٢١
٢٢

من هو الإمام بعد النبي (ص)

قال : إنّ جميع ما ذكرتموه كان صحيحا لا ريب فيه ولكن من كان الإمام بعد النبي (ص) ومن هذا الذي له حقّ القيام مقامه في رئاسة الدين والدنيا لنعرفه بشخصه فنؤدّي ما وجب له علينا من الولاء والطاعة؟.

قلت : إنّ الإمام بعد النبي (ص) هو من أجمع المسلمون كلّهم على اختلاف آرائهم ، وتباين أهوائهم ، وتضارب مذاهبهم ، على إمامته بعد رسول الله (ص) ولم يختلفوا بعد وفاته (ص) ، فيما أوجب له الإمامة العامّة من اجتماع الصفات السامية فيه ، وتنصيص النبي (ص) عليه في حياته تصريحا تارة ، وتلويحا أخرى ، وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) لا سواه.

علي أمير المؤمنين هو الإمام بعد النبي (ص) بالإجماع

قال : كيف تدعون الإجماع على أمر نرى بالعيان ظاهره الخلاف ، والاختلاف فيه ، بين الأمّة قائم على ساق ، ولسنا قانعين منكم حتى تسوقوا لنا الدليل والبرهان على صحّة هذا المقال؟.

٢٣

قلت : ليس فيما ذكرنا لكم من الإجماع خلاف :

أمّا الشيعة الإمامية من فرق المسلمين فلا شكّ في أنّها على يقين قاطع بإمامته بعد النبي (ص) من غير فضل بالآخرين وتقضي له بذلك إلى حين وفاته (ع) وتحكم بخطإ من شكّ في ذلك.

وأمّا أهلّ السنّة كافّة فمتفقون على إمامته بعد عثمان بن عفان (رض) وإنّه لم تخرج عنه ، ولم يخرج هو عنها ، حتى توفّاه الله تعالى راضيا عنه ، سليما من الضلال.

وأمّا الخوارج وهم ألدّ أعدائه وأشدّ الناس له بغضا يعترفون له بالإمامة كاعتراف غيرهم له ، وإن فارقوه في النهاية ، وليس في الأمّة غير من ذكرنا خارج بمذهبه عمّا ألمعنا بخلاف غيره ، فإنّه لا إجماع عليه من جميع الأمّة كما تعلمون وأمّا إجماعهم على ما يوجب له (ع) الإمامة من الصفات والمؤهّلات فقد اتّفقوا بلا خلاف على اشتراكه (ع) مع النبي (ص) في رفيع النسب ، وكريم الحسب ، وسبق الناس كافة إلى الإقرار بنبوّته (ص) وبروز فضله ، وزهده ، وتقواه عليهم ، وشجاعته في جهاد المشركين والكفّار ، وظهوره على الجميع في العلم ، والمعرفة ، والأحكام ، ومعلومية حكمته في التدبير ، وسياسة الناس ، على الوجه الشرعي ، والقانون الإلهي ، وغناه بكماله ، مع احتياج غيره إليه ، في حلّ المشكلات والمعضلات ، وحسبك بعض هذه الملكات والصفات في أحقيته بالإمامة ، فضلا عن جميعها وقد توفّرت فيه لا في غيره من الصحابة.

وأمّا إجماعهم على الأفعال والأقوال من رسول الله (ص) فيه ، الدّالة على وجوب الإمامة له ، واختصاصها به (ع) ، فهو اتّفاق الأمّة على أنّ النبي (ص) قدّمه في حياته ، وأعطاه الإمارة على جماعة من أعيان أصحابه ، واستخلفه على المدينة عند خروجه إلى تبوك قبل

٢٤

وفاته (ص) ، وقد ندب الخليفة أبا بكر (رض) لقراءة الآيات على أهل مكّة ، فعلم الله تعالى أنّه لا يصلح لذلك غير أمير المؤمنين علي (ع) فعزل أبا بكر (رض) بالوحي إلى نبيّه (ص) ، وأقامه مقامه في نبذها إلى أعدائه فراجع إن شئت (الرياض النضرة) للمحب الطبري في باب فضائل علي (ع) من جزئه الثاني والسيرتين (الحلبية) و (النبوية) بهامش السيرة الحلبية في باب البعوث و (طبقات ابن سعد) ص ١٠٠ من جزئه الثاني و (الاستيعاب) لابن عبد البر ص ٤٩٩ من جزئه الثاني وكتاب (الأحكام) ص ٢٠٦ من جزئه الثاني و (التهذيب) للحافظ المزي في ترجمة علي (ع) و (فتح الباري) لابن حجر العسقلاني ص ٤٨ من جزئه الثامن والبخاري في صحيحه في باب مناقب علي بن أبي طالب من جزئه الثاني ومثله مسلم في صحيحه في الباب نفسه من جزئه الثاني و (مسند أحمد بن حنبل) ص ٣ و ١٥٠ و ١٥١ و ٣٣١ من جزئه الأول وص ٢٩٩ من جزئه الثاني و (مستدرك الحاكم) ص ١٣١ من جزئه الثاني وص ١٥١ من جزئه الثالث و (تلخيص الذهبي للمستدرك) في الصفحتين المذكورتين والجزءين المذكورين وصححا ذلك على شرط البخاري و (الخصائص العلوية) ص ٢٠ وغير هؤلاء ممّن جاء على ذكر فضائله ومناقبه (ع) من حفّاظ أهل السنّة.

ولا يستطيع أحد أن يدّعي إجماع الأمّة على ثبوت هذه الأفعال والأقوال من صاحب الرسالة (ص) لغير أمير المؤمنين علي (ع) على إننا في الحقّ لا نحتاج إلى إقامة البرهان على إمامة علي (ع) بعد اعترافكم بإمامته وخلافته بعد النبي (ص) غاية الأمر أنّنا ننفي الواسطة بينه (ع) وبين النبي (ص) وأنتم تدّعون ثبوتها ، فعليكم أن تثبتوا ما تدّعون لأنّ البيّنة على المدّعي ، والأصل مع المنكر ، وليس علينا أن نأتي بما يبطل هذه الدعوى ، لأنّها لم تثبت ولن تثبت إطلاقا كما قدّمنا.

٢٥

فإن ادّعيتم اختيار الأمّة للخلفاء الثلاثة (رض) قبله (ع) فيقال لكم :

أولا : إنّ هذا الاختيار لم يحصل من جميع الأمّة كما تعلمون. أمّا الخليفة أبو بكر (رض) فقد تخلّف عن بيعته جماعة من أعيان الصحابة وفي طليعتهم أمير المؤمنين علي (ع) على ما سجّله كل من جاء على ذكر البيعة في السقيفة كابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) في أوائل جزئه الأول والطبري وابن الأثير في تاريخهما وابن عبد ربّه في (العقد الفريد) وغيرهم من مؤرّخي أهل السنّة.

ثانيا : بما أخرجه البخاري في صحيحه ص ١١٩ من جزئه الرابع في باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت :

عن الخليفة عمر (رض) أنّه قال : «إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرّها».

ويقول ابن حجر الهيتمي في (صواعقه) ص ٣٤ في الشبهة السادسة من شبهات كتابه من الطبعة التي كانت سنة ١٣٨٥ هجرية كغيره من علماء أهل السنّة :

عن الخليفة عمر (رض) أنّه قال :

«كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه».

ونحن نقول لكم :

الفلتة في قول عمر (رض) : إمّا أن تكون بمعنى الزلّة كما يشير إليه قوله «وقى الله شرّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه» ؛ أو تكون بمعنى البغتة. فإن كانت الأولى فالأمّة لا تختار الزلّة التي يجب قتل من عاد إلى مثلها في الإسلام ، ولا تجتمع عليه لقول النبي (ص) «لا تجتمع أمّتي

٢٦

على خطأ أو قال على ضلال» وإن كانت الثانية التي تعني الفجأة فهو دليل على أنّها وقعت فجأة من غير تدبّر ، ولا مشورة الآخرين من أفراد الأمّة في هذا الاختيار.

ثالثا : بما قاله الله تعالى في القرآن في سورة الحشر آية ٧ : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فإنّ الله تعالى لم يقل : (وما آتاكم به أصحاب السقيفة فخذوه وما نهوكم عنه فانتهوا) لكي تجب طاعتهم كما تجب طاعة الله تعالى وطاعة رسوله (ص) وما كان أصحاب السقيفة شركاء الله تعالى في الأمر والنهي ، حتى تجب طاعتهم فيما يقولون أو يفعلون. لذا فنحن لا نطيع إلّا الله تعالى ورسوله (ص) في الأمر ، والنهي ، ولا نرى إلها يطاع أو يعبد سواه تعالى ، ولم يكن دين الإسلام ناقصا ليكمله أصحاب السقيفة بما فرضوه من الطّاعة للخليفة أبي بكر (رض) من دون الله تعالى ، ودون رسوله (ص) ، لأنّ الله تعالى أكمل دينه لنبيّه (ص) في حياته (ص) ، ولم يكن منه ما قامت عليه السقيفة قطعا فقال تعالى في سورة المائدة آية ٣ : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

وأمّا الخليفة عمر (رض) فكانت مختارا من الخليفة أبي بكر (رض) وكان منصوصا منه عليه ، دون غيره ، من أصحاب رسول الله (ص) ولم يكن مختارا من الأمّة إطلاقا ، مع أنّهم بمنزلة واحدة ، لا سيما العشرة المبشرة فترجيح عمر (رض) على غيره منهم ترجيح بلا مرجّح ، وبطلانه واضح.

فإذا كان لا يصحّ للأمة أن تختار لإمامة الأمّة وخلافة الرسالة من تشاء من الناس ، كما ذكرنا : كان اختيار الخليفة أبي بكر (رض) لشخص الخليفة عمر (رض) أولى بعدم الصحة.

٢٧

وأمّا الخليفة عثمان بن عفان (رض) فكان مختارا من عبد الرحمن بن عوف بأمر من الخليفة عمر (رض) دون غيره من الصحابة على ما سجّل ذلك كلّه كل من جاء على ذكر السقيفة والشورى من مؤرّخي أهلّ السنّة ، كالطبري وابن الأثير في تاريخيهما وابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) وابن عبد ربّه في (العقد الفريد) وابن كثير في (البداية والنهاية) وابن عبد البر في (استيعابه) وغيرهم من حفّاظ أهلّ السنّة أمّا علي أمير المؤمنين (ع) فقد بايعه الصحابة كما بايعه المسلمون ، واختاروه إماما لهم ، وخليفة لرسول الله (ص) بعد مقتل عثمان (رض) ، في أواخر ذي الحجة ، وقد هرع المسلمون من جميع الأقطار الإسلامية كمصر والعراق والبلدان كافة وازدحموا عليه للبيعة ، بلا جبر ، ولا إكراه ، ولم يحدث ذلك لغيره ممّن تقدم عليه ، ولم يتفق لأحد ما اتّفق له (ع) ، ولم تحصل بيعة عامّة كما حصل له (ع) ، فقد اشترك فيها جميع البلدان الإسلامية ، ولما كانوا على يقين من كفاءته ، ولياقته ، وجامعيته لجميع الصفات المتعالية ، والخصال السامية ، من العلم ، والزهد ، والتقى ، والورع ، والشجاعة ، والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى ، وغير ما هنالك من الفضائل العالية ، لم يطلبوا منه ما طلبوه من غيره ممّن تقدم عليه.

وهذا الاختيار من الأمّة ، وإن كان عندنا ، لا يكون دليلا على استحقاق الإمامة ، ولكن لما كنتم تعتبرونه حجّة في إثبات الخلافة ألزمناكم به إلزاما بما ألزمتم به أنفسكم من حجّيّة مثل هذا الاختيار لأنّ النصوص النبويّة (ص) الصحيحة الصريحة المتواترة بين المسلمين عامّة ، والشيعة خاصّة ، والآيات القرآنية الكريمة الدّالة على أنّ عليا أمير المؤمنين (ع) هو إمام الأمّة ، وخليفتها الأول بعد النبي (ص) ، وإنّه هو المخصوص بها دون غيره ممّن تقدم عليه ، تغنينا عن مثل هذا الاختيار من الأمّة لإثبات خلافته بعد النبي (ص). نعم لما كان هذا

٢٨

الاختيار منهم له (ع) لخلافة الرسول (ص) موافقا لما اختاره الله تعالى لهم من إمامته عليهم ، كان صحيحا لا ريب فيه.

٢٩
٣٠

قول بعضهم

إنّ اختيار الناس للخليفة اختيار لله تعالى

قال : يقول بعض خصومكم : إنّ من اختاره الناس لخلافة النبي (ص) بعد وفاته (ص) هو مختار لله تعالى ، وكل ما يختاره الله تعالى واجب الاتّباع ، فاختيار الصحابة لشخص الخليفة بعد النبي (ص) في السقيفة واجب الاتّباع ، ولازم الطاعة ، ولا يمكن التفكيك بينهما في حال فما يكون الجواب؟.

قلت : إنّ هذه المقالة قالها عبد الله الحضرمي في كتابه الذي زعم أنّه يردّ به على (كتاب السقيفة) للعلّامة الحجة الشيخ محمد رضا المظفّر وقد ناقشناه الحساب بدقّة في كتابنا (ردّ على ردّ السقيفة) يجدر بالباحثين الاطّلاع عليه ولم أجد فيما أعلم أنّ أحدا من علماء أهل السنّة قديما وحديثا قال به.

وبعد : فإنّ كلّا من كبرى قياس هذا القائل وصغراه باطل كبطلان نتيجته ، لمخالفته لصريح كتاب الله تعالى ، وبيّنات آياته.

فمنها : ما تقدم في سورة القصص (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ).

والضمير في كلمة (لَهُمُ) يعود إلى أصحاب النبي (ص)

٣١

خاصّة ، وإلى غيرهم عامّة ، فالله تعالى كما ترون قد نفى على سبيل الجزم والإطلاق أن يكون لهم الخيرة في إثبات شيء أو نفيه ، وأثبت ذلك لنفسه القدسية خاصّة ، لا يشاركه فيه أحد من العالمين أجمعين ، فلو كان ما يختاره الناس مختارا لله تعالى لكانت هذه الآية باطلة لا معنى لها وليس لها في الوجود صورة ، وبطلانه واضح وإذا ثبت هذا ثبت بطلان أن يكون اختيارهم ذلك مختارا لله تعالى ثم إن قوله تعالى في آخر الآية : (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) يعطيكم صورة واضحة في أنّ اختيار الناس شرك يجب الابتعاد عنه ، والتخلص منه فكيف يا ترى يمكن أن يكون الشرك مختارا لله تعالى ، وهو ظلم عظيم؟!.

ومنها : ما ذكرناه من قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً).

فالله تعالى قد منع المؤمنين والمؤمنات في هذه الآية من أن يكون لهم الخيرة في شيء ، نفيا كان أو إثباتا ، سلبا كان أو إيجابا ، ممّا قضى الله تعالى ورسوله (ص) بنفيه أو إثباته ، وهذا ما يمنع المؤمنين من أصحاب السقيفة منعا باتّا من أن يختاروا إثبات أمر أو نفيه ، وألا يلزمكم أن تنسبوا لهم العصيان لنهي الله تعالى ، ومنعه ، ويلزمكم أن تقولوا بدخولهم في قوله تعالى في اخر الآية : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) واللازمان باطلان ومثلهما الملزومان في البطلان. وإذا تسجّل لديكم بطلان هذا وذاك ، ثبت عدم صحّة اختيارهم ذلك البتة.

ومنها : ما مرّ من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) :

٣٢

وأهل السقيفة مؤمنون ، وقد نهاهم الله تعالى عن أن يقدموا بين يدي الله ورسوله (ص) ، ولا شك في أنّ اختيارهم لشخص الإمام والخليفة من دون الله تعالى ، ودون رسوله (ص) ، يكون مشمولا لمنطوق الآية. وقد حرّم الله تعالى ذلك عليهم ، ونهاهم عن فعله ، ومنعهم من الركون إليه. بل لو صحّ لهذا القائل بأنّ من يختاره الناس يختاره الله تعالى ، ويكون واجب الاتّباع والطاعة ، لزمه أن يقول بأنّ اختيار الناس مسيلمة ، وسجاحا ، والعنسي ، وأضرابهم من مدّعي النبوّة ، من الكذبة ، أنبياء اختارهم الله تعالى ، فتجب طاعتهم! كما يلزمه أن يقول : إنّ اختيار بني إسرائيل العجل ، وطاعتهم للسامري ، وعصيانهم لنبي الله تعالى هارون (ع) ، وتركهم له ، اختيار لله تعالى. وهكذا الحال في اختيارهم فرعون ، ومن كان على شاكلته من الجبابرة ، والنماردة ، وطاعتهم لهم لدخول ذلك كلّه في صغرى قياس هذا القائل وكبراه ، فيكون حكم الجميع واحدا لوحدة صغراه وكبراه ، وذلك معلوم بالضرورة من الدين والعقل بطلانه. فإذا بطل هذا كان ذلك مثله في البطلان.

قال : إنّ قياسكم ما فعله المؤمنون من أصحاب رسول الله (ص) في السقيفة من اختيارهم شخص الخليفة بعد النبي (ص) بما فعله بنو إسرائيل وما ارتكبه آل فرعون وغيرهم من اختيارهم طاعة غير الله تعالى ، وما اختاره قوم مسيلمة ، وسجاح ، والعنسي ، وأضرابهم من مدّعي النبوّة من الكذبة ، قياس مع الفارق لأنّ من جئتم على ذكرهم من قوم مسيلمة ، وسجاح ، والعنسي ، وبني إسرائيل ، لم يكونوا مؤمنين ، بخلاف أصحاب السقيفة ، فإنّهم مسلمون ، مؤمنون برسول الله (ص). فهذا الاختلاف في الموضوع يوجب الاختلاف في الحكم ، فيكون ما حدث في السقيفة من اختيارهم الخليفة مختارا لله تعالى ويدلّكم على ذلك قول رسول الله (ص) : «ما رآه المسلمون

٣٣

حسنا فهو عند الله حسن» ، وقد رأى المسلمون في السقيفة أن يختاروا أبا بكر (رض) للخلافة دون غيره ، فوجب أن يكون ذلك حسنا عند الله تعالى!؟.

حديث ما رآه المسلمون حسنا

قلت : أولا : إنّ ما زعمه هذا القائل بأنّ ما يختاره الناس هو ما يختاره الله تعالى منطبق على الموضوعين معا لوجود علّة المساواة بينهما ، وهي كون كل منهما مختارا للناس فيكون مختارا لله تعالى فصغرى قياسه ككبراه في الموضوعين واحد ، فحكمها واحد وأمّا كون إحدى الفئتين مسلمة ، والأخرى غير مسلمة ، فليس داخلا في موضوع بحثنا الذي هو إنّ كل ما يختاره الناس مطلقا يختاره الله تعالى على حدّ زعم هذا القائل.

ثانيا : إنّ بني إسرائيل كانوا مؤمنين بنبوّة موسى (ع) فهم كانوا مسلمين أيضا ، ومع ذلك فقد اختاروا غير ما اختاره الله تعالى ، فقد تركوا طاعة هارون (ع) وزير موسى (ع) ، وخليفته ، وحاولوا قتله ، واختاروا طاعة السامري ، وعبادة عجله ، وقدّموه على الله تعالى ، ومن ذلك تستشرفون على القطع باتحاد الموضوعين واتحاد حكمهما. وقديما قال رسول الله (ص) مخاطبا أصحابه (ص) دون غيرهم : «لتتبعنّ سنن من كان قبلكم ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، حتى إنّهم لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فمن؟».

وهذا الحديث متّفق على صحّة صدوره عن النبي (ص) وقد أخرجه البخاري في صحيحه ص ١٧٤ من جزئه الرابع في باب لتتبعن سنن من كان قبلكم وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل في ص ٨٤ و ٨٩

٣٤

و ٩٤ من مسنده من جزئه الثالث وغيرهما من أهل الصحاح وحملة الآثار النبويّة (ص) من أهل السنّة وصححوه.

وأنتم تعلمون أنّ بني إسرائيل قد تركوا خليفة موسى (ع) ووصيّه ووزيره هارون (ع) ، وانصرفوا إلى السامري وعجله ، فلم يمنعهم إيمانهم بنبوّة موسى (ع) من ارتكاب ذلك ، خطأ كان منهم ، أو عمدا ، فلا يمكن أن يكون ما صنعوه مختارا لله تعالى ، وكذلك ما حدث في السقيفة ، فإنّ إيمانهم برسول الله (ص) لم يمنعهم من أن يتركوا وصي محمد (ص) ، وخليفته ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، ويختاروا غيره ، سواء أكان ذلك منهم خطأ أو عمدا ، وقد أكّد القرآن هذا في خطابه لأصحاب رسول الله (ص) في واقعة أحد فقال تعالى لهم لا لغيرهم في سورة آل عمران آية ١٤٤ : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ).

ولم يكن هذا الانقلاب من جمهورهم انقلابا عن الإسلام ، وإنّما كان انقلابا منهم عن التمسّك بخليفته ، ووزيره ، علي أمير المؤمنين (ع) ورجوعهم إلى غيره ، واختيارهم غير من اختاره الله تعالى إماما ، وهاديا ، وخليفة لنبيّه ، وصفيّه (ص) من بعده ، كما صنع بنو إسرائيل بخليفة موسى (ع) ووزيره هارون (ع). وبذلك يتّضح لكم ما تواتر عن الصادق الأمين كما تقدم من قوله (ص) لهم : «لتتبعن سنن من كان قبلكم» وإلّا يلزمكم أن تقولوا بأنّ ما خاطب به النبي (ص) أصحابه كذب وانتحال لا أصل له ، وذلك ما نربأ بكم من أن تلتزموا به بعد ثبوت تواتره ، فيكون إنكاره جحدا للضروري وهو كفر صراح نعوذ بالله منه.

٣٥

ثالثا : إنّ الحديث الذي أوردتموه لتصحيح ما صنعه أصحاب السقيفة من أن ما رآه المسلمون حسنا ، فهو عند الله حسن ، لو سلمنا لكم جدلا صحّته ، فهو مطعون في دلالته ، وذلك فإنّ كلمة (رآه) في منطوق الحديث من أفعال القلوب ، وهو لا يفيد الرؤية الخارجية بباصرة العين ، ويعني ذلك أنّ ما علمه المسلمون ووعوه عن رسول الله (ص) حسنا ، فهو عند الله حسن ، لأنّه من الوحي الذي لا يعتريه الشكّ. فالحديث صريح في خلاف ما ترغبون ، فهو حجّة لنا عليكم ، لا لكم ، لأنّ ما صنعه الأصحاب في السقيفة لم يكن من الوحي في شيء ، إذ لا يمكن حمله على أن ما استحسنه أهل السقيفة برأيهم من اختيار الخليفة يكون حسنا عند الله تعالى ، لوضوح بطلانه بدليل قوله تعالى في سورة الأعراف آية ٣ : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) ولم يقل اتّبعوا أصحاب السقيفة فيما استحسنوه. وقال تعالى مخاطبا أصحاب النبي (ص) خاصّة وغيرهم عامّة (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ولم يقل ما فعل أصحاب السقيفة فخذوه وما نهوكم عنه فانتهوا ، لكي تجب طاعتهم كما تجب طاعة الله تعالى ، وطاعة رسوله (ص) ، ثم لو كان كل ما رآه المسلمون حسنا ، نازلا من عند الله تعالى ، لزم أن يكون المسلمون كلّهم أجمعون أنبياء يوحى إليهم ، لأنّ ما ينزل من عند الله تعالى لا يكون إلّا وحيا ولا يوحى لغير الأنبياء (ع) وبطلان هذا لا يشك فيه اثنان من أهل الإسلام.

رابعا : ما تقولون لو قال لكم قائل ممّن لا يقول بقولكم : أترون أنّ ما صنعه أصحاب النبي (ص) في السقيفة من اختيارهم أبا بكر (رض) خليفة من دين رسول الله (ص) أولا؟

فإن قلتم من دينه (ص) ، فيقال لكم : لو كان من دينه لاختاره النبي (ص) وأمر به ولا يمكن أن يكون ذلك من دينه ، ولا يأمر به ،

٣٦

ولا يختاره (ص) ، وقد أكمل الله تعالى له دينه في حياته (ص) فقال تعالى لهم في سورة المائدة آية ٣ : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ، ولم يكن منه ما رآه المسلمون حسنا من بيعة أبي بكر (رض) في السقيفة إطلاقا وذلك لحدوثها بعد وفاته (ص) وكمال دينه كما تعلمون وإذا كان رسول الله (ص) قد اختاره فأي معنى يا ترى لاختيار أصحابه له في السقيفة ولما ذا وقع كل ذلك التنازع بينهم فيمن يختارونه لو كان النبي (ص) قد اختاره لهم لو صحّ ما يزعمون؟ وأين يا ترى كان يومئذ رسول الله (ص) ليختاره وهو قد التحق بالرفيق الأعلى؟ وإن لم يكن ما أحدثوه في السقيفة من دينه (ص) فلا يكون اختيارهم له (رض) اختيارا لمن اختاره الله تعالى وكل ما لم يكن مختارا لله تعالى يجب الترفّع عنه ، والابتعاد منه.

خامسا : إنّ الجمع المذكر المدخول عليه الألف واللام وهو (كلمة المسلمين) في الحديث يفيد العموم باتّفاق علماء أصول الفقه من الفريقين ، ويعني ذلك أنّ ما رآه جميع المسلمين حسنا بما فيهم سيدهم رسول الله (ص) ، والأئمة الهداة من أهل بيته (ع) ، وغيرهم من جميع الصحابة ، فهو عند الله حسن ، وأنتم تعلمون أنّ الذين حضروا يومئذ في السقيفة ، كانوا بعض الصحابة ، ولم يكونوا كل الصحابة ، بل ولم يكونوا كل المسلمين من أهل المدينة ، ومن حولها ، بل ولا جميع المسلمين المنتشرين في البلدان الإسلامية ، الذين لهم الحق في إبداء الرأي في الاختيار المدلول عليه في الحديث ، ولم يكن معهم رسول الله (ص) ، ولا أحد من أهل بيته (ص) ، أمّا رسول الله (ص) فقد اختاره الله تعالى يومئذ إلى جواره ، وأهل بيته لم يشهدوا السقيفة ، ولم يحضروها ، بل كانوا منصرفين كلهم إلى تجهيز النبي (ص) ، وهذا شيء لا يختلف فيه اثنان من أهل الإسلام ، فما صنعه بعضهم في

٣٧

السقيفة من اختيارهم الخليفة لا يكون في متناول الحديث ، ولا يكون صغرى له ، لو سلمنا لكم صحبته ، وبعبارة أوضح : إنّا لو سلّمنا لكم جدلا إنّ للمسلمين أن يختاروا شخص الخليفة بعد النبي (ص) ، إلّا أنّ الذي يجب تحقيقه هو اختيار جميع المسلمين لشخص الخليفة ، لا اختيار بعضهم ، وذلك لأنّ الاختيار المبني على الأسس الحقوقية ، والقوانين الدولية المعاصرة ، إمّا أن يكون مبنيا على الحرية ، وليس فيه شيء من القهر ، والإلزام ، والتحدي ، والتحريف ، وإمّا أنّه مبني على الإكراه ، والجبر ، واستعمال القوّة ، والمال ، والجاه ، وغير ما هنالك من الأعمال الشيطانية ، كالخداع ، والمكر ، والتزوير ، وقلب صور الحقيقة ، الأمر الذي لا يقرّه الدين والعقل.

والقسم الأول من الاختيار المنزّه عن كل شائبة ، تارة يكون بطريق المكالمة والمشافهة ، وأخرى يكون بالقرعة والكتابة ، وكل واحد من هذين النوعين ، تارة يكون على سبيل الاجتماع ، وأخرى على سبيل الانفراد ، والأول : بمعنى أخذ رأي المسلمين كافة في شخص المختار في وقت واحد ، ومكان واحد ، والثاني : بمعنى أخذ رأي كل مسلم بانفراده ، إمّا بأخذ رأيه وهو في داره ، أو إعطائه ورقة يسجّل فيها رأيه فيمن يختاره ويلقيها في صندوق الاختيار. وكل واحد من هذه الأقسام يمكن أن يكون تارة بالواسطة ، وأخرى بلا واسطة ، والأول : كما لو اجتمع رأي الجميع على أفراد معدودين يعتمدون عليهم لعدالتهم عندهم ، ويوكلون رأيهم إليهم ، وهؤلاء يختارون شخص الخليفة ، والثاني : كما لو اجتمعوا على اختيار زيد مثلا وقالوا بصوت واحد : «فلان إمامنا» ويقال للهيئة الأولى في اصطلاح المعاصرين : المختارون الأوليون ، وللهيئة الثانية : المختارون الثانويون.

هذا هو الاختيار المشروع في جميع الدول المعاصرة. والحكومات الحرّة ، سواء أكان في هذا العصر ، أو قبله.

٣٨

ومتى كان الاختيار لأي زعيم من الزعماء ، أو خليفة من الخلفاء ، بهذا الأسلوب من الاجتماع من جميع الأمّة ، يلزمنا النزول على حكمه ، والإذعان بصفته المشروعة. أمّا إذا لم يكن كذلك فليس من الأعراف الدولية ، والقوانين الحقوقية ، الخضوع لحكمه. وأنتم تعلمون من التأريخ الصحيح ، وصحيح الأحاديث ، أن طريق الاختيار للخليفة أبي بكر (رض) يوم السقيفة لا يجتمع والاختيار المشروع الحر في شيء ، لأنّ الخلاف فيه قام بينهم على ساق ، ولم يأخذ المجتمعون فيها آراء جميع المسلمين في المدينة لا بالكتابة ، ولا بالمشافهة ، فضلا عن بقية الأمصار الإسلامية الذين لهم حقّ الاختيار ، وإبداء الرأي في اختيار إمامهم ، شأن الاختيار الحرّ المؤسس على الحقوق الطبيعية ، ولم يكتف أولئك النفر الذين اجتمعوا على أبي بكر (رض) في السقيفة بترك آراء جميع أهل المدينة فلم يستشيروا جميعهم فيه ، وإنّما اعتمدوا على خمسة نفر وهم الخليفة عمر بن الخطاب (رض) ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وأسيد بن خضير ، وبشير بن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة ، على ما سجّله الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) ص ٦ و ٧ من الطبعة التي كانت سنة ١٣٨٧ هجرية بمصر القاهرة ، وغيره من مؤرخي أهل السنّة. ممّن جاء على ذكر السقيفة ، وكيفية أخذ البيعة ، وما كان المسلمون في المدينة ، فضلا عن بقية الأقطار ، ليختاروا أولئك النفر نوّابا عنهم ، كي يمكن اعتبارهم من المختارين الثانويين ، جريا على أصول الاختيار الحرّ ، ولا يمكن لأحد أن يقول إن المسلمين بعد وفاة النبي (ص) لم يكن فيهم من بلغ سن الرشد ، بأن كانوا أطفالا صغارا ، فرأيهم رأي المجانين لا وزن له ، ولا قيمة ، أو إنّهم كانوا مجرمين ، ومقصّرين بارتكابهم الجرائم القانونية ، فتقرر حرمانهم من الحقوق المدنية ، وسقوطهم عن درجة الاعتبار ، فليس لهم حقّ الاختيار إطلاقا.

٣٩

والخلاصة أنّ ما اجتمعت عليه السقيفة ، في اختيار الخليفة ، لا ينطبق عليه شيء من الاختيار الحر ، لأنّهم اقتصروا على رأي جماعة من الصحابة وتركوا آراء كثيرين من كبار رجالهم ، ومشاهير شيوخهم ، فلم يستشيروهم في ذلك ، فمنهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، والعباس عمّ النبي (ص) ، وطلحة ، والزبير ، وأبو أيوب الأنصاري ، وأبو سفيان ، ومعاوية ، وسلمان الفارسي ، وسعد بن عبادة ، وأبو ذرّ الغفاري ، والمقداد ابن الأسود الكندي ، وعمّار بن ياسر ، وأضعاف أمثالهم من أعيان الصحابة ، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، من أهل الحل والعقد ، فإنّهم لم يأخذوا برأي واحد منهم ، ولم يشتركوا معهم في التصويت ، ولم يحضر أحد منهم مجلس الاختيار ، وعارضوهم أشدّ المعارضة ، مضافا إلى أنّ النائين عن المدينة قطعا لم يشترك واحد منهم في الاختيار ، ولم يفوض شخص منهم رأيه إلى أشراف قومه في الاختيار ، وهذا شيء لا يختلف فيه اثنان من أئمة الحديث وأمناء التاريخ ممن سجّل حادثة السقيفة من أهل السنّة.

٤٠