مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

السيد أمير محمد القزويني

مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

آية (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)

لا تريد غير علي بن أبي طالب (ع)

ولو أنّكم تأملتم قليلا ، وحققتم النظر جيدا ، لوجدتم أنّ الآية لا تريد غير علي بن أبي طالب (ع) وأتباعه من أهل اليمن ، وأنّها لا تنطبق على غيرهم ، لا سيما إذا لاحظتم ما بعد الآية من قوله تعالى في سورة المائدة آية ٥٥ : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) الثابت نزولها في علي بن أبي طالب (ع) باتّفاق المفسّرين من أهل السنّة والشيعة على ما أخرجه السيوطي في (الدر المنثور) ص ٢٩٣ من جزئه الثاني في سورة المائدة ، والفخر الرازي في (تفسيره الكبير) ص ٤١٧ من جزئه الثالث ، وابن جرير الطبري في تفسيره ص ١٦٥ من جزئه السادس ، والبيضاوي في تفسيره ص ١٦٥ من جزئه الثاني ، والزمخشري في تفسيره ص ٢٦٤ من جزئه الأول ، والبغوي في تفسيره ص ٥٥ بهامش الجزء الثاني من تفسير الخازن ، وأبو الفداء في تفسيره ص ٧١ من جزئه الثاني ، وابن حبان في تفسيره ص ٥١٣ من جزئه الثالث ، ومحمد عبده في تفسيره الذي عزّاه إليه صاحب المنار ص ٤٤٢ من جزئه السادس ، والمتقي الهندي في (منتخب كنز العمال) ص ٣٨ بهامش الجزء الخامس من (مسند الإمام أحمد بن حنبل) ، والمحبّ الطبري في كتابه (الرياض النضرة)

٣٠١

ص ٢٠٦ من جزئه الثاني في باب فضائل علي (ع) ، وابن الصبّاغ المكي المالكي في كتابه (الفصول المهمة) ص ١٢٣ وغيرهم.

والحجة في هذا لأنّه متّفق عليه ، ومسند إلى رسول الله (ص) لا في غيره مطلقا ، لأنّه مختلف فيه ولأنّ الله تعالى توعّد المرتدين بالانتقام منهم بذي خصال خاصة ، وصفات مخصوصة نوّه عنها في منطوق الآية ، ودلّ الناس عليها دلالة أوجبت لهم اليقين بحقائقها ، فكانت كلّها على وجه التحقيق متوفّرة في علي بن أبي طالب (ع) دون من ادّعيتم نزول الآية فيه.

فمن تلك الصفات نعته تعالى لهم بأنّهم يحبّون الله تعالى ، ويحبّهم الله تعالى ، وقد علمتم كما علم غيركم ممّن وقف على الحديث الصحيح المتّفق عليه ، اختصاص هذا الوصف بخصوص علي (ع) من قول النبي (ص) الذي هو من الوحي الإلهي ، وشهادته (ص) له بذلك يوم خيبر : «لأعطين الراية غدا إلى رجل يحبّ الله ورسوله (ص) ويحبّه الله ورسوله (ص) ، كرّار غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يده» فأعطاها عليّا (ع) ، وكان الفتح على يديه بعد أن أعطاها الخليفتين (رض) أبي بكر وعمر (رض) قبله (ع) ، فرجعا ولم يصنعا شيئا كما تقدم البحث عنه مفصّلا ، ولم يرد في حديث صحيح متّفق عليه أنّ النبي (ص) وصف الخلفاء أبا بكر وعمر وعثمان (رض) وغيرهما من أصحابه (ص) بمثل هذا الوصف مطلقا على أنّ ورود الحديث بنعت علي (ع) بذلك الوصفين بعد ما حدث من الخليفتين أبي بكر وعمر (رض) من الرجوع في ذلك اليوم ، ووصفه (ص) عليّا (ع) بوصف الكرّ دون الفرّ ، يعطيكم صورة واضحة عن سلبه (ص) ذلك كلّه عن غيره.

ومن النعوت أنّه تعالى وصفهم باللين على المؤمنين ، والشدّة على

٣٠٢

الكافرين ، بقوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) ، وهذا الوصف لا يمكن لأحد أن يدفع عليّا (ع) عن اتّصافه به لوضوح ما كان عليه من الشدّة على الكافرين ، والتنكيل بالمشركين ، والغلظة عليهم ، وما عرف به من مقاماته المشهورة المشهودة في تشييد الدين ، ونصر الإسلام ، والجهاد في سبيل الله تعالى ، والرحمة بالمؤمنين ، وليس باستطاعة أحد أن يدّعي شيئا من ذلك لغيره إلّا بالظنّ والتخمين ، أو بالتعصّب البغيض.

ومنها : ما حكاه المتقي الهندي في (منتخب كنز العمال) بهامش الجزء الخامس من (مسند الإمام أحمد بن حنبل) ص ٣٣ وص ٨٢ من جزئه الثالث بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري : أنّ رسول الله (ص) قال لعلي (ع) : «أنت تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله».

وأخرج الحاكم النيسابوري في (مستدركه) ص ١٢٣ من جزئه الثالث ، حديثا صحيحا على شرط البخاري ومسلم عن النبي (ص) أنّه قال : «منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فاستشرف لها القوم ، وفيهم أبو بكر وعمر (رض) فقال أبو بكر : أنا هو؟ قال : لا. فقال عمر : أنا؟ قال لا ، ولكن خاصف النعل يعني عليّا (ع) فأتيناه فبشّرناه فلم يرفع به رأسا كأنّه قد كان سمعه من رسول الله (ص)».

وأخرج الحاكم أيضا في (مستدركه) ص ١٣٩ من جزئه الثالث ، حديثا صحيحا عن النبي (ص) : «أنّه أمر علي بن أبي طالب (ع) بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين» وأخرجه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) ص ٣٤٠ من جزئه الثامن ، والمتقي الهندي في (منتخب كنز العمال) ص ٣٩ بهامش الجزء الخامس من

٣٠٣

(مسند الإمام أحمد بن حنبل) وفي هذا دلالة صريحة على أنّ المأمور بقتالهم هو علي (ع) وحده ، دون الخلفاء الثلاثة (رض) أبي بكر وعمر وعثمان (رض) ، وأنّه (ص) لم يرخّص لهم فيه ، ولم يأذن لهم بقتالهم إطلاقا.

ثالثا : لنا أن نقول لكم إذا حققتم النظر في معنى الآية ولم تتخطوا المراد المفهوم من ظاهرها ، وتفسيرها ، إلى القرائن والأحاديث الصحاح ، لرأيتم أنّه لا يوجد فيها سوى الأخبار بوجود غير المرتدين يقومون بجهاد من فرض الله تعالى قتالهم من الكافرين ، وليس فيها ما يشير إلى تعيين فريق بعينه من واجبي القتال مثال ذلك (لو قال المولى لعبيده : يا عبيدي! من لا يمتثل منكم أمري ، ولا يكون طوع إرادتي ، فإنّي استغني عنه بغيره ممّن يمتثل أمري ، ويقاتل معي عدوي ، ولا يخرج عن طاعتي) فإنّ مثل هذا القول لا يفيد إلّا الحثّ لعبيده على الطاعة له ، والانقياد إليه وفيه إخبار لهم باستغنائه عنهم إن خالفوه ، وعصوا أمره ، بوجود من يقوم مقامهم في الطاعة له على الإخلاص في النصيحة ، ولا يفيد الإخبار بوجود من يقاتلهم أنفسهم على نحو القطع واليقين. فالآية من هذا القبيل ليس فيها إلّا الإخبار كما قدمنا.

٣٠٤

آية (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ)

قال : لقد أوضحتم لنا سبيل الصواب في الآية ، وكشفتم لنا بترادف الأدلّة ، ما كان مستورا عنّا من ضعف تفسير مخالفيكم لها من أهل السنّة ، ولكن خصومكم يحتجّون عليكم بآية أخرى على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان (رض) يقولون : إنّا وجدنا الله تعالى يقول في سورة الفتح آية ١٥ : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ ، قُلْ : لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ ، فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا ، بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً).

ثم قال تعالى في سورة الفتح آية ١٦ : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ ، أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً ، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً).

فالآية كما ترونها قد منعت رسول الله (ص) من إخراج المخلفين معه (ص) بقوله تعالى : (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) ، ثم أوجب عليهم أن يخرجوا مع الداعي إليهم بعد نبيّه (ص) إلى قتال

٣٠٥

القوم الذي وصفهم بأنّ لهم بأسا شديدا ، من الكافرين ، وأوجب عليهم الطاعة له في قتالهم حتى يرجعوا إلى الإسلام ونحن لم نجد الداعي لهم إلى ذلك بعد رسول الله (ص) غير الخليفتين أبي بكر وعمر (رض) ، فإن أبا بكر دعاهم إلى قتال المرتدين ، وكانوا من البأس الشديد بمكان لا ينكر ثم دعاهم عمر (رض) إلى قتال أهل فارس فكانوا كفارا أشداء فدلّت الآية بهذا النوع من الاستدلال على صحّة خلافتهما (رض) بما أوجب الله تعالى لهما من الطاعة في كتابه ، ولا معنى لإمامة الأمّة غير هذا.

قلت : لا يخفى عليكم بأنّ هذا القول لا يقوده شيء من الدليل ، ولم تقيموا على صحّته أي برهان ، وليس فيه إلّا الدعوى المجرّدة التي يشهد على بطلانها كل إنسان له عقل ، أو شيء من الدين مع أنّ فيه من وجوه الخلل ما سنكشفه لكم بواضح البرهان :

أولا : إنّ المنطوق من صدر الآية هو الإنباء عن منع المخلفين من أتباع النبي (ص) عند انطلاقه إلى المغانم التي سأله (ص) القوم أتباعه (ص) ليأخذوها ، وليس فيه ما يدلّ على منع الله تعالى رسوله (ص) من إخراجهم معه (ص) في غير ذلك ، كما ليس فيه ما يفيد منعه من إيجاب الجهاد عليهم معه (ص) في غزواته الأخرى لأنّه (ص) قد دعا الناس إلى قتال طوائف من الكافرين ، أولي بأس شديد ، بعد هذه الغزوة التي غنم فيها المسلمون ، ومنع الله تعالى فيها على المخلفين الخروج ، وبعبارة أوضح إنّ قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) يريد من تخلّف عن غزوة الحديبية ، فالتمس المتخلفون عنها أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى من ذلك بقوله تعالى : (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) ، فإنّه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ، وأولئك لم يشهدوها ، فمنعهم الله تعالى عنها.

وأمّا قوله تعالى : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) فإنّه

٣٠٦

يريد ستدعون إلى قتال قوم أولي بأس شديد ، وقد دعاهم رسول الله (ص) إلى مغاز كثيرة كغزوات مؤتة ، وحنين ، وتبوك ، وغيرها ، فالداعي لهم إلى ذلك هو رسول الله (ص) دون من زعمتم من الخلفاء (رض). على أنّ من الجائز أن يكون الداعي لهم علي بن أبي طالب (ع) إلى قتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين ، وكان رجوعهم إلى طاعته (ع) بقول النبي (ص) : «يا علي حربك حربي» على ما أخرجه الحاكم في (مستدركه) ص ١٤٩ من جزئه الثالث وصححه ، والخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) ص ١٢٧ من جزئه السابع ، والترمذي في صحيحه ص ٢٢٧ من جزئه الثاني ، وغيرهم من حفّاظ أهل السنّة.

فقوله (ص) : «يا علي حربك حربي» يريد به المشابهة بينهما في الحكم دون الحقيقة ، وإنّ حكم المحارب لعلي (ع) هو حكم المحارب للنبي (ص) في إيجابه الكفر ، وإلّا كان الكلام لغوا باطلا لا معنى له ، وذلك ما يتعالى عنه كلام النبي (ص) الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلّا وحي يوحى. لا سيما أنّنا قد علمنا أنّ الطوائف الثلاثة قد أظهروا التديّن بحربه (ع) ، واستحلّوا دمه ودماء المؤمنين من أبنائه ، وعترته ، وأتباعه. وقد ثبت بالتواتر من دين المسلمين أنّ استحلال دم المؤمن أعظم عند الله تعالى من شرب جرعة خمر ، ويؤكّد ذلك ما مرّ عليكم من قول النبي (ص) في حديث البخاري : «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».

فإذا كانت الأمّة مجمعة على تكفير مستحلّ الخمر وإن شهد الشهادتين ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، فوجب القطع بكفر مستحلّ دماء المؤمنين لأنّه أكبر من ذلك عند الله تعالى ، وأعظم في العصيان ، لا سيما إذا لاحظتم ما تقدم تفصيله من حديث النبي (ص) : «من خرج على إمام زمانه بشبر ومات ، مات ميتة جاهلية» على ما تواتر نقله

٣٠٧

في صحاح المسلمين كالبخاري في صحيحه ص ١٤٢ من جزئه الرابع في باب (سترون بعدي أمورا تنكرونها) ومسلم في صحيحه ص ١٢٨ من جزئه الثاني في باب (حكم من فرق أمر المسلمين) وغيرهما من أهل الصحاح.

وشيء آخر نذكره لكم وهو ما أجمع عليه حملة الآثار النبوية (ص) من أهل السنّة من قول النبي (ص) : «من آذى عليّا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله» على ما أخرجه الحاكم في مستدركه ، والذهبي في تلخيصه ص ١٢٢ من جزئه الثالث وصححاه على شرط البخاري ومسلم ، والسيوطي في جامعه الصغير ص ١٣٥ من جزئه الثاني في حرف الميم.

ولا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أنّ من آذى النبي (ص) بحرب ، أو سباب ، فقد كفر بالله العظيم لقوله تعالى في سورة التوبة آية ٦١ : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وقوله تعالى في سورة الأحزاب آية ٥٧ : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً).

وإذا ثبت ذلك وجب الحكم بكفر من سبّ عليّا (ع) ، أو حاربه ، بحكم ما أوجبه النبي (ص) بنصّ قوله (ص).

وخلاصة القول في هذا الوجه : إنّ آية (لَنْ تَتَّبِعُونا) مخرجة لغزوة خيبر عن عموم (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) لمنع المتخلفين عن الحديبية عن الخروج إلى مغانم خيبر ، وليس لهم فيها شيء لاختصاصها بمن شهد الحديبية كما ذكرنا. أمّا غزوات مؤتة ، وحنين ، وتبوك ، فكلّها داخلة في عموم (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) وذلك كلّه كان بدعاء النبي (ص) دون الخلفاء (رض).

ثانيا : إنّ الوارد في تفسيرها عندكم مخالف لقولكم فيها ، وذلك

٣٠٨

لما أخرجه السيوطي في (الدر المنثور) ص ٧٢ وما بعدها من جزئه السادس في تفسير الآية عن عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة أنّ قوله تعالى : (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أهل حنين ، وفيه أيضا عن سعيد بن منصور وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي ، عن عكرمة ، وسعيد بن جبير ، إنّهم أهل حنين ، والحجّة في هذا عليكم دون ما ذكرتم فإنّه مأخوذ من الرأي والهوى فلا حجّة فيه أبدا.

ثالثا : لو سلمنا لكم جدلا ، وفرضنا شمول الآية لمن دعا الخلفاء الثلاثة إلى قتالهم من المرتدين ، وفارس ، والروم ، والبربر ، وغيرهم ، ومع ذلك فإنّه لا يدلّ على شيء من المدح والثناء ، ولا على صحّة خلافة الداعي. فإنّ الظاهر من منطوقها وجوب إجابة هذه الدعوة ولزوم طاعتها أيّا كان هذا الداعي ، كمن دعا إلى إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة والجهاد في سبيل الله ، فإنّه لا يفيد حسن حال كل من دعا إليها ، ووجوب طاعته في كل أمر ونهي يتعلق بأمور الدين والدنيا ، لكي يفيد إمامة الداعي ، وذلك لأنّ حسن حال الداعي إليها ، ووجوب طاعته على الإطلاق لا يعلمان إلّا بدليل آخر غير الآية لأنّها لا تدل على مدح الداعي ولا تفيد الثناء عليه لا سيما إذا لاحظتم قول النبي (ص) في الصحيح المتواتر : «إنّ الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» على ما أخرجه البخاري في صحيحه ص ٩٦ في باب العمل بالخواتيم من جزئه الرابع. على أنّ إرادة ذلك من الآية لا يتم إلّا وجه الدور الباطل عقلا ، وذلك لتوقف معنى الآية على إثبات حسن حال الداعي ، ووجوب طاعته مطلقا ، ليصح أن يكون فردا لمفهومها. فلو توقف إثبات حسن حاله ، ووجوب طاعته مطلقا ، وكونه مصداقا لها عليها ، لزم توقف وجود الشيء على وجود نفسه ، وهو دور صريح ، وبطلانه ظاهر ، وذلك مثله باطل.

رابعا : إنّ المخاطبين في الآية أناس معلومون بأنّهم يدعون إلى

٣٠٩

قوم أولي بأس شديد ، فلا عموم لها لكل أمير ، وحينئذ نقول : إنّ ذلك قد حصل بغزوة (مؤتة) وذلك فإنّ كلمة القوم في منطوقها نكرة غير منفية فلا تفيد العموم ، والوصف لهم بأولي بأس شديد ، بيان لما هو المقصود منهم ، وإنّهم قوم مخصوصون بهذه الصفة ، وقد تحقق ذلك في الخارج بغزوة (مؤتة) وهذا نظير قول القائل : «ستدعون إلى قوم شجعان» فصادف بعد ذلك أن دعوا إلى قتال أناس موصوفين بالشجاعة فقاتلوهم فقد حصلت الطاعة منهم قطعا. أمّا قتال غيرهم فإنّه إنّما يجب ، إمّا بأمر جديد مثله وهو مفقود ، وإمّا بأمر متعلق بعنوان عام يشملهم ، وقد فرضناه فيما تقدم مجاراة لكم ، لا سيما إذا لاحظتم كلمة (السين) في ستدعون الدالّة على التنفيس المفيد لقرب زمان الفعل في المستقبل عند أئمة اللغة.

والحديبية كانت سنة ست من الهجرة النبوية (ص) فأقرب زمان في المستقبل إليها الذي تحقق فيه الوصف بالسير إلى قتال أهل مؤتة وأهل مكة ، وحنين ، هو مؤتة. فإنّ هذه الغزوات وإن وقعت سنة ثمان من الهجرة النبوية (ص) ، إلّا أنّ مؤتة وقعت قبل الغزوتين (الفتح وحنين) فإنّها وقعت في جمادي الأولى سنة ثمان ، والفتح وقعت في شهر رمضان لعشر مضين منه في سنة ثمان ، وحنين وقعت بعد الفتح. وقد جاء على ذكر ذلك كل من أرّخ هذه الغزوات من مؤرّخي أهل السنّة كابن الأثير ، والطبري في تاريخيهما ، وابن كثير في (بدايته ونهايته) ، والحلبي في سيرته ، وكثير غيرهم منهم.

فتلخص ممّا حققناه على القاعدة المسلمة عند علماء النحو من سين التنفيس ، إنّ غزوة مؤتة هي المعنية بقوله تعالى : (إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) على أنّ انطباق الوصف في الآية على الطوائف الثلاث في مؤتة ، وحنين ، والفتح ، أولى وأحقّ بالانطباق على الروم ، والفرس ، وغيرهم ممن قاتلهم الخلفاء (رض) ، لأنّ أولئك كانوا من

٣١٠

العرب ، وهم أشدّ بأسا من غيرهم ، ولأنّ القوم الذين حاربهم الخليفة أبو بكر (رض) بأصحابه لم يكونوا من أهل الردة على ما ذكره ابن حزم في (مسألة أحكام المرتدين) من كتابه (المحلّى) وإليكم قوله : «إنّ المتسمين بأهل الردة قسمان : قسم لم يؤمن قط كأصحاب مسيلمة ، وسجاح ، فهؤلاء حربيون ، لم يسلموا قط. لا يختلف أحد في أنّه تقبل توبتهم وإسلامهم. والثاني : قوم أسلموا ولم يكفروا بعد إسلامهم لكن منعوا الزكاة من أن يدفعوها إلى أبي بكر (رض) فعلى هذا قوتلوا ، ولم يختلف الحنفيون والشافعيون في أنّ هؤلاء ليس حكمهم حكم المرتدين أصلا ، وهم خالفوا فعل أبي بكر (رض) فيهم ، ولا نسميهم أهل الردة» انتهى.

موضع الحاجة من كلامه ، ويقرر هذا ويؤكّده لكم ، إنّ الخليفة أبا بكر (رض) بنفسه ودى مالك بن نويرة من بيت مال المسلمين ، وفك الأسرى والسبايا من آله ، وأمر خالد بن الوليد باعتزال زوجة مالك ، على ما حكاه غير واحد من مؤرخي أهل السنّة وحفّاظهم كابن حجر العسقلاني في آخر ص ٣٧ وما بعدها من كتاب (الإصابة) من جزئه السادس ، وابن خلكان في (وفيات الأعيان) ص ١٧٩ من جزئه الثاني عند ترجمته لوثيمة بن موسى.

ولهذا قال الخليفة عمر (رض) لخالد كما في تاريخ ابن الأثير ، وغيره ممّن أرّخ هذه الواقعة : «قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنّك بأحجارك!» ، ثم قال للخليفة أبي بكر (رض) كما في ترجمة وثيمة بن موسى من (وفيات الأعيان) : «إنّ خالدا قد زنا فارجمه! قال : ما كنت لأرجمه ، فإنّه تأوّل فأخطأ! قال : إنّه قتل مسلما فاقتله به». ومن ذلك كلّه تستشرفون على القطع بإسلامهم وعدم ارتدادهم كما يزعمون فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!!.

٣١١
٣١٢

آية (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ)

قال : يقول خصومكم إنّ هؤلاء المتخلفين من الأعراب هم الطائفة التي تخلّفت عن رسول الله (ص) في غزوة تبوك ، وتظاهرت بالنفاق ، بدليل قوله تعالى في سورة التوبة آية ٨٣ : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ).

فهذا هو المراد من قوله تعالى في سورة الفتح آية ١٥ : (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ ، فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا ، بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) فإذا كان الله تعالى قد منع نبيّه (ص) من أن يخرجهم معه أبدا ثبت أنّ من دعاهم إلى قتال القوم الموصوفين بالبأس الشديد هو غير النبي (ص) ولم يكن ذلك غير الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان (رض).

قلت : أولا : مع قطع النظر عمّا قلنا من أنّ الآية لا تدلّ على مدح الداعي ، ولا الثناء عليه ، ولا تفيد حسن حال الداعي ، ولا تدلّ على إمامته العامة بعد النبي (ص) ، بإحدى الدلالات المنطقية ، لا بالمطابقة ، ولا بالتضمن ، ولا بالالتزام أنّ هذا القائل قد تقوّل على

٣١٣

الله تعالى بغير علم ، ونسب إلى نبيّه (ص) التقصير في تبليغ دعوته الحقّة إلى الناس كافة ، كاملة غير منقوصة.

وفي القرآن يقول الله تعالى لنبيّه (ص) في سورة النحل آية ٤٤ : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ، وقال تعالى في سورة الإسراء آية ٣٦ محذّرا ، ناهيا عن القول على الله تعالى بغير علم : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، وكان عليه في الأقل قبل أن يرسل هذا الحكم إرسالا أن يفهم من الذين يفهمون ، أنّ تلك الآية وما قبلها من قوله تعالى في سورة التوبة آية ٣٨ وما بعدها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا! ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ؟ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ؟ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) إلى آخر السورة نزلت في غزوة تبوك بإجماع الأمّة ، وبلا خلاف ، والأمّة مجمعة على أنّ الآيات النازلة في سورة الفتح إنّما نزلت في المخلفين عن الحديبية ، وبين هاتين الغزوتين من البعد في الزمان ما لا يشك فيه من العلماء اثنان كما أنّ بين الطائفتين في ظاهر الآيات من تفاوت الصفات ما لا يخفى على أولي الألباب فكيف يا ترى يصحّ أن يكون ما نزل في غزوة تبوك ، وهي في سنة تسع من الهجرة النبوية (ص) ، متقدما على النازل في عام الحديبية ، وهي في سنة ست من الهجرة؟ والذي يبدو من هذا القائل على ما قرره الإمام ابن تيمية في منهاجه أنّه من أجهل الناس بالآثار وليس له أدنى معرفة بالسيرة ، والتاريخ ، والتفسير ، وإلّا لم يذهب إلى ما قضى ببطلانه التاريخ المتفق عليه بين المسلمين أجمعين.

ثانيا : هب إنّ هذا القائل كان جاهلا بذلك كلّه ، ولكن ألم يسمع قول الله تعالى في المخلفين من الأعراب : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) ، ليفهم أنّه إخبار عن وقوع الدعوة لهم إلى القتال في المستقبل ، وتأخير أمرهم في الثواب والعقاب

٣١٤

على شرط الطاعة والعصيان منهم ، وليس في الآية ما يوجب القطع بوقوع أحد الأمرين منهم في الواقع ، وقال تعالى في المخلفين الآخرين من المنافقين في سورة التوبة آية ٨٣ وما بعدها : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ* وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ ، وَرَسُولِهِ ، وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ).

وأنتم ترون هاهنا إنّ الله تعالى قد قطع بأنّهم قد استحقّوا العذاب ، وأخبر نبيّه (ص) بأنّهم خرجوا من الدنيا على الكفر والضلال ، ونهاه تعالى من أن يصلي على أحد منهم مات أبدا ، ليكشف بذلك للناس نفاقهم وضلالهم ضلالا بعيدا ، وشهد تعالى عليهم بأنّهم كفروا بالله ورسوله (ص) وماتوا وهم فاسقون ، ولم يجعل في إثابتهم شرطا مطلقا كما جعل ذلك لأولئك في تلك الآية بل قرر عدمه ، وأكده بقوله تعالى فيما بعدها : (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا ، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ).

فحكم تعالى بكفرهم مطلقا ، وإنّهم ماتوا على الكفر والضلال ، وإنّ عاقبتهم الخلود في النار ، وكم من فرق بين من علق أمره على ما يوجب له الثواب والعقاب ، كما في سورة الفتح ، وبين من ثبت له أحد الأمرين على سبيل القطع واليقين ، إمّا الثواب ، وإمّا العقاب كما في سورة التوبة ، وليس يصحّ عند العقل ، ولا عند الشرع ، أن يجتمع للمكلف الواحد أو الأكثر فيما دل عليه في الأولى مع الشرط المدلول عليه في قوله تعالى فيها مع القطع له بأحد الأمرين كما في الآية الثانية على سائر الوجوه ، مهما كانت صورتها.

٣١٥

ثالثا : إنّ الآية إن كانت تريد وجوب طاعة المتقدمين (رض) على عليّ (ع) كما تدعون فليس بأولى من أن تريد طاعة معاوية ، ويزيد ، وبني أمية ، وآل مروان ، وذلك لأنّ أكثر فتوحات الشام ، وبلاد المغرب ، والروم ، وفارس ، كانت على عهد معاوية بن أبي سفيان وأمرائه كعمرو بن العاص ، وبسر بن أرطاة ، ومعاوية بن خديج ، وأضرابهم من أمرائه السفاكين لدماء المؤمنين بغير حق.

فإن ادّعيتم شمول الآية لهؤلاء كما ادّعيتم شمولها لأولئك الخلفاء (رض) المتقدمين على عليّ (ع) لزمكم أن تقولوا إنّ الله تعالى قد أوجب بعد نبيّه (ص) طاعة الفاسقين وأمر باتّباع الظالمين ، ونصّ على إمامة مرتكبي الفجور ، وشاربي الخمور ، وهاتكي الحرمات ، وقاتلي النفوس المحترمة ، من بغاة صفين ، وغيرهم من جبابرة بني العباس ، وذلك كلّه معلوم بالضرورة من الدين ، والعقل ، وإجماع المسلمين أجمعين بطلانه ، وذلك مثله باطل.

وإن منعتم شمول الآية لهم مع بداهة قتالهم بعد النبي (ص) لقوم من الكفار لهم بأس شديد ، منعنا شمول الآية للمتقدمين (رض) على عليّ (ع) ، إذ لا دليل لكم على تخصيص الآية بهم سوى التحكم والجزاف في الحكم ، وذلك ما لا تذهبون إليه.

٣١٦

آية الإنفاق

قال : ما أقوى حججكم ، وأمتن احتجاجاتكم ، وما أدقّ تحقيقكم ، وأعظم تدقيقكم ، فلله أبوك من مناظر ما أفهمك ، ولا فض فوك من متكلم قوي ، يجيد الكلام الرصين ، ويعرف مواقعه ، مع طول باع ، وسعة اطّلاع ، في الفقه ، والتفسير ، والحديث ، والتاريخ ، واللغة! ولقد كشفتم القناع بما فيه الاقتناع لطالبي الحق ورواد الحقيقة في هذه المباحث حتى أصبحت واضحة مستنيرة ، ولكن مخالفيكم يقولون إنّ قوله تعالى في سورة الحديد آية ١٠ : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ ، وَقاتَلُوا ، وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) صريح الدلالة في أنّ أبا بكر ، وعمر ، وعثمان (رض) ، وعليّا (ع) وطلحة ، والزبير ، وسعدا ، وسعيدا وعبد الرحمن بن عوف ، وأبا عبيدة بن الجراح ، من أهل الجنان ، وهم قطعا ممن أسلم قبل الفتح ، وأنفق ، وقاتل الكافرين ، وقد وعدهم الله تعالى الحسنى ، وهي الجنة وما فيها من الثواب ، وذلك يمنع من وقوع معصية منهم توجب لهم العقاب ، أو يمنع لهم الولاية والمحبة في الإسلام.

٣١٧

قلت : أولا : إنّي لشاكر لكم جميل مدحكم ، وعظيم ثنائكم ، وأقدر لكم هذا العطف ، واللطف ، وبعد : فإنّ هذا القول في الآية ، وصرف الوعد فيها إلى خصوص من زعمتم يرتكز على زعمين اثنين :

الأول : لا يعضده شيء من البرهان فهو في حيز البطلان.

الثاني : مجمع على بطلانه ، ولا خلاف في فساده بين الفريقين.

أمّا الشقّ الأول فزعمكم أنّ الخلفاء أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، قد انفقا قبل الفتح ، فهو عار عن الحجّة ، ولا دليل عليه إذ لم يثبت ذلك بحديث من صادق أمين ، ولا دلّ عليه كتاب الله تعالى في آية ، ولا أجمعت عليه الأمّة ، بل الخلاف فيه ثابت للعيان ، ولعلّ الدليل قائم على بطلان قول مدّعيه.

وأمّا الشقّ الثاني فزعمكم أنّهما قاتلا الكافرين ، فهو متّفق على بطلانه بين الطائفتين ، لا يختلف في عدم صحّته اثنان من أصحاب التاريخ ، فإنّهم لم يسندوا إليهما قتل كافر معروف ، ولا جرح مشرك معلوم ، ولا مبارزة شجاع موصوف ، ولا منازلة بطل ، ولا محاربة مغوار ، وقد مرّ عليكم ما سجّله حفّاظ أهل السنّة من رجوعهما يوم خيبر ، وعدم ثباتهما يوم حنين ، وغيرها من غزوات النبي (ص) ، كما قدمنا لكم بيانه مدعما بدليله وبرهانه وإذا كان الخليفتان غير موصوفين بتلك الصفات التي ادّعيتم تعلق الوعد في الآية بموصوفها من جماعة الناس ، ثبت لكم عدم شمول الآية لهما.

ثانيا : إنّ ذلك القول يعم الصحابة كافة بالوعد ، ويقضي لهم بالعصمة من كل الذنوب ، وإنّه لا يلحقهم شيء من العيوب ، لأنّ الصحابة بين شخصين : أحدهما أسلم قبل الفتح وأنفق وقاتل ، والآخر أسلم بعد الفتح وقاتل ، فإن جاز لكم دفع ذلك عنهم ، جاز

٣١٨

لنا دفعه عن الخلفاء الثلاثة (رض) وعمّن جئتم على ذكرهم ، فعموم الوعد في الآية بالحسنى شامل بظاهره لجميع الصحابة ، لا خصوص من ذكرتم ، وقد أجمعت الأمّة على بطلان عصمة الصحابة من الذنوب ، وسلامتهم من العيوب ، ويشهد لذلك واقعهم العملي الذي لا سبيل إلى إنكاره إلّا ممّن تناهى به العناد إلى أن ينكر سواد الليل أو بياض النهار ، فإذا ثبت بطلان هذا كان ذلك مثله باطل.

ثالثا : إنّ الوعد في الآية إن أوجب للخلفاء أبي بكر ، وعمر ، وعثمان (رض) على ما ادّعيتم لهم من الإنفاق ، والقتال ، والعصمة من الذنوب ، لوجب ذلك لأبي سفيان بن حرب ، وولديه يزيد ومعاوية ، وعمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد ، بل هؤلاء أولى وهم به أحقّ من المتقدمين على علي (ع) ، وذلك لقيام الإجماع عندكم على أنّ أبا سفيان بن حرب أسلم قبل الفتح ، وجعل النبي (ص) الأمان لكل من دخل داره بمكة ، كرامة له وتميزا له عن سواه ، وأسلم ابنه معاوية قبله بعام ، وكذلك كان إسلام يزيد بن أبي سفيان ، وكان لهم من الجهاد بين يدي النبي (ص) ما لم يكن للخلفاء الثلاثة (رض). فإنّ المذكور عندكم ومجمع عليه لديكم أنّ أبا سفيان أبلى يوم حنين بلاء حسنا ، وقاتل يوم الطائف قتالا لم يسمع مثله في ذلك اليوم لغيره ، وفيه ذهبت عينه ، وقد أرّخ ذلك كل من تقدم ذكرهم من الحفّاظ والمؤرّخين عندكم ، وكانت راية رسول الله (ص) مع ابنه يزيد وهو يقدم به بين يدي المهاجرين والأنصار ، ولأبي سفيان بن حرب مقامات معروفة في الجهاد ، وهو صاحب يوم اليرموك ، وفيه ذهبت عينه الأخرى وقد جاءت الأخبار أنّ الأصوات يومئذ خفيت فلم يسمع إلّا صوت أبي سفيان بن حرب ، وهو يقول : «يا نصر الله اقترب» والراية مع ابنه ، وقد كان له في الشام وقائع مشهورة ، ولمعاوية ابنه من الفتوح في بلاد الروم ، والمغرب ، والشام ، في أيام عمر ، وعثمان (رض) ، وأيام

٣١٩

إمارته ، وفي أيام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، وبعده ما لم يكن للخليفة عمر (رض) ، كما سجل ذلك كل من جاء على ذكرهم ، وترجمهم كابن عبد البر في (استيعابه) ، وابن حجر العسقلاني في (إصابته) ، والذهبي في ميزانه ، وكثير غيرهم من مؤرّخي أهل السنّة ، وحفّاظهم. أمّا خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، فاشتهار قتالهما مع النبي (ص) وبعده (ص) على ما جاء عندكم في التاريخ ، والحديث يغنيان عن التطويل بذكره لأنّكم أعرف به من غيركم.

٣٢٠