مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

السيد أمير محمد القزويني

مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

حديث الواحد حجة على أهل السنّة

وأمّا قوله : «إنّ الحديث من آحاد الخبر».

فيقال فيه : إنّه مردود من وجهين.

١ ـ ممّا تقدم من قول حفّاظ أهل السنّة في الحديث أنّه متظافر ، ومعناه متواتر ، ومنهم صاحب كتاب (نفع قوت المقتدي على جامع الترمذي) وغيره من حملة الحديث ونقّاده ، فإنّهم صرّحوا بتواتره.

٢ ـ لو سلمنا له جدلا وفرضنا أنّه من آحاد الخبر فهو حجّة على الإمام ابن تيمية وغيره من أهل السنّة يلزمون به على طريقة الإلزام بما ألزموا به أنفسهم من حجية آحاد الخبر في مثل هذا الموضوع. ألا ترون أنّ أهل السنّة قد أسسوا قواعد خلافة الخلفاء (رض) وبنوها على حديث الآحاد يوم السقيفة؟ فإنّ بعضهم أورد لهم حديث الخلافة في قريش وقال بعده الخليفة أبو بكر (رض) اختار لكم أحد هذين يشير إلى أبي عبيدة الجرّاح وعمر بن الخطاب (رض) مفضلا لهما على نفسه بإقراره واعترافه (رض) على ما تقدّم نقله عن صحاح أهل السنّة ومسانيدهم ومنهم الإمام البخاري في (صحيحه) ومثله الإمام مسلم في (صحيحه) في باب فضائل الخليفة أبي بكر (رض).

٢٨١
٢٨٢

في تحقيق حديث يوطي اسمه اسمي

وأمّا قوله : «إنّ لفظه حجّة على الشيعة ، لأنّه يواطي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ، فهو محمد بن عبد الله وليس بمحمد بن الحسن».

فنقول فيه : إنّ الموجود في الأحاديث الصحيحة ، وأقوال أئمة أهل السنّة ، ومنهم من تقدّم ذكرهم (إنّه يواطي اسمه اسمي) وقد نقله ثلاثون ثقة من أكابر حفّاظ أهل السنّة المعروفين بتنقيب الحديث ، وتمحيص دقائقه بكل دقة عن عاصم بن بهدلة.

أمّا زيادة «واسم أبيه اسم أبي» فمما لا يوجد في شيء من الصحاح ولم ينقله بهذه الزيادة أحد من أئمة الحديث وحفّاظه المعروفين بنقد الحديث وتمييزه من أهل السنّة ، وإنّما جاء بهذه الزيادة (زائدة بن أبي الرقاد الباهلي البصري) ، وقد جرت عادته على الزيادة في الحديث ، وليس من الممكن المعقول أن يخطئ ثلاثون ثقة من جملة الأحاديث النبوية وحفّاظها الثقات عند أهل السنّة بتركهم لهذه الزيادة بتقدير وجودها ، ويصيب زائدة وحده وينفرد بحفظها دون هؤلاء مع أنّ الجميع قد نقلوا الحديث عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود.

٢٨٣

زائدة مقالته زائدة

وأمّا زائدة الذي اعتمد عليه الإمام ابن تيمية كعادته في منهاجه من نقل الحديث عن مثل زائدة ، فمقالته زائدة ، ولا يعتمد على شيء من حديثه ، قال خاتمة حفّاظ أهل السنّة وأحد أئمة الجرح والتعديل عند أهل السنّة في علم الرجال ابن حجر العسقلاني في (تهذيب التهذيب) ص ٣٠٥ من جزئه الثالث من الطبعة الأولى التي كانت سنة ١٣٢٥ هجرية ما نصّه :

«زائدة بن أبي الرقاد الباهلي ، البصري ، الصّيرفي ، روى عن عاصم ، وثابت البناني ، وزياد النميري ، قال البخاري : «منكر الحديث» ، وقال السجستاني : «لست أعرف خبره» وقال النسائي : «لست أدري من هو» وقال ابن حيان : «يروي المناكير عن المشاهير» انتهى قوله.

فبالله عليكم هل من العقل أو الدّين أن يستند الباحث البصير ، والمثقف المتحلّل من القيود العصبية البغيضة ، إلى حديث ، طعن في راويه أشدّ الطعن ، أئمة الجرح والتعديل عند أهل السنّة ، الذين عليهم المعول والاعتماد في معرفة الثقات من غيرهم ، في رجال الإسناد عند أهل مذهبه ويضرب الصفح عن نقل ما يخالفه ، وهم يزيدون على ثلاثين ثقة وفيهم طائفة من أعاظم الحفّاظ ، وكبار رجالهم ، من أهل نحلته؟ وقد جاء الحافظ الكنجي على ذكرهم مفصّلا في كتابه (البيان) فإن أردتم التحقيق فراجعوا الكتاب المذكور ، وغيره مما جئنا على ذكره لتعلموا صدق ما قلناه.

ثم إنّ الحكيم الترمذي كغيره من حفّاظ أهل السنّة أخرج الحديث في سننه عن جماعة كثيرة من الصحابة وحسّنه ، ولم تكن فيه هذه الزيادة الزائدة في حديث زائدة نعم أخرجه السجستاني في سننه إلّا

٢٨٤

أنكم قد عرفتم طعنه في زائدة وأنّه ما عرف خبره ، كما أنّه أخرجه بغير هذه الزيادة. فظهر لكم جليّا بحكم هذه النصوص النبويّة المتواترة ، أنّ المهدي هو (محمد بن الحسن العسكري الحجّة المنتظر عليهما‌السلام) صاحب الغيبة ، وأنّ حديث زائدة ساقط لا أصل له فلا يمكن بحال أن ينهض لمعارضة ما تواتر من الأحاديث المؤيدة بأحاديث الشيعة من طرقهم ، فيكون من المتفق عليه بين الفريقين ، والحجّة فيه على الفريقين ، لأنّه قطعي وما عداه شاذّ ، موضوع ، واجب طرحه ، لا سيّما أنّ الزيادة المذكورة في متن الحديث تفرّد بها رجل ، مجهول الحال ، لا يعرف خبره «ويروي المناكير عن المشاهير» على حدّ تعبير رجل الجرح والتعديل ابن حيان ولم يعتمد عليه من علماء المسلمين سواء في ذلك الشيعة وأهل السنّة حتى من حكى عنه الحديث مع الزيادة ، فإنّه لم يعتمد عليه ، وقال فيه إنّه لا يعرف خبره فلا يصحّ للإمام ابن تيمية ، وأمثال ابن حجر الهيثمي ، وابن خلدون ، والشهرستاني ، أن يعتمدوا على زائدة ومن كان على شاكلته من الوضاعين بحكم أئمة الجرح والتعديل عند أهل السنّة.

ونزيدكم وضوحا بما قاله عبد الحق الدهلوي في كتابه (المرقاة) وقد روي في التحفة حديثا عن كتاب أبيه المسمّى ب (الفضل المبين) تنتهي سلسلة سنده إلى قوله : حدّثنا محمد بن الحسن الحجّة المحجوب ، إمام عصره ، حدّثنا الحسن بن علي عن أبيه عن جدّه إلى آخر الحديث ، ورجال هذا الحديث كلّهم عدول ثقات ، من كبار حملة السنن ، مثني عليهم بالجميل ، وكلهم من حفّاظ أهل السنّة ، ومهرتهم بعلم الحديث ، وطرق إسناده ونقده.

ويقول : إمام النسابة ، وشيخهم المعول عليه عندهم في علم النسب ، سهل بن عبد الله البخاري ، فإنّه بعد أن نقل عن النسابة جميعا في كتابه سر السلسلة العلوية بأنّهم متفقون على أنّ العقب من

٢٨٥

ولد الإمام علي الهادي هو الإمام الحسن العسكري وجعفر ، قال ما معناه : ولم يولد للحسن العسكري سوى ولده الحجّة محمد المهدي (ع).

كما نصّ عليه في كتاب (أنساب الطالبين) وهكذا سجّله كل من الشريف ابن المهنّأ في كتابه (أنساب أبي طالب) والشيخ الشريف العبيدلي المعروف (صاحب التذكرة في النسب) ، وصاحب (عمدة الطالب في أنساب أبي طالب) ، وشيخ النسابة الحجة عند أهل السنّة عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب ، والإمام الذهبي في تاريخه ، وابن خلكان في (وفيات الأعيان) ص ٤٥١ من جزئه الثاني في حرف الميم ، وابن الوزدي في تاريخه وعبد الملك العصامي في تاريخه ، والحمويني في مناقبه ، وغيره من هؤلاء ممن جاءوا على ذكر تولده ، وبقائه حيّا من أئمة أهل السنّة في علم النسب.

ولا شك لديكم في أنّ شهادة رجلين من هؤلاء الحفّاظ المشهود لهم بالعدالة والوثاقة عند أهل السنّة ، كافية لإثبات تولده من الإمام الحسن العسكري (ع) ، فكيف إذا كان أولئك كلهم يشهدون ، وغيرهم معهم ، ممّن لم يأت على ذكرهم ، فإنّه يوجب القطع بصحّة ما نقول ، وبطلان ما قاله الإمام ابن تيمية ، ومن سار على منهاجه من غير تدبّر ولا رويّة.

٢٨٦

ما قاله الإمام ابن تيمية في تواتر النصّ على باقي الأئمة

الاثني عشر من أهل بيت النبي (ص)

وكم في (منهاج) الإمام ابن تيمية من عجائب وغرائب ، يندى لها جبين الإنسانية خجلا وتتمزق قلوبها من هولها أسفا عند ما تقف على منهاجه فترى طرقه المعوجة وخطوطه المتعرجة قد شحنه بعبارات السباب والشتائم وملأه بنسبة الأباطيل والأضاليل والتفكير لأمة كبيرة من المؤمنين ما عبدت غير الله تعالى وما أطاعت غير رسول الله (ص) ولم تشرك بالله تعالى طرفة عين أبدا لا لشيء إلا أنهم خالفوه في ميوله وهواه فأوسعهم في كتاب قدحا وذما وتكفيرا ، ولأنهم نظروا إلى أهل بيت نبيهم (ص) نظرة خاصة كالتي كان رسول الله (ص) ينظر بها إليهم وأحبوهم بعد النبي (ص) قبل كل إنسان ولقد تصدى للرد عليه وتفنيد مزاعمه تفنيدا كاملا علامة عصره ووحيد دهره المغفور له (السيد محمد مهدي الكاظمي القزويني) نوّر الله مرقده بكتابه (منهاج الشريعة) بأدلة تثلج الصدور وتستولي على الألباب وتنقاد لها أعناق النقاد وناقشه الحساب بدقة ورد كل عادية من عادياته إلى محلها. ومن غريب مزاعمه وإن كانت كلها غريبة في صفحة ٢٠٩ وما بعدها من جزئه الرابع فإنه بعد أن أورد كلام العلامة على الإطلاق (الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي) نور الله ضريحه في الفصل الرابع في إمامة باقي الأئمة الاثنى عشر من البيت النبوي (ص) (لنا في ذلك طرق : أحدها النص

٢٨٧

وقد توارثته الشيعة في البلاد المتباعدة خلفا عن سلف عن النبي (ص) إنه قال للحسين (ع) هذا إمام ابن أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم (ع) قال الإمام ابن تيمية والجواب من وجوه ثم ذكر وجوها لا حاجة لنا إلى ذكرها لأنها أوهى من بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت وقد أوضح وهنها من رد عليه ولكن الذي نريد تسجيله عليه هو غرابة قوله (التاسع) (١) من الوجوه أن يقال أن الفضائل التي نقلها الصحابة في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان (رض) أعظم تواترا من نقل هذا النص دون أن يهتدي أولا إلى أن ما أورده وادعاه من الفضائل لا يعرفها خصمه ، ولم يرد منها شيء من طريقه فكيف ، يا ترى يريد إلزامه به ، والخصم لا يكون حكما وما تفرّد به لا يكون حجة على خصمه المخالف له في الرأي والمبدأ؟ ولو صح مثل هذا النوع من الاحتجاج الذي سار عليه الإمام ابن تيمية في (منهاجه) في ردّه على خصمه بأنّه لم يأت فيه بشيء إلّا ما كان واردا من طريقه ، وإن كان باطلا في نفسه ، أو ما يشهد غيره ببطلانه ، كما يشهر عليه ما جاء به هنا. فلو كان يجب على خصمه قبوله ، لم يكن ذلك بأولى من عكسه وهو أن يقبل من خصمه كل ما يقول به مع قطع النظر عن كلّ ما جاء به خصمه كان ثابتا من طريقه لا من طريق خصمه.

__________________

(١) كان على الإمام ابن تيمية أن يفهم بأنّ كل وجه من تلك الوجوه التي أدلي بها وزعم أنها مفندة لقول خصمه يجب في عرف النقد وقواعد الرد أن يكون متكاملا متماسكا كافيا وافيا للرد والتفنيد. أما إذا كان كل واحد منها موجبا لفساد الآخر وبطلانه ومستلزما للتناقض بينها فلا يصلح شيء منها أن يكون دليلا علميا وبرهانا منطقيا على الرد والتفنيد عند أهل العرفان وهذا ما حصل للإمام ابن تيمية فإن ما جاء به في الوجه التاسع من القول أفسد على نفسه كل ما تقدمه من الوجوه وما تأخر عنه من الوجوه وأسقطها كلها عن الاعتبار والتقدير كما مر عليكم توضيحه وهذا ما جهله عبد الرحمن الزرعي لجهله بأصول المناظرة فتطاول على علماء الشيعة فنسب إليهم الكذب والافتراء مما هم منه براء كما سيمر عليك بيانه.

٢٨٨

وشيء آخر : إنّه لو صحّ مثل هذا الاحتجاج ، وكان مقبولا في قواعد الرد ، وملزما للخصوم في آداب المناظرة لوجب على الإمام ابن تيمية أن يقبل احتجاج أهل الكتاب عليه بما ثبت عندهم ويكون هو الآخر ملزما بقبوله ، والنزول على حكمه ، وهذا باطل بالضرورة من العقل والدين وذلك مثله باطل.

ثانيا : إنّ اعتراف الإمام ابن تيمية بأنّ الفضائل المنقولة عن الصحابة في فضائل الخلفاء الثلاثة (رض) أعظم تواترا من نقل النص على باقي الأئمة الاثنى عشر من البيت النبوي (ص) ، يلزمه أن يعترف بتواتر النص على باقي الأئمة الاثنى عشر من أهل بيت النبي (ص) وتلك قضية صيغة التفضيل في كلامه ، والتي تقتضي في لغة العرب المشاركة بين شيئين من جهة والمفارقة بينهما من جهة أخرى ، مثال ذلك قولنا «زيد أعلم من خالد» فإنّه يقتضي اشتراكهما معا في العلم ، ليكون زيد أعلم منه. والمقام من هذا القبيل فإنّه يجب أن يشترك كل من النص المنقول في إمامة الأئمة الاثنى عشر من أهل البيت (ع) والمنقول في فضائل الخلفاء الثلاثة (رض) في التواتر ليكون هذا الأخير أعظم تواترا من الأول على حدّ زعم ابن تيمية فأعظمية تواتر المنقول في فضائلهم (رض) عن الصحابة كما يقول يعني اعترافه بتواتر النصّ المنقول في باقي الأئمة الاثنى عشر من آل النبي (ص) فالإمام ابن تيمية من حيث يشعر أو لا يشعر ، قد أبطل على نفسه بنفسه جميع ما جاء به من الوجوه المتقدمة والمتأخرة الباطلة في نفسها بهذا الوجه إبطالا (وكذلك يفعل المبطلون).

٢٨٩

ما تطاول به عبد الرحمن الزرعي على علماء الشيعة

وأغرب من ذلك أن يزعم عبد الرحمن الزرعي في كتابه الذي لا يحمل بين فجواته إلا التفاهات الخرقاء ، والمزاعم الجوفاء ، والمفتريات ، والأكاذيب كإخوانه إحسان ظهير ، وإبراهيم الجبهان ، والمجوسي في كتابه (وجاء دور المجوس) ومن سلك سبيلهم في إثارة النعرات الطائفية ، وبث روح العداء والبغضاء بين صفوف المسلمين في القرن العشرين ، قرن العلم والمعرفة كما يقولون ليوسعوا على الأمّة المسلمة جراحها ، ويفككوا على إخائها ويجرّوا عليها الويلات من هنا وهناك ، فكشفوا للناس عن سوآتهم ، فبان للناظرين فحمة ذواتهم.

أجل يزعم هذا الزرعي الذي زرع في قلبه الحقد والحنق على علماء الشيعة من غير مبرر ، سوى الهوى ، وفتنة الشهوة ، المتأصلة في نفسه المريضة ، إنّه لم يجد أكذب من علماء الشيعة إلّا بعد أن وقف على ما سجلناه في كتابنا (نقض الصواعق المحرقة) من أنّ الإمام ابن تيمية قد اعترف بتواتر النصّ على باقي الأئمة الاثنى عشر من آل النبي (ص) إلّا أنّه ادّعى أنّ الفضائل المنقولة في فضائل الخلفاء الثلاثة (رض) أعظم تواترا من نقل هذا النص) ، ولذلك ثار ، وفار ، فاجتاز حدود الأدب ، فحكم طالما بأنّه لم يجد أكذب من علماء الشيعة

٢٩٠

وكان عليه في الأقل قبل أن يثور ويفور على غير هدى وبصيرة أن ينظر بعين صحيحة إلى ما قلناه في تزييف ما قاله الإمام ابن تيمية ، ليرى الحق حقّا فيتبعه ، والباطل باطلا فيجتنبه ، لو كان من المنصفين.

ولكن مهلا يا زرعي! فإنّ الحق يدوم ولو طالت الأيام ، والباطل مخذول وإن نصره أقوام ، وهيهات هيهات أن تستر السماء بالأكمام وشمس الضحى بالغربان ، ولن ينصر الباطل أقوال المرجفين ، ولن يؤيده خزعبلات المفترين والحمد لله رب العالمين.

ثم نقول للإمام ابن تيمية : إنّ تواتر النصّ في باقي الأئمة الاثنى عشر من أهل بيت النبي (ص) ، كما يقتضيه قوله بأعظمية تواتر الفضائل المنقولة في الخلفاء الثلاثة (رض) يمنع منعا باتا من هذه الأعظمية المزعومة ، وذلك لاستحالة حصول التواتر في ثبوت شيء وحصوله في ثبوت نقيضه أو ضده عند العقلاء جميعا. لذا فإنّا نلزمه بإقراره بتواتر النصّ في باقي الأئمة الاثنى عشر من آل النبي (ص) ، ولا نقبل منه دعواه بأعظمية الفضائل المنقولة بزعمه ، في فضائل الخلفاء الثلاثة (رض) ، لأنّ إقرار العقلاء على أنفسهم حجة يلزمون به ، شرعا وعقلا ، ولا يمكن لأحد أن يقول بخروجه عنهم إطلاقا.

٢٩١

ثبوت أثار النبوّة بنقل علماء الشيعة

ثم إنّا نذكر لكم صحّة ما قلناه من صدق علماء الشيعة التابعين للوصي وآل النبي (ص) ، وبطلان ما زعمه (الزرعي) ، ومن كان على شكله من الحاقدين ، والحانقين عليهم ، تبعا للأهواء ، والضلالات ، لتعلموا ثمة أنّ (الزرعي) لم يكن صادقا في مقاله ، وقديما قيل في الأمثال : «رمتني بدائها وانسلت!».

وحسبكم في ذلك شهادة الحافظ الكبير والناقد الخبير في أئمة الجرح والتعديل عند أهل السنّة الذهبي في كتابه (ميزان الاعتدال) ص ٤ من جزئه الأول في باب الألف عند ترجمته لأبان بن تغلب من أصحاب الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) ، فإنّه بعد أن نقل توثيقه عن جماعة من أئمة أهل السنّة ، كالإمام أحمد بن حنبل ، وابن معين ، وابن أبي حاتم ، قال ما لفظه :

«البدعة على ضربين : فبدعة صغرى كغلو التشيع ، أو كالتشيع بلا غلو ، ولا تحرف ، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم ، مع الدّين ، والورع ، والصّدق. فلو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية ، وهذه مفسدة بيّنة ...».

والحقيقة لا تهضم ، فإن هضمت استثارت لنفسها ، فاستنارت ،

٢٩٢

على أنّ الكثير من أئمة أهل السنّة رجعوا في الفقه وأصول الحديث إلى علماء الشيعة وأخذوا عنهم.

فمنهم : الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، فإنّه أخذ الفقه والحديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) ، حتى اشتهر عنه قوله : «لو لا السنتان لهلك النعمان».

ومنهم : الإمام أحمد بن حنبل كان شيخه في العلم والحديث محمد بن فضيل بن غزوان الضبي ، وكان من الشيعة ، نصّ على تشيعه السمعاني في كتاب (الأنساب) ، وابن حجر العسقلاني في (تهذيب التهذيب) ص ٤٠٦ من جزئه التاسع وص ٣٣٨ من كتابه (لسان الميزان) من جزئه الخامس ، والذهبي في (ميزان الاعتدال) ص ١٢٢ من جزئه الثالث في باب الميم.

ومنهم : إمام الحديث محمد بن اسماعيل البخاري ، كان شيخه في الحديث كل من إسماعيل بن أبان الأزدي الكوفي ، وخالد بن مخلد القطواني أبو الهيثم الكوفي ، وعبيد الله بن موسى العبسي الكوفي ، وكانوا من الشيعة ، نصّ عليهم السمعاني في (الأنساب) ، والذهبي في (ميزان الاعتدال) ص ٩٩ و ٣٠٠ من جزئه الأول ، وص ١٧٠ من جزئه الثاني في أبواب الألف والخاء والعين ، وابن قتيبة في ص ٢٠٦ من كتاب (المعارف) من جزئه السادس ، وص ٢٨٣ من (طبقات ابن سعد) من جزئه السادس.

ومنهم : الحافظ الترمذي ، وأبو داود ، وأبو عروبة ، وابن خزيمة ، وخلائق ، كان شيخهم في الحديث إسماعيل بن موسى الفزاري الكوفي ، وكان من الشيعة ، نصّ على تشيعه الذهبي في (ميزان الاعتدال) ص ١١٧ من جزئه الأول في باب الألف.

ومنهم : العلاء بن صالح ، وصدفة بن المثنى ، وحكيم بن جبير ، كان شيخهم في الحديث جميع بن عميرة التميمي ، تيم الله ،

٢٩٣

وكان من الشيعة نصّ عليه الذهبي في (الميزان) ص ١٩٥ من جزئه الأول في باب الجيم.

ومنهم : الإمام الثوري ، ومالك بن مغول ، وعبد الله بن نمير ، وطائفة من تلك الطبقة ، كان شيخهم في الحديث الحارث بن حصيرة الأزدي أبو النعمان الكوفي ، وكان من الشيعة نصّ على تشيعه الذهبي في الميزان في آخر ص ٢٠٠ قبل سطرين من جزئه الأول في باب الحاء.

ومنهم : الإمام مسلم ، وأبو داود والبغوي ، وكثير من طبقتهم ، كان شيخهم في الحديث عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان بن صالح بن عمير القرشي الكوفي الملقب مشكدانة ، وكان من الشيعة نصّ عليه الذهبي في باب العين ص ٩٥ من الميزان من جزئه الثاني ، إلى كثير من أمثال هؤلاء من جهابذة الشيعة الذين رجع إليهم أئمة أهل السنة في أخذ الحديث ، يضيق المقام من تعدادهم ، وإن أردتم المزيد من المعرفة بهم فعليكم بمراجعة كتاب (المراجعات) للمغفور له العلّامة الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين ـ قدس الله روحه ـ فإنّه لم يبق زيادة لمستزيد.

وبعد هذا كلّه ندع (الزرعي) يملي عليه بغضه ، وحقده على علماء الشيعة ، الذين لولاهم لما أخضر للإسلام عود ، ولما قام له عمود ، ولذهب ذهاب أمس الدابر ، وأصبح خبرا من أخبار الزمن الغابر ، فيقول فيهم ما يشاء ، فإنّ ذلك لا يزيدهم إلّا رفعة ، ولا ينالهم منه إلّا عزا ومنعة.

٢٩٤

العودة إلى آية الاستخلاف

رابعا : ما تقولون لو قال لكم قائل ممّن لا يقول بقولكم ، وردّ عليكم بقوله : إنّ الله تعالى أراد بهذه الآية أن يفسر بالاستخلاف أبا سفيان بن حرب ومعاوية ، ويزيد ، ابني أبي سفيان ، وذلك لأنّه تعالى رأى قد توفّرت فيهم صفات الوعد بالاستخلاف ، فكانوا خائفين عند قوّة الإسلام لمخالفتهم النبي (ص) ، فتوجّه إليهم الوعد من الله تعالى بالأمان لهم من الخوف ، شريطة أن يتركوا عبادة الأصنام ، ويستأنفوا الأعمال الصالحات ، وإنّه تعالى يستخلفهم بعد ذلك ، ويمكّن لهم في البلاد ، جزاء لهم على الطاعة لله تعالى ولرسوله (ص) ، وتشويقا لهم إلى الإيمان ، فلبّوا دعوة الله تعالى ، والتزموا بما أمرهم به ، واعتنقوا الإسلام ، فآمنوا برسول الله (ص) ، وعملوا الأعمال الصالحة ، فأمنوا من الخوف ، واستخلفهم رسول الله (ص) لذلك في حياته (ص) ، فكانوا من بعده كالخلفاء الثلاثة (رض) أبي بكر وعمر وعثمان (رض)؟ ألم تعلموا بما ثبت عندكم أنّ النبي (ص) جعل أبا سفيان بن حرب خليفته على سبي الطائف ، وهم يومئذ ستة آلاف على ما حكاه علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي في (سيرته الحلبية) ص ١١٥ من جزئه الثالث في غزوة الطائف ، واستخلفه بعد ذلك على نجران فلم يزل

٢٩٥

عليها حتى التحق النبي (ص) بالرفيق الأعلى ، وهو خليفته عليها ، ولم يعزله عنها على ما سجّله ابن حجر العسقلاني في (إصابته) ص ٢٣٧ من جزئه الثالث؟ كما أنّه (ص) استخلف ابنه يزيد بن أبي سفيان على صدقات أخواله بني أفراس بن غنم ، وأمّره الخليفة أبو بكر (رض) على أمراء الأجناد ، وأمّره الخليفة عمر (رض) على فلسطين ثم دمشق ، على ما حكاه ابن حجر العسقلاني في (إصابته) ص ٣٤١ من جزئه السادس في ترجمة يزيد بن أبي سفيان ، وجعل رسول الله (ص) معاوية بن أبي سفيان على كتابته ، وكان واليا عن الخليفتين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان (رض) على ما نقله ابن حجر العسقلاني في (إصابته) ص ١١٣ من جزئه السادس في ترجمة معاوية بن أبي سفيان.

فإذا كان أبو سفيان بن حرب ، وولداه يزيد ومعاوية ، مؤمنين ، عاملين الصالحات ، عندكم ، وكان لهم من الأمارة والخلافة ما أدليناه عليكم ، لا سيما معاوية الذي كان له من الأمارة بعد صلح الإمام الحسن السبط الزكي بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) حتى سميتم ذلك العام بعام الجماعة ، على ما سجّله الإمام الجاحظ في رسالته بذيل كتاب (النزاع والتخاصم) بين بني أمية وبني هاشم لشيخ أهل السنّة المقريزي ، ولم تسمّوا عام أحد من الخلفاء (رض) أبي بكر وعمر وعثمان (رض) بذلك قبله ، ثبت بهذا التقرير الذي لا يمكنكم دفعه ولا منعه أنّ الآية تريد هؤلاء ببشارة الاستخلاف في الأرض ، والتمكين لهم فيها ، دون الخلفاء الثلاثة المتقدمين على علي (ع) ، وأنّهم أولى بالاستخلاف منهم ، وكل أولئك لا تقولون به لوضوح بطلانه بالإجماع ، فإذا بطل هذا كان إرادة الخلفاء الثلاثة (رض) أولى بالبطلان ، إجماعا وقولا واحدا ، لعدم وجود القائل بالفصل مطلقا.

ثم نقول لكم : ألستم تقولون إنّ عبد الله بن أبي سرح الذي

٢٩٦

أهدر النبي (ص) دمه ، والوليد بن عقبة كانا إمامين على المسلمين من قبل الخليفة عثمان (رض) ، وهو الآخر إمام عادل عند أهل السنّة ، وكل أفعاله وأقواله صواب عندهم ، وهكذا كان مروان بن الحكم طريد رسول الله (ص) ، وابنه عبد الملك ومن جاء بعده من أبنائه من بني أميّة وآل مروان ، وقد خطب الناس لهم على منابر المسلمين بإمرة المؤمنين ، كما كانوا يخطبون للخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان (رض) ، وقد حكموا في العباد ، وتمكنوا في البلاد ، فليس من الممكن لكم أن تصرفوا معنى الآية من الوعد بالاستخلاف عنهم وتخرجوهم عن جملة من زعمتم أنّهم خلفاء (رض) لتمكنهم في البلاد ، واستيلائهم على رقاب العباد ، وهكذا نقول لكم في أبي موسى الأشعري ، وعمرو بن العاص ، فإنّما كانا مسلمين عندكم ، وعاملين الأعمال الصالحة ، وكانا ممّن توجّه إليهما الخطاب في منطوق الآية ، لأنّهما كانا خائفين في أول الإسلام ، وكانت لهما من الإمارة على عهد النبي (ص) ، وعهد الخلفاء (رض) ، ما لا تستطيعون دفع تفسير الآية بهما ، وبمن كان مثلهما ممّن ذكرنا من بني أميّة وآل مروان ، وهذا ما لا يقول به أحد من أهل الإسلام هذا باطل وذلك مثله باطل بالإجماع ، وترجيح بعضهم على بعض ترجيح بلا مرجح ، كتخصيص ذلك ببعضهم دون بعض بلا مخصص ، غير صحيح عقلا وشرعا لأنّ الجميع في الميزان سواء.

٢٩٧
٢٩٨

آية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ)

قال : لقد أوضحتم ما اشتبه علينا من تفسير الآية ، وأزلتم ما كان يختلج في صدورنا من اختصاص الآية بخصوص الخلفاء (رض) ، وقطعتم عذرنا في الجواب بواضح الدليل والبرهان! ولكن أهل السنّة يقولون لا يمكن لأحد تفسير قوله تعالى في سورة المائدة آية ٥٤ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ، يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ، ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) في غير الخلفاء (رض) ، لأنّكم تعلمون إنّه لم يقاتل المرتدين بعد النبي (ص) ، إلّا الخليفة أبو بكر (رض) ، وأصحابه ، فيلزم أن يكون إماما وخليفة بما دلّ عليه منطوق الآية.

وأقول أولا أنّ القول بنزول هذه الآية في الخليفة أبي بكر (رض) وأصحابه ممّا لا دليل عليه سوى الرأي والهوى ، كما يجد ذلك كل من راجع تفسيرها في تفاسير أئمة أهل السنّة كتفسير (الدر المنثور) ، والبيضاوي ، والنيسابوري ، وكثير غيرهم من مفسّريهم ، وكل ما كان كذلك فلا حجّة فيه عند أهل النظر.

ثانيا : إنّ تفسير الآية بالخليفة أبي بكر (رض) ، مع قطع النظر

٢٩٩

عن كونه من القول في القرآن بغير علم المعلوم بطلانه ، وترتب العقوبة عليه كما مرّ عليكم تسجيله في (مسند الإمام أحمد بن حنبل) ، فهو مخالف لما أخرجه مفسّروا أهل السنّة عن النبي (ص) في تفسيرها.

ففي (الدرّ المنثور) ص ٩٢ وما بعدها من جزئه الثاني ، «عن عياض أنّه قال : لما نزلت (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) قال رسول الله (ص) : هم قوم هذا وأشار إلى أبي موسى الأشعري ، وفيه عن جابر بن عبد الله قال : سئل رسول الله (ص) عن قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) قال : هم قوم من أهل اليمن ثم كنده».

ويقول الفخر الرازي في تفسيره ص ٤١٣ من جزئه الثالث : «إنّها نزلت في أهل اليمن ، وقال آخرون نزلت في علي بن أبي طالب (رض)».

وبعد هذا كله كيف يستطيع مسلم أن يدّعي نزولها في الخليفة أبي بكر (رض) وهو يرى بعينه إن لم تكن عليها غشاوة ، ويسمع بأذنه إن لم يكن فيه وقر ، رسول الله (ص) يقول : إنّها نزلت في غيره (رض).

٣٠٠