مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

السيد أمير محمد القزويني

مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

النص عليهم من الله تعالى ورسوله (ص) ، بإجماع الأمة من الشيعة وأهل السنة.

أما الشيعة فقد ثبت بالضرورة عندهم أنّ رسول الله (ص) لم ينصّ على غير عليّ (ع) والأئمة الأحد عشر من ولده (ع).

٢٤١
٢٤٢

لا نص في خلافة الخلفاء (رض)

من رسول الله (ص)

وأما أهل السنة كافة ، فقد أجمعوا على أنّ رسول الله (ص) لم ينصّ على أبي بكر (رض) بالخلافة ، وحكى هذا الإجماع عنهم غير واحد من علماء أهل السنة.

فمنهم النووي في شرحه (لصحيح مسلم) في باب الاستخلاف من صحيحه ص ١٢٠ من جزئه الثاني عند قول الخليفة عمر (رض) لما قيل له : «ألا تستخلف؟ فقال : إن أستخلف فقد أستخلف من هو خير مني ، (يعني أبا بكر) وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني رسول الله (ص)» فقال النووي : «وفي هذا الحديث دليل أنّ النبي (ص) لم ينصّ على خليفة وهو إجماع أهل السنة».

وأما البخاري فقد أخرج الحديث في صحيحه ص ١٦٤ من جزئه الرابع في باب الاستخلاف فالآية على هذا كما ترونها صريحة في اختصاص الاستخلاف فيها بعليّ والأحد عشر من بنيه الطاهرين (ع) دون غيرهم من المتقدمين عليهم لإجماع شيعتهم على أنّ إمامتهم باستخلاف من الله تعالى لهم ، وتنصيصه عليهم ، وأنّ رسول الله (ص) أقامهم مقامه (ص) واحدا بعد واحد ، وجعلهم هداة

٢٤٣

الأمة ، وأئمة لها ، بأحاديثه الكثيرة المتواترة بين الفريقين كما تقدم البحث عن بعضها مستوفى.

ثالثا : إنّ انتفاء الخوف عن المتقدمين على عليّ (ع) يخرجهم عن الوعد بالاستخلاف في الآية ، لاختصاص ذلك بخصوص المؤمنين ، الذين لحقهم الخوف والأذى من المشركين ، وليس لهم مانع ولا دافع كعليّ (ع) ، وما مني به مع رسول الله (ص) ، وعمار بن ياسر ، وأمه ، وغيرهم من المعذبين بمكة ، ومن أخرجهم النبي (ص) مع ابن عمه جعفر بن أبي طالب (ع) إلى بلاد الحبشة ، لما كان يناله من الأذى في الدين.

أما الخليفة أبو بكر (رض) فإنّه لم يكن خائفا إجماعا منّا ، وأنتم أهل السنة كافة تقولون بانتفاء الخوف عنه (رض) ، لأنّه كان عزيزا في قريش ، وله مكانة عندهم مع كثرة ماله ، واتساع جاهه ، وأنّه كان معظّما من القوم لكبر سنه ، وتقدمه فيهم ، حتى إنّه كان يجير ولا يجار ، ويؤمن الآخرين ولا يحتاج إلى أمان ، وتقولون إنّه اشترى سبعة أنفر من العذاب كما سجل ذلك كل من جاء على ترجمته من مؤرخي أهل السنة وحفاظهم.

أمّا الخليفة عمر (رض) فإنّ الثابت عندكم أنّه لم يخف قط ، ولا هاب أحدا مطلقا ، وإنّه جرد سيفه عند إسلامه وقال : «لا يعبد الله اليوم سرا ثقة بنفسه واطمئنانا إلى سلامته ، وأمنا من الغوائل ، وإنّه لم يقدم عليه أحد بسوء ، رهبة له ، وخوفا منه ، وإكبارا لمكانته عند القوم ، كما سجل ذلك كله ممّن جاء على ترجمته ممّن تقدم ذكرهم».

أما الخليفة عثمان بن عفان الأموي (رض) فإنكم تقولون إنّه كان آمنا من كل خوف ، وسالما من كل أذى بأسرته من الأمويين ، وهم ملوك الأرض يومئذ ، وكل ذلك قد سجله غير واحد من أكابر

٢٤٤

حفاظكم كالبخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجه ، والترمذي ، وابن حيان في صحاحهم في باب فضائل الخلفاء الثلاثة (رض) ، وأرّخه كل من جاء على ترجمتهم من مؤرخيكم الكبار ، كالطبري ، وابن الأثير في تاريخهما ، وابن عبد البر في استيعابه ، وابن حجر العسقلاني في إصابته ، وابن كثير في بدايته ونهايته ، والسيوطي في تاريخه ، والحلبي والدحلاني في سيرتهما ، فكيف يصح لكم والحالة هذه أن تستدلوا بالآية على صحة خلافتهم ، وأنتم ترون أنّ الصفات المنوه عنها في الآية لا تنطبق عليهم (رض) في شيء؟!

٢٤٥
٢٤٦

آية الاستخلاف تنطبق على عليّ وبنيه الطاهرين

حديث السفينة

قال : إذا كانت الآية على ما ذكرتم لا تنطبق على الخلفاء الثلاثة (رض) ، لخلوّهم عما تضمنته من الصفات ، على ما سجله المؤرخون والحفاظ فمن يا ترى تريد وعلى من تنطبق؟.

قلت : لقد ورد عن اعدال كتاب الله تعالى ، وحملة علمه ، أنّ هذه الآية نزلت في أئمة الهدى من ذرية النبي (ص) من ابنته الصديقة فاطمة (ع) والذي قال فيهم رسول الله (ص) في الحديث الصحيح على شرط البخاري ومسلم فيما أخرجه الحاكم في (مستدركه) ص ١٥١ من جزئه الثالث ، وحسّنه السيوطي في جامعه الصغير ص ١٣٢ من جزئه الثاني في حرف الميم.

«مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وفي آخر هوى» وقال فيهم فيما مر تحقيقه : «إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ، أهل بيتي ، إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم».

٢٤٧

ولهذه الأحاديث وغيرها تضمنت الآية البشارة لهم بالاستخلاف في الأرض ، والتمكن لهم في البلاد ، وانتفاء الخوف عنهم (ع) عند قيام الثاني عشر منهم ، فهم المؤمنون العاملون الصالحات في منطوقها ، لأنّهم معصومون من الضلال كما هو صريح الحديثين الشريفين المتقدّمين ، وهم المستحقون للاستخلاف على العباد ، بفضلهم وعلو قدرهم ، وسمو مقامهم على سائر الناس ، وهم الذين يمكنهم الله تعالى في البلاد ، ويظهر دينه بهم ظهورا لا يخفى على أحد من الناس ، وهم الذين يؤمنهم بعد طول خوفهم من الظالمين الطغاة الذين ارتكبوا منهم ما حرّم الله تعالى من قتل ، وسجن ، وتشريد ، وجدوا في إيذائهم شر إيذاء ، الأمر الذي اتصل أولى حلقاته بمعاوية بن أبي سفيان ، وختم بآخرهم مروان الحمار. ثم جاء من بعدهم بنوا العباس فارتكبوا من آل رسول الله (ص) ما تصرخ من هوله جنّة الأرض ، وملائكة السماء ، وتتقطع من أجله القلوب ، وتتفتت المرائر ، كما يجد ذلك كل من وقف على التاريخ الصحيح ، وصحيح الحديث لأئمة أهل السنة ، كابن الأثير ، والطبري ، وغيرهما من مؤرخيهم.

وفي القرآن يقول الله تعالى في سورة الأنبياء (ع) آية ١٠٥ : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) ، وهم الصالحون الذين يرثون الأرض لا سواهم.

وقال تعالى في سورة آل عمران آية ٨٣ : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) ، وذلك لا يكون إلا بعد ظهور الثاني عشر من أئمة البيت النبوي ، وهو المهدي المنتظر (عج).

٢٤٨

أخبار المهدي المنتظر متواترة

أما أحاديث المهدي المنتظر (عج) فمتواترة بين الفريقين فقد جاء عن النبي (ص) أنّه قال : «لا تنقضي الليالي والأيام حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي ، يواطي اسمه اسمي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ، ويصلي عيسى خلفه ، ويساعده على قتل الدجال بأرض (لدّ) من فلسطين» وأخرجه الحفاظ من أهل السنة عن رسول الله (ص).

فمنهم : ابن الصبّاغ المكي المالكي كما مر في كتابه (الفصول المهمة) ص ٣١٠ و ٣١٩ ، وابن حجر الهيثمي في (صواعقه) في آخر الآية الثانية عشرة من الباب الحادي عشر ص ١٦١ وفي ص ٢٠٦ في أواخر الفصل الثالث في الأحاديث الواردة في فضل بعض أهل البيت (ع).

ومنهم : زيني دحلان في (الفتوحات الإسلامية) ص ٣٢٢ من جزئه الثاني.

ومنهم : الحافظ الترمذي في صحيحه ص ٨٦ من جزئه الثاني في باب ما جاء في الخلافة من أبواب الفتن.

٢٤٩

ومنهم : الحافظ أبو داود في ص ٨٧ من صحيحه من جزئه الرابع.

ومنهم : الإمام أحمد بن حنبل في (مسنده) في ص ١٧ و ٢٧ و ٢٨ و ٣٦ و ٣٧ و ٥٢ من جزئه الثالث.

ومنهم : الحاكم في (مستدركه) ص ٥٥٧ و ٥٥٨ من جزئه الثالث ، وصححه على شرط البخاري ومسلم.

ومنهم : الذهبي في (تلخيص المستدرك) ص ٥٥٧ و ٥٥٨ من جزئه الثالث معترفا بصحته.

ومنهم : الثعالبي في ص ٤٠٤ من كتابه (ثمار القلوب)

ومنهم : الإمام القرطبي كما في ص ٤٧٥ من (دائرة المعارف) من جزئه العاشر.

٢٥٠

حديث اثني عشرة خليفة كلهم من قريش

وقد مر عليكم تعداد الأئمة الاثني عشر من البيت النبوي (ص) الذين لا يزيدون واحدا ، ولا ينقصون ، الذين عناهم رسول الله (ص) بقوله (ص) : «لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة ، أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش» على ما أخرجه الإمام مسلم في (صحيحه) ص ١١٩ من جزئه الثاني في باب الناس تبع لقريش من كتاب الإمارة ، وأخرج الإمام البخاري في (صحيحه) ص ١٦٤ من جزئه الرابع في باب الاستخلاف من كتاب الأحكام :

عن جابر بن سمرة قال : «سمعت رسول الله (ص) يقول : «يكون بعدي اثنا عشر أميرا قال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنّه قال كلهم من قريش» وأنتم ترون أن هذا التنصيص عليهم من النبي (ص) لا ينطبق ولا يستمر حتى تقوم الساعة إلا على الأئمة الاثني عشر من أهل البيت النبوي خاصة دون غيرهم ، وذلك لما تعلمون من أنّه لا يمكن حمله على المستخلفين بعد رسول الله (ص) لأنهم دون هذا العدد ، ولا على ملوك الأمويين لأنهم لم يكونوا بهذا العدد ، ولا حمله على أمراء بني العباس ، لأنهم لم يكونوا اثني عشر. وتخصيصه ببعضهم

٢٥١

دون بعض تخصيص بلا مخصص ، وترجيح بلا مرتجع ، وكلاهما باطلان. مع إنّه مستلزم لنسبة المبهم والمهمل إلى النبي (ص) في ذكر أسمائهم لو كان (ص) يريد واحدا منهم بعينه ، وهو في مقام بيان من يتعين الرجوع إليهم من بعده (ص) في حفظ دينه ، وبيان أحكامه ، وتنفيذ حدوده ، وذلك لا يجوز نسبته إلى النبي (ص).

ومن حيث أنّ رسول الله (ص) لم يأت على ذكر أحد من الخلفاء الثلاثة (رض) في حديثه ، ولم يذكر واحدا من ملوك الأمويين ، ولا أمراء العباسيين ، ولا غيرهم ممّن جاء بعدهم مطلقا ، في أحاديثه (ص) ، وعدل عنهم جميعا إلى التنصيص على عترته أهل بيته (ص) وعدّهم بأسمائهم (ع) واحدا بعد واحد فكانوا اثني عشر إماما كما تقدم تفصيله ، علمنا أنّه (ص) لا يريد واحدا من أولئك الذين تقدموا على عترته ، وتربعوا على كرسي الحكم بالقهر ، والقوة.

وشيء آخر يمنع منعا باتا من إرادة النبي (ص) لهم ، هو مجافاتهم لقوانين شريعته وأحكامها ، وتعديهم لحدود الله تعالى ، فلا يمكن حمل حديثه (ص) عليهم ، كما لا يمكن حمله على الفاطميين وغيرهم في مصر ، لأنّهم لم يكونوا بهذا العدد ، ولا على سلاطين العثمانيين ، لأنّهم ليسوا من قريش ، ولم يكونوا بهذا العدد. فإذا ثبت بطلان ذلك كلّه تعيّن حمله على الأئمة الاثني عشر من عترة النبي (ص) ، أهل بيته (ع) الذين أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، وآخرهم الحجّة المهدي المنتظر (عج) كما مرّ بيانه مفصّلا.

وفي القرآن يقول الله تعالى في سورة النساء آية ١٥٩ : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً). وأخرج البخاري في أواخر ص ١٦٨ من (صحيحه) في باب نزول عيسى بن مريم (ع) من جزئه الثاني.

٢٥٢

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (ص) : «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم».

ويقول ابن حجر الهيثمي في آخر آية ١٢ من الفصل الأول من الباب الحادي عشر من (صواعقه) «تواترت الأخبار بكثرة رواتها عن المصطفى (ص) بخروجه ، وأنّه من أهل بيته ، وأنّه يملك سبع سنين ، وأنّه يملأ الأرض قسطا ، وعدلا ، وأنّه يخرج معه عيسى على نبيّنا (وآله) وعليه أفضل الصلاة والسلام ، فيساعده على قتل الدجّال بباب (اللد) بأرض فلسطين ، وأنّه يؤم هذه الأمّة ، ويصلّي عيسى خلفه».

ويقول شيخ أهل السنّة المعروف نور الدين علي بن محمد المكّي المالكي الشهير بابن الصبّاغ في كتابه (الفصول المهمة) ص ٣١٠ : «إنّ الروايات عن الأئمة الثقات ، والنصوص الدالّة على إمامته كثيرة بالغة حدّ التواتر ، حتى أضربنا عن ذكرها اعتمادا على اشتهارها ، وقد دوّنها أصحاب الحديث في كتبهم ، واعتنوا بجمعها ، ولم يتركوا شيئا منها ، وممّن اعتنى بذلك وجمعه على الشرح والتفصيل الإمام جمال الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الشهير بالنعمان في كتابه الذي صنّفه (ملء العيبة في طول الغيبة) وجمع الحافظ أبو نعيم أربعين حديثا في أمر المهدي رضوان الله عليه خاصة ، وصنّف الشيخ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي في ذلك كتابا سمّاه (البيان في أخبار صاحب الزمان).

وروى الشيخ أبو عبد الله الكنجي المذكور في كتابه هذا بإسناده قال : قال رسول الله (ص) : «لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي ، يواطئ اسمه اسمي».

وأخرجه أبو داود في (مسنده) : عن علي كرّم الله وجهه ،

٢٥٣

ورضي الله عنه ، عن النبي (ص) أنّه قال : «لو لم يبق من الدهر إلّا يوم واحد لبعث الله فيه رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورا» هكذا أخرجه أبو داود في (مسنده).

ورواه أبو داود والترمذي في سننهما كل واحد منهما يرفعه إلى أبي سعيد الخدري قال : «سمعت رسول الله (ص) يقول المهدي مني أجلى الجبهة ، أقنى الأنف ، يملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت جورا وظلما» وزاد أبو داود «ويملك سبع سنين» وقال هذا حديث ثابت صحيح.

ورواه الطبراني في (مجمعه) وكذلك غيره من أئمة الحديث إلى أن قال في ص ٢١٧ قال صاحب (البيان) الكنجي : وممّا يدل على كون المهدي حيّا باقيا منذ غيبته إلى الآن ، وأنّه لا امتناع في بقائه كبقاء عيسى بن مريم (ع) ، والخضر ، وإلياس ، من أولياء الله تعالى ، وبقاء الأعور الدجّال ، وإبليس» ويؤيد ذلك الكتاب والسنّة : أمّا الكتاب فقد قال سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) قال : «هو المهدي يكون في آخر الزمان». وأمّا السنّة فقد مرّت الإشارة إليها ، ومنها ما رواه أبو داود يرفعه بسنده إلى أم سلمة (رض) قالت : «سمعت رسول الله (ص) يقول : المهدي من عترتي من ولد فاطمة» ثم أخرج عدّة أحاديث صحيحة عن جماعة من أئمة الحديث من أهل السنّة تدلّ بصراحة على إمامته بعد أبيه الحسن العسكري (ع) كما تقدم ذلك عن ابن حجر في صواعقه).

ويقول صاحب القوت المقتدي على جامع الترمذي ص ٤٦ من جزئه الثاني : «قد تظافرت الأخبار البالغة حدّ التواتر معنى عن النبي (ص) في كون المهدي من أهل البيت من ولد فاطمة (رض)».

وقال زيني دحلان في (الفتوحات الإسلامية) ص ٣٢٢ من

٢٥٤

جزئه الثاني : «أحاديث المهدي كثيرة متواترة ، والضعيف فيها ، وإن كان أكثر ، لكنها لكثرة رواتها ومخرجيها يقوي بعضها بعضا حتى صارت تفيد القطع ، وإنّ العلامة السيد محمد رسول برزنجي نبه في آخر كتاب (الإشاعة) على تواتر الأخبار التي جاء بها ذكر المهدي ، «وأنّه من المقطوع به ، وأنّه من ولد فاطمة ، وأنّه يملأ الأرض عدلا» انتهى مقاله.

وقال العارف محمد بن عبد الوهاب الشعراني في ص ١٢٧ من كتاب (اليواقيت والجواهر) من جزئه الثاني بعد كلام له مسهب جاء في أوله : «إنّ المهدي حيّ موجود وقد اجتمع به غير واحد من علماء أهل السنّة وحفّاظها ـ إلى أن قال ـ فهناك يترقب خروج المهدي من أولاد الحسن العسكري ، ومولده ليلة النصف من شعبان ، سنة خمس وخمسين ومائتين ، وهو باق إلى أن يجتمع بعيسى بن مريم (ع) ، فيكون عمره إلى وقتنا هذا وهو سنة ثمان وخمسين وتسعمائة ، ستا وستين وسبعمائة سنة. هكذا أخبرني الشيخ حسن العراقي المدفون فوق كوم الريش المطل على بركة الرطلي بمصر المحروسة ، عن الإمام المهدي حين اجتمع به ، ووافقه على ذلك شيخنا سيدي علي الخواص رحمهم‌الله» انتهى.

إلى كثير غيرهم من أئمة أهل السنّة وحفّاظهم فإنّهم متفقون جميعا على تولده ، وثبوت غيبته ، وأنّه يظهر في آخر الزمان ، «يملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت ظلما وجورا» على حدّ تعبير النبي (ص). وقال ابن الصبّاغ المكي المالكي في ص ٣١٠ من (فصوله المهمة) «إنّ صفته (رض) شاب مربوع القامة ، حسن الوجه ، والشعر يسيل على منكبيه ، أقنى الأنف ، أجلى الجبهة».

أقول : والمشهور إنّ تاريخ ولادته (ع) بالحروف (نور) أي سنة ست وخمسين ومائتين ، ليلة النصف من شهر شعبان ، ولما غاب عن

٢٥٥

الأبصار كان عمره (ع) يومئذ ـ روحي فداه ـ خمس سنين ، وقيل أربع سنين.

وقال الشيخ الحنفي في (ينابيع المودة) في الباب التاسع والسبعين ص ٣٧٦ وما بعدها : «وكان في غيبته تخرج توقيعات على أيدي سفرائه إلى سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ، وأول هؤلاء السفراء أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري ، كان منصوبا من الإمام العسكري (ع) وقام بأمر الحجة المنتظر كقيامه بأمر الإمامين قبله ، وبعد وفاته (رض) كان السفير ابنه أبو جعفر محمد بن عثمان ، ثم أبو القاسم الحسين بن روح ، ثم أبو الحسن علي بن محمد السمري رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ولم تكن الشيعة لتثق بمن كان يدّعي النيابة ، إلّا بعد ظهور المعجزات الخارقة على يده من الحجة المنتظر» انتهى قوله.

وقال ابن الصباغ المكي المالكي في (فصوله المهمة) ص ٣١٩ : «قد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي (رض) ثم ذكر تلك العلامات ، فإنّ أردتم الوقوف عليها فراجعوها هناك وإنّما ذكرناه لكم بطوله لأنّه أقوى في الحجة ، والبرهان به أتمّ ، وإلّا فالأخبار عندنا في ذلك أكثر ، وأوضح ، وأصحّ ، وأصرح ، وقد ذكرها أصحابنا رضوان الله تعالى عليهم أجمعين في الغيبة وقد ظهر أكثرها وبقي منها اليسير.

وإذا كان هذا ، وأضعاف أمثاله ، من الأحاديث المتواترة لفظا ومعنى المؤيدة بأحاديث الشيعة ، وحفّاظ أهل السنّة ومؤرخيهم ، لا يقوم بإثبات ولادته وغيبته ، فقل لي إذن بما ذا يا ترى تستطيعون أن تثبتوا معالم دينكم ، وأحكام مذهبكم؟ وبما ذا يا ترى تثبتون نبوّة نبيّنا على من حاجّكم من أهل الكتاب وغيرهم ، وهم لم ينقلوا لكم شيئا من معجزاته (ص) ، وسواطع آياته؟ فإن رأيتم أن لكم الحجّة عليهم

٢٥٦

في القرآن فها نحن أولاء قد تلونا عليكم شذرات من آياته تنطق بوجوده ، وإمامته ، وها هي ذي السنّة النبوية المفسّرة لها التي تشهد بصحّة صدورها صحاح أهل السنّة ، ومشاهير علمائهم ، تنادي بأعلى صوتها بولادته ، وغيبته ، وظهوره (ع) بعدها. وإذا كان كل هذه الأدلّة ونحوها لا تكفي شاهدا ناطقا ، وبرهانا واضحا على إثبات وجوده ، فخير أن تكسر الأقلام ، ويبطل كل حجاج ، ولا يقوم على صحّة شيء حجة ولا برهان ، ولم يصح شيء في الأذهان إذا احتاج وجود النار إلى دليل وبرهان ، (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ، كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ).

٢٥٧
٢٥٨

قول الإمام ابن تيمية في المهدي (ع)

والغريب من الإمام ابن تيمية أن يقول في ص ١٣٢ من (منهاج السنّة) من جزئه الثاني : «قد مضى عليه (يعني المهدي المنتظر (ع) أكثر من أربعمائة وخمسين سنة ، والشيعة يدعون الله تعالى في ظهوره فلم يظهر ، وعمر رجل من المسلمين هذه المدة يعرف كذبه بالعادة المطردة في أمّة محمد (ص) ، فلم يعرف أحد ، ولا بعد مجيء خير الرسل (ص) عاش مائة وعشرين سنة ، وقد ثبت صحيحا أنّ النبي (ص) قال في آخر عمره لن يعيش من ولد في تلك الليلة أكثر من مائة سنة» ، نقلناه بالمعنى. ثم أعمار خير أمة من الستين إلى السبعين واحتجاجهم بحياة الخضر باطل على باطل ، فمن يسلم لهم بقاءه؟ وعلى تقديره فليس هو من خير أمة ، ثم إنّهم يحتجون بأحاديث السنة ، فالحديث الذي أورده هذا المصنف الرافضي لا يفيدهم شيئا ، فإن قلتم هو حجّة على أهل السنّة فنقول : هو من آحاد الخبر. فكيف يثبت به أصل الدين؟ ولأنّ لفظه حجّة على الرافضة ، فإنّه يواطي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي فهو محمد بن عبد الله وليس محمد بن الحسن وقد روي عن علي (رض) أنّه قال : هو من ولد الحسن بن علي دون الحسين ، وأحاديث المهدي معروفة ثابتة في (مسند أحمد) ، و (سنن

٢٥٩

السجستاني) ، والترمذي ، وغيرها ، مثل حديث عبد الله بن مسعود عن النبي (ص) أنّه قال : «لو لم يبق من الدنيا غير يوم لطوّل الله ذلك حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي يواطي اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي» هذا ملخص كلام الإمام ابن تيمية.

ونحن نقول في جوابه : أولا : أمّا قوله : «وقد مضى عليه أربعمائة وخمسون سنة وهم يدعون الله تعالى في ظهوره فلم يظهر» فيقال له : لقد فات الإمام ابن تيمية ، ولم يهتد إلى أنّ الله تعالى قد أمر الناس بدعائه ، وأطلق عليه اسم العبادة ، وأنّ الراغبين عنه سيدخلهم جهنم داخرين بقوله تعالى في سورة المؤمن آية ٦٠ : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) وأنتم ترون أنّ الله تعالى قد توعد المستكبرين عن دعائه الذي سماه عبادة بدخول جهنم داخرين صاغرين ، فيجب على كل مسلم أن يدعوه تعالى لأنّه عبادة مطلوبة ومحبوبة لديه ، وليس بواجب على الله تعالى أن يجيب دعاء كل من دعاه ، ومن حيث أنّ الله تعالى لم يستجب دعاءهم في الحال ، علمنا أن في تركه تعالى إجابتهم مصلحة تعود عليهم ، ولا يلزم من عدم استجابته لهم أن يتركوا هذه العبادة في هذا الحال وغيرها من الحالات ، إذ على العبد أن يتضرع إلى الله تعالى ، ويدعوه فيما يتعلق بدينه ودنياه ، ويتوسّل إليه في قضائه ، وليس على الله تعالى قضاؤها حتما فإنّه العليم بما هو الأصلح لعباده ، فيفعل ما هو خير لهم في التدبير وفي الدعاء المأثور : «ولعلّ الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور».

فلو علم الله تعالى أنّه لا خير ولا مصلحة في الإجابة في الحال ، لم يفعله ، ولم يستجب لهم الدعاء في ذلك الحال.

وأمّا قوله : «وعمر رجل من المسلمين هذه المدّة يعرف كذبه

٢٦٠