مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

السيد أمير محمد القزويني

مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

حديث العشرة المبشرة

وأمّا ما ذكرتموه من حديث عشرة من أصحابي في الجنة وهم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، ومن تقدم ذكرهم من أتباعهم ، فلا يمكن صدوره من النبي (ص) لأمور.

الأول : إنّ الذي رواه هو سعيد بن زيد بن نفيل ، وهو أحد العشرة المدلول عليهم في الحديث ، وأنتم تعلمون أنّ من زكى غيره بتزكية نفسه ، لم تثبت تزكيته لمن زكى في الشرع الإسلامي ، كما أنّ من شهد بشهادة له كفل فيها ، لن تقبل شهادته فيه ، وفي القرآن يقول الله تعالى في سورة النجم آية ٣٢ : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) ، ولا شك في عدم قبول شهادة من خالف النهي الإلهي وعمل بضده كما في راوي الحديث.

الثاني : إنّه من آحاد الخبر ورواية الواحد ، وهو سعيد ، غير مقبولة ومردودة عليه ، ولا يحصل بها القطع بالحق عند الله تعالى.

الثالث : إنّ العقل بطبيعته يحكم حكما قطعيا بامتناع القطع بالجنّة ، والأمان من النار ، لمن يجوز عليه ارتكاب المعاصي ، واقتراف الآثام ولمن ليس معصوما من الأخطاء ، ولا يمتنع عليه فعل السيئات. لأنّه

٢٢١

مع القطع له بالجنة ، مع عدم عصمته ، يكون نشطا في ارتكاب ما تدعو إليه الطبائع من الشهوات ، والميول ، والاتّجاهات اللاشرعية ، لأنّه حينئذ يكون في أمن من العذاب ، ومطمئنا إلى ما أخبر به من حسن عاقبته ، وأنّه مقطوع له بالثواب على كل حال.

وخلاصة القول : إنّ من المحال العقلي أن يصدر عن النبي (ص) مثل هذا الحكم القطعي لأناس مجهولي الخاتمة ، ولم تثبت لهم العصمة سوى عليّ بن أبي طالب (ع) لثبوت عصمته (ع) بما تقدم من الأدلة القطعية ، ولما ثبت باليقين وقوع ما ذكرنا ممّن ليس معصوما ، ثبت عدم صدور مثل هذا الحديث من النبي (ص).

الرابع : لو كان هذا الحديث صحيحا فكيف يا ترى أهمل الخليفة عثمان (رض) الاحتجاج به على من حاصره يوم الدار ، وما الذي منعه من الاحتجاج به عليهم ، عند ما استحلوا قتله (رض) ، وقد ثبت بالضرورة من دين الإسلام حرمة دماء أهل الجنان؟ ولما ذا عدل عنه لو كان له وجود إلى التمسك في دفعهم عن نفسه بكل ما وصل إليه جهده من الاحتجاج ، ليمنعهم عن قتله ، ولم يذكر لهم هذا الحديث بل ، ولم يذكره غيره من أصحاب النبي (ص) لمستحلي دمه ، إذ لا يجوز عليهم أن يسكتوا عن ذكره ، وهم الأتقياء المبرءون عن كل وصمة توجه إليهم كما تقولون.

وبعد هذا كله واضعاف أمثاله هل تشكون في أنّ الحديث موضوع لا أصل له ، وهل يسعكم أن تحكموا بصحة روايته عن النبي (ص) وأنتم تجدونه مخالفا للعقل والدين؟!!!

الخامس : لو صح هذا الحديث لزمكم أن تقولوا بأنّ غير هؤلاء العشرة من أصحاب النبي (ص) كلهم في النار ، إذ لا واسطة بين الجنة والنار في يوم القيامة ، وتلك قضية مفهوم العدد الدال على حصر

٢٢٢

الحكم في المعدود ، ونفيه عن غيره ، وذلك باطل بالضرورة من العقل والدين وهذا مثله في البطلان فتأمل.

السادس : لو سلمنا لكم جدلا وفرضنا ثبوته عن النبي (ص) على سبيل فرض المحال ليس بمحال ، ومع ذلك فإنّه لا يمنع القوم من دفع عليّ (ع) عن مقامه ، وإنكارهم عليه وجوب طاعته (ع) على الشبهة ، وكيف يمنعهم ذلك وأنتم تعلمون بما جرى بين عليّ (ع) ، وطلحة ، والزبير ، والمباينة من بعضهم لبعض ، وما وقع من القتال ، وسفك الدماء ، على وجه الاستحلال ، حتى خرج الجميع من الدنيا على ظاهر التدين بما ارتكبوه ، ولا دليل يوجب العلم واليقين على رجوعهم عما فعلوه؟ فإن كان أحد الفريقين على خطأ ، والآخر على صواب ، والجميع من أهل الجنة ، فلما ذا تنكرون ذلك في المتقدمين على عليّ (ع) في دفع النص وإنكاره؟ وإن كان الفريقان في حرب البصرة على غير هدى ، وكان ذلك لا يضرهما في استحقاق الجنان ، والأمان من النيران ، كان المتقدمون على عليّ (ع) في الإمامة والخلافة ودفعها عنه (ع) على خطأ ، ولو كانوا من أهل الجنة ، ولا يضر ذلك بأمانهم من النار؟

فإن قلتم إنّ المصيب من الفريقين هو عليّ (ع) وأصحابه دون من خالفهم (ع) إلّا أنّ المخالفين له (ع) تابوا قبل أن يفارقوا الدنيا فيما بينهم وبين الله تعالى لأجل هذا الحديث ، وما تضمنه من استحقاقهم الجنان ، فيقال لكم إنّ المتقدمين على عليّ (ع) كانوا بتقدمهم عليه (ع) مخطئين ، ولكنهم رجعوا في خطأهم ، وتابوا قبل خروجهم من الدنيا بينهم وبين الله تعالى ، ولكن هذا الوجه كما ترونه موجب لبطلان الحديث الذي من أجله منعتم دفع القوم النص على عليّ (ع) بعد النبي (ص) ، وذلك لبداهة تقدم من قلتم إنهم من أهل الجنان ، وثبوت دفعهم له (ع) عن مقامه الذي رتبه الله تعالى فيه على لسان

٢٢٣

نبيّه (ص) ، إذ لا يجوز في حال دفع الحق عن أهله ، ومنعهم منه على كل حال ، وأيا كان فإنّ كل ما ذكرناه لا يدع مجالا لكم لتقروا على الخطأ ، وتصروا على اتباعه ، مهما كان نوعه ، ومهما كان فاعله!.

٢٢٤

آية (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ)

قال : لا مجال للتمسك بالحديث لمنع وقوع الخطأ من القوم مع ما أوردتموه من وجوه الرد والتفنيد بأدلته القوية ، ولكن القرآن يقول في سورة التوبة آية ١٠٠ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ ، وَالْأَنْصارِ ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

فإنّ الله تعالى قد أوجب للخلفاء الثلاثة (رض) وبقية العشرة جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ، وذلك يمنع من جواز الخطأ عليهم في الدين ، والانحراف عن الصراط المستقيم ، فكيف يصح لكم مع ذلك أن تقولوا بأنّ خلافة النبوة (ص) وإمامة الأمة بعد نبيّها كانت لعليّ (ع) وقد دفعوه (ع) عن حق وجب له (ع) عليهم (رض) وعلى الآخرين بتقدمهم عليه (ع) وهل هذا إلا تناقض بين؟

قلت : أولا : إنّ الوعد من الله تعالى بالرضوان إنما توجه إلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، ولم يتوجه إلى التالين الأولين والذين ذكرتموهم من المتقدمين على عليّ (ع) مع أتباعهم لم يكونوا من

٢٢٥

السابقين الأولين ، ليكونوا في متناول الآية ، وإنما كانوا من التالين للأولين ، والتالين للتالين ، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هم ، عليّ بن أبي طالب (ع) بإجماع الفريقين ، وجعفر بن أبي طالب (ع) ، وحمزة بن عبد المطلب (ع) ، وزيد بن حارثة ، وعمار بن ياسر ، ومن كان من طبقتهم ، ومن الأنصار النقباء المعروفون كأبي أيوب الأنصاري ، وسعد بن معاذ ، وأبي الهيثم بن التيهان ، وخزيمة ذي الشهادتين ، ومن كان من طبقتهم ، كما تجدون ذلك عند سبركم لأحوالهم في مظان الأخبار ، وصحاح الآثار ، من أمناء الحديث والتاريخ عند أهل السنة ، أما أولئك المتقدمون على عليّ (ع) ومن الحقتموهم بهم من أتباعهم فهم من الطبقة الثانية والوعد إنّما جاء من الله تعالى في منطوق الآية للمتقدمين في الإيمان دونهم.

ثانيا : لو سلمنا لكم جدلا وفرضنا أنّ الآية تريد العموم ومع ذلك فإنّها لا توجب نفي الخطأ عن كل من استحق الوصف بأنّه من السابقين الأولين ، ولا يوجب لهم العصمة من الخطأ ولا ينفي عنهم تعمد ارتكابه ، ولا تقتضي القطع لهم بدخول الجنان على كل حال ، وإلا لزمكم أن تقولوا بوجوب ذلك لكل مؤمن استحق أن يوصف بالإيمان وإن ارتكب ما ارتكب من المحرمات وقبائح الأعمال لقوله تعالى في سورة التوبة آية ٧٢ (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً ، فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

فكما أنّه لا قائل بأنّ كل من استحقّ وصف الإيمان له جنات عدن ، ورضوان ، فكذلك لا يمكن لأحد أن يقول بأنّ كل من استحق الوصف بالسبق إلى الإسلام يكون من أهل الجنان وإن ارتكب من قتل النفس بغير حق ، واغتصب حقوق الآخرين. بل لو كان ذلك يوجب

٢٢٦

نفي الخطأ عنهم والقطع لهم بالثواب في يوم المآب ، لأنهم استحقوا اسم السبق إلى الإسلام ، في وقت من الأوقات ، لوجب ذلك لكل إنسان صبر على مصاب ، وإن اقترف الآثام ، وكان خارجا عن دين الإسلام لقوله تعالى في سورة البقرة آية ١٥٥ وما بعدها (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَرَحْمَةٌ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)

فكما أنّه لا قائل بأنّ كل من صبر على مصيبة فاسترجع وقال : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) تكون عليه صلوات من ربه ، ورحمة ، ويكون من المهتدين وإن كان فاسقا ، وظالما ، وقاتلا للنفس المحرّمة ، وحاكما بغير ما أنزل الله ، فكذلك لا قائل من أهل الإيمان بأنّ كل من استحق وصف السبق إلى الإسلام يكون داخلا في الجنان ، مهما ارتكب من المنكرات ، بل لو كان ذلك يوجب القطع لهم بدخول الجنة على كل حال ، ويثبت لهم العصمة من تعمد الخطأ لأنهم استحقوا وصف السبق إلى الإسلام ، لأوجب ذلك لكل من صدق في مقاله ، وإن ارتكب ما ارتكب من الموبقات ، بل وإن كان لا يدين بدين الإسلام لقوله تعالى في سورة المائدة آية ١١٩ : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

فكما أنّه ليس كل من صدق في مقاله يكون من أهل الجنان ومرضيا عنه من الله تعالى وإن لم يكن تقيا بل ولا مؤمنا ، فكذلك ليس كل من وصف بالسبق إلى الإسلام يكون من أهل الجنة وإن عمل السيئات ، وهتك الحرمات.

وإن قلتم إنّ آية السابقين لا تريد العموم كبقية الآيات لا تريده ، وإنّها تريد الخصوص ؛ فيقال لكم : إذن سقط احتجاجكم

٢٢٧

بعموم الآية ولم يبق معكم ظاهر فيما اشتبه به الأمر عليكم من إمامة علي (ع) بعد النبي (ص) وخطأ المتقدمين عليه (ع).

٢٢٨

آية الذين يبايعونك

تحت الشجرة لا توجب عصمتهم

قال : لقد ثبت لدينا بما ذكرتموه أنّ التمسّك بعموم الآية غير ممكن لإثبات عصمة المتقدمين على علي (ع) أو المحاربين له ، أو المتقاعدين عن نصرته ، لأنّ مجرّد وصف السّبق إلى الإسلام لا يمنع من ارتكابهم تعمد الخطأ ، وأنّ إدخالهم في الآية موقوف على إثبات كونهم من أهلها حتى يكونوا في متناولها ، وأنّ إثبات كونهم من أهلها بالآية نفسها دور صريح ، وهو باطل ، وأنّ شمول الآية بإطلاقها لهم يحتاج إلى دليل يثبت أنّ أفعالهم في السّبق إلى الإسلام ، وطاعتهم لأوامر الله تعالى ، ظاهرا كان على وجه الإخلاص ، ليتحقق لهم الوعد من الله تعالى بالرضوان ، والإقامة في الجنان ، وأنّه لا طريق لنا لإثبات هذا الإخلاص لأنّه من الأمور الخفية التي لا يطلع عليها إلّا الله تعالى وحده.

ولكننا نقول لكم : بأنّ دليلنا لإثبات إخلاصهم في سبقهم ، وأفعالهم هو قول الله تعالى في سورة الفتح آية ١٨ : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) فالآية نصّ صريح لا يقبل التأويل في رضا الله تعالى عن المبايعين رسول الله (ص) تحت الشجرة.

٢٢٩

والأمّة مجمعة على أنّ أبا بكر ، وعمر (رض) ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وسعيد (رض) ، قد بايعوا النبي (ص) تحت الشجرة.

وهذا الإجماع من الأمّة من أوضح الأدلّة ، وأقواها على دخولهم في عموم الآية. ولا يشك اثنان من أهل الإسلام في أن كل من رضي الله تعالى عنه لا يكون سبقه إلى الإسلام ، وأفعاله ، إلّا على وجه الإخلاص لله تعالى.

الآية في البيعة تحت الشجرة لا تريد العموم

قلت : أولا : إنّ خروج القوم عن هذه الآية أظهر وأوضح من خروجهم عن آية السابقين الأوّلين ، وذلك فإنّ الله تعالى قد عيّن المبايعين تحت الشجرة ، وخصّ من توجّه إليه الرضا من الله تعالى من بينهم بدلالات نطق بها القرآن ، ودلنا بصريح قوله تعالى على خروج من ذكرتم عن الرضا في منطوقها ، ومفهومها ، إلّا أنكم لم تأتوا على ذكر الآية بكاملها لتعلموا ثمة أنّ الحق معنا ، وأنّها حجّة لنا عليكم ، لا لكم.

وإليكم الآية كما أنزل الله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً).

فأنتم ترون أنّ الله تعالى قد خصّ بالرضا منهم من علم منه الوفاء بعهد الله تعالى ، ونصب القرينة الواضحة عليه من بينهم بثباته في الحروب بإنزال السكينة عليه ، وكون الفتح القريب به وعلى يده. وقد أجمعت الأمّة على أنّ أول حرب لقيه النبي (ص) بعد بيعة الرضوان هي حرب خيبر ، كما أنّهم أجمعوا على أنّ رسول الله (ص) قدم الخليفة

٢٣٠

أبا بكر (رض) ، ودفع له الراية ، فرجع عند ما لاقى مرحبا ، ولم يصنع شيئا ثم دفعها للخليفة عمر (رض) فكان منه ما كان من الخليفة أبي بكر (رض) ، فلما رأى النبي (ص) ذلك قال (ص) (فيما أخرجه الحفّاظ ، وسجّله المؤرخون من أهل السنّة ، كما تقدم ذكره : «لأعطين الراية غدا إلى رجل يحبّ الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرّار غير فرّار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يده» فأعطاها عليّا (ع) فلاقى مرحبا فقتله ، وكان الفتح على يده).

فيكون الرضا في الآية مختصّا به (ع) ، وبمن كان معه من أصحابه وأتباعه.

وممّا يؤيد ذلك ويزيده وضوحا لكم قوله تعالى : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) فإنّ فيه دلالة صريحة على أنّ الله تعالى يسأل المولين الأدبار يوم القيامة عن فرارهم ، ونقضهم العهد ، ولا يصحّ عقلا وشرعا أن يجتمع الرضا عنهم ، والسؤال منهم في حال إطلاقا ، فكيف يا ترى يجتمع هذا مع عموم الآية لهم على ما تدّعون وهو تناقض واضح يتعالى عنه كتاب الله وبيّنات آياته؟.

ونزيدكم بيانا وتوضيحا بقوله تعالى في سورة الأنفال آية ١٥ وما بعدها : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ ، أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ ، فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

وأنتم ترون أنّ الله تعالى قد توعّد الفارين ومن يولّهم يومئذ دبره بغضبه عليهم ، كما وعد المؤمنين الموفّين بعهد الله تعالى بالرضا والنعيم المقيم. ولو كانت الآية تريد الرضا عن جميع المبايعين تحت الشجرة على العموم ، من غير قيد ولا شرط ، لبطلت هذه الآية لبطلان الوعيد حينئذ فيها ، ولم تكن لها في الوجود صورة ، لأنّ القوم قد ولّوا

٢٣١

الأدبار ، ولم يكونوا من المتحرفين لقتال ، ولا من المتحيزين إلى فئة ، لكي لا يشملهم عموم الوعيد فيها ، ولكان نزول الآية عبثا حرفا بلا معنى له ، وذلك معلوم بالضرورة من الدين والعقل بطلانه.

ويشهد لكل ما حققناه لكم قوله تعالى في سورة الأحزاب آية ٢٣ : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).

وهو نصّ لا يقبل الشكّ في اختصاص الرضا في الآية بطائفة من المبايعين دون الجميع وأنّها تريد خصوص الموفّين بعهد الله تعالى دون الناقضين له ، وهذا ما لا يمكن لمن له عقل أو شيء من الدين دفعه وإنكاره.

ثانيا : لو سلمنا لكم جدلا ، وفرضنا توجّه الرضا في الآية إلى جميع المبايعين تحت الشجرة ، ومع ذلك فلا يكون نافعا لكم ، لأنّ الرضا كان لما مضى من أفعالهم دون الحال ، فضلا عن الاستقبال ، وذلك كما تعلمون لا يمنع من وقوع الضدّ منهم في الحال ، أو الاستقبال الموجب للخروج عن عموم الآية ، ولا يكون موجبا لعصمتهم من تعمّد الخطأ فيما يقع منهم من الأحداث بعد ذاك.

* * *

٢٣٢

آية الاستخلاف في الأرض وما تدلّ عليه

قال : لقد فهمنا ما ذكرتموه لنا في هذه الآية وما قبلها ولا أرى دفعه لوضوح بيانكم ، ومتانة برهانكم ، وأنّها لا يمكن أن تريد العموم ، وعلى فرض إرادته فإنّه لا يوجب العصمة لمن دخل فيها من تعمد الخطأ ، ولكن كيف تستطيعون أن تدفعوا عنهم قول الله تعالى في سورة النور آية ٥٥ :

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ، يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

فإنّ جميع هذه الصفات كانت حاصلة لهم لأنّهم كانوا حاضرين حين نزولها ، وهم المواجهون بها أولا وبالذات ، وكانوا ممّن خاف في أول الإسلام فحصل لهم الأمن من الله تعالى ، والتمكين في البلاد ، وخلفها النبي (ص) ، وأطاعهم الناس ، فنتج من ذلك كلّه نزولها فيهم ، وأنّهم أهلها ومحلّها؟.

قلت : أولا : إنّكم تعلمون أنّه لا يجوز تفسير كتاب الله تعالى

٢٣٣

بالرأي ، والهوى ، وبغير ما أنزل الله تعالى. فهذا الإمام أحمد بن حنبل يقول في المتفق عليه ص ٢٣٣ من مسنده من جزئه الأول : عن ابن عباس قال : قال رسول الله (ص) : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار».

وفي القرآن يقول الله تعالى في سورة يونس (ع) آية ٥٩ : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) وقال تعالى في سورة الإسراء آية ٣٦ : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وقال تعالى في سورة النحل آية ١١٦ : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) فهذه الآيات الكريمة وأضعافها تنهي أشد النهي وأبلغه عن القول في القرآن بغير علم ، وما نقلتموه عن المفسرين ، وإنهم فسروا الآية فيهم ، وإنهم أهلها ومحلها لم يكن إجماعا منهم ، ولا مستندا إلى ثقة ، ممّن له علم بتفسير القرآن وإنما كان ناشئا عن الآراء ، والأهواء ، والميول ، والاتجاهات ، والمحاباة ، والظنون ، التي ما أنزل الله بها من سلطان كما تجدون ذلك بأيسر وقفة على تفاسيرهم.

ثانيا : لو سلمنا لكم جدلا ، وفرضنا أنّهم رجعوا في تفسيرهم لها فيهم إلى من يوثق به من أصحاب رسول الله (ص) ومع ذلك فإنّه ليس بحجة في شيء ، ولا يجب الأخذ به لأنّه غير مسند إلى النبي (ص) بل موقوف على ذلك الصحابي ، ومثله لا يصلح أن يكون دليلا علميا له قيمته واعتباره ، لأنّ الله تعالى يقول : «وما آتاكم الرسول فخذوه» ولم يقل (وما آتاكم به أصحاب النبي (ص) فخذوه).

ثالثا : إنكم تعلمون أنّ المفسرين للقرآن طائفتان الطائفة الأولى أهل السنة والثانية الطائفة الشيعية.

أما الشيعة فلها في هذه الآية تفسير معروف تسنده إلى

٢٣٤

رسول الله (ص) من طريق أئمتهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى من آل رسول الله (ص) الذين من تمسك بهم كان على الهدى ، ومن أخطأهم ضلّ وهوى ، كما جاء التنصيص عليه فيما تقدم من حديث الثقلين.

وأما أهل السنة فقد اختلفوا في تفسيرها أقوال شتى فالمروي عن ابن عباس ، والبراء بن عازب ، خلاف ما ادعيتم فراجعوا في تفسيرها تفاسير البيضاوي ، والنيسابوري ، وابن جرير ، والسيوطي ، والخازن ، والبغوي ، وابن حيان ، لتعلموا ثمة صحة ما قلناه.

فإذا كان هذا الاختلاف في تفسيرها موجودا عندكم فكيف يصح لكم أن تنسبوا ما قلتم في تفسيرها إلى المفسرين أجمعين على أنّ ترجيح أحد المختلفين على الآخر ترجيح بلا مرجح وبطلانه واضح.

رابعا : إنّ الوعد في الآية مشروط بالإيمان ، وعمل الصالحات ، على وجه الإخلاص لله تعالى ، وذلك ما لا يعلمه إلّا الله تعالى فكيف يا ترى تستطيعون أن تثبتوا ذلك ، وأنتم لا سبيل لكم إلى إثباته ، اللهم الا أن تدعوا العلم بما في باطنهم والاطّلاع على سرائرهم لتحكموا به وهذا ما نربأ بكم عن ادّعائه.

خامسا : إنّ الآية تريد بالاستخلاف في الأرض في منطوقها توريث المؤمنين لها ، وإبقاءهم بعد هلاك الظالمين لهم من الكافرين ، وليس فيها ما يدلّ على إرادة الاستخلاف لمقام النبوّة ، وخلافة الرسالة ، وفرض الطاعة لهم على الأمّة ، ويريكم هذه الحقيقة قوله تعالى في سورة الأعراف آية ١٤٨ وما بعدها : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ ، وَاصْبِرُوا ، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا ، وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا ، قالَ : عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ، وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).

٢٣٥

فهو يريد توريث الأرض ، والنعم ، والأموال ، لعموم المؤمنين لا خصوص بعضهم ، ولا يريد الإمامة ، وخلافة النبوة ، وإلا لكانوا جميعا أئمة ، وهو معلوم البطلان.

فكما إنّ الله تعالى بشّر قوم موسى (ع) بأنّ صبرهم على أذى الكافرين ، موجب لأن يرثوا أرضهم ، وديارهم ، وأموالهم ، من بعدهم ، وأنّ المؤمنين سيخلفون الكافرين على تلك الأموال والنعم ، كما يرشدكم إليه قوله تعالى في سورة الأعراف آية ١٣٧ : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ، مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ : بِما صَبَرُوا ، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ)

كذلك وعد المؤمنين العالمين الصالحات ، في تلك الآية بأن يرثوا أرض الكافرين ، وأموالهم بعد هلاكهم.

ويدلكم على نظير هذا الاستخلاف من الله تعالى لعباده ما قاله تعالى في سورة الأنعام آية ١٣٣ : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ، ذُو الرَّحْمَةِ ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ ، كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) فهو يريد إبقاء أولئك بعد انقراضهم ، ولا يريد بالاستخلاف فيها خلافة النبوة لمن يأتي بعدهم بعد إذهابهم ، لوضوح بطلانه.

ونظائر هذا قوله تعالى في سورة الأنعام آية ١٦٥ : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) ، وقوله تعالى في سورة يونس (ع) آية ١٤ : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) ، وقوله تعالى في سورة يونس (ع) آية ٧٣ : (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ، وقوله تعالى في سورة فاطر آية ٣٩ :

٢٣٦

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) ، وقوله تعالى في سورة النمل آية ٦٢ : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ).

وبهذا المعنى قوله تعالى في سورة الحديد آية ٧ : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ).

وأنتم ترون أنّ الاستخلاف في هذه الآيات مباين لخلافة النبوة ، ومثلها تلك الآية ، وإلا لزمكم أن تقولوا إنّ جميع المؤمنين العاملين الصالحات في منطوقها خلفاء النبي (ص) ، لا خصوص المتقدمين على عليّ (ع) وذلك معلوم بالضرورة من الدين والعقل بطلانه.

أجل يا صاحبي لقد وفى الله تعالى بوعده لأصحاب نبيه (ص) في حياته ، وقبل لحوقه (ص) بربه ، ففتح لهم البلاد ، ومكّنهم من رقاب العباد ، وأحلهم الديار ، وأورثهم الأموال ، والقرآن ، يثبت هذا ويقره بقوله تعالى في سورة الأحزاب آية ٢٧ : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ ، وَدِيارَهُمْ ، وَأَمْوالَهُمْ ، وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) فالوعد من الله تعالى في الآية كان لجميع المؤمنين الذين عملوا الصالحات على وجه الإخلاص لله تعالى لا لخصوص الخلفاء (رض) كما لا يخفى.

سادسا : إنّ تخصيصكم ذلك بخصوص الخلفاء (رض) موجب لخروج غيرهم من المؤمنين عن وصف الإيمان ، وعمل الصالحات في الآية ، ويلزمكم أن تقولوا إنّ غيرهم مشركون لا يعبدون الله وهم الفاسقون وليسوا من الذين مكّن الله دينهم الذي ارتضى لهم ، كما تقتضيه الآية ، منطوقا ومفهوما ، بعد تخصيصكم هذا ، وهو مما لا يمكن لأحد من أهل الإيمان أن يقول به.

سابعا : إنّ عموم الوعد من الله تعالى بالاستخلاف في الآية إنّما هو للمؤمنين الموصوفين بعمل الصالحات ، من أصحاب

٢٣٧

رسول الله (ص) ، على ما خصّهم من الصفات ، من العبادة لله تعالى على الخوف والأذى ، على ما نطق به كتاب الله تعالى ، وذلك مانع من تخصيصها بخصوص الخلفاء (رض) دون الجميع ، لاستلزامه التناقض بين اجتماع معاني العموم على نحو الاستغراق ، والاستيعاب المدلول عليه في الآية ، وبين معنى الخصوص في أولئك ، ويلزم التدافع بينهما بدلائل العقول ، وذلك ما ينبذه العقل والدين ، ولا يرتضيه جميع المؤمنين ، فإذا تسجّل لديكم بطلان ذلك كله ثبت عموم الوعد بالاستخلاف على معنى توريث المؤمنين الأرض ، والديار ، والأموال ، والظهور لدين الله تعالى في الآية ، وذلك يتناول كل من كان في حياة النبي (ص) ، ومن جاء بعده من المؤمنين الموصوفين فيها إجماعا ، وقولا ـ واحدا من جميع المسلمين.

وجود الخلافة في الخلفاء لا يوجب انطباق الآية عليهم.

قال : إنّ الآية وإن كانت ظاهرة في العموم لجميع المؤمنين الموصوفين فيها بتلك الصفات كما ذكرتم إلا أنّها تريد خصوص الخلفاء (رض) بدليل وجود الخلافة فيهم دون جميعهم.

قلت : أولا : إنّكم إنّما أوجبتم الخلافة للمتقدمين على عليّ (ع) وحكمتم بصحتها لهم بالآية ، وجعلتموها دليلا على دفع من خالفكم فيها ، ولكنكم لما وجدتم ما أوجبه عمومها من بطلان ما ذهبتم إليه بظاهرها ، في إرادة العموم لجميع المؤمنين الموصوفين بما وصفتهم به الآية ، لم تجدوا سبيلا إلى تصحيح خلافتهم بغير خلافتهم ، ولكن كان عليكم أن لا يفوتكم أنّ تصحيح الشيء بنفسه ، والتدليل على نفسه بنفسه دور صريح ، وبطلانه واضح ، وأكبر الظن أنّه دعاكم إلى ابتغاء هذا النوع من الاستدلال هو عدم عثوركم على دليل يمكنكم به تصحيح ما ذهبتم إليه. وإني لأربأ بكم من اختيار مثل هذا التدليل

٢٣٨

على صحة الشيء وأنتم ممّن عرفنا علمه وفضله ومعرفته بكيفية التدليل.! والاستدلال على صحة الأشياء.

وبعد هذا نقول لكم : من أين علمتم أنّ الله تعالى استخلف المتقدمين على عليّ (ع) بعد النبي (ص)؟ فهل يا ترى علمتم ذلك من ظاهر أمرهم ، ونهيهم ، واستيلافهم على رقاب العباد؟ أم علمتم ذلك من اختيار الناس لهم؟ أم من ظاهر الآية؟ فإن قلتم : علمنا أنهم خلفاء الله تعالى في أرضه ، وأنهم الأئمة بعد رسول الله بظاهر أمرهم ونهيهم في الناس ، وزعامتهم على الأمة ، ونفوذ أحكامهم في عرض البلاد وطولها ، فيقال لكم إذن يجب أن تقبلوا هذه العلة ، وتلتزموا بطردها ، وتقطعوا بصحة إمامة كل من ادّعى خلافة النبي (ص) ، ونفذت أحكامه وقضاياه في البلاد ، وبين العباد ، لا خصوص المتقدمين على عليّ (ع) ، وتلك قضية العلة المطّردة التي لا يمكنكم التخلص منها إن قبلتموها ، وهذا ما لا يسلكه أحد من أهل الإسلام لاستلزامه تصحيح خلافة الظالمين والفاسقين ، وصحة زعامة الجبابرة ، والنماردة ، والطغاة ، الذين تحكموا في رقاب العباد ، وعاثوا في الأرض الفساد.

وإن قلتم علمنا ذلك من اختيار الناس لهم : فيقال لكم ليس للناس كل الناس فضلا عن بعضهم أن يتقدموا على الله تعالى ، وعلى رسوله (ص) ، في اختيار من يكون خليفة الله تعالى في أرضه ، وحجته على عباده ، لبطلان مثل هذا الاختيار بكثير من آيات القرآن التى تقدم ذكرها فلا حاجة إلى التكرار بإعادتها.

وإن قلتم علمنا صحة خلافتهم (رض) بعد رسول الله (ص) بالآية ودليلها ، فيقال لكم كيف يتسنى لكم ذلك وأنتم مانعون عمومها عن جميع المؤمنين ، وموجبون تخصيصها في معنى لا يوجد منه شيء في

٢٣٩

ظاهرها ، ولا في باطنها ، ولا في مدلولها ، ولا في دليلها ، ولأنّ منعكم عمومها لجميع المؤمنين موجب لمنعكم دخول الخلفاء (رض) في منطوقها ، باعتبار أنهم (رض) من جملة المؤمنين المدلول عليهم في الآية ، وذلك فإنّ نفي العام نفي للخاص عند العلماء جمعاء ، مثل قولنا : لا إنسان في الدار ، فإنّه يعني لا يوجد في الدار زيد وغيره من أفراد الإنسان. والآية من هذا القبيل ، فإنّ نفي الاستخلاف فيها عن جميع المؤمنين يعني نفيه عن الخلفاء (رض) أجمعين ، وإن ركنتم إلى صحة خلافتهم (رض) إلى معنى غير ما في الآية نفسها ، وغير ما ظهر من أمرهم ، ونهيهم ، وتنفيذ أحكامهم على الأمة ، فقد أبطلتم استدلالكم بالآية وخرجت من يدكم وأنتم تعلمون.

ثانيا : لو سلمنا لكم جدلا ، وفرضنا أنّ الآية تريد القائم بعد النبي (ص) في أمور الدين ، والدنيا ، وسياسة الأمة ، وإرشادهم إلى الطريق المنجي ، في العاجل والآجل ، ومع ذلك لا تدل على صحة خلافة المتقدمين (رض) على عليّ (ع) ، وذلك لأنّ الله تعالى وعد المؤمنين من أصحاب رسول الله (ص) بالاستخلاف ، جزاء لهم على الصبر والإيمان ، وأنتم تعلمون كما يعلم جميع الناس أنّ الاستخلاف من الله تعالى لا يكون استخلافا من الناس ، كما أنّ إرسال الأنبياء (ع) لا يكون إلا من الله تعالى ، لا من غيره.

وقد ثبت بالضرورة عندنا وعندكم أنّ الخليفة أبا بكر (رض) كان مستخلفا من الخليفة عمر بن الخطاب (رض) ، وأبي عبيدة بن الجراح ، وغيرهما من الناس ، وكان الخليفة عمر (رض) مستخلفا من الخليفة أبي بكر (رض) ، وكان الخليفة عثمان (رض) مستخلفا من عبد الرحمن بن عوف ، بإيثاره له دون غيره من أهل الشورى. فإذا كان هذا ثابتا عندنا وعندكم كما مر تفصيله ، ثبت عدم دخولهم في الوعد بالاستخلاف من الله تعالى في الآية ، لخلو خلافتهم (رض) من

٢٤٠