مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

السيد أمير محمد القزويني

مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

بالمشورة كان لأجل أن يصل (ص) بما يظهر منهم ممّا تكنّه صدورهم ، وتنطوي عليه قلوبهم ، فإنّ الناصح تظهر نصيحته في مشورته ، كما أنّ الغاش يظهر غشّه في مقاله ، لا سيما إذا لاحظتم أنّ في الأمّة من يتربص به الدوائر ، ويبتغي له الغوائل ، ويكتم خلافه ، ويبطن بغضه (ص) ، ولم يعرفهم بأشخاصهم ، ولا دله تعالى عليهم بأسمائهم ، فقال تعالى في سورة آل عمران آية ١٥٤ : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ، ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) ـ إلى قوله تعالى ـ (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) وقد تقدم ما تلوناه عليكم من قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ ، نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) وقال تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ ، وَما هُمْ مِنْكُمْ ، وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) وقال تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ ، فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) فدلّه تعالى عليهم بمقالهم ، وجعل الطريق له إلى معرفتهم ، ما يظهر من خلافهم في لحن قولهم.

وهكذا جعل مشورتهم طريقا إلى معرفة باطنهم ، لا لأنّهم مجتهدون مصيبون في مشورتهم كما توهمه هذا المستدل ، فإنّ ذلك لا يمكن نسبته إلى النبي (ص) العظيم في شخصه ، وعقله ، وتدبيره ، وفهمه ، وعلمه (ص) بكل المصالح والمفاسد ، بالوحي المتتالي نزوله عليه من الله العليم الحكيم.

ألا ترون إليهم لما أشاروا عليه ب (بدر) في الأسرى فكشفت مشورتهم عن نيّاتهم الشائنة ، فذمّهم الله تعالى عليه بقوله تعالى في سورة الأنفال آية ٦٧ : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا ، وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ، وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) فوجّه تعالى التوبيخ إليهم ، وعنّفهم على رأيهم ، إلى غير ما هنالك من موارد إشارتهم عليه (ص) ، وإدغالهم فيه.

٢٠١

ومن ذلك تعلمون أنّ الأمر بالمشورة لم يكن للاحتياج إلى رأيهم وأنّهم مجتهدون ، مصيبون ، على حدّ قول هذا المستدلّ ، وإنّما كان للكشف عن نيّاتهم ، وما تنطوي على ضمائرهم من الغش والنصيحة ، وإنّ قول ذلك على هذا المستدلّ جهلا منه بمقام النبي (ص) فتنقّص من قدره ، وحطّ من كرامته ، وجعله دون مستوى أصحابه عقلا ، وفهما ، وتدبيرا فأوجب على رسول الله (ص) ، أفضل الأنبياء (ع) ، وأعقل العقلاء ، أن يرجع إليهم في معرفة المصالح والمفاسد ، ليكيل لهم المدح والثناء من طريق الغض من كرامة النبي (ص).

وإذا كانوا بهذا المستوى من العقل ، والعلم بالمصالح ، والمفاسد ، وحسن التدبير ، بحيث يجب على رسول الله (ص) أن يرجع إليهم للاستفادة من رأيهم ، والاستعانة بتدبيرهم ، كما يزعم هذا المستدلّ ، فلما ذا يا ترى لم يختم الله تعالى بهم الأنبياء (ع) ، ويوحي إليهم بما يشاء؟ نعوذ بالله من سبات العقل ، والخطل في الرأي ، ونستجير به من التعصّب البغيض للمخلوقين ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العظيم.

٢٠٢

حديث القرون

وأمّا ما جئتم به من حديث القرون ، ففيه تتمة لم تأتوا على ذكرها وهي كافية لبطلانه ، وكذبه ، وأنّه لا أصل له. وقد أخرجها ابن حجر الهيثمي في صواعقه في أواسط ص ٤ عن الطبراني والحاكم عن جعدة بن هبيرة أنّه قال (ص) : «خير الناس قرني الذي أنا فيه ، ثم الذين يلونهم ، والآخرون أراذل» وأنتم لو دققتم النظر قليلا في مضمون هذا الحديث لقطعتم ببطلانه ، وانتحاله ، مع الغض عن كونه من آحاد الخبر لا يقتضي علما ، ولا عملا.

أمّا أولا : فلأنّ الحكم على الآخرين بأنّهم أراذل لا يمكن صدوره من النبي (ص) فيمن جاء بعد قرنه (ص) من المؤمنين التابعين ، وتابعي تابعيهم ، من الصالحين ، والمتقين الأبرار ، بل الصادر عنه (ص) خلاف ذلك. فهذا ابن حجر الهيثمي يحدّثنا في (صواعقه) ص ٢١٠ عند بيان وقوع الخلاف بالتفضيل بين الصحابة ومن جاء بعدهم من صالحي هذه الأمّة ، بأسانيد كلّها معتبرة ، ومتواترة ، ففيها الصحيح وفيها الحسن فمنها قوله (ص) : «طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى لمن لم يرني وآمن بي سبع مرات».

٢٠٣

ومنها : ما عن الخليفة عمر بن الخطاب (رض) قال : «كنت جالسا عند النبي (ص) ، قال : أتدرون أي خلق أفضل إيمانا؟ قلنا : الملائكة. قال : وحقّ لهم ، بل غيرهم. قلنا : الأنبياء. قال : وحقّ لهم بل غيرهم. قال : أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني ، فهم أفضل الخلق إيمانا».

وأنتم ترون أنّ عدول النبي (ص) عن أصحابه (ص) إلى غيرهم ممّن هم في أصلاب الرجال ، وحكمه عليهم بأنّهم أفضل الخلق إيمانا ، وعدم ذكره لأصحابه (ص) بشيء ، نصّ لا يقبل التأويل في بطلان حديث القرون وكذبه.

ومنها : قوله (ص) : «إنّ مثل أمتي مثل المطر لا يدري آخره أم أوّله».

ومنها : قوله (ص) : «ليدركنّ المسيح أقوام أنّهم لمثلكم أو خير ثلاثا» فهذه الأحاديث ، وأضعاف أمثالها ، نصوص صريحة في بطلان حديث القرون ، ولا تدع مجالا لمسلم عاقل أن يتمسّك به لإثبات خيرية أصحابه من غيرهم ، بل الأمر معكوس بها على هذا لمستدلّ به.

ثانيا : إنّكم إن أردتم من الخيرية في منطوقه ، أكثرية التقوى في أهلها ، فذلك يبطله كتاب الله تعالى بقوله تعالى في سورة يوسف (ع) آية ١٠٣ : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) وغيرها من الآيات التي تقدم ذكر بعضها لا سيما وأنتم تعلمون أنّ ذلك لا يوجب خيرية جميع من كان معاصرا لرسول الله (ص) حتى الكذّابين ، والمنافقين ، والمنقلبين على الأعقاب ، وغيرهم من أهل الكتاب ، لضرورة بطلانه.

وإن أردتم وجود طائفة في عصره (ص) لا نظير لهم في التقى ،

٢٠٤

فيما بعد عصره (ص) ، فمع أنّه موجب لبطلان عموم الحديث ، لا يجد بكم نفعا لأمرين :

الأول : إنّه لا يثبت التقى لها إلّا بدليل ، والحديث لا يفيده ولا يدلّ عليه لأنّ العام لا يدلّ على إرادة الخاص بأسمائهم ، وأشخاصهم عند جميع أئمة الأصول ، وغيرهم من العقلاء.

الثاني : إنّه يقابل هذا أنّه يوجد في عصره (ص) طائفة أخرى لا نظير لهم في الشقاوة والنفاق ، فيما بعد قرنه (ص) ، وهم الكذّابون ، والمنافقون ، بدلالة الكتاب والسنّة ، عليه ، كما مرّ عليك.

وإن أردتم خيرية من تظاهر بالإسلام في عصره من الذين يأتون بعده (ص) في العصور المتأخرة ، فكتاب الله تعالى والسنّة النبويّة يبطلانه : فمن الكتاب قوله تعالى في سورة التوبة آية ٥٦ : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) فأخبر تعالى عن طائفة في عصر رسول الله (ص) أظهرت الإسلام ، وأبطنت خلافه ، وقال تعالى في سورة آل عمران آية ١٥٤ : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ، يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) وصراحة هذه الآية فيما قلناه تغني عن البيان.

وأمّا السنّة فحسبكم ما تقدم في صحيح البخاري وغيره من صحاح أئمة أهل السنّة وحفّاظهم من أحاديث الحوض والبطانتين وحديث : «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا» الصريحة في أنّ في أصحاب النبي (ص) بطانة الشر ، كما فيهم بطانة الخير ، وفيهم من تابع سنن من كان قبلهم من اليهود ، والنصارى ، ومن كان على خلاف ذلك ، وفيهم من لا يخلص من النار ، وهم جمهورهم ، وفيهم

٢٠٥

من يخلص من النار وهم مثل همل النعم ، وقد تقدم ذكر ذلك كلّه فلا أراني محتاجا إلى إعادته عليكم بالتكرار.

حديث القرون مخالف للعقل السليم

ثالثا : إنّ حديث القرون مخالف للعقل السليم وباطل بمقتضى العدل الإلهي ، ولا نصيب له من الحكمة ، وذلك لأنّه إن كانت العلّة في خيرية جميع الناس في عصره (ص) هي تقدم خلقتهم في الزمان المتقدم على من يأتي بعدهم ، فقد ثبت بالإجماع القطعي أنّ أمّة النبي (ص) أفضل من جميع الأمم المتقدمة قبلها ، وأنّ رسول الله (ص) أفضل من جميع الأنبياء (ع) المتقدمين عليه (ص) أو حينئذ يجب طرد هذه العلّة لاستحالة التخصيص في عموم العلّة فإنّه لا يصحّ عقلا أن يقال : إنّ بعض النار محرق ، وبعضها غير محرق ، وعلى هذا يلزمكم أن تقولوا بأنّ كل أمّة أفضل ممّن تأتي بعدها ، واللازم باطل إجماعا وقولا واحدا ، وذلك لثبوت أفضلية آخر الأمم ممّن كان قبلها من الأمم.

فالحديث باطل من هذه الجهة أيضا وإن كانت العلّة في خيرية معاصريه (ص) هي رؤيتهم النبي (ص) ، وإيمانهم به ، وجهادهم بين يديه (ص) ، وكذا حال من كان بعدهم من التابعين الذين نقلوا إلينا الأحاديث ، والعلوم عنهم ، فقد ثبت بالبداهة أنّ تقدمهم في الخلقة والإيجاد هو من صنع الله تعالى ، وفعله ، فلا حمد لهم فيه ، ولا ثناء ، لأنّه ليس من فعل الإنسان ولا ممّا يسند إليه ، لكي يستحق المدح والثناء عليه ، كما لا ذمّ ، ولا عقاب فيه عليه ، ومن المعلوم أنّ الله تعالى لا يثيب الإنسان ، ولا يثني عليه ، على شيء هو تعالى خلقه ، ولا يذمّه ولا يعاقبه عليه ، فعلى هذا الأساس إنّ كل من شاهد النبي (ص) ورأى دلائل نبوّته (ص) ، ومعجزات رسالته (ص) ، لا يكون معذورا

٢٠٦

في مخالفته للنبي (ص) ، وتقصيره في قبول الحقّ ، وميله إلى الباطل ، بعد ما ظهر له من البرهان ، وأوضحه البيان ، بقول يشهد به القرآن. فإنّ الحجّة بذلك عليه أتمّ لا سيما وهم يفزعون إلى رسول الله (ص) فيما أشكل عليهم من تفسير آية ، أو تحقيق رواية ، فيرفع عنهم الشك ، ويرجعهم إلى الحق واليقين.

فمن أراد منهم بعد هذا كلّه مخالفته (ص) فيما أمر به ، أو نهى عنه ، كان حقيقا على الله تعالى أن لا يقبل له عذرا ، ولا يغفر له ذنبا هذا ما تقتضيه حكومة العقل فيمن كان معاصرا له (ص).

أمّا من نأى عن عصره (ص) ، وكان في مثل عصرنا الحاضر ، الذي كثرت فيه الأقاويل ، وتضاربت فيه المذاهب ، وتشتتت فيه الآراء ، واختلفت فيه الأهواء ، ونقصت فيه البصائر ، وعدم فيه التحقيق ، وتباينت فيه الأفكار ، حيث لا يوجد من يفزع إليه على حدّ قولكم ممّن يقوم مقام النبي (ص) في تحقيق الأمور ، ورفع الحيرة ، وقمع الضلال ، ودفع الشكوك ، فباليقين نقطع بقبول عذرهم ، وغفران ذنوبهم ، لأنّهم لم يشاهدوا ما شاهد المعاصرون له (ص) ، ولم يروا ما رأوا من معجزاته الباهرة ، وخوارقه النيرة ، وآياته البيّنة.

فنجم من كل ما ذكرنا أنّ من استبصر من أهل هذا العصر ، وما بعده ، وأشغل نفسه في تحصيل ما فيه نجاته عن بصيرة ، فهو لا شك لذي عقل في أنّه أفضل من كثيرين مستبصرين في عصره (ص) ، لأنّ الآيات البيّنات ، والحجج والدلالات ، التي شاهدوها بباصرة أعينهم ، قد قطعت عليهم الأعذار والبراهين ، التي رأوها قد أزاحت عنهم العلل ، فلم يتكلفوا في طلبها ، ولم تصبهم مشقة في الوصول إليها ، لأنّها قرعت أسماعهم في كل ليل إذا يغشى ، أو نهار إذا تجلّى ، بخلاف هذه العصور التي لم ير الناس فيها إلّا وجوه الجهل والأباطيل ، الأمر الذي يذهل منه الذكي الفطن ، ويضلّ فيه ذهن المتأله الحكيم ،

٢٠٧

ويكاد يزول معه فهمه ، ويضطرب فيه قلبه ، فترى السّاعي منهم يبذل أقصى ما لديه من جهد وطاقة ، في سبيل وصوله إلى غايته المنشودة من التبصّر ، والحصول على البصيرة في دينه الحق ، فإمّا أن يهلك دون الوصول إليه ، أو يناله بعد نصب وتعب شديدين مجهدين.

وبعد هذا كلّه أليس من الظلم الواضح أن تحكموا بتفضيل أولئك الذين زعمتم أنّهم خير القرون فيما ارتكبوه وفعلوه على هؤلاء الذين استبصروا في دينهم الحق بالأخبار المتضادة ، والأقاويل المتضاربة ، ولم تصل إليهم البيّنات الشافية ، والبراهين الكافية ، كما كان ذلك كلّه حاصلا لأولئك الأوائل في دينهم ببيان النبي (ص) المرسل لهم ما يزول معه كل شكوكهم ، ويحلّ محلّها اليقين.

أو ليس من الحقيق على الله تعالى وهو العدل الحكيم أن يوجب لمستبصري أهل العصور المتأخرة في دينهم على ما حققناه من حالاتهم ، أضعاف ما يوجبه لأولئك المستبصرين في الدين على عهد سيد النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله أجمعين؟ ولا يمنع ذلك إلّا من فاته أن يدنو من روح الدين ، أو لم يكن من المعرفة به على شيء ، ويؤكّد لكم ذلك كلّه ما تقدم من الأحاديث وقوله تعالى في سورة الحجرات آية ١٣ : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ، ولم يقل إنّ أكرمكم عند الله تعالى أصحاب نبيّكم ، ولما قال تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) علمنا أنّ حال الصحابي كحال غيره من الناس ، لا يثبت إيمانه إلّا ببرهان ، ولا تقواه إلّا بحجة ، ولا عدالته إلّا ببيّنة عادلة ، ومن قال غير هذا فيهم كما مرّ فقد خالف الله تعالى ورسوله (ص) وأفرط في غلوه فيهم.

* * *

٢٠٨

ليس في العقل ولا في الشرع

ما يمنع خطأ أهل السقيفة

قال : لست أنكر ما أوضحتموه من البيان ، وما أقمتم عليه من البرهان ، من أنّه كان في عصر رسول الله (ص) طوائف من أهل النفاق متسترين باسم الإسلام ، ولا أنكر أنّ منهم من كان أمره مطويا عن النبي (ص) ولم يكن يعلمهم كما نطق به القرآن ، ومنهم من نزل الوحي في فضيحته وعرفه الله تعالى رسوله (ص) ، ولا أنكر أنّ ذلك وقع من جماعة من الصحابة ، سهوا عن الصواب ، وأخطأ في الفرار من وجب عليه مواصلة الجهاد ، لا سيما في واقعة (حنين) ، وإن كان الله تعالى عفا عنهم كما جاء على ذكرهم القرآن ، ولكن ننكر عليكم تخطئة أهل السقيفة ومن تابعهم من السابقين من أهل الفضائل الذين قطع رسول الله (ص) لهم بالسلامة ، وحكم لهم بالثواب وأخبر أنّهم من أهل الجنّة (كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعبد الرحمن بن عوف الزهري ، وأبي عبيدة بن الجراح ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقّاص ، وسعيد بن زيد بن نفيل) فإنّ هؤلاء هم الذين قال فيهم النبي (ص) : «عشرة من أصحابي في الجنة» على ما جاء به الثابت من الحديث وهكذا حال من قاربهم في الفضائل ، وماثلهم في استحقاق المثوبات.

٢٠٩

الاحتجاج بالعشرة المبشّرة

قلت : إنّ الكلام في هؤلاء على الخصوص موجب لسقوط احتجاجكم بالصحبة بمجرّدها ، ومشاهدة النبي (ص) ، وسماع الوحي ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والجهاد في سبيل الله تعالى ، عن كونها موجبة للرحمة والرضوان من الله تعالى ، وموجب لسقوط احتجاجكم بذلك كلّه على عصمتهم ، من ارتكاب الكبائر والآثام ، والردّة عن دين الإسلام ، ومعه لا يبقى لكم فيمن نوهتم بأسمائهم ، وتدينتم بإمامتهم الأحسن الظنّ بهم ، والتعصّب لهم ، والتقليد لمن تقدمكم في الاعتقاد واعتمادا منكم على ما أوردتموه من حديث التبشير الذي لم يثبت صدوره من النبي (ص) :

السوابق والفضائل لا توجب العصمة من الخطأ

ومن الأدلّة الجليّة على أنّ الفضائل والسوابق التي وصفتم بها أولئك الذوات ، باستثناء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) منهم ، لم تعصمهم من الأخطاء ، ولم تمنعهم من مخالفة النبي (ص) :

فمن ذلك : قوله تعالى في سورة الأنفال آية ٦٧ : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

فأخبر تعالى بأن المشير به كان يريد عرض الدنيا دون الآخرة ، وكان المشير بذلك يومئذ هو الخليفة أبو بكر (رض) باتّفاق الفريقين على ما سجّله السيوطي في تفسيره (الدر المنثور) ص ٢٠١ من جزئه الثالث في تفسير هذه الآية ، وحكاه أبو الفداء في تفسيره ص ٣٢٥ من جزئه الثاني ، والخازن في تفسيره ص ٤١ من جزئه الثالث ، والبغوي في

٢١٠

ص ٤١ من تفسيره بهامش الجزء الثالث من تفسير الخازن ، والفخر الرازي في تفسيره الكبير ص ٣٨٣ من جزئه الرابع ، وأبو حيان في تفسيره (البحر المحيط) ص ٥١٨ من جزئه الرابع ، وابن جرير في تفسيره ص ٢٧ من جزئه العاشر ، والنيسابوري في ص ٢٦ من تفسيره بهامش الجزء العاشر من تفسير ابن جرير. فراجعوا ثمة ذلك لتعلموا أنّه من القواطع التي لا شكّ فيها.

وأنتم ترون أنّ السوابق ، والفضائل ، لو ثبتت ، لم تعصمه من الخطأ ولم توجب له عدم التعمد في المخالفة ، كما هو صريح الآية.

ومن ذلك : تخلّفهم عن جيش أسامة بن زيد الذي علموا قول النبي (ص) فيه : «نفذوا جيش أسامة لعن الله من تخلّف عنه».

على ما سجّله عليهم رئيس الأشاعرة محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) في الخلاف الثاني من المقدمة الرابعة التي ذكرها في أوائل كتابه المذكور بهامش الجزء الأول من كتاب (الفصل) لابن حزم الأندلسي وغيره من مؤرخي أهل السنّة.

ومن ذلك : إنكار الخليفة عمر (رض) على رسول الله (ص) إذنه (ص) يوم تبوك بنحر إبلهم ، وأكل لحومها إذا أملقوا ، على ما أخرجه البخاري في صحيحه ص ١١١ من جزئه الثاني في باب حمل الزاد في الغزو من كتاب الجهاد والسير. وأنكر عليه (ص) الخليفة عمر (رض) أيضا صلح الحديبية بعبارات مزعجة على ما أخرجه البخاري في صحيحه ص ٨١ في آخر كتاب الشروط من جزئه الثاني ، وأنكر عليه (ص) الخليفة عمر (رض) أخذ الفداء من الأسرى ، وإطلاق سراحهم يوم بدر كما في تاريخي ابن جرير الطبري ، وابن الأثير ، والسيرتين الحلبية والدحلانية ، وغيرهم ممّن أرّخ هذه الواقعة من مؤرّخي أهل السنّة وكذلك أنكر عليه (ص) الخليفة عمر (رض)

٢١١

يوم مات المنافق ابن أبيّ ، حتى جذبه بردائه وهو (ص) واقف للصلاة عليه على ما أخرجه البخاري في أول ص ١٨ من صحيحه من جزئه الرابع في الصفحة الثانية من كتاب اللباس ، وأنكر عليه (ص) الخليفة عمر (رض) أمره (ص) أبا هريرة أن يبشّر بالجنّة كل من لقيه من أهل التوحيد ، وضرب أبا هريرة وهو رسول النبي (ص) يومئذ في تلك الواقعة ردعا له عمّا أمره به النبي (ص) ضربة خربها إلى الأرض ، على ما أخرجه مسلم في صحيحه ص ٤٥ في أوائل الجزء الأول في باب «من لقى الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنّة وحرّم على النار» ، وأمر النبي (ص) الخليفتين أبا بكر وعمر (رض) بقتل رجل وأخبر بأنّه من شرّ الناس فتركا قتله ، ولم يمتثلا أمره (ص) ، على ما أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في (مسنده) ص ١٥ من جزئه الثالث من حديث أبي سعيد الخدري ، وحكاه أهل السير من أهل السنّة بأسانيده الصحيحة.

وأنتم ترون بحكم ما تقدم من الأحاديث أنّ ذلك لم يوجب لهم العصمة من ارتكاب خلاف أمر الله تعالى ، وخلاف أمر رسوله (ص) مع قولكم فيهم أنّهم أهل السوابق ، والفضائل. ومن ذلك فرار الخلفاء الثلاثة (رض) أبي بكر ، وعمر ، وعثمان (رض) ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وسعيد ، وأبي عبيدة بن الجراح ، عن الزحف ، يوم أحد على ما سجّله الطبري في تاريخه ص ٢٠ و ٢١ من جزئه الثالث ، وابن الأثير في (كامله) ص ٧٥ من جزئه الثاني ، والحاكم في (مستدركه) ص ٢٦ من جزئه الثالث في كتاب المغازي وص ٢٧ من جزئه الثاني ، وحكاه ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) ص ٣٨١ و ٣٨٨ و ٣٩٠ من جزئه الثالث ، وحكاه حكيم أهل السنّة الشيخ القوشجي في شرحه للتجريد عند ذكر المؤلف لغزوة أحد ، والحافظ السيوطي في تفسيره (الدر المنثور) عند تفسير قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ

٢١٢

إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) والمتقي الهندي في (كنز العمال) ص ٢٣٨ من جزئه الأول في تفسير سورة آل عمران وص ٢٩٤ من جزئه الثالث ، وفي ص ١١١ من (منتخب كنز العمال) بهامش الجزء الرابع من (مسند الإمام أحمد بن حنبل في غزوة أحد على ما قصّه الله تعالى من خبرهم بقوله تعالى في سورة آل عمران آية ١٥٣ : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ).

وهكذا كان حالهم (رض) في غزوة حنين بالاتّفاق بين حملة الآثار ممّن أرّخ هذه الواقعة من مؤرخي أهل السنّة وأعلامهم كالطبري ، وابن الأثير ، في تاريخيهما ، وابن عبد البر في (استيعابه) ، والمتقي الهندي في كتابه (كنز العمال) ، وفي ص ١٦٧ من منتخب كنزه بهامش الجزء الرابع من (مسند الإمام أحمد بن حنبل) والحاكم في (مستدركه) ، وأخرجه البخاري في (صحيحه) ص ٤٥ و ٤٦ وفي غزوة حنين من جزئه الثالث مختصرا كعادته في بتر الحديث ، وعدم إخراجه بطوله ، وفي ص ٣٠٤ من (كنز العمال) في كتاب الغزوات من جزئه الخامس حديثان يتضمنان أن الثابتين في هذه الغزوة يومئذ هم (علي بن أبي طالب ، والعباس بن عبد المطلب ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وعقيل بن أبي طالب ، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ، والزبير بن العوام ، وأسامة بن زيد).

وقد أخبر الله تعالى فيما صنعوه يوم حنين من الفرار من المشركين وإسلامهم النبي (ص) للعدو بقوله تعالى في سورة التوبة آية ٢٥ (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً ، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ).

فلم يثبت أحد منهم مع النبي (ص) ، وبخلوا بأنفسهم عن نفسه (ص) ، وكان الخليفة أبو بكر (رض) هو الذي أعجبه في ذلك

٢١٣

اليوم كثرة الناس فقال : «لن نغلب اليوم من قلة» على ما حكاه البيضاوي في تفسيره ص ٦٤ من جزئه الثالث في تفسير الآية ، والخازن في تفسيره ص ٥٩ و ٦٠ من جزئه الثالث والبغوي في تفسيره بهامش الجزء الثالث من (تفسير الخازن) ص ٥٩ و ٦٠ ، وغيرهم من مفسّري أهل السنّة ومؤرخيها العظام.

ثم كان الخليفة أبو بكر (رض) في المنهزمين وكذلك كان حال الباقين في الهزيمة ممّن زعمتم أنّهم من أهل السوابق والفضائل ، فما عصمتهم السوابق والفضائل عن ارتكاب ذلك بهزيمتهم من الزحف في هذه المشاهد.

وفي القرآن يقول الله تعالى في سورة الأنفال آية ١٦ ناهيا مهددا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) إلى آخر الآية.

كما لم يمنعهم ما تدعون من نقض العهد الذي أخذ عليهم ألا يفروا فقال تعالى في سورة الأحزاب آية ١٥ (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ ، وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً).

وكان من الخليفتين أبي بكر وعمر (رض) يوم خيبر مما لا يختلف فيه اثنان من حفاظ الحديث ، وأمناء التاريخ عند أهل السنة ، وهو أول حرب حضرها المسلمون بعد بيعة الرضوان ، فلم يفيا بالعقد مع قرب العهد الذي أخذ عليهما (رض) ، فوصفهما رسول الله بالفرار بمفهوم قوله (ص) لعليّ (ع) وما دل عليه فحوى خطابه (ص) بقوله (ص) : (لأعطين الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يده) فأعطاها عليّا (ع) فكان الفتح على يده بعد أن أعطاها للخليفتين أبي

٢١٤

بكر وعمر (رض). فرجعا ولم يصنعا شيئا باتفاق المحدثين والمؤرخين من أهل السنة والشيعة.

وحسبكم في تواتره إخراج البخاري له في باب مناقب عليّ بن أبي طالب (ع) من جزئه الثاني ، ولكنه كعادته لم يخرجه بطوله لأنّه وارد في مناقب عليّ (ع) فكان ذلك موجبا لدخولهم جميعا عدا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) فيما تقدم من قوله تعالى. (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً).

٢١٥
٢١٦

آية العفو عن المولين الأدبار

قال : إنّ القوم وإن ولوا الأدبار في هذه الغزوات إلا أنّ الله تعالى قد عفا عنهم بقوله تعالى في سورة آل عمران آية ١٥٥ : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) ومن عفا الله تعالى عنه يكون مرضيا عنده تعالى.

قلت : أولا : إنكم أردتم بما تمسكتم به من السوابق والفضائل التي ادعيتموها لهم أن تدفعوا عنهم نسبة الحيف إليهم وتدفعوا عنهم جواز الخطأ في دفع النص الجلي من النبي على خلافة عليّ (ع) بعده (ص).

الآن وقد رأيتم خطأهم بواضح البرهان بما أدليناه عليكم من الآيات البينات ، وارتكابهم ما لا يجوز من نقض العهد ، والمخالفة لأوامر الرسول (ص) ، التمستم لهم المعاذير ، لتخلصوهم مما وقعوا فيه ، فركنتم إلى التماس وجوه العفو عنهم من الله تعالى فيما لا تستطيعون دفاعه من خلافهم لله تعالى ولرسوله (ص) ، وهو بين أظهرهم ، وما كان أغناكم عن هذا الخلط لو سلكتم طريق الصواب وسبيل السداد.

٢١٧

وبعد : فإنّ العفو عنهم فيما ارتكبوه من الفرار يوم التقى الجمعان لا يوجب العفو عنهم فيما اقترفوه من مخالفة الرسول (ص) فيما نبهناكم عليه لعدم التلازم بين هذا وذلك كما لا يخفى على أولي الألباب ، لأنّه أخص من المدعى فلا يصح لكم أن تجعلوه دليلا على صحة عموم الدعوى.

ثانيا : لو سلمنا لكم جدلا شمول العفو في الآية لهم مطلقا ، ومع ذلك فإنّها لا تدل على العفو عنهم فيما يقع منهم في المستقبل ، كما لا دلالة لها على عصمتهم في اجتراح الأخطاء في الحال ، فضلا عن الاستقبال ، وكيف يصح ذلك مع وقوعه منهم كما مر عليكم بيانه مقرونا ببرهانه؟!!!

ثالثا : إنّ العفو من الله تعالى يكون تارة عن العاجل من المؤاخذة ، ومرة يكون عن الآجل ، وأخرى يكون عنهما جميعا إذا شاء ، وليس في الآية ما يدل على العفو عنهم في سائر الأحوال ، أو العفو عنهم يوم الحساب ، وإنما الآية صريحة الدلالة على العفو عنهم فيما مضى دون الحال ، فضلا عن المستقبل ، لا سيما إذا لاحظتم إتيانه بصيغة الماضي الدال على إرادته خاصة دون غيره مطلقا ، ويعززه قوله تعالى (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً).

ولا يصح في منطق العقل أن يجتمع السؤال والعفو في حالة واحدة ، فلا بد أنّه تعالى يريد العفو في الدنيا دون الآخرة ، لأنّه قد عفا فأعفاهم من سؤاله في العاجل ، ولم يعفهم من سؤاله في الآجل.

ونظير هذا عفو الله تعالى في يوم (بدر) عما وقع منهم من الرأي في الأسرى ، فقد أخبر تعالى بأنّه لو لا ما سبق في كتابه تعالى من رفع

٢١٨

المؤاخذة في العاجل عن أمة نبيّه محمد (ص) ، وترك تعجيل مؤاخذتهم ، لمسهم منه تعالى عذاب عظيم.

رابعا : لو سلمنا وفرضنا أنّه تعالى يريد العفو المطلق ، ومع ذلك فإنّه لا يصح على العموم ، لاستلزامه التناقض في كتاب الله تعالى ، وهو معلوم بالضرورة من الدين بطلانه ، فلا بدّ أنّه يريد العفو عن طائفة منهم ، لا جميعهم ، ويؤكده قوله تعالى في سورة التوبة آية ٦٦ : (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) وعلى أي كان العفو ، فإنّه لا يثبت عصمة المتقدمين على عليّ (ع) من الخطأ ، ولا دليل لكم على تميزهم عن غيرهم ، غير ما ذكرتم من معنى العفو ، وذلك كما تعلمون لا يوجب تميزهم ، وخروجهم عن العموم ، وتمسككم بالعموم لإثبات تميزهم عن غيرهم لا يتم لكم إلّا وجه دائر ، وهو باطل ظاهر.

ومما يؤكد لكم أنّ العفو في الآية عما وقع من المخالفة في الماضي لا يتناول الحال ، فضلا عن الاستقبال ، قوله تعالى في سورة المائدة آية ٩٥ (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) وكلمة (عَمَّا سَلَفَ) مؤكدة لما مضى دون ما يأتي لا سيما إذا نظرتم بدقة إلى قوله تعالى (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) فإنّه يدلكم على الانتقام مع العودة في الحال أو ما بعدها.

٢١٩
٢٢٠