مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

السيد أمير محمد القزويني

مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

الآخرين بهم ، وبطل أن يكونوا نجوما لغيرهم ، وكان حديثكم هذا باطلا مطلقا.

الثاني : إنّ الجمع المنكر المضاف يفيد العموم عند علماء أصول الفقه من الفريقين ، وكلمة (أصحاب) : جمع منكر مضاف إلى (ياء المتكلم) ويعني ذلك أنّ جميع أصحابه كالنجوم يقتدى بهم ، فالمقتدي بقول بعض الجاهلين منهم ، والتارك للعمل بقول بعض العلماء منهم ، يكون في الحالتين مهتديا ، ويكون المقتدي بقتلة الخليفة عثمان بن عفان ، والمتقاعد عن نصرته ، مهتديا ، وتابعا للحق في الصورتين ، وعلى هذا يلزمكم أن تقولوا بجواز العمل بالضدّين ، وبجواز اجتماع الهدى والضلال في شيء واحد ، وعلى صعيد واحد ، وبطلانه واضح لقوله تعالى في سورة يونس (ع) كما مرّ في آية ٣٢ : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ).

الثالث : إنّ الحديث معارض لنصوص القرآن ومحكمات آياته البيّنات كآيتي الانقلاب على الأعقاب والمرود على النفاق ، وقوله تعالى في سورة التوبة آية ٤٣ : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) الصريح في وجود الكاذبين في أصحاب النبي (ص) ، وكل حديث خالف كتاب الله تعالى وعارضه ، فهو زخرف يضرب به عرض الجدار ، كما جاء عن التنصيص على ذلك في حديث النبي (ص).

الرابع : إنّ حديثكم هذا نصّ في وجوب الإمامة العامة لكل صحابي منهم ، إذ لا معنى لوجوب الاقتداء بهم مطلقا إلّا كون كل واحد منهم إماما تجب طاعته ، وذلك يعني أنّ أصحابه (ص) كلّهم أئمة ، ولا تختص الإمامة بواحد منهم ، لا ابتداء ، ولا ترتيبا ، وهذا مع استلزامه بطلان ما قامت عليه السقيفة يستلزم بطلان وجود

١٨١

المأمومين فيهم ، المستلزم هو الآخر بطلان إمامتهم بانتفائهم ، لاحتياج الأئمة إلى المأمومين التابعين لهم ، وذلك كلّه معلوم بالضرورة ، من الدين والعقل ، بطلانه فالحديث مزور موضوع لا يمكن صدوره عن النبي (ص).

الخامس : إنّ الحديث ظاهر في وجوب اقتداء كل صحابي بنفسه تارة ، وبغيره من أصحاب رسول الله (ص) تارة أخرى ، مطلقا أمّا الشقّ الأول فباعتبار أنّه صحابي فيجب أن يقتدي بنفسه ، وأمّا الشقّ الثاني فلأنّ النبي (ص) أمر بالاقتداء به مطلقا لأنّه من أصحابه ، فحديثكم هذا يعني أنّ رسول الله (ص) أمر بالاقتداء بالمتضادين في الميول والاتّجاهات ، وجعل المقتدي بهما مهتديا وتابعا للحق.

وعليه يلزمكم أن تقولوا لو أنّ شخصا قاتل عليّا (ع) مع معاوية بن أبي سفيان يوم صفّين ، من الصبح إلى الظهر ، ثم عدل وقاتل معاوية مع علي (ع) إلى الليل ، كان في الحالتين تابعا للحقّ والهدى ، وإذا قتل وهو في إحدى الحالتين فهو في الجنّة ، وكذا الحال لو كان في قصة الخليفة عثمان بن عفان الأموي (رض) وهذا ما لا يذهب إليه من له دين ، أو شيء من العقل ، لقوله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) ، الأمر الذي لا يمكن لكم تقييده بشيء مطلقا ، لأنّه مخالف لعموم إطلاق الآية ، فيجب طرحه لأنّه كذب وانتحال لا أصل له.

السادس : إنّ هؤلاء الصحابة الذين أوردتم فيهم الأخبار ، وكان أكابرهم وأفاضلهم أهل بدر ، الذين زعمتم أنّ الله تعالى قطع لهم بالمغفرة والرضوان ، هم الذين صرّح القرآن بأنّهم كرهوا الجهاد ، وجادلوا رسول الله (ص) في تركه ، ورغبوا في الدنيا ، وزهدوا في ثواب الآخرة ، وبخلوا بأنفسهم عن نصره (ص) فقال تعالى في سورة الأنفال

١٨٢

آية ٥ وما بعدها : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ* يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ* وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ، وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ، وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ* لِيُحِقَّ الْحَقَّ ، وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).

وقال تعالى فيهم لا في غيرهم في سورة النساء آية ٧٧ ، وقد أمرهم رسول الله (ص) بالخروج إلى بدر فتثاقلوا عنه ، واحتجوا عليه ، ودافعوه عن الخروج معه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ، وَقالُوا : رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ ، لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ؟ قُلْ : مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى ، وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) فكيف يا ترى يجتمع هذا مع ما ادّعيتم من الغفران المطلق لجميعهم ، كما هو مفاد ما جئتم به من آحاد الخبر؟!!.

السابع : لو أنّكم تعدّيتم هذه الآيات الكريمة ، ونظرتم قليلا إلى صحيح الأخبار لرأيتم بأمّ عينكم ما كان يرتكبه الكثير منهم ، ممّا كان يوجب نزول الوحي على رسول الله (ص) في توبيخهم ، وتوعيدهم بالعذاب ، وما كان ذلك ليزجرهم عن مثل ما ارتكبوه من الخطأ وما اقترفوه من خلاف الصواب.

ومن ذلك : لما تأخّرت أمّ المؤمنين عائشة (رض) ، وصفوان بن العطاء ، في غزوة بني المصطلق ، فأسرعوا إلى رميها بصفوان وارتكبوا في ذلك الإفك المبين ، كما نطق به القرآن في سورة النور آية ١١ بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ، لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ،

١٨٣

بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) ومن ذلك : إنّ رسول الله (ص) كان يخطب على المنبر يوم الجمعة إذ جاءت عير لقريش قد أقبلت من الشام ، ومعها من يضرب الدفّ ، ويستعمل ما حرّمه الإسلام ، فتركوا رسول الله (ص) قائما على المنبر ، وانفضوا عنه إلى اللهو واللعب ، رغبة فيهما ، وزهدا في استماع مواعظه (ص) ، وما يتلوه عليهم من آيات الذكر الحكيم حتى أنزل الله تعالى فيهم في سورة الجمعة آية ١١ : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً ، قُلْ : ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ ، وَمِنَ التِّجارَةِ ، وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) على ما أخرجه السيوطي في تفسيره (الدر المنثور) ص ٢٢٠ و ٢٢١ في تفسير الآية من جزئه السادس ، والخازن في تفسيره ص ٧٩ من جزئه السابع ، والبغوي في تفسيره ص ٧٩ من تفسيره بهامش الجزء السابع من تفسير الخازن ، والبيضاوي في تفسيره ص ١٣٣ من جزئه الخامس ، وغيرهم من مفسّري أهل السنّة ، وأخرجه البخاري مختصرا الحادثة في صحيحه من جزئه الثالث في باب وإذا رأوا تجارة في تفسير سورة الجمعة من كتاب التفسير عن جابر بن عبد الله أنّه قال : «أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي (ص) فثار الناس إلّا اثنى عشر رجلا فأنزل الله الآية».

ومن ذلك : إنّهم اجتمعوا وطلبوا من رسول الله (ص) شجرة يعبدونها من دون الله تعالى ، فقال لهم : الله أكبر! قلتم مثل ما قال قوم موسى (ع) (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ!) على ما أخرجه السيوطي في تفسيره (الدر المنثور) ص ١١٤ من جزئه الثالث في تفسير هذه الآية وغيره من علماء التفسير عند أهل السنّة.

ومن ذلك : لما آثر النبي (ص) أناسا في القسمة في (حنين) تأليفا لقلوبهم قالوا : «إنّ هذه القسمة ما أراد بها وجه الله تعالى» على

١٨٤

ما أخرجه البخاري في صحيحه ص ٤٨ في باب غزوة الطائف من جزئه الثالث ، وغيره من أهل الصحاح والمسانيد ، من أهل السنّة ، إلى كثير من ذلك ممّا يضيق به الوقت وفيه ما يدلّكم على تهاونهم بالدين ، واستخفافهم بالشرع المبين ، مع أنّ الكثير منهم كان يظهر لرسول الله (ص) الإيمان ، ويبطن له خلافه ، ممّن كان يتظاهر بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإنفاق في سبيل الله ، ويحضر الجهاد على ما جاء به كتاب الله تعالى ، ونطق بذكر من ظهر منه النفاق ، فقال تعالى في سورة النساء آية ١٤٢ : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ، وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى ، يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً).

وقال تعالى فيهم في سورة التوبة آية ٥٤ : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ ، وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى ، وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ).

وقال تعالى فيهم في سورة التوبة آية ١٠١ : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ ، لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ، سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ).

وقال تعالى فيهم في سورة المعارج آية ٣٦ وما بعدها ، وقد أحاطوا برسول الله (ص) عن يمينه ، وعن شماله ، ليلبسوا الأمر بذلك على المؤمنين ، ولم يذكر الله تعالى له أسماءهم : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ* عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ* أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ* كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) على ما أخرجه السيوطي في تفسيره (الدر المنثور) في أواخر ص ٢٦٦ وما بعدها من جزئه السادس.

وقال تعالى فيهم في سورة محمد (ص) آية ٣٠ : (وَلَوْ نَشاءُ

١٨٥

لَأَرَيْناكَهُمْ ، فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ).

وقال تعالى في سورة التوبة آية ٩٥ مدلا نبيّه (ص) على جماعة منهم ، آمرا له (ص) بالإعراض عن ظاهر نفاقهم (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

وقال تعالى فيهم في سورة المنافقين آية ٤ : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ ، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ، كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ ، فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).

وقال تعالى فيهم في سورة التوبة آية ٤٣ : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ، وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ).

وقال تعالى في سورة الأنفال آية ٦٧ : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا ، وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ، وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

فهؤلاء الذين تلونا عليكم فيهم هذه الآيات ، وأوردنا لكم في حالهم الأحاديث الصحاح ، كلّهم كانوا من الصحابة ، ومن يشملهم اسم الصحبة ، ويتحقق نسبة صحبتهم إلى رسول الله (ص) على طبقاتهم في الخطأ ، والعمد ، والضلال ، والنفاق ، لأنّ جميعهم رأوا النبي (ص) ، وجالسوه ، وكانوا بحضرته (ص) ، ولا يستطيع من له عقل أن يدفع ذلك عنهم ، أو يخصصه بغيرهم ، كما لا يستطيع أن يتمسّك بالصحبة ، ومشاهدة النبي (ص) ، والجلوس معه (ص) ، ويجعل ذلك دليلا علميا ، وبرهانا منطقيا ، على الصواب ، وأنّه

١٨٦

يوجب لهم العصمة من الخطأ أو الضلال وهو يرى بأمّ عينه تلك الآيات وهاتيك الروايات الصحاح ، وكثير غيرها ما لو أردنا استقصاءها لطال به الكتاب إلى حدّ وكثرة.

حمل الآيات والروايات على غير أصحاب النبي (ص)

قال : لو قال قائل يجب حمل هذه الآيات ، وتلك الروايات ، على غير أصحاب النبي (ص) لأنّهم أمراء المؤمنين ، ورؤساء المسلمين ، منزّهون. عمّا يشوّه سمعتهم ، ويحط من كرامتهم ، ويسيء الظن بهم.

قلت : أولا : إنّ أمراء المؤمنين ، ورؤساء المسلمين ، من أشار النبي (ص) إلى إمرتهم على المؤمنين ، ورئاستهم على المسلمين ، دون غيرهم ممّن نصبه الناس ، تبعا للأهواء ، والضلالات ، والشهوات ، والمشتهيات الرخيصة.

ثانيا : إنّ كل من لقي النبي (ص) ، وسمع خطابه ، وشافهه به ، فهو صحابي ، والمخاطبون في تلك الآيات وهاتيك الروايات لم يكونوا خارجين عن أصحابه (ص) ، لذا ترون أنّ الله تعالى نسب صحبة نبيّه (ص) إلى مشركي قريش بقوله تعالى في سورة التكوير آية ٢٢ : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ).

ثالثا : إنّا نطالب هذا القائل أن يخبرنا من هم أولئك المخاطبون في تلك الآيات والروايات إن لم يكونوا أصحاب النبي (ص) فكيف يمكنه صرف الآيات والروايات عنهم؟ فالمشافهون في الخطاب فيها هم أصحابه (ص) ، وكيف يمكن حمل الروايات على غيرهم وفي بعضها صراحة بأنّ من خاطبهم النبي (ص) كانوا أصحابه (ص) ، لا أصحاب غيره ، كحديث الحوض ، وحديث : «لتتبعنّ سنن من كان

١٨٧

قبلكم شبرا» فما ذا يا ترى يمكن أن يقوله هذا القائل فيهما؟!!.

رابعا : ليست الصحبة بمجرّدها درعا حصينا لا تنال من تدرع بها معرّة أو لا يمسّه سوء ، وإن ارتكب ما ارتكب ، فإنّ هذا شطط من القول ، ومرود على الحق ، وبعد عن الصواب ، فليست صحبة النبي (ص) من موجبات الحكم بالإيمان ، أو العدالة ، أو حسن الظن فيهم ، ولا توجب الاقتداء بهم وقد أجمع المسلمون على أنّ من لقي النبي (ص) ، وآمن به ، ومات على الإسلام ، فهو الصحابي الجليل ، كما أجمعوا على أنّ الإيمان ، والعدالة ، أمران اكتسابيان ، وليسا ذاتيين طبيعيين للإنسان. فالصحابي كغيره من الناس لا يثبت إيمانه إلّا بيّنة ، ولا تتحقق عدالته إلّا بحجّة ، فمن ثبت إيمانه وعدالته كان واجب التقدير والاحترام ، ومن ثبتت جرائمه ونفاقه فلا وزن له ، ولا قيمة ، ولا كرامة له ، ولا احترام. فإنّ الإسلام لم يأت باحترام المنافق ، وإكرام الفاسق ، كائنا من كان. ومن قال غير هذا فقد خان الله تعالى ورسوله (ص) وجماعة المؤمنين ، إلّا أنّ جماعة ، ويا للأسف أفرطوا فيهم ، فحكموا بعدالتهم أجمعين ، مهما ارتكب بعضهم من المحرّمات ، وهتك الحرمات ، وقتل النفوس البريئة بغير حق ، وينسبون من أساء إلى هذا النوع منهم بجرح ، أو نقد ، أو قدح ، أو تبين في أمره إلى عدم التأدب مع أصحاب النبي (ص)! ونحن إنّما نسيء إلى هذا الصنف منهم تقديسا لرسول الله (ص) ، شأن الأحرار في عقولهم ، ممّن فهم معنى التقديس والتعظيم للنبي (ص) ، تمسكا بالكتاب والسنّة الحاكمين بوجوب الابتعاد عن الفاسق ، ومحاربة المنافق ، بصورة عامة ، والتبرؤ منهم ، ووجوب التبين في أخبارهم.

ولا ريب في أنّ هذا هو المعنى الحقيقي لتعظيم النبي (ص) وتقديسه ، وهو الذي يعضده المنطق العلمي ، والدليل الشرعي ، وبعد :

١٨٨

فليس من الاعتدال أن يحكم إنسان على كل صحابي بالاعتدال ، وقد علم بوجود المقهورين فيهم على الإسلام ، كأبي سفيان وولديه ، معاوية ويزيد ، وعلم بوجود الداخلين فيه على غير بصيرة منهم ، وعلم بوجود شاربي الخمور ، ومرتكبي الفجور ، وقاتلي النفوس المحترمة ، وعلم بوجود المنافقين فيهم ، كما نطق به القرآن ، فليس من الحق والعقل إجلال من كان هذا حاله في الموبقات ، لأنّه صحب رسول الله (ص) وأمّا أننا نأبى كل الآباء ، كما يأبى كل مسلم غيور ، على الدين ، وعلى قداسة سيد المرسلين (ص) ، أن يصغي لقائل يقول بتقديس مثل هذا النوع من أصحابه (ص) ، فمن شاء فليحمر ، ومن شاء فليصفر ، فإنّا لا نعدو كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا (ص) في ذلك أبدا!!.

خامسا : لو كان التأدّب مع هذا الصنف من أصحابه (ص) واجبا مقدّسا ، لزم هذا القائل أن يقول بأنّ النبي (ص) قد ترك هذا الواجب المقدس في شريعته ، فقال لأصحابه (ص) على ما أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ص ٢٨ من جزئه الثالث من حديث أبي سعيد الخدري : قال رسول الله (ص) : «فأقول : أصحابي! فقيل : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول بعدا بعدا ، أو سحقا سحقا لمن بدّل بعدي» ولكان غير متأدب معهم حينما أخبر (ص) في حديث الحوض المتقدم بقوله (ص) : «فلا أرى يخلص منهم (أي من النار) إلّا همل» ، وغير متأدّب معهم حينما خاطبهم بقوله (ص) : «لتتبعن سنن من كان قبلكم ، شبرا شبرا ، وذراعا ذراعا. قالوا : اليهود والنصارى؟ قال : فمن؟» كما تقدم البحث عن ذلك مستوفى. ولا شك في أنّ مثل هذا القول في رسول الله (ص) طعن صريح في قداسته (ص) ومخرج لقائله عن الإسلام.

١٨٩

الاعتذار عنهم بالاجتهاد

ولا يمكن لأحد أن يعتذر عن خطأ بعضهم ، أو ضلاله بالاجتهاد ، لأنّ الاجتهاد ، في خلاف الله تعالى ، وخلاف رسوله (ص) ، هو الآخر كفر وضلال ، ولو كان مثل هذا الاجتهاد ينفع صاحبه ، لنفع اجتهاد إبليس في مخالفة الله تعالى ، وعصيانه لأمره تعالى ثم إن الحكم باجتهاد جميع الصحابة ممّا يقطع ببطلانه كل من اطّلع على أحوالهم ، ووقف على تاريخ حياتهم ، حينما يرى فيهم الأميّون الذين لا يعلمون الكتاب ، ويجهلون أكثر أصول الإسلام ، وشرايع الدين ، كما أخبر الله تعالى عنهم في القرآن بقوله تعالى في سورة الجمعة آية ٢ : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ، وَيُزَكِّيهِمْ ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) وفيهم الأعراب الذين قال الله تعالى فيهم في سورة التوبة آية ٩٧ : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) وفيهم من أسلم قبل وفاة النبي (ص) بأيام ، وليس لهؤلاء نصيب من الاجتهاد ، والاجتهاد كما تعلمون ملكة لا تحصل إلّا بعد الفحص الكثير ، والتدقيق ، والتنقيب ، وبذل الجهد ، والممارسة التامة ، ومعرفة الأدلّة ، والخوض فيها بالاستدلال ، وهذا شيء لا يختلف فيه اثنان من علماء الإسلام.

ومجرّد كون الاجتهاد كان ممكنا لهم ، لا يمنع من عدم حصول ملكة الاجتهاد لأكثرهم ، ولا يقتضي الحكم بحصولها للجميع ، لأنّه خلاف العلم العادي ، ولأنّه يستلزم غلق سوق المسلمين في عصرهم إذا كان كل واحد منهم يريد الحصول عليها لاحتياجه إلى بذل الجهد والممارسة التامّة والبحث والتنقيب كما قدمنا ، وذلك ما يشغله عن كل عمل غيره مطلقا ، كما يجب أن يكون مستندا إلى الكتاب والسنّة ، لا إلى الرأي والهوى ، وما تشتهي النفس ، وما تشاء ، وكيف يمكن أن

١٩٠

يكون الاختلاف الواقع بينهم ناتجا من اجتهاد ، صوابا أو خطأ ، وهم يشتم بعضهم بعضا ، ويقاتل بعضهم بعضا ، ويحكم بعضهم بكفر بعض؟ ولنضرب لكم الأمثال تستطيعون من ورائها أن تقطعوا بصحّة ما نقول :

فقد أخرج البخاري في صحيحه ص ٧٤ من جزئه الثاني في أول كتاب الصلح : «إنّ الصحابة قد تشاتموا مرة أمام النبي (ص) ، وتضاربوا بالنعال» وأخرجه مسلم في صحيحه في آخر باب دعاء النبي (ص) إلى الله تعالى من كتاب الجهاد ص ١١٠ من جزئه الثاني.

وتقاتل الأوس والخزرج مرة على عهد النبي (ص) ، وأخذوا السلاح ، واصطفوا للقتال ، على ما ذكره على بن برهان الدين الحلبي الشافعي في (سيرته الحلبية) في آخر ١٠٧ من جزئه الثاني والدحلاني في سيرته بهامش (السيرة الحلبية) وهذا قليل من كثير لا يجهله من وقف على سيرتهم من كتب التاريخ ، والحديث ، والسيرة ، كالطبري ، وابن الأثير ، في تاريخهما ، وقد ذكرنا لكم فيما مرّ ، ما صدر منهم من المخالفة لأوامر النبي (ص) ، ونواهيه ، وما وقع منهم من الاستخفاف بالشرع المبين ، وتهاونهم بأحكام الدين حتى قال الله تعالى ، في ثليهم وتوبيخهم ، قرآنا ما يغنيكم عن التدليل على بطلان ما ادّعاه هذا المستدلّ لهم من الاجتهاد ، فبالله عليكم أي اجتهاد هذا مستند إلى الكتاب والسنّة ، ليكون ناتجا عن صواب أو خطأ؟ فهل يا ترى من الاجتهاد الموافق للنصّ ، أن يتضاربوا أمام النبي (ص) بالنعال ، أو يتشاتموا بحضرته ، ويضرب بعضهم رقاب بعض ، على مرأى منه ومشهد؟ ألم يقل النبي (ص) على مسمع منهم ومنظر «سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر» على ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه ص ١٢ من جزئه الأول في باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر من كتاب الإيمان؟ ألم ينصّ القرآن الكريم على وجوب تعظيم

١٩١

النبي (ص) ، وإكباره ، وتحريم رفع الصوت بحضرته ، بقوله تعالى في سورة الحجرات آية ٢ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ؟).

فإذا كان هذا ما أوجبه الله تعالى عليهم من احترام النبي (ص) ، وإجلاله ، وحرّم عليهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته (ص) وألّا يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض ، وإذا كان هذا ما رتّبه رسول الله (ص) على سباب المسلم ، وقتاله من المحذور ، فكيف يجوز لهذا المستدلّ أن يعتذر عنهم في ذلك بالاجتهاد؟ فهل يا ترى من الاجتهاد الموافق للكتاب ، والسنّة ، والعقل السليم ، عنده أن يهتك هؤلاء حرمة النبي (ص) ، ويستحلّوا هتكه ويخالفوا أمره ، ولا إثم عليهم لأنّهم مجتهدون مخطئون؟ ومتى يا ترى كان الاجتهاد يخول صاحبه ارتكاب المحرّمات ، وهتك الحرمات ، والاستخفاف بأوامر الله تعالى ونواهيه ، والطعن في رسوله سيد المرسلين (ص) ، والاستهانة بشرعه المبين؟! وما الفرق يا ترى بين هذا الصنف من المجتهدين ، وبين الأشقياء الفاسقين ، والطغاة المتمردين على الدين ، والمخالفين لأوامر الله تعالى ونواهيه ، والتابعين لخطوات الشياطين؟! ولا شكّ في أنّ من أعطى هذه الصلاحية الواسعة للمجتهدين ليس من المسلمين في شيء ، ولا الإسلام منه على شيء.

لا دليل على اجتهاد الصحابة

ثم إنّا نقول لهذا المدّعي اجتهاد الصحابة ، ومن وافقه على دعواه : ما هي البيّنة العادلة التي استندوا إليها في إثبات اجتهادهم ، أو اجتهاد بعضهم ، وما هي الآية القرآنية أو الرواية النبويّة (ص) التي يمكن أن يستندوا إليها في حكمهم لهم بالاجتهاد ، وكتاب الله تعالى بين

١٩٢

أيدينا ، وكذلك السنّة النبوية (ص)؟! فانظروا فيهما فإنّكم تجدونهما خاليين من تلك البيّنة وقد ثبت في أصول الشريعة ، ولدى العقلاء كافّة ، على أنّ البيّنة على المدّعي والأصل مع المنكر ، وليس على المنكر أن يأتي بما يبطل هذه الدّعوى ، لأنّها لم تثبت ، ولن تثبت أبدا مطلقا ، اللهم إلّا أن يكون ادّعاء هؤلاء اجتهادهم ، مستندا إلى التحكم الصرف والجزاف في الحكم ، والتعصّب البغيض فيهم.

الثامن : إنّا نقول بأنّه ليس من الممكن المعقول أن يصدر عن رسول الله (ص) مثل هذا الحكم الغيبي القطعي ، في أناس مجهولي الخاتمة ، وغير معصومين ، وأنّه مغفور لهم ، مهما ارتكبوا من المحرّمات ، وهتكوا من الحرمات ، وخالفوا الله تعالى ورسوله (ص) ، وحكموا بغير ما أنزل الله تعالى ، وظلموا العباد ، وعاثوا في الأرض الفساد ، كما يوجب ذلك كلّه منطوق الحديث ومفهومه لهم ، وذلك ما لا يمكن لمؤمن تصديقه إطلاقا.

١٩٣
١٩٤

آية (وَأَمْرُهُمْ شُورى)

قال : يقول خصومكم : كيف لا يكون الصحابة مجتهدين مصيبين في اجتهادهم ، وقد مدحهم الله تعالى في القرآن ، وأثنى عليهم بقوله تعالى في سورة الشورى آية ٣٨ : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) فهذا المدح والثناء عليهم يدلّ على أنّهم مصيبون فيما يفعلون ، لا سيّما ما وقع منهم في السقيفة من عقد البيعة ، وانتفاء العصمة عنهم لا يمنع من أن يكونوا مصيبين في ذلك؟؟.

قلت : أولا : إنّ قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) يعني بين جميع المؤمنين بما فيهم المعصومون من أهل بيت النبي (ص) ، لا بين بعضهم ، لا سيما إذا كان بعضهم مخالفا للآخرين وقد تقدم أنّ هذا لم يحصل في السقيفة من عقد بيعتهم للخليفة.

ثانيا : كيف غاب عن ذهنكم ، ولم تنتبهوا ، إلى أنّ ما قاموا به من عقد البيعة لم يكن ناتجا عن الشورى بينهم؟ فهذا الإمام البخاري يحدّثنا في صحيحه ص ١١٩ من جزئه الرابع في باب رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت. إنّ السابق إليها والمحرّك الكبير فيها الخليفة عمر بن الخطاب (رض) قال على المنبر على مرأى من الصحابة

١٩٥

ومسمع : «إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت ، وإنّها قد كانت كذلك ، ولكن الله وقى شرّها ـ إلى أن قال ـ من بايع منكم رجلا من غير مشورة من المسلمين ، فلا يبايع هو ، ولا الذي بايعه ثغرة أن يقتلا ـ إلى قوله ـ إلّا أنّ الأنصار خالفوا ، واجتمعوا بأسرهم ، في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنّا علي والزبير ومن معهما» الحديث.

والفلتة : إن لم يكن قائلها يريد بها أنّها زلّة كما يشير إليه وصفه لها بالشر ، فلا محالة أنّها بمعنى البغتة ، ويعني ذلك أنّها وقعت فجأة ، ومن غير تدبّر ولا مشورة ، ويدلّكم على أنّها وقعت من غير مشورة قوله : «من بايع رجلا من غير مشورة المسلمين ، فلا يبايع هو ، ولا الذي بايعه ثغرة أن يقتلا».

وأنتم تجدونه قد حكم بقتل المبايع (بكسر الياء) والمبايع (بفتح الياء) إذا وقع ذلك من غير مشورة المسلمين أجمعين ، ونحن نقول لكم ما الذي يا ترى أخرج الخليفتين (رض) عن عموم حكم الخليفة عمر (رض) بقتلهما ، وخصّه بغيرهما؟ وكيف يستقيم هذا الحكم للخليفة عمر (رض) وقد صار هو الآخر خليفة بتنصيص الخليفة أبي بكر (رض) عليه خاصّة دون مشورة المسلمين أجمعين؟ وكل ما تقولونه في غيرهما نقوله نحن فيهما (رض).

ثالثا : لو سلمنا لكم جدلا أنّها وقعت بالشورى ، ولكن الذي كان عليكم أن تعلموه بأنّ الذي أحدثوه كان شرّا بإقرارهم جميعا ، وإقرار العقلاء على أنفسهم حجّة ، ملزمون بها ، والله تعالى كما تعلمون لا يمدح الذين يوقعون الشر في البلاد ، وبين العباد ، ولا يثني عليهم أيّا كانوا ، لأنّ الشرّ قبيح محرّم منهيّ عنه شرعا وعقلا ، وهو تعالى لا يمدح على فعل المحرّم الذي نهى عنه ، وإنّما يؤاخذ فاعله ، ويعاقبه عليه ، فلا يمدحه ويثني عليه ، كما هو صريح الآية. ويؤكّد

١٩٦

لكم ما حقّقناه قول قائلها : «فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه» على ما سجّله عليه ابن حجر الهيثمي في (صواعقه) في الشبهة السادسة من شبهات كتابه ، كغيره من مؤرخي أهل السنّة وحفّاظهم.

الرابع : إنّ ما يقع عليه الشورى بين المؤمنين ، إمّا أن يكون من دين رسول الله (ص) ، أولا. فإن كان من دينه (ص) فقد أكمل الله تعالى له دينه في حياته بقوله تعالى كما مرّ : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) فلا يحتاج إكماله إلى الشورى ممّن لا يوحى إليهم ، اللهم إلّا أن يقول خصومنا بنزول الوحي على أهل السقيفة في عقدها بعد وفاة النبي (ص) ، وانقطاع الوحي ، وهذا لا يقول به من كان من الإسلام على شيء ، وإن لم يكن ما وقعت عليه الشورى من دين رسول الله (ص) فيحرم اتّباعه لأنّه مشاقة لله تعالى ولرسوله (ص) فلا يستحقون المدح عليه ، ولا يكونون مجتهدين مصيبين فيه ، ولا يجوز الأخذ به لقوله تعالى في سورة النساء آية ١١٥ : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى ، وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ، نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى ، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً).

ولا شك لمسلم في أنّ سبيل المؤمنين هو سبيل النبي (ص) ، وسبيل النبي (ص) هو دينه الذي أنزله الله تعالى عليه (ص) كاملا غير منقوص ، ولم يكن منه قطعا ما حدث في السقيفة بعد وفاته (ص) ، وحينئذ يختصّ مدحهم والثناء عليهم في خصوص تطبيقهم ما أنزل الله تعالى على رسوله (ص) ، تطبيقا كاملا لا على إدخالهم في دينه (ص) ما ليس داخلا فيه ، كما حدث ذلك فيها كما لا يخفي على أولي النهي ، فإنّهم لا يكونون من أهل هذه الآية ، ولا يدخلون في منطوقها ، ولا تنطبق عليهم أبدا.

١٩٧
١٩٨

آية (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)

قال : يقول خصومكم إنّ الله تعالى أمر نبيّه (ص) أن يشاور أصحابه في كل أمر يعود نفعه على الإسلام وفيه صلاح المسلمين بقوله تعالى في سورة آل عمران آية ١٥٩ : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ولا شك في أنّ الأمر بمشورتهم في الأمور يستلزم وجوب الأخذ بما يشيرون به ، وإذا وجب على النبي (ص) أن يأخذ بما أشاروا به عليه (ص) ، بحكم إطلاق الآية وجب أن يكونوا مصيبين فيه ، فلو لم يكونوا مصيبين لأشاروا عليه بالخطإ ، ولا شيء من الخطأ يجوز الأخذ به ، ولما وجب عليه الأخذ به مطلقا ، علمنا أنّهم مصيبون فيه ، وهذا ما يدلّ بوضوح على أنّهم كانوا مصيبين فيما تشاوروا عليه في السقيفة ، وما اتّفقوا عليه من عقد البيعة لأبي بكر (رض) بالخلافة لأنّ الآية مطلقة في صواب ما يشيرون به ، وغير مقيدة بزمان دون زمان ، ولا بشخص دون شخص.

قلت : أولا : إنّ الضمير في (وَشاوِرْهُمْ) يعود إلى جماعة المؤمنين أجمعين ، لا إلى بعضهم ، وما وقع التشاور عليه في السقيفة كان من بعضهم ، ولم يكن حاصلا من جميعهم. فلا يكونون في متناول

١٩٩

عمومها لأنّ إرادة العموم كما هو مفاد الآية لا يدلّ على إرادة الخصوص عند العلماء جمعاء.

ثانيا : إنّ الأمر بالمشورة من الله تعالى لنبيّه (ص) لم يكن لأجل الاستعانة برأيهم لافتقاره إليهم في مشورتهم ، فإنّ هذا لا يصح مع منصب النبوة (ص) ، ولا يقول به إلّا من كان جاهلا بمقام النبي (ص) ، وذلك لأنّا نعلم بالضرورة من الدّين ، والعقل ، أنّه (ص) كان معصوما من الكبائر ، والصغائر ، ومن الخطأ ، والنسيان ، وكانوا غير معصومين ، وكان (ص) أكمل من جميع المخلوقين ، وأحسنهم رأيا ، وأجودهم تدبيرا ، وأوفرهم عقلا ، وأكملهم فهما ، لا سيما أنّ الوحي كان ينزل عليه متواليا من الله تعالى بالتوفيق ، والتسديد ، والإنباء عمّا فيه صلاح الإسلام ، ونفع المسلمين ، فكيف يصحّ لمسلم أن يقول إنّه (ص) كان محتاجا إلى رأيهم مع أنّه لا يوجد فيهم إلا من هو دونه (ص) في كل شيء؟!!.

ولأنّ الرئيس إنّما يستشير غيره من رعيته ، ليستفيد ويستعين برأيه ، إذا علم ، أو ظنّ ، أنّه أوفر منه عقلا ، وأحسن رأيا ، وأجود تدبيرا. أمّا إذا علم أو ظنّ أنّه ليس فيهم إلّا من هو دونه في ذلك كلّه لم يكن لاستعانته برأيه في التدبير معنى يفهم ، إذ الكامل لا يحتاج إلى الناقص فيما فيه الكمال ، كما أنّ العالم لا يحتاج إلى الجاهل فيما يفتقر فيه إلى العلم. وهذا واضح لا يشك فيه اثنان من أهل العقل ، ويشهد لما قلناه ما في آخر الآية من قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فإنّه تعالى أناط وقوع الفعل منه (ص) بعزمه لا برأيهم ومشورتهم.

فلو كان الأمر بالمشورة وقع لأجل الاستفادة من رأيهم والاستعانة بمشورتهم لكان الخطاب بما يناسب ذلك كقوله تعالى : «فإذا أرتئوا لك رأيا فاعمل به وامض عليه» ، ولما لم يقل ذلك علمنا أنّ الأمر

٢٠٠