مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

السيد أمير محمد القزويني

مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

ترونه يبطل دعوى اجتماع أمّة النبي (ص) قاطبة على الرضا والقبول بخلافة المتقدمين على علي (ع) كما يقتضيه مفهوم الحديث. ومن المعلوم إنّ المجتمعين في السقيفة لم يكونوا إلّا بعض الأمّة فلا يكونون في متناول مدلول الحديث فالحديث حجّة لنا عليكم لا لكم.

ثالثا : لو فرضنا حصول الإجماع من جميع الأمّة ، وهذا الفرض وإن كنّا لا نقول به إلّا على سبيل التساهل معكم ، ومع ذلك فإنّه لا يصح أن يكون حجّة متّبعة ، إلّا إذا كان في ضمن المجمعين معصوم وأنتم لا تقول بالعصمة : لا في رسول الله (ص) وهو (ص) يومئذ قد التحق بالرفيق الأعلى ، ولم يكن في ضمن المجمعين على أبي بكر (رض) في السقيفة قطعا كما أنّ الشيعة لا تقول بوجوده معهم لتخلف علي (ع) المعصوم عن بيعته ، وعدم قبوله لها ، وعدم رضاه بها ، وإذا ثبت أنّه لم يكن فيهم معصوم ، ثبت عدم حجّية إجماعهم عليه وذلك لجواز الخطأ عليهم فيما اجتمعوا عليه ، لعدم وجود العاصم فيهم من الخطأ. وبعبارة أوضح إنّ كل فرد من الأمّة يجوز عليه الخطأ طبعا وكذلك المجموع فإنّ حكمه حكمة ، وذلك فإن تجويزنا خطأ الفرد والفردين والثلاثة والجميع عبارة أخرى عن ضم من يجوز عليه الخطأ إلى من يجوز عليه الخطأ فلا عاصم لهذا المركب من الفرد والفردين والأكثر من الخطأ مع انتفاء المعصوم ، على أنّه لو كان يلزم من اجتماع من يجوز عليه إصابة الحق دائما لما أوجب الله تعالى في كتابه على الناس كافة طاعته وطاعة رسوله (ص) ، والولي من بعده ، على سبيل الجزم والإطلاق بل لكان المناسب أن يقول لهم (تجب عليكم الطاعة لهم في غير صورة اجتماعكم) ولما لم يقل ذلك وأطلق علمنا عدم جواز الطاعة لإجماعهم في شيء.

رابعا : إنّ إجماعهم على أبي بكر وعمر وعثمان (رض) معارض بإجماعين اثنين :

١٢١

الأول : إجماعهم بعد صلح الحسن (ع) على معاوية بن أبي سفيان ، وطاعة يزيد بن معاوية بعد واقعة الحرّة ، وإمامة بني أمية وبني مروان بن الحكم. فكانوا جميعا مظهرين الرضا بإمامتهم وتنفيذ أحكامهم لا سيما عام معاوية الذي سمّوه بعام الجماعة. وهكذا حال أمراء بني العباس الذين قتلوا من تجب لهم الطاعة عليهم من الأمويين بحكم ما ادّعيتم من حجية مثل هذا الاجتماع من الناس عليهم لا قتلهم وقتالهم. وكل ما تقولونه من الإنكار الباطني ، والخوف ، والتقية ، وعدم الطوع ، والرضا في هؤلاء ، نقوله في المتقدمين على علي (ع).

الثاني : إجماعهم على قتل الخليفة عثمان بن عفان (رض) فإنّ الناس يومئذ كانوا بين قاتل ، ومحرّض ، وخاذل ، وكاف عن النكير ، خوفا ، أو رضا ، فإن كانت هذه أمارات الرضا والقبول عندكم ، وتوجب القطع بصحة مثل هذا الإجماع على خلافة المتقدمين على علي (ع) وتثبت خلافتهم ، ويوجب لهم الصواب ، كان جميع من تقدم ذكرهم من معاوية ومن جاء بعده إلى يومنا هذا مشاركين لهم في الإمامة ، وثبوت الزعامة الدينية لهم ، لأنّ العلة التي أوجبت الطاعة للخلفاء الثلاثة (رض) عندكم موجودة فيهم ، فيكون حكمهم واحدا لوحدة الموضوع ، الأمر الذي من أجله أوجبتم ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان (رض) من ظاهر تسليمهم ، وانقيادهم ، وعدم إنكارهم على اجتماعهم ، وعدم الخلافة عليهم رغبة أو رهبة ، فإنّ ذلك كله موجود بعينه في أولئك. وهذا كما تعلمون لا يذهب إليه من له علم ، أو شيء من الدين ، أو وازع من عقل ، لبداهة استلزامه الجمع بين النقيضين في العقيدة ، والمخالفة لكتاب الله تعالى الذي ينادي في كل ليل إذا يغشى ، أو نهار إذا تجلّى ، في سورة يونس (ع) آية ٣٢ : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) وهو يدلّ على أنّه لا واسطة بين الحق

١٢٢

والضلال وأنّهما لا يجتمعان على صعيد واحد كما أنّهما لا يرتفعان معا.

١٢٣
١٢٤

من الذي قتل الخليفة عثمان

قال : إنّ الذين اجتمعوا على قتل الخليفة عثمان بن عفان (رض) لم يكونوا من الصحابة ، بل كانوا غيرهم ، وهذا بخلاف المجتمعين في السقيفة على أبي بكر (رض) فإنّهم كانوا من الصحابة فكيف يا ترى يصحّ لكم أن تساووا بين الاجتماعين ، وتعطوهما حكما واحدا وهما مختلفان موضوعا ومحمولا ، وقياسا؟.

قلت : لا يخفى عليكم ما لا يخفى على غيركم إنّ مجرّد القول بأنّ المجتمعين على قتل الخليفة عثمان (رض) لم يكونوا من الصحابة ، لا يكون دليلا على نفيه عنهم ولو سلمنا لكم جدلا أنّهم لم يكونوا منهم ، ولم نطالبكم بأنّ تخبرونا من هم إن لم يكونوا هم ولكن الذي كان عليكم أن تفهموه هو أن اجتماعهم على قتله (رض) كان بمرأى منهم ، ومسمع ، ومنتدى ، ومجمع ، فلم يمنعوهم ، ولم ينكروا عليهم فإن كان ذلك علامة الرضا من الصحابة بفعلهم كانوا مشاركين لهم في قتله (رض) بدليل قوله تعالى في سورة الشمس آية ١٤ في قصة ناقة نبي الله تعالى صالح (ع) (فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها) فأضاف تعالى عقرها إليهم جميعا مع أنّ العاقر لها كان واحدا وهو (قدار بن سلاف) ويلقّب ب (أحيمر ثمود) ومن حيث أنّهم رضوا

١٢٥

بفعله ، ولم ينكروه عليه ، ولم يمنعوه منه ، أشركهم الله تعالى معه في قتلها فاستحقّوا العقاب معه ، فكذلك الحال في الخليفة عثمان (رض) مع الصحابة من هذا القبيل ، وإن لم يكن سكوتهم عن قتله علامة الرضا والقبول بفعلهم لم يكن ذلك أيضا علامة الرضا والقبول في المجتمعين على المتقدمين على علي (ع) كما ألمعنا.

١٢٦

قول الإمام ابن تيمية في الإجماع

وأمّا ما قاله الإمام ابن تيمية فيما حكاه عنه الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه (نظرية الإمامة عند الشيعة) ص ١١٧ فنقول في جوابه :

لقد فات الإمام ابن تيمية كما فات عليكم وعلى الدكتور أحمد ما في مقاله من الخلل الواضح وهو إنّ جواز الخطأ على الواحد والاثنين والأكثر من أفراد الأمّة ليس أمرا اختياريا ومقدورا لهم بخلاف الأمثلة المذكورة فإنّها أمور اختيارية مقدورة لهم يمكنهم إثباتها كما يمكنهم نفيها ، وبتعبير أوضح ، إنّ الإنسان قادر على أن يكثر من اللقم ليشبع ، وقادر على عكسه ، وقادر على كسر العصا والسهم الواحد ، وقادر على أن يجمع من كل منهما ما يتعذّر عليه كسره ، وقادر على قتال العدو إذا استعان بغيره ، وأجابه ذلك الغير ، وقادر على ترك قتاله ، إذا علم من نفسه عدم القدرة على قتاله ، ولم يجبه من استعان به على قتاله ، ولكنه غير قادر مطلقا أبدا على أن يمنع عن نفسه الخطأ ، أو السهو ، أو النسيان ، فضلا من أن يكون قادرا على منعه عن غيره وغيره مثله ، وهلم جرا. ولو اجتمعوا جميعا وذلك لدخول الأول في مقدوره واختياره وخروج الثاني عنهما فلا يصحّ قياس ما بالاختيار على ما ليس

١٢٧

بالاختيار حتى عند القائلين بجواز القياس لاختلافهما أصلا وفرعا ، وكذلك الحال في اجتماع أهل التواتر على الرواية المانع عنه الكذب لأنّ كلا من الصدق والكذب مقدور لهم ، فهم قادرون على أن يصدقوا ، وقادرون على أن يكذبوا ، ولكن لا يقدرون على أن لا يخطئوا ، ولأنّ اجتماعهم على الرواية لو ثبت فهو يعني حجّية الرواية المتصلة بالمعصوم (ع) لا حجّية اجتماعهم الخالي عن قوله (ع) لأنّ قول المعصوم (ع) هو الحجّة لا قول غيره وكم من فرق بين حجية اجتماعهم وبين حجية قول المعصوم (ع) الذي نقلوه على نحو التواتر المفيد للعلم لقيام الدليل من الكتاب والسنّة والعقل على عدم حجّية اجتماعهم في نفسه إذا كان عار عن قول المعصوم (ع).

خامسا : إنّ إمكان اجتماع جميع الأمّة كما هو مفاد الحديث على أمر واحد في وقت واحد ، الذي هو شرط حجيّة الإجماع ، شيء لا يمكن لأحد من العقلاء تصديقه ، ولذا قال الإمام أحمد بن حنبل : «من ادّعى وجود الإجماع فهو كاذب» على ما نقله عنه الآمدي في ص ٢٨٢ وما بعدها من كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) من جزئه الأول من النسخة المطبوعة سنة ١٣٣٢ هجرية.

سادسا : إنّ ما جئتم به من الحديث معارض بالحديث الصحيح من المتّفق عليه بين الفريقين وهو ما أخرجه النووي المتثبت في نقد الحديث ومعرفة طرقه عند أهل السنّة في شرحه لصحيح مسلم في آخر ص ١٤٣ من جزئه الثاني في باب لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم (فقال : وهو أصحّ ما يستدلّ به وأمّا حديث لا تجتمع أمّتي على ضلال فضعيف).

فيجب طرح الضعيف لأجل الصحيح ويقول ابن حجر الهيثمي في ص ١٢٠ من (صواعقه) في الفصل الثاني من الباب التاسع : (لم

١٢٨

يأت بعد النووي من يدانيه في علم الحديث وناهيك به معرفة بالحديث وطرقه).

١٢٩
١٣٠

الطائفة التي على الحق

وأخرجه الإمام البخاري في صحيحه ص ١٧٤ من جزئه الرابع في باب قول النبي (ص) لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق.

وأنتم لو أنعمتم النظر في هذا الحديث لعلمتم باليقين أنّه لا ينطق على غير أئمة الشيعة من أهل بيت رسول الله (ص) كما يدلّكم عليه وصفه (ص) لها ب (الطائفة) المشعر بالقلّة ، بدليل قوله تعالى في سورة التوبة آية ١٢٢ : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) ولا شك في أنّ أئمة الشيعة بالنسبة إلى غيرهم من علماء الفرق الإسلامية قليلة فيصدق عليهم صفة الطائفة في منطوق الحديث ولا يصدق لذلك على غيرهم فتكون هي المعنية فيه لا سواهم مطلقا.

وأمّا قوله (ص) «وهم ظاهرون على الحق أو على الناس» فإنّه يريد ظهورهم بالحجج والبراهين بدليل قوله (ص) : «لا يضرّهم من خذلهم أو خالفهم» ولا يريد ظهورهم بالسيف والسنان ، وإلّا لزمكم أن تقولوا ببطلان قوله (ص) «لا يضرّهم من خذلهم أو خالفهم» لوضوح عدم إمكان اجتماع خذلان الناس لهم أو مخالفتهم مع ظهورهم

١٣١

بالسيف والسنان عليهم والقول ببطلان قول النبي (ص) كفر وضلال.

الحديث لا يريد أئمة أهل السنّة وعلماءهم

قال : يقول خصومكم إنّ النبي (ص) أراد بالطائفة في حديثه أئمة أهل السنّة وعلماءها ، لأنّهم طائفة من أمّته (ص) ، وقائمة بالحق ، وظاهرة على الناس بالحجج والدلالات ، فتخصيصكم ذلك بخصوص أئمة الشيعة تخصيص بلا مخصص ، وترجيح بلا مرجح ، وكلاهما باطلان شرعا وعقلا.

قلت أولا : إنّ الذي كان عليكم أن تدركوه هو أنّ أئمة أهل السنّة وعلماءهم قد خالف بعضهم بعضا في أصول الدين وفروعه ، فلو أرادهم رسول الله (ص) ، لزمكم أن تقولوا ببطلان قوله (ص) : «لا يضرّهم من خالفهم» وبطلان قوله (ص) : «ظاهرين على الحقّ» لأنّ الحق لا خلاف فيه مطلقا ، ولا يمكن أن يكون خلاف الحق حقا بدليل قوله تعالى فيما تقدّم : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) وتخصيص ذلك ببعضهم دون بعض تخصيص بلا مخصص ، وترجيح بلا مرجح ، وكلاهما باطلان. فهذا الخلاف الواقع بينهم يمنع منعا باتّا من شمول الحديث لهم بخلاف أئمة الشيعة الذين هم أئمة أهل بيت النبي (ص) ـ وهم أدرى بما فيه من غيرهم ـ فإنّه لا خلاف بينهم ، لأنّ قولهم واحد وحديثهم واحد ، وقد تلقّوه عن جدّهم النبي الأعظم (ص) لذا يقول شاعرهم :

فشايع أناسا قولهم ، وحديثهم ؛

روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري

ثانيا : إنّ الحديث صريح في عصمة تلك الطائفة بدليل أنّها لا تزال ظاهرة على الحق دائما ، وكل من كان ظاهرا على الحق دائما مصيب دائما ، وكل مصيب دائما معصوم ، فتكون تلك الطائفة

١٣٢

معصومة ، ودليل كل من صغرى القياس وكبراه قطعي ، لأنّها لو لم تكن معصومة لخالفت الحق مطلقا ، خطأ أو عمدا ، ولا شيء من خلاف الحق مطلقا بحق ، ولما لم تزل ظاهرة على الحق مطلقا ، ثبت أنّها معصومة. ولا قائل بالعصمة لغير الأئمة من البيت النبوي (ص) بالإجماع.

ثالثا : نحن لم نجد في أدلّة المسلمين من الكتاب والسنّة ما يشير إلى وجوب رجوع الناس إلى واحد من أئمة هذه المذاهب ، ولم نجد ما يثبت وجود واحد منهم في زمان النبي (ص) فكيف يا ترى يمكن حمل الحديث عليهم ، وهم لا وجود لهم في عصره (ص) ، ولم يأت على ذكر واحد منهم في حديثه؟ وأين هم من عصر النبي (ص) وقد ولد الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت سنة (٨٠ ه‍) ومات سنة (١٥٠ ه‍) على ما سجّله ابن خلكان في (وفيات الأعيان ص ١٦٣ و ١٦٦ من جزئه الثاني) ويقول في ص ٤٢٩ من جزئه الأول : (ولد الإمام مالك سنة (٩٥ ه‍) ومات سنة (١٧٩ ه‍)) وقال في ص ٤٤٧ من جزئه الأول : (ولد الإمام محمد بن إدريس الشافعي سنة (١٥٠ ه‍) ومات سنة (٢٠٤ ه‍)) ويقول في ١٧ من جزئه الأول : (ولد الإمام أحمد بن حنبل سنة (١٦٤ ه‍) ومات سنة (٢٤١ ه‍)).

فإن كنتم تجدون في كتاب الله وسنّة نبيّه (ص) ما يشعر بوجوب رجوع المسلمين في أخذ أحكام دينهم إلى واحد من هؤلاء الأربعة وأنّ الآخذ منهم مبرئ للذمة ، ومسقط للمسئولية ، أمام الله تعالى يوم القيامة فاذكروه لنا ليكون الناس على بصيرة من أمر دينهم ، وهيهات لكم ذلك لأنّ كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه (ص) خاليان من ذلك وأنتم تعلمون!.

١٣٣
١٣٤

حديث الحوض والبطانتين

وأمّا من تقدّم على هؤلاء الأئمة الأربعة من أصحاب رسول الله (ص) فإنّ الحديث لا يتناول جمهورهم ، وذلك لما أخرجه البخاري في صحيحه في أواخر ص ٨٥ في باب وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم من جزئه الثاني عن النبي (ص) أنه قال : «يجاء برجال يوم القيامة فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول يا ربّ أصحابي! فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم القهقرى منذ فارقتهم». وأخرج إلينا في صحيحه ص ٩٤ من جزئه الرابع في باب الحوض كغيره من أهل الصحاح بإسناده عن أبي هريرة عن النبي (ص) أنّه قال : «بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، قلت : أين؟ فقال إلى النار والله قلت : ما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا على أعقابهم القهقرى ، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلم ، قلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم؟ قالوا : إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى فلا أرى يخلص منهم إلّا مثل همل النعم» وأنتم تعلمون أنّ همل النعم كما في قواميس اللغة ضوال الإبل ، ويعني هذا أنّ الناجي من أصحابه من النار في قلّة النعم الضّالة وأخرج أيضا

١٣٥

في ص ١٥٠ من جزئه الرابع من صحيحه في باب بطانة الإمام وأهل مشورته عن أبي سعيد وأبي أيوب وأبي هريرة بأسانيدهم عن رسول الله (ص) أنّه قال : «ما بعث الله من نبي ، ولا استخلف من خليفة إلّا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه وبطانة تأمره بالشرّ وتحضّه عليه والمعصوم من عصمه الله تعالى».

وأخرج أيضا في ص ٣٠ من صحيحه في باب غزوة الحديبية من جزئه الثالث عن العلاء بن المسيب قال : «لقيت البراء بن عازب فقلت له : طوبى لك ، صحبت النبي (ص) ، وبايعته تحت الشجرة! فقال : يا ابن أخي ما تدري ما أحدثنا بعده».

ونحن لم نجد شيئا أحدثوه بعد النبي (ص) سوى بيعة السقيفة التي من أجلها أوّلوا النصوص النبويّة الصحيحة الصريحة في خلافة علي (ع) بعده (ص) وخالفوا مداليها وحملوها على معان لا صلة بينها وبينها تصحيحا لما أحدثوه يومئذ فيها ، فإن كنتم تجدون شيئا آخر غيرها قد أحدثوه بعد النبي (ص) فاخبرونا عنه ، لنكن لكم من الشاكرين (وشرّ الأمور محدثاتها).

كما جاء التنصيص عليه في حديث الرسول (ص) ولذلك قال الخليفة عمر (رض) فيما تواتر عنه : «كانت بيعة أبي بكر فلتة ، وقى الله شرّها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه» وبعد هذا كلّه لا أراكم تشكون في أنّ الحديث لا ينطبق منه شيء عليهم وأنّه لا يريد أحد الأئمة من البيت النبوي (ص) خاصة والتابعين لهم من شيعتهم في أصول الدين وفروعه وأدلّته في مكانه ، وأنّهم هم الطائفة التي لا تزال على الحقّ ، وظاهرين على الناس بالآيات الباهرة ، والأدلّة النيرة المنيرة المقنعة التي تنقاد لها أعناق المنصفين من النقّاد ، لا يضرّهم من خذلهم أو خالفهم من الناس ما داموا متمسكين بحبل الله المتين وسائرين على

١٣٦

الصراط المستقيم ، وأنّهم هم الناجون من النار بانحرافهم عن أصحاب النار ، وأنّهم هم الشاكرون لله تعالى بتمسّكهم بثقلي رسول الله (ص) كتاب الله تعالى وعترته أهل بيته (ص) اللذين لن يفترقا حتى يردّا عليه الحوض وابتعادهم عن المرتدين القهقرى ، وترفّعهم عن المنقلبين على الأعقاب منذ فارقهم النبي (ص) كما جاء التنصيص على ذلك كلّه في الحديث.

وفي القرآن يقول الله تعالى مخاطبا أصحاب نبيّه (ص) في سورة آل عمران آية ١٤٤ : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) وأنتم تعلمون أنّ هذه الآية نزلت في واقعة (أحد) والخطاب فيها موجّه إلى أصحاب النبي الذين حضروا تلك الواقعة لا إلى غيرهم وهي تفيد كحديث البخاري المتقدم في باب الحوض بأنّ في أصحاب رسول الله (ص) المنقلب على الأعقاب ، وأنّهم جمهورهم ، وفيهم الشاكرون وإنّهم قليلون في قلّة همل النعم بدليل قوله تعالى فيما تقدم : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) وقوله (ص) : «فلا أرى يخلص منهم (أي من النار) إلّا مثل همل النعم».

وشيء آخر إنّ الحديث كما قدمنا صريح في عصمة تلك الطائفة والعصمة منفية عن الصحابة لا سيما من جاءت الآية على ذكرهم والحديث على وصفهم فلا يمكن أن يتناولهم بمنطوقه ، ولا يكونوا من صغرياته.

بعض موارد اختلاف أئمة أهل السنّة

وأمّا موارد مخالفة أئمة أهل السنّة بعضهم لبعض فكثيرة نورد لكم بعضها لتكونوا على يقين من صحة ما قلناه :

١٣٧

فمنها : اختلافهم في كفن الزوجة فبعضهم يقول بوجوبه على الزوج ، وآخر يقول بعدم وجوبه عليه كما في كتاب (الفتاوى الخيرية) ص ١٤ من جزئه الثاني.

ومنها : اختلافهم في النكاح إذا كان بغير لفظه الدال عليه ، فقال بعضهم : بانعقاده ، وآخر يقول لا ينعقد كما في ص ١٩ من (الفتاوى الخيرية) من جزئه الثاني.

ومنها : في المرأة إذا تزوجت غير الكفوء بلا رضا أوليائها فأفتى الكثير منهم بعدم انعقاده ، وقال الأكثرون بانعقاده كما في ص ٢٥ من الكتاب المتقدم.

ومنها : ما فيه ص ٣٢ إذا مسّ الرجل ذكره فقال بعضهم بانتقاض وضوئه وقال آخر لا ينقضه كما في ص ٣٢ من كتاب (الروضة الندية في شرح الدرر البهية).

ومنها : قول بعضهم ببطلان الصلاة بمرور المرأة ، والكلب الأسود ، والحمار ، أمام المصلّي كما في كتاب (الرحمة) بهامش الجزء الأول من كتاب (ميزان الشعراني) ص ٣٩ من الطبعة الثالثة التي كانت سنة ١٣٤٤ هجرية وبعضهم قال بعدم بطلانها بذلك.

ومنها : قول أبي حنيفة أنّه لا يجب التسليم في الصلاة وقول الثلاثة بوجوبه كما في (ميزان الشعراني) ص ١٤٥ من جزئه الأول.

ومنها : قول أبي حنيفة بوجوب القصر في السفر ، وقول الثلاثة بعدم وجوبه كما في ص ٧٣ من كتاب الرحمة بهامش الجزء الأول من (ميزان الشعراني).

ومنها : قول بعض الأئمة بوجوب الأذان والإقامة وبعضهم بعدم

١٣٨

وجوبهما وأنّهما سنّة كما في ص ١٣٢ من الميزان للشعراني من جزئه الأول.

ومنها : قول بعضهم بشرطية الستر في الصلاة وبعضهم أنّه ليس بشرط كما في ص ١٣٥ من (ميزان الشعراني) من جزئه الأول.

ومنها : قول بعضهم بوجوب غسل اليدين قبل الوضوء وقول بعضهم بعدم وجوبه كما في ص ١١٦ من (ميزان الشعراني) من جزئه الأول.

ومنها : قول أبي حنيفة بعدم وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ، وقول الثلاثة بوجوبها كما في ص ١٤٠ من (ميزان الشعراني) من جزئه الأول.

ومنها : قول بعضهم بوجوب التسمية عند الوضوء ، وقول بعضهم أنّه ليس بواجب كما في ص ١١٦ من (ميزان الشعراني) من جزئه الأول.

ومنها : قول مالك وأحمد بوجوب مسح جميع الرأس في الوضوء ، وقول أبي حنيفة والشافعي بوجوب مسح البعض ، واختلفا في قدره كما في ١١٧ من (ميزان الشعراني) من جزئه الأول.

ومنها : قول الأئمة الثلاثة إنّ المسح على العمامة لا يجزي ، وقول الإمام أحمد أنّه يجزي كما في ١١٧ من (ميزان الشعراني) من جزئه الأول.

ومنها : قول الإمام أبي حنيفة والإمام مالك بعدم وجوب الترتيب في الوضوء ، وقول الإمام أحمد والإمام الشافعي بوجوبه فيه كما في ص ١١٩ من (ميزان الشعراني) من جزئه الأول.

ومنها : قول الإمام أبي حنيفة أنّه لا يتعيّن لفظ الله أكبر بل

١٣٩

تنعقد الصلاة بكل لفظ يعطي التعظيم مثل الله العظيم ، والجليل ، وقول الإمام الشافعي أنّه يتعيّن لفظ الله أكبر فقط كما في ص ١٣٧ من (ميزان الشعراني) من جزئه الأول.

ومنها : قول الإمام أبي حنيفة بجواز القراءة بالفارسية ، وقول الأئمة الثلاثة إنّه لا تجزي القراءة بغير العربية كما في ص ١٤٣ من (ميزان الشعراني) من جزئه الأول. إلى كثير من الموارد التي اختلفت آراؤهم وأنظارهم فيها في جميع أبواب الفقه فما يضيق المقام عن نقل عشرها وإن أردتم الوقوف على أكثر منها فراجعوا كتبهم الفقهية ، فإنّكم تجدون الكثير من هذا القبيل. مع أنّ فعل رسول الله (ص) في كل مورد من تلك الموارد واحد ، وسنّته واحدة ، وقوله واحد ، وتقريره واحد ، لا تضادّ فيه ، ولا تناقض ، ولا يتبدّل أبدا ، ولا يتغير مطلقا فعلى أيّها يا ترى كان رسول الله (ص)؟ وبأيّها كان يعمل؟ وأيها باطل؟ وأيها صحيح؟ وأيّها يمكن ترجيحه؟ وما هو ذلك المرجّح الذي يمكن الركون إليه والاعتماد عليه في الترجيح لئلا يلزم الترجيح بلا مرجّح الباطل؟ فهذه أسئلة يجب الجواب عنها.

والذي لا نشك فيه أنّه (ص) كان يعمل بما كان يعمل به أهل بيته الأطهار ، والأئمة المعصومون الأبرار ، الذين قرنهم بالكتاب ، وجعلهم قدوة لأولي الألباب ، لأنّ قولهم (ع) واحد ، وتقريرهم واحد ، وهداهم واحد ، لا يتناقض بحال ، وهو ما كان عليه جدّهم رسول الله (ص) ، وسيد الأنبياء ، لذا فإنّ الشيعة تمسّكوا بأذيال طهارتهم ، وانقطعوا إليهم ، وانحرفوا عن غيرهم ، كائنا من كان ، ولسان حال كل واحد منهم يقول :

فخل عليّا لي إماما ونسله

وأنت من الباقين في أوسع الحل

وأمّا اختلافهم في أصول العقائد ، فإن أردتم الوقوف عليه

١٤٠