مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

السيد أمير محمد القزويني

مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

(تلخيصه) ص ٥٩ من جزئه الثالث وصحّحاه على شرط البخاري ومسلم ، وأخرج الحاكم في (صحيح المستدرك) ص ١١١ من جزئه الثالث.

عن ابن عباس أنّ لعلي بن أبي طالب أربع خصال ليست لأحد غيره :

هو أوّل من صلّى مع رسول الله (ص).

وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف ، وهو الذي صبر معه يوم فرّ عنه غيره ،

وهو الذي غسّله وأدخله قبره).

وقد تضافرت النصوص بأنّ النبي (ص) عهد إلى علي (ع) بأنّ يبيّن لأمّته ما اختلفوا فيه من بعده على ما أخرجه الحاكم في (مستدركه) من جزئه الثالث في باب فضائل علي (ع) ، وأمّا كونه خليفته فبدليل ما تقدم من آية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وقوله (ص) : «لا ينبغي أن أذهب إلّا وأنت خليفتي» الذي سجّله الإمام أحمد بن حنبل في (مسنده) في حديث بضع عشرة فضيلة كانت لعلي (ع) لم تكن لغيره في آخر ص ٣٣٠ من جزئه الأول من حديث ابن عباس.

ثم يأتي من بعد علي (ع) في السبق والهجرة عمّ رسول الله (ص) حمزة بن عبد المطلب أسد الله تعالى ، وأسد رسوله (ص) ، وسيد الشهداء ، وابن عمّ رسول الله (ص) جعفر بن أبي طالب (ع) ، الطيّار مع الملائكة في الجنّة ، وابن عمّ رسول الله (ص) عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، فهؤلاء صلوات الله عليهم أجمعين هم الذين سبقوا إلى الإيمان ، وخرجوا في مواساة النبي (ص) عن الديار والأوطان ، وأثنى الله تعالى عليهم في محكم القرآن ، وأبلوا دون الخلفاء (رض) في

١٠١

الجهاد ، وبارزوا الأبطال ، وكافحوا الشجعان ، وأقاموا عمود الدين ، وشيّدوا دعائم الإسلام.

ثانيا : لو سلّمنا لكم تنازلا أنّهم من وجوه أصحاب النبي (ص) والمهاجرين السابقين إلى الإسلام ، إلّا أنّ ذلك لا يمنعهم من دفع علي (ع) عن حقّه ، والخلاف عليه فيما استحقّه ، لأنّه لا يوجب لهم العصمة من الخطأ ، ولا يرفع عنهم جواز الغلط والنسيان ، ولا يحيل عليهم تعمد العناد.

انظروا كيف ارتكب شركاؤهم في الصحبة والهجرة والسبق إلى الإسلام على ما تدّعون ، حين رجع الأمر إلى علي (ع) باختيار الجمهور منهم ، فنكث طلحة والزبير وقد كانا بايعاه على الطوع والاختيار ، وطلحة نظير الخليفة أبي بكر (رض) والزبير أجلّ منهما على كل حال ، لأنّهما أيضا من العشرة الذين تزعمون أنّ رسول الله (ص) بشّرهم بالجنّة.

وهذا سعد بن أبي وقّاص قد فارق عليّا (ع) وهو أقدم إسلاما من أبي بكر (رض) وأشرف منه في النسب ، وأكرم في الحسب ، وأحسن آثارا من الخلفاء الثلاثة في الجهاد ، وتابعه على مفارقة علي (ع) وخذلانه محمد بن مسلمة وهو من رؤساء الأنصار ، واقتفى أثرهم في ذلك.

وزاد عليهم بإظهار سبّه والبراءة منه حسان بن ثابت ومعاوية بن أبي سفيان وذلك أبو موسى الأشعري الذي له من السبق والصحبة ما لا تجهلونه وقد علمتم عداوتهم لعلي (ع) ، وإظهارهم سبّه ، والقنوت عليه في الصلوات ، وفي سائر الأوقات ، بل لو كانت الصحبة بذاتها تمنع من الخطأ لمنعت مالك بن نويرة وهو صاحب رسول الله (ص)

١٠٢

وعامله على الصدقات ومن تبعه من المسلمين عن الردّة على ما تزعمون.

١٠٣
١٠٤

الصحبة لا تمنع من الخطأ

ولو كانت الصحبة بمجرّدها تمنع من الخطأ لمنعت صحبة السامري لنبي الله تعالى موسى بن عمران (ع) مع عظيم محلّه عنده ، وقربه لديه من الضلال باتّخاذه العجل والشرك بالله تعالى ، ولاستحال أيضا على أصحاب موسى (ع) كليم الله تعالى وهم ستمائة ألف إنسان أن يجتمعوا على خلاف نبيّهم وهو حيّ بين أظهرهم ، وخالفوا خليفته هارون (ع) مع دعوته لهم ، ووعظه إيّاهم ، وتحذيره لهم من الخلاف ، وهم لا يصغون إلى شيء من قوله ، ويعكفون على عبادة العجل من دون الله تعالى ، وقد شاهدوا الآيات والمعجزات ، وعرفوا الحجج والبيّنات ، كما نطق بذلك كلّه القرآن بل لو كان ذلك مانعا من الإثم والضلال لكان أصحاب عيسى معصومين من الارتداد في حين أنّهم فارقوه وعصوا أمره ، وغيّروا شرعه ، وافتروا عليه بأنّه (ع) كان يأمرهم بعبادته ، واتّخاذه إلها من دون الله تعالى ، تعمّدا منهم للكفر والضلال وإقداما منهم على العناد من غير شبهة ، ولا سهو ، ولا غفلة ، ولا نسيان ، على ما قصّه الله تعالى في القرآن.

١٠٥

أمير المؤمنين علي (ع) لم يقرّ القوم على فعلهم

قال : لقد تحقّق لدينا بما أدليتموه أنّ الصحبة بذاتها لا تمنع من الوقوع في الخطأ ولكن إذا كان الأمر على ما ذكرتم من دفع القوم عليّا (ع) عن حقّه فلما ذا يا ترى أقرّهم على ذلك ، ولم ينازعهم فيه ، واتبعهم عليه المهاجرون والأنصار؟ فلو لم يكن راضيا بإمامتهم لجاهدهم كما جاهد الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين ، في صفين ، والجمل ، والنهروان.

قلت : لو أنّكم وقفتم قليلا : على ما سجّله التاريخ الصحيح ، وصحيح الحديث ، لعلمتم أنّه (ع) لم يقرّهم على ذلك كما لم يقرّهم عليه جميع المسلمين ، ولم يتّبعهم عليه سائر الأنصار ، وإن رضي بذلك أكثرهم ، إلّا أنّ رضى أكثرهم لا يكون دليلا علميا على صوابهم وأن الحقّ في جانبهم ، كما صرّح بذلك كثير من آيات الكتاب العزيز.

فعل الأكثرين لا يكون دليلا على الصواب

فمن ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام آية ١١٦ : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

وقال تعالى في سورة ص آية ٢٤ : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ).

وقال تعالى في سورة سبأ آية ١٧ : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ).

وقال تعالى في سورة الأعراف آية ١٠٢ : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ).

وقال تعالى في سورة الفرقان آية ٥٠ : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً).

١٠٦

وقال تعالى في سورة يونس آية ٦٢ : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).

وقال تعالى في سورة يوسف آية ١٠٣ : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).

وقال تعالى في سورة يوسف آية ١٠٩ : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).

وقال تعالى في سورة الأنبياء آية ٢٤ : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ).

وقال تعالى في سورة النحل آية ٨٣ : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ).

إلى كثير من أمثالها يطول الحديث بذكرها ، وكلّها تدلّ على أنّ الحقّ لا يكون دائما بجانب الكثرة ، وإنّما يكون غالبا بجانب القلّة ، على إنّكم لو ألقيتم نظرة على حال الناس ، من مبدأ الخليقة إلى يومنا هذا ، لرأيتم أن أكثرهم على مرّ الأيام عصاة لله تعالى والمخلص المطيع منهم قليل ، والأكثر منهم جهّال ، والعلماء فيهم قليلون ، وأهل المروءة والصون فيهم آحاد ، وأهل الفضائل والمناقب أفراد ، وهذا ما لا شكّ فيه ولا ارتياب ، ومن ذلك تعلمون علم اليقين أنّ الأكثر لا يكون ميزانا للحكم عليه بالصواب ، وإنّ المدار في معرفة الحق والصواب على الدليل والبرهان.

الناس يظهرون الطاعة لكل من حصل له السلطة مطلقا

ثم كيف يذهب عن بالكم وأنتم ترون أنّه لم يتمكن قط متملك إلّا وكان حال الناس معه كحالهم مع الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان (رض) وهذه عادة مستمرة من مبدأ الأمر إلى وقتنا هذا وما

١٠٧

بعده؟ ألم تر كيف كان حال الناس مع معاوية بن أبي سفيان حين ظهر أمره عند صلح الإمام الحسن سبط النبي (ص) ، وريحانته من الدنيا ، وسيد شباب أهل الجنّة ، على ما سجّله البخاري في صحيحه في باب مناقبه من جزئه الثاني ، وسكوت الجميع عنه ، وهم يرونه ويسمعونه يسبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) على المنابر والمنائر ، ويقنت عليه في دبر كل صلاة وفي سائر الأوقات حتى شبّ على ذلك صغيرهم ، وهرم عليه كبيرهم ، وكان يضرب رقاب المسلمين على الولاية له (ع) ويحرّض الناس على سبّه ، وقد مرّ عليكم ما سجّله الإمام مسلم في صحيحه من أمره سعد بن أبي وقاص بسبّه (ع) وكان يعطى الأموال على البراءة منه (ع) ، وصرف الفضائل عنه (ع) ، ووضع المثالب فيه؟ ألم تشاهدوا حالهم مع يزيد بن معاوية وقتل الإمام الحسين ابن بنت رسول الله (ص) ، وحبيبه ، وقرّة عينه ، وريحانته من الدنيا ، وسيد شباب أهل الجنّة ، ظلما وعدوانا وسبي أهله ، ونسائه ، وذراريه ، وهتكهم بين الملأ ، وسيرهم على أقتاب المطايا ، في البراري والقفار ، من كربلاء إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى الشام ، واستباح حرم النبي (ص) في واقعة الحرّة ، وما أدراك ما واقعة الحرّة! تلك الواقعة التي سفك فيها دماء المسلمين ، وأباحها لجيشه ثلاثا ، وأظهر الردّة عن الإسلام على ما حكى ذلك كل من جاء على ذكرهم من مؤرّخي أهل السنّة وحفّاظهم كالطبري ، وابن الأثير في تاريخيهما ، وابن حجر الهيتمي في (صواعقه) ، وابن الجوزي في تذكرته ، وغيرهم من أهل السير وهكذا لم يزل الأمر في الأمّة يجري بعد يزيد من طغاة بني أمية وجبابرتهم وآل مروان وعمّالهم بل كان هذا ديدن الناس من عهد نبي الله آدم (ع) وبعده إلى الآن.

فنجم ممّا لخّصناه أنّ الناس دائما في سائر الأدوار بمختلف الأجيال ، ينظرون إلى من حصلت له السلطة بالاتفاق فينقادون إليه ،

١٠٨

ويطيعونه ، ويقدمون أنفسهم قرابين في سبيل تعزيز سلطانه ، ويفدونه بأنفسهم ، وأحوالهم ، وأهليهم سواء أكان سلطانه من الله تعالى كما في الأنبياء (ع) وخلفائهم (ع) ، أو من الشيطان كما في المردة ، والجبابرة ، البغاة ، وسواء أكان عادلا فيهم ، أو ظالما جائرا.

ولو تأملتم قليلا لظهر لكم بالعيان إنّ الأكثرين في كثير من الحالات يبتعدون عن أولياء الله تعالى ، ويخالفون أنبياءه وخلفاء أنبياؤه (ع) ، ويسفكون دماءهم ، ويتّفقون على طاعة أعداء الله تعالى ، وينقادون إليهم على الطوع والاختيار. وكم يتّفق للظالم المتغلب والناقص الغبي الجاهل الالتفاف من أكثر الناس حوله ، والرضا به ، والطاعة له ، فتنقاد له الأمور على ما يشاء ويهوى ، ويختلف على العادل المستحق ، والعالم الكامل ، فتضطرب عليه الأمور ، وتكثر له المعارضات ، وتحدث في ولايته المنازعات والفتن وليس يخفى على مثلكم ما جرى على كثير من أنبياء الله تعالى من الطرد ، والتشريد ، والأذى ، والقتل ، والردّ عليهم ، والتكذيب لدعواهم ، والاستخفاف بهم ، والاستهزاء منهم ، والانصراف عن تلبيتهم ، والاجتماع على خلافهم ، والاستحلال لدمائهم ، فكانت للنماردة ، والفراعنة ، وملوك الفرس ، والروم ، من الأتباع على الكفر والضلال ما لا يمكن لمن سمع كتاب الله تعالى وتلا آياته أن يخدش في شيء ممّا ذكرنا أو يناقش فيه.

وإنّما تلونا عليكم ذلك كلّه لتعلموا ثمّة أنّ الاجتماع في حدّ ذاته لا يكون امتيازا في إثبات الحقّ ، كما لا يكون انصراف الناس برهانا في إثبات الباطل ، وإنّما الأمر في هذين الموضوعين يدور مدار البراهين ، والآيات ، والحجج ، والدلالات ، لوجود الاجتماع على الخطأ والضلال ، والاختلاف على الهدى والصواب من أكثر الناس.

١٠٩
١١٠

أمير المؤمنين علي (ع)

له أسوة بسبعة من الأنبياء (ع)

وأمّا ترك علي (ع) جهاد المتقدمين عليه بالسيف والسنان فحسبك في جوابه قوله (ع) فيما تضافر عنه نقله ، وحكاه ابن أبي الحديد في (شرح النهج) وغيره من مؤرّخي أهل السنّة ، حيث يقول (ع) : «لو لا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله تعالى على أولياء الأمر ، أن لا يقرّوا على كظّة ظالم ، أو سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ...».

وأنتم ترون أنّ قوله (ع) هذا صريح في أنّه عليه‌السلام إنّما ترك جهاد المتقدّمين عليه لعدم وجود الناصر وجاهد الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين ، لوجود الأنصار ، ولأنّ في جهاده المتقدمين عليه ذهاب الدين بأصوله ، وفروعه ، وأدلّته ، وأحكامه ، كما لا يخفى عليكم وعلى من له أدنى فطنة بخلاف الطوائف الثلاث. ولقد قال عليه‌السلام في جواب من قال لم لم ينازع علي (ع) الخلفاء الثلاثة (رض) كما نازع طلحة والزبير ومعاوية وإليكم قوله (ع) «إنّ لي بسبعة من الأنبياء أسوة :

الأول : نوح (ع) قال الله تعالى مخبرا عنه في سورة القمر

١١١

آية ١٠ : (رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) فإن قالوا لم يكن مغلوبا فقد كذبوا القرآن وإن قالوا كان كذلك فعلي (ع) أعذر.

الثاني : إبراهيم الخليل (ع) حيث حكى الله تعالى عنه قوله في سورة مريم آية ٤٨ : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) فإن قالوا اعتزلهم من غير مكروه ، فقد كفروا ، وإن قالوا رأى المكروه فاعتزلهم فعلي (ع) أعذر.

الثالث : ابن خالة إبراهيم نبي الله تعالى لوط (ع) ، إذ قال لقومه على ما حكاه الله تعالى في سورة هود (ع) آية ٨١ : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) فإن قالوا كان له بهم قوّة فقد كذبوا القرآن ، وإن قالوا إنّه ما كان له بهم قوّة فعلي (ع) أعذر.

الرابع : نبي الله يوسف (ع) فقد حكى الله تعالى عنه قوله في سورة يوسف آية ٣٣ : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) ، فإن قالوا إنّه دعي إلى غير مكروه يسخط الله تعالى فقد كفروا ، وإن قالوا إنّه دعي إلى ما يسخط الله فاختار السجن فعلي (ع) أعذر.

الخامس : كليم الله موسى بن عمران (ع) إذ يقول على ما ذكره الله تعالى عنه في سورة الشعراء آية ٢١ : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ، فإن قالوا : إنّه فرّ منهم من غير خوف فقد كذبوا القرآن ، وإن قالوا : فرّ منهم خوفا فعلي (ع) أعذر.

السادس : نبي الله هارون بن عمران (ع) إذ يقول على ما حكاه الله تعالى عنه في سورة الأعراف آية ١٥٠ : (قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) ، فإن قالوا : إنّهم ما استضعفوه فقد كذبوا القرآن ، وإن قالوا : إنّهم استضعفوه ، وأشرفوا على قتله ، فعلي (ع) أعذر.

١١٢

السابع : محمد رسول الله (ص) حيث هرب إلى الغار ، فإن قالوا : إنّه (ص) هرب من غير خوف فقد كفروا ، وإن قالوا : إنّهم أخافوه وطلبوا دمه ، وحاولوا قتله ، فلم يسعه غير الهرب فعلي (ع) أعذر.

١١٣
١١٤

قولهم علي أشجع الناس

فلم ترك قتال المتقدمين عليه

قال : يقول خصومكم إنّكم تدّعون أنّ عليّا (ع) كان أشجع من أبي بكر (رض) ، وأصلب منه في الدين ، وأشرف منه في النسب ، وتدّعون أنّه مع ذلك كان معصوما ولو لم تكن إمامة أبي بكر (رض) حقّة لنازعه في ذلك ، لأنّ ترك المنازعة مع الإمكان مخلّ بالعصمة وأنتم توجبونها في الإمام وتعتبرونها شرطا في صحّتها.

قلت : أولا : إنّ ترك علي (ع) منازعة أبي بكر (رض) بالحرب والقتال لا يكون مخلا بعصمته ولا بأشجعيته ، ولا يدلّ على صحّة خلافته (رض) بإحدى الدلالات المنطقية وإلّا كان ترك أولئك الأنبياء (ع) منازعة أقوامهم مخلا أيضا بعصمتهم ، ودالا على صحة ما قام به أقوامهم وبطلانه واضح لا يشك فيه من له عقل أو شيء من الدين.

ثانيا : كان في توقّف علي (ع) عن حربهم وقتالهم منافع عظيمة ، وفوائد جليلة ، قصرت مداركهم عن الوصول إليها ، وأعيت أفهامهم عن الوقوف عليها.

فمنها : أنّه لو قاتلهم لتولّد الشكّ من النائين عن المدينة وغيرها

١١٥

من البلدان الإسلامية بنبوّة النبي (ص) وذلك لعلمهم بأنّ القتل والقتال لا يقع إلّا على طلب الملك والزعامة الدنيوية ، لا على النبوّة وصنوها الخلافة فيوجب ذلك وقوع الشكّ في صحة نبوّة النبي (ص) لا سيما وهم جديد والعهد بالإسلام خاصة إذا لاحظتم وجود من يتربص الدوائر بالإسلام من المنافقين ، ويريد الوقيعة فيه ، فهل تجدون حينئذ فسادا أعظم من أن يخرج عن الإسلام من دخل فيه بفعل المنافقين وتلبيسهم الأمر على البله المغفلين؟!!.

ومنها : إن ترك قتالهم يومئذ كان سببا لأن يكثر فيهم التشيع وفي التابعين إلى يومنا هذا. انظروا إلى (ميزان) الذهبي عند ترجمته لأبان بن تغلب من جزئه الأول فإنّكم ترونه يقول (ولقد كثر التشيع في التابعين وتابعيهم مع الدين ، والورع ، والصدق ، فلو ردّ حديث هؤلاء لذهبت جملة من الآثار النبوية وهذه مفسدة بيّنة).

ومنها : ذهاب السنن الدالّة على إمامته (ع) إن هو قاتلهم وقتلهم فيبقى الحقّ ملتبسا لا يعرف أين هو ، ولذلك ترونه قد رضي (ع) بالهدنة عند ما رفع أهل الشام المصاحف في صفين فانخدع بذلك جمّ غفير من أهل العراق فكان (ع) بإمكانه أن يقلب الصفّ على الصف لكنه (ع) آثر ذلك لأنّه أهون الضررين لعلمه (ع) برجوع الكثير منهم إلى الحق بعد خروجهم عليه فمثل هذه النتائج القيّمة والغايات الحسنة أوجب ترك قتالهم وأوجب مهادنتهم.

ثالثا : إنّ ترك علي (ع) قتال القوم لا يوجب الرضا بتقدمهم عليه ولا يقتضي سقوط حقّه في الخلافة بعد النبي (ص) ، وإلّا لزم أن يكون النبي (ص) ، بتركه قتال المشركين عام الحديبية ، ومحو اسمه من النبوّة ، معزولا عن النبوّة ، وراضيا بما ارتكبه المشركون ، وكان يومئذ معه أربعمائة وألف رجل على ما أخرجه البخاري في صحيحه ص ٢٩

١١٦

من جزئه الثالث في غزوة الحديبية من كتاب المغازي ، وقد أطاعهم على محو اسمه من الرسالة ، وهو قادر على قتالهم. فإذا صحّ لديكم هذا وقلتم بسقوط حقّ النبوة من رسول الله (ص) صحّ لكم ذاك وهذا معلوم البطلان ، وذاك مثله باطل نعم إنّما قبل (ص) ذلك ورضي به (ص) لحكم غايات دقيقة ، وغايات جليلة غابت عن ذهن الكثيرين ، ولم يهتدوا لها.

فمنها : كراهته (ص) للقتل والقتال ، وحرصه على صون الدماء ما استطاع إليه سبيلا ، وليس في محوه لاسمه الشريف من الرسالة ما يوجب الوهن فيها لثبوتها بآياتها البيّنات ومعجزاتها النيرات.

ومنها : محافظته (ص) على حياة أصحابه ولو رجل منهم من غير ضرورة تدعو إلى قتالهم لعلمه (ص) بأنّه سيدخل مكّة المكرمة مع أصحابه في العام القابل من غير سلاح وقتال.

ومنها : علمه (ص) بأنّ أكثر هؤلاء سوف يسلمون بعد فتح مكة.

ومنها : علمه (ص) أنّ أهل مكّة سوف يخلونها له (ص) ولأصحابه ثلاثة أيام فيطوفون ويسعون محلقين ومقصرين وأهلها على الجبال وهذا له (ص) ولأصحابه بأعلى مراتب العزّة والعظمة ولأعدائه بأدنى ما يكون من الذلّ والهوان.

ومنها : علمه (ص) بدخول الكثيرين من وفود العرب في الإسلام حينما يبلغهم هذه العزّة له ولأصحابه ، والذلّة والصغار لقريش الذين هم أعداؤه الألداء.

ومنها : إنّه لو قاتلهم في عام الحديبية لم يتيسر له فتحها بتلك السهولة ، بل لتنكر منه القوم ، ولجعل دعاتهم العيون في الطريق خوفا من صولته (ص) عليهم بغتة وهم لا يشعرون.

١١٧

ومنها : إنّه (ص) سنّ بذلك دستورا جميلا ، ومنهاجا عاليا ، لن يأتي بعده ليسير عليه كل من عرض له مثل ما عرض له (ص).

ولهذا وأضعاف أمثاله جنح للسلم والمصالحة ويقول القرآن في سورة الأنفال آية ٦١ : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) لذا ترون عليّا (ع) ترك قتلهم وقتالهم مقتديا بالنبي (ص) ، ومتّبعا له في شرعه ومنهاجه ، فلم يقاتل دافعيه عن حقّه لمقاصد سامية أعظمها كما قدمنا حفظ الدين بأصوله ، وفروعه ، وقوانينه ، وآثاره ، الأمر الذي كان يدعوه كثيرا إلى أن يقدم نفسه الزكية قربانا في سبيل حفظه وبقائه واستمراره وانتشاره ، فضلا عن حقّه وتراثه.

وبالجملة كانت رعايته (ع) لصيانة الدين وحفظه أكثر من رعايته لحقّه ، وكان ضياع حقّه عنده أهون عليه من ذهاب الدين وزواله ، وما فعله عليه‌السلام هو الواجب عقلا وشرعا إذ إنّ مراعاة الأهمّ وهو احتفاظه بالأمّة ، وحياطته على الملّة ، وتقديمه على المهمّ ، وهو احتفاظه بحقّه (عند التعارض) من الواجب الضروري في الدين الإسلامي فجنوحه للسلم والموادعة كان هو الأظهر في الصواب.

١١٨

حديث لا تجتمع أمتي على ضلال أو على خطأ

قال : كيف لا يكون اجتماع الصحابة في السقيفة واختيارهم شخص الخليفة ، حجّة متبعة ، وقد جاء عن النبي (ص) أنّه قال «لا تجتمع أمتي على ضلال أو قال على خطأ» فكيف يصحّ لكم أن تقولوا باجتماع أمّته على دفع المستحق عن حقّه والرضا بخلاف الصواب ، وهو ضلال وخطأ بلا كلام والحديث قد نفى ذلك عنهم نفيا باتّا مطلقا؟ ويقول الإمام ابن تيمية (إنّ الخطأ على بعض الأمّة لا يفيد جواز الخطأ على المجموع وكما أنّ كل واحد من اللقم لا يشبع وبالاجتماع يحصل الشبع ، والواحد لا يقدر على قتال العدو وإذا اجتمع عدد قدروا ، كان ذلك دليلا على أنّ الكثرة توفّر قوّة وعلما وكما أنّ السهم والعصا الواحدة يكسرها الإنسان وبضمّ السهام والعصي يتعذّر ، فكذلك اجتماع أهل التواتر على الرواية يمنع عنها الكذب).

قلت : أولا إنّ ما جئتم به من الحديث لم يصحّ صدوره عن النبي (ص) وقد منع صحّته جماعة من محققي علماء أهل السنّة وأنكره إمام المعتزلة وشيخهم (إبراهيم بن سيار النظام) على ما حكاه عنه عضد الملّة في شرحه لمختصر ابن الحاجب ص ١٢٥ من جزئه الأول مع أنّه من آحاد الخبر لا يقتضي علما ولا عملا على ما صرّح به الآمدي في

١١٩

كتابه (الأحكام في أصول الأحكام) ص ٣١٥ من جزئه الأول والعضدي في شرح المختصر ص ١٢٧ من جزئه الأول.

ثانيا : لو سلمنا لكم جدلا صحّته فإنّه ليس بضار لما قدمناه وذلك لأنّ اسم الجنس المنكر المضاف إلى المعرفة في قوله (ص) (أمّتي) يفيد العموم باتّفاق علماء أصول الفقه من الفريقين وكلمة أمّة اسم جنس نكرة أضيفت إلى ضمير المتكلم المعرفة فهو يفيد أنّ جميع أمّته لا تجتمع على ضلال لوجود الإمام المعصوم من أهل بيت النبي (ص) معهم ، فيكون دلالته حجّة لنا عليكم لا لكم لأنّكم تعلمون عدم تحقّق مثل هذا الاجتماع من أمّة الإسلام على الرضا والقبول بما صنعه المتقدمون على علي (ع) في السقيفة وكيف يمكنكم أن تحكموا بثبوت الإجماع من جميع أمّة النبي (ص) كما هو مفاد الحديث ونحن وأنتم وكل الناس يعلمون بالضرورة من خلاف الأنصار في عقد البيعة على المهاجرين ، وإنكار بني هاشم وأتباعهم على الجميع في تفرّدهم بالأمر دون علي (ع). وقد تسجّل المؤرخون من أهل السنّة أقوال جماعة من كبار الصحابة في إنكار ما جرى في السقيفة ، وتظلم علي (ع) منهم ، وإنكاره عليهم ، وقوله (ع) : «ليس ذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا أهل البيت» وقوله (ع) : «تأخذون منّا هذا الأمر غصبا ونحن أحقّ به منكم» ولقد كان من مخالفة سعد بن عبادة سيد الأنصار وزعيمهم وقول العباس بن عبد المطلب عمّ النبي (ص) وما قاله أبو سفيان بن حرب والزبير بن العوام وأمثالهم في ذلك اليوم الذي قام فيه النزاع بينهم على ساق ما لا يخفى أمره على من راجع أقوال المؤرخين من أهل السنّة ، فمن جاء على ذكر السقيفة كالطبري وابن الأثير في تأريخيهما ، وابن عبد البر في (استيعابه) ، وابن عبد ربّه في (العقد الفريد) ، وابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) ، وابن كثير في (البداية والنهاية) ، وكثير غيرهم من أضاء الحديث والتاريخ عند أهل السنة. وهذا كما

١٢٠