صيانة الآثار الإسلاميّة

الشيخ جعفر السبحاني

صيانة الآثار الإسلاميّة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٨٧

علامة القبر ، وبها أيضاً قبر أبي سليمان الداراني رضى الله عنه.

وبين هذه القرية وبين البلد مقدار أربعة أميال ، وهي لجهة الغرب منه.

ومن المشاهد الكريمة التي لم نعاينها ووصفت لنا قبرا شيث ونوح عليهما‌السلام ، وهما بالبِقاع ، وهي على يومين من البلد ، وحدّثنا من ذَرَع قبر شيث فألفى فيه أربعين باعاً ، وفي قبر نوح ثلاثين ، وبإزاء قبر نوح قبر ابنة له ، وعلى هذه القبور بناء ، ولها أوقاف كثيرة ، ولها قيّم يلتزمها.

ومن المشاهد المباركة أيضاً ، بالجبّانة الغربيّة وبمقربة من باب الجابية ، قبر أُويس القرني رضى الله عنه ، وقبور خلفاء بني أُمية رحمهم‌الله ، يقال : إنّها بإزاء باب الصغير بمقربة من الجبّانة المذكورة ، وعليها اليوم بناء يُسكَن فيه.

والمشاهد المباركة في هذه البلدة أكثر من أن تنضبط بالتقييد ، وإنّما رُسِم من ذلك ما هو مشهور ومعلوم.

ومن المشاهد الشهيرة أيضاً مسجد الأقدام ، وهو على مقدار ميلين من البلد ممّا يلي القبلة على قارعة الطريق الأعظم الآخذ إلى بلاد الحجاز والساحل وديار مصر ، وفي هذا المسجد بيت صغير فيه حجر مكتوب عليه : كان بعض الصالحين يرى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم فيقول : هاهنا قبر أخي موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكثيب الأحمر على الطريق بمقربة من هذا الموضع ، وهو بين غالية وغُويلية كما ورد في الأثر ، وهما موضعان.

وشأن هذا المسجد في البركة عظيم ، ويقال : إنّ النور ما خلا قطّ من هذا الموضع الذي يذكر أنّ القبر فيه حيث الحجر المكتوب ، وله أوقاف كثيرة.

٦١

فأمّا الأقدام ففي حجارة في الطريق إليه مُعْلَم عليها ، تَجد أثر القدم في كلّ حجر ، وعدد الأقدام تسع ، ويقال : إنّها أثر قدم موسى عليه‌السلام ، والله أعلم بحقيقة ذلك ، لا إله سواه (١).

هذا وقد أخذنا من رحلة ابن جبير المواضيع اللّازمة ، وإلّا فالسائر في الكتاب يقف على أُمور لم نذكرها ، والكلّ يدلّ على أنّ البناء على القبور وصيانتها عن الانطماس وزيارتها في فترات مختلفة كان أمراً رائجاً في خير القرون الذي جُعِل مقياساً بين الحقّ والباطل.

ابن الحجاج والقبّة البيضاء على قبر الإمام علي عليه‌السلام :

إنّ الحسين بن أحمد بن محمد المعروف بابن الحجّاج البغدادي أحد الشعراء المفلقين في القرنين الثالث والرابع (٢٦٢ ـ ٣٩٢ ه‍) أنشأ قصيدته الفائية في مدح الإمام أمير المؤمنين ، وأنشدها في الحضرة العلويّة عند ما زارها يقول في مستهلّها :

يا صاحب القبّة البيضاء على النجفِ

من زارَ قبرك واستشفى لديك شُفي

زوروا أبا الحسن الهادي لعلّكم

تحظون بالأجر ، والاقبال والزلف (٢)

__________________

(١) قد نقلنا هذه النصوص برمّتها عن رحلة ابن جبير طبع دار صادر عام ١٣٨٤ ، فراجع فيما يرجع إلى مصر صفحة ١٩ ـ ٢٤ ، وفيما يرجع إلى مكة المكرّمة صفحة ٨٧ ، ١٤١ و ١٤٢ ، وفيما يرجع إلى المدينة المنوّرة صفحة ١٧٣ ـ ١٧٤ ، وفيما يرجع إلى مشاهد الكوفة صفحة ١٨٧ ـ ١٩٨ ، وفيما يرجع إلى بغداد صفحة ٢٠٢ ، وما يرجع إلى الشام صفحة ٢٤٦ ـ ٢٤٩ و ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

(٢) اقرأ ترجمته في يتيمة الدهر ٣ : ٢٥ ؛ معجم الأُدباء ٤ : ٦ ؛ المنتظم ٧ : ٢١٦ ؛ تاريخ بغداد ٨٠ : ١٤ ؛ وفيات الأعيان ١ : ١٧٠ ؛ الكامل لابن الأثير ٩ : ٦٣ إلى غير ذلك من مصادر الترجمة ؛ وفي روضات الجنّات ٣ : ١٤٨ ـ ١٥٥ له ترجمة ضافية.

٦٢

والقصيدة تعرب عن وجود البناء والقبّة البيضاء على القبر ، والزلف والتفاف الزائرين حوله في عصره ، ومع ذلك يدّعي بعض الوهابيين ، أنّ البناء على القبور لم يكن في خير القرون وأنّه من البدع المستحدثة.

ولأجل شيوع البناء على القبور في جميع الأقطار الإسلاميّة نجد أنّ الأمير محمد بن اسماعيل اليماني الذي توهّب مع كونه زيدياً يفترض على نفسه ويقول في كتابه : وهذا أمر عمّ البلاد وطبق الأرض شرقاً وغرباً بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام إلّا فيها قبور ومشاهد ، ولا يسع عقل عاقل أنّ هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة ويسكت علماء الإسلام (١).

فلو كانت هذه سيرة المسلمين من خير القرون إلى عصرنا فلما ذا لا تكون حجّة؟ فلو كان التهديم أمراً واجباً فلما ذا ترك الخلفاء تلك الفريضة؟! فهل يصحّ لنا اتّهامهم بالتسامح في أمر الدين مع أنّ الصحابة والتابعين مرّوا على تلك الآثار ولم ينبسوا فيها ببنت شفة؟

وإذا لم يكن ذلك الإجماع حجّة ، فأيّ إجماع يكون حجّة شرعيّة؟

فهذه النصوص من المؤرّخين تدلّ بوضوح على جريان السيرة على بناء القباب والأبنية على قبور الأولياء من دون أن يخطر ببال أحد أنّه مقدمة للشرك ومفضٍ إليه ، فإذا لم يكن مثل هذا الإجماع حجّة فأيّ

__________________

(١) الأمير محمد بن اسماعيل اليماني (ت ١١٨٦ ه‍) تطهير الاعتقاد : ١٧ ، ثمّ إنّه حاول أن يُجيب عن هذا الاستنكار بما الإعراض عن ذكره أحسن.

٦٣

إجماعٍ حجّة؟

والعجب من ابن بليهد قاضي الحكومة السعودية أيام تدمير آثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عام ١٣٤٤ ه‍ فبعد ما نفّذ ما أُمر به من قبل المشايخ ، نشر بياناً في جريدة أُمّ القرى في عددها الصادر في شهر جمادى الآخر من شهور سنة ١٣٤٥ ه‍ وممّا جاء فيه قوله : إنّ القباب على مراقد العلماء صار متداولاً منذ القرن الخامس الهجري.

فهل هذا صحيح أو افتراء أمام كلّ هذه النصوص من المسعودي وغيره؟ وليس البحث في خصوص العلماء ، بل مطلق قبور المسلمين ، نبيّاً كان أو وليّاً ، صحابيّاً كان أو تابعياً ، فقهياً كان أو محدّثاً.

ونعم ما قال السيد المحقّق محسن الأمين في قصيدته المسمّاة بالعقود الدُّريّة في ردّ شبهات الوهابية :

أو ليس أُمّة أحمد إجماعها

فيه الصوابُ وحجّةٌ لم تردد

وعلى ضلالٍ كلّها لم تجتمع

فيما رويتم في الحديث المسندِ

مضت القرون وذي القباب مشيّدة

والناس بين مؤسس ومجدّد

في كلّ عصر فيه أهل الحلّ و

العقد الذين بغيرهم لم يُعقد

لم يُنكروا أبداً على من شادها

شيدت ولا من منكر ومغند

مِنْ قبل أنْ تلد ابنها تيمية

أو يخلق الوهاب بعضَ الأعبد

أفأيّ إجماع لكم أقوى على

أمثاله من مورد لم يورد

فبسيرة للمسلمين تتابعت

في كلّ عصر نستدلّ ونقتدي

أقوى من الإجماع سيرتهم ومن

قد حاد عنها فهو غير مسدّد

هيهات ليس نبيّاً إنّ بليهد

في الناس لم يُخطئ ولم يتعمّد

٦٤

كلّا ولا العلماء قد حصرت به

هي في بقاع الأرض ذات تعدّد

كلّا ولا من وافقوه لخوفهم

أو جهلهم من خائف ومقلّد

والجُلُّ من علماء طيبة ساكت

للخوف مكفوف اللسان مع اليد (١)

كيف يدّعي الإجماع على التحريم مع أنّ فقهاء المذاهب الأربعة في العصر الحاضر اتّفقوا على الكلمة التالية : يكره أن يبنى القبر ببيت أو قبّة أو مسجد (٢) ، أين الكراهة من الحرمة ، وأين هي من الشرك؟ وهذا النووي شارح صحيح مسلم يقول في شرح حديث أبي الهياج الذي سيوافيك نصّه : أمّا البناء فإن كان في ملك الباني فمكروه وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام ، نصّ عليه الشافعي والأصحاب (٣).

إنّ التحريم في الصورة الثانية لكونه مزاحماً للانتفاع ، وعلى خلاف أهداف الواقف وأغراضه ، وأين هو من البناء على أرض مشتراة أو مهداة أو موات فلا تترتّب عليها تلك الحرمة.

دفن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته الرفيع ولم يخطر ببال أحد من الصحابة الحضور أنّ البناء على القبر حرام وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عنه نهياً مؤكداً ، ولمّا كان البيت متعلّقاً بالسيدة عائشة جعلوا في وسطه ساتراً ، ولمّا توفّي الشيخان أوصيا بدفنهما في حجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تبركاً بذاته ومكانه ، ولم تُسْمَع عن أي ابن انثى نعيرةُ أنّه حرام ولا مكروه ، وعلى ذلك استمرّت سيرة المسلمين في حقّ العلماء والأولياء ، يدفنونهم في البيوت المعدّة

__________________

(١) محسن الأمين ، كشف الارتياب : ٢٩٥ وهي مطبوعة في آخر الكتاب.

(٢) الجريري ، الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ٤٣١.

(٣) النووي ، شرح صحيح مسلم ج ١٧ كتاب الجنائز ط مصر.

٦٥

لذلك ، أو يرفعون لمراقدهم قواعد وسقفاً بعد الدفن ، تكريماً لهم وتقديرا لتضحياتهم ، ولم يخطر ببال أحد أنّه على خلاف الدين والشرع.

وهذا عمل المسلمين وسيرتهم القطعيّة في جميع الأقطار والأمصار ، على مرأى ومسمع الجميع وإنْ اختلفت نزعاتهم ، من بدء الإسلام إلى هذا العصر ، من الشيعة والسنّة ، وأي بلاد من بلاد الإسلام من مصر والعراق أو الحجاز أو سوريا ، وتونس ومراكش وإيران ، وهلم جرّا ، ليس فيها قبور مشيّدة ، وضرائح منجدة ، وهؤلاء أئمة المذاهب : الشافعي في مصر ، وأبو حنيفة في بغداد ، ومالك بالمدينة ، وتلك قبورهم من عصرهم إلى اليوم شاهقة القباب ، شامخة المباني ، غير أنّ الوهابيّين لمّا استولوا على المدينة هدموا قبر مالك.

وهذه القبور قد شُيّدت وبنيت في الأزمنة التي كانت حافلة بالعلماء وأرباب الفتاوى ، وزعماء المذاهب ، فما أنكر منهم نكر ، وليس هذا رائجاً بين المسلمين فقط ، بل جرى على هذا جميع عقلاء العالم ، بل يعدّ تعمير قبور الشخصيات من غرائز البشر ومقتضيات الحضارة وشارة الرقيّ ، فكلّ هذا دليل على الجواز لو لم نقل يفوق ذلك ، ولو لم تكن السيرة المسلّمة بين المسلمين والعقلاء عامّة غير مفيدة في المقام ، فلا يصحّ الاستناد إلى أيّة سيرة قاطعة بين المسلمين أو الناس.

وليس يصحّ في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

ثمّ إنّ الوهابيّين تمسّكوا بروايات ، إمّا عديمة الدلالة ، أو ضعيفة السند ، وسنذكر في الفصل الآتي بشكل عام مجملَ ما تمسّكوا به ليتبيّن مدى وعيهم.

٦٦

الفصل الرابع :

 ذرائع الوهابية في هدم الآثار

استدلّت الوهابية بروايات نذكرها واحدةً بعد الأُخرى :

الأُولى : رواية أبي الهياج الأسدي

روى مسلم في صحيحه قال : حدّثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن الحرب ، قال يحيى : أخبرنا ، وقال الآخران : حدّثنا وكيع عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي وائل ، عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي عليّ بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله .. أن لا تدع تمثالاً إلّا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلّا سوّيته (١).

زعم المستدلّ أنّ معناه : ولا قبراً عالياً إلّا سوّيته بالأرض.

أقول : الاستدلال بالحديث فرع صحّة سنده ، وتماميّة دلالته ،

__________________

(١) مسلم ، الصحيح ٣ : ٦١ كتاب الجنائز ؛ الترمذي ، السنن ٢ : ٢٥٦ باب ما جاء في تسوية القبور ؛ النسائي ، السنن ٤ : ٨٨ باب تسوية القبر.

٦٧

ولكنّه موهون من كلا الجانبين.

أمّا السند ، فيكفي أنّ علماء الرجال تحدّثوا في رجال الحديث ونقلوا تصريح الأئمة بضعفهم ، وهؤلاء عبارةً عن :

١ ـ وكيع.

٢ ـ سفيان الثوري.

٣ ـ حبيب بن أبي ثابت.

٤ ـ أبو وائل الأسدي.

وإليك أقوال العلماء في حقّهم :

١ ـ وكيع :

هو وكيع بن الجراح بن مليح الرواسي الكوفي ، روى عن عدّة ، منهم : سفيان الثوري ، وروى عنه جماعة منهم : يحيى بن يحيى وهو كما ورد في حقّه المدح ، ورد في حقّه الجرح كثيراً ، وهذا ابن حجر يعرّفه في تهذيب التهذيب بالنحو التالي : عن الإمام ابن حنبل : كان وكيع أحفظ من عبد الرحمن بن مهدي كثيراً ، وقال في موضع آخر : ابن مهدي أكثر تصحيفاً من وكيع ووكيع أكثر خطأً منه.

وقال ابن عماد : قلت لابن وكيع : عدّوا عليك بالبصرة أربعة أحاديث خلطتَ فيها؟ فقال : حدّثتهم بعبادان بنحو من ألف وخمسمائة ، وأربعة ليس بكثير في ألف وخمسمائة.

وقال عليّ بن المديني : كان وكيع يلحن ولو حدّثَ بألفاظه لكان عَجَباً.

٦٨

وقال محمد بن نصر المروزي : كان يُحدّث بآخره من حفظه فيغيّر ألفاظ الحديث كأنّه يحدّث بالمعنى ولم يكن من أهل اللسان (١).

وقال الذهبي في ميزان الاعتدال بعد ما مدحه : قال ابن المديني :كان وكيع يلحن ولو حدّث بألفاظه كان عجباً (٢).

٢ ـ سفيان الثوري :

وهو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي ، فقد مدحوه ، ولكن الذهبي يقول : إنّه كان يدلِّس عن الضعفاء ، ولكن كان له نقد وذوق ، ولا عبرة بقول من قال يدلِّس ويكتب عن الكذّابين (٣).

وقال ابن حجر : قال ابن المبارك : حدّث سفيان بحديث فجئته وهو يدلِّس ، فلمّا رآني استحيا وقال : نرويه عنك؟ (٤).

وقال في ترجمة يحيى بن سعيد بن فروخ : قال أبو بكر وسمعت يحيى يقول : جهد الثوري أن يدلِّس عليّ رجلاً ضعيفاً فما أمكنه (٥).

والتدليس هو أن يروي عن رجل لم يلقه وبينهما واسطة فلا يذكر الواسطة.

وقال أيضاً في ترجمة سفيان : قال ابن المديني عن يحيى بن سعيد : لم يلق سفيان أبا بكر بن حفص ولا حيان بن إياس ، ولم يسمع من

__________________

(١) ابن حجر ، تهذيب التهذيب ١١ : ١٢٣ ، ١٣١.

(٢) الذهبي ، ميزان الاعتدال ٤ : ٣٣٦.

(٣) الذهبي ، ميزان الاعتدال ٢ : ١٦٩ برقم ٣٣٢٢.

(٤) ابن حجر ، تهذيب التهذيب ٤ : ١٥ في ترجمة سفيان.

(٥) ابن حجر ، تهذيب التهذيب ١١ : ٢١٨.

٦٩

سعيد بن أبي البردة ، وقال البغوي : لم يسمع من يزيد الرقاشي ، وقال أحمد : لم يسمع من سلمة بن كهيل حديث المسائية (١) يضع ماله حيث يشاء ، ولم يسمع من خالد بن سلمة بتاتاً ولا من ابن عون إلّا حديثاً واحداً (٢).

وهذا تصريح من ابن حجر بكون الرجل مُدلِّساً ، ربّما يروي عن أُناس يوهم أنّه لقيهم ولم يلقَهُم ولم يسمع منهم.

٣ ـ حبيب بن أبي ثابت :

هو حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار ، وَثّقهُ بعض ، ولكن قال ابن حبّان في الثّقات : كان مدلّساً ، وقال العقيلي : غمزه ابن عون ، وقال القطّان : له غير حديث عن عطاء ، لا يُتابع عليه وليست محفوظة.

وقال ابن خزيمة في صحيحه : كان مدلّساً (٣).

وقال ابن حجر أيضاً في موضع آخر : كان كثير الإرسال والتدليس ، مات سنة ١١٩ ه‍.

ونقل عن كتاب الموضوعات لابن الجوزي من نسخة بخطّ المنذري أنّه نقل فيه حديثاً عن أُبيّ بن كعب في قول جبرئيل : لو جلست معك مثلما جلس نوح في قومه ما بلغت فضائل عمر ، وقال : لم يُعِلْه ابن الجوزي إلّا بعبد الله بن عمّار الأسلمي شيخ حبيب بن ثابت (٤).

__________________

(١) العبد المعتق.

(٢) ابن حجر ، تهذيب التهذيب ٤ : ١١٥.

(٣) ابن حجر ، تهذيب التهذيب ٢ : ١٧٩.

(٤) ابن حجر ، تهذيب التهذيب ١ : ١٤٨ برقم ١٠٦.

٧٠

٤ ـ أبو وائل الأسدي :

هو شقيق ابن سلمة الكوفي ، كان منحرفاً عن عليّ بن أبي طالب ، قال ابن حجر : قيل لأبي وائل : أيّها أحبُّ إليك عليّ أم عثمان؟ قال : كان عليّ أحبّ إليّ ثمّ صار عثمان (١).

ويكفي في قدحه أنّه كان من ولاة عبيد الله بن زياد ، قال ابن أبي الحديد : قال أبو وائل : استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة.

هذا كلّه حول سند الرواية وهؤلاء رواتها ، ولو ورد فيهم مدح فقد ورد فيهم الذم ، وعند التعارض يقدم الجارح على المادح فيسقط الحديث عن الاستدلال.

ويكفي أيضاً في ضعف الحديث أنّه ليس لرواية أعني أبا الهياج في الصحاح والمساند حديث غير هذا ، فكيف يستدلّ بحديث يشتمل على المدلِّسين والمضعِّفين؟ وكيف يُعْدَل بهذا الحديث عن السيرة المستمرّة بين المسلمين؟! والآن إليك بيان عدم دلالة الحديث على الموضوع بتاتاً :

ضعف دلالة الحديث

إنّ توضيح ضعف دلالة الحديث يتوقّف على بيان معنى اللّفظين الواردين فيه :

١ ـ قبراً مشرفاً.

٢ ـ إلّا سوّيته.

__________________

(١) ابن حجر ، تهذيب التهذيب ٤ : ٣٦٢.

٧١

أمّا الأوّل : فقال صاحب القاموس : والشرف ، محركة العلو ، ومن البعير سنامه ، وعلى ذلك يحتمل المراد منه مطلق العلوّ ، أو العلوّ الخاص كسنام البعير الذي يعبّر عنه بالمسنَّم ولا يتعيّن أحد المعنيين إلّا بالقرينة.

أمّا الثاني : فهو تارةً يُستخدم في بيان مساواة شيء بشيء في الطول أو العرض ، فيقال : هذا القماش يساوى بهذا الآخر في الطول.

وأُخرى في التسوية ، أي كون الشيء مسطّحاً لا انحناء ولا تعرّج فيه.

والفرق بين المعنيين واضح ، فإنّ التسوية في الأوّل وصف للشيء بمقايسته مع شيء آخر ، وفي الثاني وصف لنفس الشيء ولا علاقة له بشيء آخر.

فلو استعمل في المعنى الأوّل لتعدّى إلى مفعولين : أحدهما بلا واسطة ، والآخر بمعونة حرف الجرّ ، قال تعالى حاكياً عن لسان المشركين وأنّهم يخاطبون آلهتهم بقولهم : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، أي نعدّ الآلهةَ الكاذبة مساويةً بربّ العالمين في العبادة أو في الاعتقاد بالتدبير.

وقال سبحانه حاكياً عن حال الكافرين يوم القيامة : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (النساء / ٤٢) ، أي يودّون أنْ يكونوا تراباً أو ميتاً مدفوناً تحت الأرض ، ويكون هؤلاء والأرض متساوية.

ترى أنّ تلك المادة تعدّت إلى مفعولين وأُدخل حرف الجرّ على المفعول الثاني.

٧٢

وأمّا إذا استعمل في المعنى الثاني أي فيما يكون وصفاً للشيء بلا علاقة له بشيء آخر فيكتفي بمفعول واحد ، قال سبحانه : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (الأعلى / ٢) ، وقال سبحانه : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (القيامة / ٤) ، وقال سبحانه : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (الحجر / ٢٩) ، ففي جميع هذه الموارد يراد من التسوية كونها وصفاً للشيء بما هو هو ، وهو فيها كناية عن كمال الخلقة بعيدة عن النقص والاعوجاج.

هذا هو مفهوم اللفظ لغةً ، وهلم معي ندرس الحديث وأنّه ينطبق مع أيٍّ من المعنيين.

نلاحظ أنّه تعدّى إلى مفهومٍ واحد ، ولم يقترن بالباء ، فهو آية أنّ المراد هو المعنى الثاني ، وهو تسطيح الأرض في مقابل تسنيمه ، وبسطه في مقابل اعوجاجه لا مساواته مع الأرض ، وإلّا كان عليه عليه‌السلام أن يقول : سوّيته بالأرض ، ولم يكتف بقوله سوّيته.

أضف إلى ذلك أنّ ما ذكرناه هو الذي فهمه شرّاح الحديث ويكون دليلاً على أنّ التسطيح سنّة والتسنيم بدعة وأمر عليّ عليه‌السلام أن تكافح هذه البدعة ويسطّح كلّ قبر مسنّم ، وإليك ذكر نصوصهم : قال القرطبي في تفسير الحديث : قال علماؤنا : ظاهر حديث أبي الهياج منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون واطئة (١).

أقول : إنّ دلالة الحديث على منع تسنيم القبور ظاهر ، وأمّا دلالتها على عدم ارتفاعها كما هو ظاهر قوله «ومنع رفعها» فغير ظاهر ، بل

__________________

(١) القرطبي ، التفسير ٢ : ٣٨٠ تفسير سورة الكهف.

٧٣

مردود باتّفاق أئمة الفقه على استحباب رفعها قدر شبر (١).

٢ ـ قال ابن حجر العسقلاني في شرحه على البخاري ما هذا نصّه : مُسنّماً بضمّ الميم وتشديد النون المفتوحة أي : مرتفعاً ، زاد أبو نعيم في مستخرجه : وقبر أبو بكر وعمر كذلك ، واستدلّ به على أنّ المستحب تسنيم القبور ، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والمزني وكثير من الشافعية.

وقال أكثر الشافعية ونصّ عليه الشافعي : التسطيح أفضل من التسنيم ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سطّح قبر ابراهيم ، وفعله حجّة لا فعل غيره ، وقول السفيان التمّار : رأى قبر النبيّ مسنّماً في زمان معاوية ، لا حجّة فيه ، كما قال البيهقي ، لاحتمال أنّ قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبري صاحبيه لم تكن في الأزمنة الماضية مسنّمة ـ إلى أن قال : ـ ولا يخالف ذلك قول علي عليه‌السلام : أمرني رسول الله أن لا أدع قبراً مشرفاً إلّا سوّيته ، لأنّه لم يرد تسويته بالأرض ، وإنّما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار ، ونقله في المجموع عن الأصحاب (٢).

٣ ـ وقال النووي في شرح صحيح مسلم : إنّ السنّة أنّ القبر لا يرفع عن الأرض رفعاً كثيراً ، ولا يُسنَّم بل يُرفع نحو شبر ، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه ، ونقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أنّ الأفضل عندهم تسنيمها ، وهو مذهب مالك (٣).

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ٤٢.

(٢) إرشاد الساري ٢ : ٤٦٨.

(٣) صحيح مسلم بشرح النووي ٧ : ٣٦ ط الثالثة ، دار احياء التراث العربي.

٧٤

ويؤيّد ذلك أنّ صاحب الصحيح (مسلماً) عنون الباب ب «باب تسوية القبور» ثمّ روى بسنده إلى تمامه ، قال : كنّا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم ، فتوفّي صاحب لنا ، فأمر فضال بن عبيد بقبره فسوّى ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمر بتسويتها ، ثمّ أورد بعده في نفس الباب حديث أبي الهياج المتقدّم (١).

وفي الختام نذكر أُموراً :

١ ـ القول بوجوب مساواة القبر بالأرض مخالف لما اتّفقت عليه كلمات فقهاء المذاهب الأربعة ، وكلّهم متّفقون على أنّه يندب ارتفاع التراب فوق الأرض بقدر شبر (٢).

ولو أخذنا بالتفسير الذي يرومه الوهابي من حديث أبي الهياج من مساواة القبر بالأرض يجب أن يكون القبر لاطئاً مساوياً معه.

٢ ـ لو افترضنا صحّة حديث أبي الهياج سنداً ودلالة ، فغاية ما يدلّ عليه هو تخريب القبر ومساواته بالأرض ، ولا يدلّ على هدم البناء الواقع عليه ، فتخريب القباب المشيّدة التي هي مظاهر الودّ لأصحابها استناداً إلى هذا الحديث عجيب جدّاً.

٣ ـ إنّ الصحابة دفنوا النبيّ الأكرم في بيته من أوّل يوم ، وقد وصّى الخليفتان بأنْ يُدفنا تحت البناء جنب النبيّ الأكرم تبرّكاً بالقبر وصاحبه ، فلو كان البناء على القبور أمراً محرّماً ومن مظاهر الشرك ، فلما ذا وارت الصحابة جثمانه الطاهر صلى‌الله‌عليه‌وآله تحت البناء؟ ولما ذا أوصى الخليفتان

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ٤٢.

٧٥

بالدفن تحته؟

ولمّا واجهت الوهابية عمل الصحابة في مواراة النبيّ قامت بالتفريق وقالت : إنّ الحرام هو البناء على القبر لا الدفن تحت البناء ، وقد دفنوا النبيّ تحت البناء ولم يبنوا على قبره شيئاً (١).

ونترك هذا الجواب بلا تعليق ، إذ هو في غاية السقوط ، إذ أيّ فرق بين الأمرين ، فإنّ البناء على القبر مَدْعاة للإقبال إليه والتضرّع إليه ، ففيه فتح لباب الشرك وتوسّل إليه بأقرب وسيلة ... (٢).

فإذا كان البناء على وجه الإطلاق ذريعة للشرك وتوجّهاً إلى المخلوق ، فلما ذا نرخّص بعض صوره ونحرّم بعضها الآخر ، وما هذا إلّا لأنّ الوهابية وإن كانوا ينسبون أنفسهم إلى السلفية ، إلّا أنّ السلفية بعيدون عنهم بعد المشرقين.

إلى هنا تمّت دراسة أبي الهياج ، ولندرس حديث جابر الذي هو المستمسك الآخر لمدمّري آثار الرسالة.

* * *

 الثانية : دراسة حديث جابر

إنّ الوهابيين يستدلّون بحديث جابر على حرمة البناء على القبور ، وقد ورد بنصوص مختلفة ، ونحن نذكر نصاً واحداً منها : روى مسلم في صحيحه : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدّثنا

__________________

(١) عقيل بن الهادي ، رياض الجنّة ، ط الكويت.

(٢) جمال الدين القاسمي ، محاسن التأويل ٧ : ٣٠.

٧٦

حفص بن غياث ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجصّص القبر ، وأن يقعد عليه ، وأن يُبنى عليه (١).

وحديث جابر هذا لا يحتجّ به ، لكونه غير صحيح سنداً وضعيف دلالةً.

أمّا الأوّل : فلأنّ جميع أسانيده مشتملة على رجلين هما في غاية الضعف :

١ ـ ابن جريج : وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج.

٢ ـ أبو الزبير : وهو محمد بن مسلم الأسدي.

أمّا الأول : فإليك كلمات أئمة الرجال في حقّه : سئل يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج قال : فقال : ضعيف ، فقيل له : إنّه يقول : أخبرني؟ قال : لا شيء .. كلّه ضعيف ، وقال أحمد بن حنبل : إذا قال ابن جريج : قال فلان وقال فلان جاء بمناكير.

وقال مالك بن أنس : كان ابن جريج حاطب ليل.

وقال الدارقطني : يُجتنب تدليس ابن جريج ، فإنّه قبيح التدليس ، لا يدلِّس إلّا في ما سمعه من مجروح.

وقال ابن حبان : كان ابن جريج يدلِّس في الحديث (٢).

__________________

(١) لاحظ للوقوف على متونها المختلفة وأسانيدها : صحيح مسلم ، كتاب الجنائز ٣ : ٦٢ ؛ والسنن للترمذي ٢ : ٢٠٨ ط المكتبة السلفية ؛ وصحيح ابن ماجة ١ : ٤٧٣ كتاب الجنائز ؛ وصحيح النسائي ٤ : ٨٧ ـ ٨٨ ؛ وسنن أبي داود ٣ : ٢١٦ باب البناء على القبر ؛ ومسند أحمد ٣ : ٢٩٥ و ٣٣٢ ، ورواه أيضاً مرسلاً عن جابر : ٣٩٩.

(٢) تهذيب التهذيب ٦ : ٢ ـ ٤ و ٥ ـ ٦ ط دار المعارف العثمانية.

٧٧

وأمّا الثاني : فإليك أقوال علماء الرجال فيه :

فعن إمام الحنابلة عن أيوب أنّه كان يعتبر أبا الزبير ضعيف الرواية.

وعن شعبة : لم يكن في الدنيا أحبّ إليّ من رجل يقدِمُ فأسأله عن أبي الزبير ، فقدمت مكّة فسمعت منه ، فبينا أنا جالس عنده إذ جاءه رجل فسأله عن مسألة فردّ عليه ، فافترى عليه ، فقلت : يا أبا الزبير تفتري على رجل مسلم؟ قال : إنّه أغضبني ، قلت : ومن يغضبك تفتري عليه؟ لا رويت عنك شيئاً.

وعن ورقاء قال : قلت لشعبة : ما لَكَ تركت حديث أبي الزبير؟ قال : رأيته يزن ويسترجع في الميزان.

وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن أبي الزبير ، فقال : يُكتب ولا يحتجّ به ، قال : وسألت أبا زرعة عن أبي الزبير ، فقال : يروي عنه الناسُ ، قلت : يُحتجُّ بحديثه؟ قال : إنّما يحتجّ بحديث الثّقات (١).

بالله عليك ، أيصحّ الاستدلال بهذا الحديث؟ أفهل يصحّ هدم آثار النبوّة والرسالة والصحابة بهذه الرواية؟ على أنّ بعض الأسانيد مشتمل على عبد الرحمن بن أسود المتّهم بالكذب والوضع.

هذا كلّه ما يتعلّق بالسند.

وأمّا الثاني : أي المتن ، ففيه ملاحظتان :

__________________

(١) تهذيب التهذيب ، ترجمة أبي الزبير ٩ : ٤٤٢ ط حيدرآباد ـ دكن عام ١٣٢٦ ؛ ولاحظ الطبقات الكبرى ٥ : ٤٨١.

٧٨

الأولى : أنّ الحديث روي بصورٍ ست ، مع أنّ النبيّ نطق بصورة واحدة ، ولو رجعت إلى متونه المبعثرة في المصادر التي أوعزنا إليها ترى فيها الاضطراب العجيب ، وإليك صورها :

١ ـ نهى رسول الله عن تجصيص القبر والاعتماد عليه.

٢ ـ نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الكتابة على القبر.

٣ ـ نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تجصيص القبر ، والكتابة والبناء عليه ، والمشي عليه.

٤ ـ نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الجلوس على القبر ، وتجصيصه ، والبناء والكتابة عليه.

٥ ـ نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الجلوس على القبر وتجصيصه والبناء عليه.

٦ ـ نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الجلوس على القبر وتجصيصه والبناء عليه ، والزيارة والكتابة عليه (١).

مضافاً إلى اختلافات أُخرى في أداة مقصود واحد ، فيعبّر عنه تارةً بالاعتماد ، وأُخرى بالوطء ، وثالثة بالقعود.

ومن المعلوم أنّ الاعتماد غير الوطء ، وهما غير القعود ، فمع هذا الاضطراب والاختلاف في المضمون لا يمكن لأيّ فقيه أن يعتمد عليه؟!

الثانية : أنّ الحديث على فرض صحّته لا يُثبت سوى ورود النهي

__________________

(١) لاحظ في الوقوف على المتون المختلفة للحديث المصادر التي أوعزنا إليها.

٧٩

من النبي ، ولكن النهي منه تحريمي ومنه تنزيهي ، وبعبارة أُخرى : نهي تحريم ، ونهي كراهة ، وقد استعمل النهي في كلمات الرسول في القسم الثاني كثيراً ، ولأجل ذلك حمله الفقهاء على الكراهة ، فترى الترمذي يذكر هذا الحديث في صحيحه تحت عنوان كراهية تجصيص القبور ، والسندي شارح صحيح ابن ماجة ينقل عن الحاكم النيسابوري أنّه لم يعمل بهذا النهي (بالمضمون التحريمي) أحد من المسلمين ، بدليل أنّ سيرة المسلمين قائمة على الكتابة على القبور.

وأمّا الكراهة فربّما تكون مرتفعة بالنسبة إلى المصالح العظيمة المترتبة عليه ، كما إذا صار البناء على القبر سبباً لحفظ الآثار الإسلامية ، وإظهار المودّة لصاحب القبر الذي فرض الله مودّته على الناس (١) ، أو يكون لاستظلال الزائر وتمكّنه من تلاوة القرآن وإهداء ثوابه إلى صاحب القبر ، إلى غير ذلك من الأُمور التي يتمكّن الإنسان منها تحت الظلّ لا تحت الشمس ولا في برد الليل ، فالنهي التنزيهي أشبه بالمقتضيات التي ترتفع بأقوى منها.

* * *

 الثالثة : أحاديث ثلاثة في الميزان

فقد ورد في ذلك المجال أحاديث أُخر نذكرها بسندها ومتنها : روى ابن ماجة في صحيحه ما يلي :

__________________

(١) قال سبحانه : (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى / ٢٣).

٨٠