صيانة الآثار الإسلاميّة

الشيخ جعفر السبحاني

صيانة الآثار الإسلاميّة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٨٧

فإنّ هذه الآية تدلّ على أنّ التعذيب قبل بعث الرسول مردود بحجة المعذّبين وهي قولهم : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) ، فلا يصحّ التعذيب إلّا بعد إتمام الحجّة عليهم ببعث الرسل.

وهذا يعني أنّ الأشياء مباحة جائزة الارتكاب خالية عن العقوبة أصلاً ، إلّا إذا ردع عنها الشارع بشكل من الأشكال التي منها إرسال الأنبياء.

٧ ـ قوله سبحانه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائدة / ١٩).

فإنّ ظاهر قوله : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) أنّه حجّة تامّة صحيحة ، ويحتج به على كلّ من عذّب قبل البيان ، ولأجل ذلك قام سبحانه بإرسال الرسل حتى لا يُحتج عليه ، بل تكون الحجة لله سبحانه.

وهذا يعطي أنّه لا يحكم على حرمة شيء ولا يجوز التعذيب على ارتكابه قبل بيان حكمه ، وذلك لأنّ بعث البشير والنذير كناية عن بيان الأحكام.

٤١

الفصل الثالث :

المشاهد والمقابر من خلال سيرة المسلمين

في خير القرون

قد تعرّفت على قضاء الكتاب في تكريم الأنبياء والأولياء ، وأنّ البناء على قبورهم أو بناء المساجد حول مراقدهم ، أمر محبّذ ، ندبت إليه الشريعة الإلهيّة ، ولم ترَ أيّ أثر فيها للتحريم ، وعلى ذلك درج السلف الصالح عبر القرون ، ولم يزل الإلهيّون من أهل الكتاب والمسلمين على مدى العصور يهتمّون بمقابر الأنبياء والأولياء بالبناء والتعمير ثمّ التطهير والتنظيف لها ، حتى أنّ كثيراً من المتمكّنين يُخصّصُون شيئاً من أموالهم لهذه الغاية.

فهذه القباب الشاهقة والمنائر الرفيعة والساحات الوسيعة حول مراقد الأنبياء والأولياء وحول مراقد صحابتهم في مختلف الديار شرقها وغربها ، لدليل قاطع على أنّ هذه السيرة سيرة مشروعة ، وإلّا كان على الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان رفضها وردّها بالبيان والبنان

٤٢

والسلطة والقوّة ، فالسكوت عليها إلى عصر إثارة هذه الشكوك ، عصر ابن تيمية ، أدلّ دليل على كونها سيرة مشروعة.

وعند ما قام ابن تيمية بوجه هذه السيرة أثار ثائرة المسلمين ضدّه شرقاً وغرباً ، وقد بيّنوا ضلالة تلك الفكرة ونحرافها عن الشرع.

وقد وقف السلف الصالح ـ بعد فتح الشام ـ على قبور الأنبياء ذوات البناء الشامخ ، فتركوها على حالها من دون أن يخطر ببال أحدهم ـ وعلى رأسهم عمر بن الخطاب ـ بأنّ البناء على القبور أمر محرّم يجب هدمه.

وهكذا الحال في سائر القبور المشيّدة عليها الأبنية في أطراف العالم ، وإن كنت في ريب فاقرأ تواريخهم.

ولو قام باحث بوصف الأبنية الشاهقة التي كانت مشيّدة على قبور الأنبياء والصالحين قبل ظهور الإسلام ، وما بناه المسلمون في عصر الصحابة والتابعين لهم باحسان إلى يومنا هذا في مختلف البلدان ، لجاء بكتاب فخم ضخم ، يعرب عن أنّ السنة الرائجة في تلك الأعصار قبل الإسلام وبعده ، من عصر الرسول والصحابة والتابعين لهم إلى يومنا هذا ، هي مشروعيّة البناء على القبور والعناية بحفظ آثار علماء الدين ، ولم ينبس أي ابن أُنثى حول ذلك ببنت شفة ، وما اعتُرض عليها ، بل تلقوها اظهاراً للمحبّة والودّ لأصحاب الرسالات والنبوّات وأصحاب العلم والفضل ، ومن خالف تلك السنة وعدّها شركاً أو أمراً محرّماً فقد اتّبع غير سبيل المؤمنين ، قال سبحانه :

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (النساء / ١١٥).

٤٣

وقد وارى المسلمون جسد النبي الأكرم في بيته المسقّف ، ولم يزل المسلمون منذ واروا جثمانه ، على العناية بحجرته الشريفة بشتّى الأساليب.

وقد بنى عمر بن الخطاب حول حجرته جداراً ، حيث جاء تفصيل كلّ ذلك مع ذكر وصف الأبنية التي توالت عليها عبر القرون في الكتب المتعلّقة بتاريخ المدينة ، لا سيّما وفاء الوفا للإمام السمهودي المتوفّى عام ٩١١ ه‍ (١) ، والبناء الأخير الذي شيّد عام ١٢٧٠ ه‍ قائم لم يمسّه سوء ، وسوف يبقى بفضل الله تبارك وتعالى محفوظاً عن الاجتراء.

وأمّا المشاهد والقباب المبنيّة في المدينة منذ العصور الأُولى فحدّث عنها ولا حرج ، لا سيّما في بقيع الغرقد ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب التاريخ وأخبار المدينة.

وقد ذكر كثير من المؤرّخين والسوّاح شيئاً كثيراً من أبنية شاهقة على قبور الأنبياء والصالحين في خير القرون.

وبدورنا نذكر شيئاً يسيراً ممّا جاء في كتبهم ، ونكتفي بذكر كلمات ثلاثة من المؤرّخين المعروفين بالثبت والضبط ، ثمّ نذكر ما ذكره الرحّالة المعروف ابن جبير في رحلته على وجه التفصيل :

١ ـ كلمة المسعودي في حقّ قبور أئمة أهل البيت عليهم‌السلام

هذا هو المسعودي الذي توفي عام ٣٤٥ ه‍ ، وقد أدرك خير القرون ، وولد في مؤخّره ـ لو كان خير القرون هو القرون الثلاثة الأُولى ـ

__________________

(١) السمهودي ، وفاء الوفا ٢ : ٤٥٨ الفصل التاسع.

٤٤

يقول : وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة مكتوب عليها : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله مبيد الأُمم ومحيي الرمم ، هذا قبر فاطمة بنت رسول الله (ص) سيّدة نساء العالمين وقبر الحسن بن عليّ ابن أبي طالب ، وعليّ بن الحسين بن أبي طالب ، ومحمّد بن علي وجعفر ابن محمد (١).

٢ ـ كلمة ابن الجوزي :

يقول ابن الجوزي : وهذا هو محمد بن أبي بكر التلمساني يصف المدينة الطيّبة وبقيع الغرقد في القرن الرابع بقوله : وقبر الحسن بن علي عن يمينك إذا خرجت من الدرب ترفع إليه قليلاً ، عليه مكتوب : هذا قبر الحسن بن علي ، دفن إلى جنب أُمّه فاطمة رضي الله عنها وعنه (٢).

٣ ـ كلمة الحافظ محمد بن محمود بن النجّار :

يقول : في قبة كبيرة عالية قديمة البناء في أول البقيع ، وعليها بابان يفتح أحدهما في كلّ يوم للزيارة رضي الله عنهم (٣).

٤ ـ الرحّالة ابن جبير والأبنية على المشاهد :

هذا هو أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي الشاطبي ،

__________________

(١) المسعودي ، مروج الذهب ومعادن الجوهر ٢ : ٢٨٨.

(٢) مجلة العربي : رقم ع ٦ المؤرخة ١٣٩٣.

(٣) أخبار مدينة الرسول ، اهتمّ بنشره صالح محمد جمال ، طبع مكة المكرّمة ١٣٦٦.

٤٥

أحد علماء الأندلس الأكابر في الفقه والحديث ، يحكي لنا في رحلته عن الأبنية الرفيعة والقباب العالية في المشاهد والمزارات المعروفة يومذاك للأنبياء والصالحين والنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وصحابته والتابعين لهم بإحسان.

فقد قام برحلات ثلاث ، أهمّها استغرقت أكثر من ثلاث سنوات ، حيث بدأها يوم الاثنين في التاسع عشر من شهر شوال عام ٥٧٨ ه‍ ، وختمها في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر محرم سنة ٥٨١ ه‍ ، وقد وصف في هذه الرحلة ما مرّ به من مدن وما شاهد من عجائب البلدان.

كما وعنى عناية خاصة بوصف النواحي الدينية والمساجد والمشاهد وقبور الأنبياء والأولياء وأهل البيت والصحابة والتابعين ، وصفاً دقيقاً ، يعرب عن أنّ هذه القباب والأبنية الرفيعة شُيّدت من قبل قرون تتّصل إلى عصر الصحابة والتابعين.

ولم يكن يومذاك أيُّ معترض على بنائها فوق قبور هؤلاء ، ولم يدر بِخُلْدِ أحد أنّ هذه القباب والأبنية ستبعدنا عن التوحيد ، بل كانوا يتبرّكون بهذا العمل ويبدون ما في مشاعرهم من ودّ وحبّ لأصحابها.

وكان التبرّك والتقبيل سنّة رائجة بين المسلمين ، وهم لم يكونوا يقبّلون باباً ويتبرّكون بالجدار ، بل يتبرّكون بمن حوتهم ، على حدّ قول مجنون العامري :

أمرُّ على الديار ديار ليلى

أُقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبّ الديار شغفن قلبي

ولكن حبّ من سكن الديارا

٤٦

وفيما يلي نشير بشكل مقتضب إلى مجمل كلامه :

مشهد رأس الحسين بالقاهرة :

يقول ابن جبير في ذكر مصر والقاهرة وبعض آثارها العجيبة : فأوّل ما نبدأ بذكره منها الآثار والمشاهد المباركة التي ببركتها يمسكها الله عزوجل ، فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما ، وهو في تابوت فضّة مدفون تحت الأرض قد بُنيَ عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولا يحيط الإدراك به .....

إلى أن يقول : ومن أعجب ما شاهدناه في دخولنا إلى هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل ، شديد السواد والبصيص ، يصف الأشخاص كلّها ، كأنّه المرآة الهندية الحديثة الصقل.

وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك ، وإحداقهم به ، وانكبابهم عليه ، وتمسّحهم بالكسوة التي عليه ، وطوافهم حوله ، مزدحمين داعين باكين متوسّلين إلى الله سبحانه وتعالى ببركة التربة المقدّسة ، ومتضرّعين ما يذيب الأكباد ويصدع الجماد ، والأمر فيه أعظم ، ومرأى الحال أهول ، نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم.

مشاهد الأنبياء والصالحين في مصر :

يقول ابن جبير عن الجبّانة المعروفة بالقرافة : هي أيضاً إحدى عجائب الدنيا ، لِما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم ،

٤٧

وأهل البيت رضوان الله عليهم ، والصحابة والتابعين والعلماء والزهّاد والأولياء ... فمنها قبر ابن النبي صالح ، وقبر روبيل بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم أجمعين ، وقبر آسية امرأة فرعون رضي الله عنها ، ومشاهد أهل البيت رضي الله عنهم أجمعين ، مشاهد أربعة عشر من الرجال وخمس من النساء.

إلى أن يقول : مشهد عليّ بن الحسين بن عليّ رضى الله عنه ، ومشهدان لابني جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهم ، والقاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد بن علي زين العابدين المذكور ، رضي الله عنهم ، ومشهدان لابنيه الحسن والحسين رضي الله عنهما ، ومشهد ابنه عبد الله بن القاسم رضى الله عنه ، ومشهد ابنه يحيى بن القاسم ، ومشهد عليّ بن عبد الله بن القاسم ، رضي الله عنهم ، ومشهد أخيه عيسى بن عبد الله ، رضي الله عنهما ، ومشهد يحيى بن الحسن بن زيد بن الحسن ، رضي الله عنهم ، ومشهد محمد بن عبد الله بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي ، رضي الله عنهم ، ومشهد جعفر بن محمد من ذريّة عليّ بن الحسين ، رضي الله عنهم.

وأمّا عن النساء فيقول ابن جبير : مشهد السيّدة أُمّ كلثوم ابنة القاسم بن محمد بن جعفر ، رضي الله عنهم ، ومشهد السيّدة زينب ابنة يحيى بن زيد بن علي بن الحسين ، رضي الله عنهم ، ومشهد أُمّ كلثوم ابنة محمد بن جعفر الصادق رضي الله عنهم ، ومشهد السيّدة أُمّ عبد الله بن القاسم بن محمد ، رضي الله عنهم.

٤٨

مشاهد الصحابة في مصر :

ويذكر أيضاً من المشاهد في قوله : مشهد معاذ بن جبل رضى الله عنه ، مشهد عقبة بن عامر الجهني حامل راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مشهد صاحب بردة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مشهد أبي الحسن صائغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مشهد سارية الجبل رضى الله عنه ، مشهد محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، مشهد أولاده رضي الله عنهم ، مشهد أحمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، مشهد أسماء ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، مشهد ابن الزبير بن العوام رضي الله عنهما ، مشهد عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مشهد ابن حليمة رضيع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

مشاهد الفقهاء الكبار في مصر :

وعن مشاهد الأئمة العلماء الزهّاد يقول : مشهد الإمام الشافعي رضى الله عنه ، وهو من المشاهد العظيمة احتفالاً واتّساعاً ، وبُني بإزائه مدرسة لم يُعْمر بهذه البلاد مثلها ، يخيل لمن يطوف عليها أنّها بلد مستقل بذاته ، بإزائها الحمام ، إلى غير ذلك من مرافقها ، والبناء فيها حتى الساعة ، والنفقة عليها لا تُحصى ، تولّى ذلك بنفسه الشيخ الإمام الزاهد العالم المعروف بنجم الدين الحُبوشاني.

وسلطان هذه الجهات صلاح الدين ، يسمح له بذلك كلّه ويقول : زد احتفالاً وتأنّقاً وعلينا القيام بمئونة ذلك كله ، فسبحان الذي جعله صلاح دينه كاسمه.

ثمّ يذكر مشاهد أُخرى ويقول :

٤٩

مشهد المُزَنيّ صاحب الإمام الشافعي رضى الله عنه ، مشهد أشهب صاحب مالك رضى الله عنه ، مشهد عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك رضي الله عنهما ، مشهد أصبغ صاحب مالك رضي الله عنهما ، مشهد القاضي عبد الوهاب رضى الله عنه ، مشهد عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم رضي الله عنهما ، مشهد الفقيه الواعظ الزاهد أبي الحسن الدينوري رضى الله عنه ، مشهد بُنان العابد رضى الله عنه ، مشهد الرجل الصالح العابد الزاهد المعروف بصاحب الإبريق ، وقصّته عجيبة في الكرامة ، مشهد أبي مُسلم الخَوْلاني رضى الله عنه ، مشهد المرأة الصالحة المعروفة بالعيناء رضي الله عنها ، مشهد الروذباريّ رضى الله عنه ، مشهد محمد بن مسعود بن محمد بن هارون الرّشيد المعروف بالسّبتي رضى الله عنه ، مشهد الرجل الصالح مُقبل الحبشيّ رضى الله عنه ، مشهد ذي النون بن ابراهيم المصري رضى الله عنه ، مشهد القاضي الأنباري ، قبر الناطق الذي سُمع عند وضعه في لحده يقول : اللهمّ أنزلني مُنزلاً مباركاً وأنت خيرُ المنزلين رضى الله عنه ، مشهد العروس ولها أثر من الكرامة في حال جَلْوَتها على زوجها لم يُسمع أعجب منه ، مشهد الصامت الذي يُحكى عنه أنّه لم يتكلّم أربعين سنة ، مشهد العصافيري ، مشهد عبد العزيز بن أحمد بن علي بن الحسن الخوارزمي ، مشهد الفقيه الواعظ الأفضل الجوهريّ ومشاهد أصحابه بإزائه رضي الله عنهم أجمعين ، مشهد شُقْران شيخ ذي النّون المصري ، مشهد الرجل الصالح المعروف بالأقطع المغربيّ ، مشهد المقرئ وَرْش ، مشهد الطبري ، مشهد شيبان الراعي.

والمشاهد الكريمة بها أكثر من أن تُضبَط بالتقييد أو تتحصّل

٥٠

بالإحصاء ، وإنّما ذكرنا منها ما أمكنَتْنا مشاهدتهُ.

وبقبلة القرافة المذكورة بسيط متّسع يُعرف بموضع قبور الشهداء ، وهم الذين استُشهدوا مع سارية رضي الله عن جميعهم ، والبسيط المذكور مُسنّم كله للعيان على مثال أسنِمة القبور دون بناء.

القباب الرفيعة لأهل البيت في مكة المكرّمة :

وعن مشاهد مكة المكرّمة يقول ابن جبير : فمن مشاهدها التي عاينّاها قبّة الوحي ، وهي في دار خديجة أُمّ المؤمنين رضي الله عنها ، وبها كان ابتناء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، وقبّة صغيرة أيضاً في الدار المذكورة فيها كان مولد فاطمة الزهراء رضي الله عنها ، وفيها أيضاً ولدت سيدي شباب أهل الجنّة ، الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وهذه المواضع المقدّسة المذكورة مغلقة مصونة قد بنيت بناءً يليق بمثلها.

ومن مشاهدها الكريمة أيضاً مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتربة الطاهرة التي هي أوّل تربة مسّت جسمه الطاهر بُني عليها مسجد لم يُر أحفل بناءً منه ، أكثره ذهب منزّل به ، والموضع المقدّس الذي سقط فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعة الولادة السعيدة المباركة التي جعلها الله رحمةً للأُمّة أجمعين محفوف بالفضة.

ثمّ يعد بعض المشاهد فيقول : دار الخيزران ، وهي الدار التي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعبد الله فيها سراً مع الطائفة الكريمة المبادرة للإسلام من أصحابه رضي الله عنهم ... دار أبي بكر الصديق ... قبّة بين الصفا والمروة تنسب لعمر بن الخطاب ...

يقول ابن جبير : دخلنا مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو مسجد حفيل البنيان

٥١

وكان داراً لعبد الله بن عبد المطلب ... إلى أن يقول : وعلى مقربةٍ منه أيضاً مسجد ، عليه مكتوب : هذا المسجد هو مولد عليّ بن أبي طالب ، رضوان الله عليه ، وفيه تربّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان داراً لأبي طالب عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكافله.

المشاهد المكرّمة ببقيع الغرقد :

وفي ذكر المشاهد المكرّمة ببقيع الغرقد يقول ابن جبير : فأوّل ما نذكر من ذلك مسجد حمزة رضى الله عنه ، وهو بقِبْلَي الجبل المذكور ، والجبل جوفي المدينة ، وهو على مقدار ثلاثة أميال ، وعلى قبره رضى الله عنه مسجد مبنيّ ، والقبر برحبة جوفي المسجد ، والشهداء رضي الله عنهم بإزائه ... وحول الشهداء تربة حمراء هي التربة التي تنسب إلى حمزة ويتبرّك الناس بها.

وبقيع الغرقد شرقي المدينة ، تخرج إليه على باب يعرف بباب البقيع ، وأوّل ما تلقى عن يسارك عند خروجك من الباب المذكور مشهد صفية عمّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أُمّ الزبير بن العوام رضى الله عنه ، وأمام هذه التربة قبر مالك بن أنس الإمام المدني رضى الله عنه وعليه قبّة صغيرة مختصرة البناء ، وأمامه قبر السلالة الطاهرة ابراهيم ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليه قبّة بيضاء ، وعلى اليمين منها تربة ابن لعمر بن الخطاب رضى الله عنه اسمه عبد الرحمن الأوسط ، وهو المعروف بأبي شَحْمة ، وهو الذي جَلَده أبوه الحدّ ، فمرض ومات ، رضي الله عنهما ، وبازائها قبر عقيل بن أبي طالب رضى الله عنه ، وعبد الله بن جعفر الطيار رضى الله عنه ، وبازائهم روضة فيها أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبإزائها روضة صغيرة

٥٢

فيها ثلاثة من أولاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويليها روضة العباس بن عبد المطّلب والحسن بن علي رضي الله عنهما ، وهي قبّة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور وعن يمين الخارج منه ، ورأس الحسن إلى رجلي العبّاس رضي الله عنهما ، وقبراهما مرتفعان عن الأرض متّسعان مُغشّيان بألواح ملصقة أبدَع إلصاق ، مرصّعة بصفائح الصُّفْر ، ومكوكَبة بمساميره على أبدع صفة وأجمل منظر ، وعلى هذا الشكل قبر ابراهيم ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويلي هذه القبّة العبّاسيّة بيت يُنسَب لفاطمة بنت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويعرف ببيت الحُزن ، يقال : إنّه الذي أوت إليه والتزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النّورين رضى الله عنه ، وعليه قبّة صغيرة مختصرة ، وعلى مقربةٍ منه مشهد فاطمة ابنة أسد أُمّ عليّ ، رضي الله عنها وعن بنيها.

ومشاهد هذا البقيع أكثر من أن تُحصى ، لأنّه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة المهاجرين والأنصار ، رضي الله عنهم أجمعين ، وعلى قبر فاطمة المذكورة مكتوب : ما ضمّ قبر أحد كفاطمة بنت أسد رضي الله عنها وعن بنيها.

مشاهد الكوفة :

ويقول ابن جبير عن مسجد الكوفة :

وبهذا الجامع المكرّم آثار كريمة : فمنها بيت بإزاء المحراب عن يمين المستقبل القبلة ، يقال : إنّه كان مصلّى ابراهيم الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليه ستر أسود صوناً له ، ومنه خرج الخطيب لابساً ثيابَ السواد للخطبة ،

٥٣

فالناس يزدحمون على هذا الموضع المبارك للصلاة فيه ، وعلى مقربة منه ، ممّا يلي الجانب الأيمن من القبلة ، محراب محلّق عليه بأعواد الساج مرتفع عن صحن البلاط كأنّه مسجد صغير ، وهو محراب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، وفي ذلك الموضع ضربه الشقيّ اللعين عبد الرحمن بن ملجم بالسيف ، فالناس يصلّون فيه باكين داعين ، وفي الزاوية من آخر هذا البلاط القبليّ ، المتّصل بآخر البلاط الغربيّ ، شبيه مسجد صغير محلّق عليه أيضاً بأعواد الساج ، هو موضع مَفار التنّور الذي كان آيةً لنوح عليه‌السلام ، وفي ظهره ، خارج المسجد ، بيته الذي كان فيه ، وفي ظهره بيت آخر يقال إنّه كان متعبَّد إدريس صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويتّصل بهما فضاء متّصل بالجدار القبلي من المسجد ، يقال إنّه مُنشأ السفينة ، ومع آخر هذا الفضاء دار عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، والبيت الذي غسل فيه ، ويتّصل به بيت يُقال إنّه كان بيت ابنة نوح صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذه الآثار الكريمة تلقّيناها من ألسنة أشياخ من أهل البلد فأثبتناها حسبما نقلوها إلينا ، والله أعلم بصحّة ذلك كلّه.

وفي الجهة الشرقيّة من الجامع بيت صغير يُصعَد إليه فيه قبر مسلم ابن عقيل بن أبي طالب رضى الله عنه ، وفي غربي المدينة على مقدار فرسخ منها المشهد الشهير الشأن المنسوب لعليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، وحيث بركت ناقته وهو محمول عليها مسجّى ميّتاً على ما يُذكر ، ويقال : إنّ قبره فيه.

قبور العلماء والأولياء المشيّدة ببغداد :

يقول ابن جبير :

٥٤

وبإحدى هذه المحلّات قبر معروف الكَرخي ، وهو رجل من الصالحين مشهور الذكر في الأولياء ، وفي الطريق إلى باب البصرة مشهد حفيل البنيان داخله قبر متّسع السّنام ، عليه مكتوب : هذا قبر عَون ومَعين ، من أولاد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، وفي الجانب الغربي أيضاً قبر موسى بن جعفر ، رضي الله عنهما.

إلى مشاهد كثيرة ممّن لم تحضرنا تسميتُه من الأولياء والصالحين والسلف الكريم ، رضي الله عن جميعهم.

وبأعلى الشرقيّة خارج البلد محلّة كبيرة بإزاء محلّة الرّصافة ، وبالرصافة كان باب الطّاق المشهور على الشطّ ، وفي تلك المحلّة مشهد حفيل البنيان ، له قبّة بيضاء سامية في الهواء ، فيه قبر الإمام أبي حنيفة رضى الله عنه ، وبه تعرف المحلّة ، وبالقرب من تلك المحلّة قبر الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه ، وفي تلك الجهة أيضاً قبر أبي بكر الشبلي رحمه‌الله ، وقبر الحسين ابن منصور الحلاج ، وببغداد من قبور الصالحين كثير ، رضي الله عنهم.

المشاهد المكرّمة والآثار المعظّمة في الشام :

يقول ابن جبير :

فأوّلها مشهد رأس يحيى بن زكريا عليه‌السلام ، وهو مدفون بالجامع المكرّم في البلاط القبلي قبالة الركن الأيمن من المقصورة الصحابيّة (١) ، رضي الله عنهم ، وعليه تابوت خشب معترض من الأسطوانة ، وفوقه

__________________

(١) هي أول مقصورة وضعت في الإسلام وضعها معاوية بن أبي سفيان.

٥٥

قنديل كأنّه من بلّور مجوّف ، كأنّه القدح الكبير ، لا يُدرى أمن زجاج عراقيّ أم صُوريّ هو أم من غير ذلك.

ومولد ابراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى نبيّنا الكريم ، وهو بصفح جبل قاسيون عند قرية تُعرف بِبَرْزَة ، وهي من أجمل القرى ، وهذا الجبل مشهور بالبركة في القديم لأنّه مصعد الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، ومطلعهم ، وهو في الجهة الشماليّة من البلد وعلى مقدار فرسخ ، وهذا المولد المبارك غار مستطيل ضيّق ، وقد بُني عليه مسجد كبير مرتفع مُقسّم على مساجد كثيرة كالغُرف المطلّة ، وعليه صومعة عالية ، ومن ذلك الغار رأى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكوكب ثمّ القمر ثمّ الشمس ، حسبما ذكره الله تعالى في كتابه عزوجل (١) ، وفي ظهر الغار مقامه الذي كان يخرج إليه ، وهذا كلّه ذكره الحافظ محدّث الشام أبو القاسم بن هبة الله بن عساكر الدمشقي في تاريخه في أخبار دمشق ، وهو ينيف على مائة مجلّد.

وذكر أيضاً أنّ بين باب الفراديس ، وهو أحد أبواب البلد ، وفي الجهة الشماليّة من الجامع المبارك ، على مقربة منه إلى جبل قاسيون ، مدفن سبعين ألف نبي ، وقيل : سبعون ألف شهيد ، وأنّ الأنبياء المدفونين به سبعمائة نبي ، والله أعلم ، وخارج هذا البلد الجبّانة العتيقة ، وهي مدفن الأنبياء والصالحين ، وبركتها شهيرة ، وفي طرفها ممّا يلي البساتين وَهْدَة من الأرض متّصلة بالجبّانة ، ذكر أنّها مدفن سبعين نبيّاً ، وعصمها الله ونزّهها من أن يُدفن فيها أحد ، والقبور محيطة بها ، وهي لا تخلو من

__________________

(١) الأنعام : ٧٦ ـ ٧٨.

٥٦

الماء حتى عادت قرارة له ، كلّ ذلك تنزيه من الله تعالى لها.

وبجبل قاسيون أيضاً لجهة الغرب ، على مقدار ميل أو أزيد من المولد المبارك ، مغارة تعرف بمغارة الدم ، لأنّ فوقها في الجبل دم هابيل قتيل أخيه قابيل ابني آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يتّصل من نحو نصف الجبل إلى المغارة ، وقد أبقى الله منه في الجبل آثاراً حُمراً في الحجارة تُحك فتستَحيل ، وهي كالطريق في الجبل ، وتنقطع عند المغارة ، وليس يوجد في النصف الأعلى من المغارة آثار تشبهها ، فكان يقال : إنّها لون حجارة الجبل ، وإنّما هي من الموضع الذي جرّ منه القاتل لأخيه حيث قتله حتى انتهى إلى المغارة ، وهي من آيات الله تعالى ، وآياته لا تُحصى.

وقرأنا في تاريخ ابن المعلّى الأسدي أنّ تلك المغارة صلّى فيها ابراهيم وموسى وعيسى ولوط وأيوب ، عليهم وعلى نبيّنا الكريم أفضل الصلاة والسلام.

وعليها مسجد قد أُتقن بناءه ، ويُصعد إليه على أدراج ، وهو كالغرفة المستديرة ، وحولها أعواد مشرجبة مطيفة بها ، وبه بيوت ومرافق للسكنى ، وهو يفتح كلّ يوم خميس ، والسُّرُج من الشمع والفتائل تَقِد في المغارة ، وهي متّسعة.

وفي أعلى الجبل كهف منسوب لآدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليه بناء ، وهو موضع مبارك ، وتحته في حضيض الجبل مغارة تعرف بمغارة الجُوع ، ذكر أنّ سبعين نبيّاً ماتوا فيها جوعاً ، وكان عندهم رغيف ، فلم يزل كلّ واحد منهم يؤثر به صاحبه ويدور عليه من يد إلى يد حتى لحقتهم المنيّة ، صلوات الله عليهم. وعلى هذه المغارة أيضاً مسجد مبني ، وأبصرنا فيه

٥٧

السُّرُج تَقِد نهاراً.

ولكلّ مشهد من هذه المشاهد أوقاف معيّنة من بساتين وأرض بيضاء ورباع ، حتى إنّ البلد تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيه.

وكلّ مسجد يُستحدث بناؤه أو مدرسة أو خانقة يُعيّن لها السلطان أوقافاً تقوم بها وبساكنيها والملتزمين لها ، وهذه أيضاً من المفاخر المخلّدة.

ومن النساء الخواتين ذوات الأقدار من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة وتُنفِق فيها الأموال الواسعة وتعيّن لها من مالها الأوقاف.

ومن الأُمراء من يفعل مثل ذلك ، لهم في هذه الطريقة المباركة مُسارعة مشكورة عند الله عزوجل.

وبآخر هذا الجبل المذكور ، في آخر البسيط البستاني الغربي من هذا البلد ، الربوة المباركة المذكورة في كتاب الله تعالى ، مأوى المسيح وأُمّه ، صلوات الله عليهما ، وهي من أبدع مناظر الدنيا حسناً وجمالاً وإشراقاً ، وإتقان بناء واحتفال تشييد وشرف وضع ، هي كالقصر المشيّد ، ويُصعَد إليها على أدراج ، والمأوى المبارك منها مغارة صغيرة في وسطها ، وهي كالبيت الصغير ، وبإزائها بيت يقال : إنّه مصلّى الخضر صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيبادر الناس للصلاة بهذين الموضعين المباركين ، ولا سيّما المأوى المبارك ، وله باب حديد صغير ينغلق دونه ، والمسجد يطيف بها ، ولها شوارع دائرة ، وفيها سقاية لم يُرَ أحسن منها ، قد سِيقَ إليها الماء من

٥٨

علو ، وماؤها ينصبّ على شاذَرْوان (١) في الجدار متّصل بحوض من رخام يقع الماء فيه ، لم يُرَ أحسن من منظره ، وخلف ذلك مطاهر يجري الماء في كلّ بيت منها ويستدير بالجانب المتّصل بجدار الشاذروان.

وهذه الربوة المباركة رأس بساتين البلد ومَقْسِم مائه ، ينقسم فيها الماء على سبعة أنهار ، يأخذ كلّ نهر طريقه ، وأكبر هذه الأنهار نهر يُعرف بثوار ، وهو يشقّ تحت الربوة ، وقد نُقِر له في الحجر الصلد أسفلها حتى انفتح له متسرّب واسع كالغار ، وربّما انغمس الجَسُور من سُبّاح الصبيان أو الرجال من أعلى الربوة في النهر واندفع تحت الماء حتى يشقّ متسرّبه تحت الربوة ويخرج أسفلها ، وهي مخاطرة كبيرة.

ويُشرَف من هذه الربوة على جميع البساتين الغربية من البلد ، ولا إشراف كإشرافها حسناً وجمالاً واتّساعَ مسرح للأبصار ، وتحتها تلك الأنهار السبعة تتسرّب وتسيح في طرق شتّى ، فتحار الأبصار في حسن اجتماعها وافتراقها واندفاع انصبابها ، وشرفُ موضوع هذه الربوة ومجموع حسنها أعظم من أن يحيط به وصف واصف في غلوّ مدحه ، وشأنها في موضوعات الدّنيا الشريفة خطير كبير.

ومن أحفل هذه المشاهد مشهد منسوب لعليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، قد بُني عليه مسجد حفيل رائق البناء ، وبإزائه بستان كلّه نارنج ، والماء يطرد فيه من سقاية معيّنة ، والمسجد كلّه ستور معلّقة في جوانبه صغار وكبار.

__________________

(١) الشاذروان : حائط صغير بجوار الجدار الأصلي لتقويته.

٥٩

ومن المشاهد المكرّمة مشهد سعد بن عُبادة رئيس الخزرج ، صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بقرية تعرف بالمَنِيحة شرقي البلد وعلى مقدار أربعة أميال منه ، وعلى قبره مسجد صغير حسن البناء ، والقبر في وسطه ، وعند رأسه مكتوب : هذا قبر سعد بن عبادة رأس الخزرج ، صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن مشاهد أهل البيت رضي الله عنهم : مشهد أُمّ كلثوم ابنة عليّ بن أبي طالب ، رضي الله عنهما ، ويقال بها زينب الصغرى ، وأُمّ كلثوم كنية أوقعها عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لشبهها بابنته أُمّ كلثوم ، رضي الله عنها ، والله أعلم بذلك ، ومشهدها الكريم بقرية قبليّ البلد تعرف براوية على مقدار فرسخ ، وعليه مسجد كبير ، وخارجه مساكن ، وله أوقاف ، وأهل هذه الجهات يعرفونه بقبر الستّ أُمّ كلثوم ، مشَينا إليه وبتنا به وتبرّكنا برؤيته ، نفعنا الله بذلك.

وبالجبّانة التي بغربي البلد ، من قبور أهل البيت ، كثير ، رضي الله عنهم ، منها قبران عليهما مسجد يقال إنّهما من ولد الحسن والحسين ، رضي الله عنهما ، ومسجد آخر فيه قبر يقال إنّه لسكينة بنت الحسين ، رضي الله عنهما ، أو لعلّها سُكينة أُخرى من أهل البيت.

ومن المشاهد أيضاً قبر بجامع النَّيْرب ، في بيت بالجهة الشرقيّة منه ، يقال إنّه لأُمّ مريم ، رضي الله عنها.

وبقرية داريّا (١) قبر أبي مسلم الخولاني رضى الله عنه ، وعليه قبّة هي

__________________

(١) تكتب عادة : داريا ، بالألف.

٦٠