صيانة الآثار الإسلاميّة

الشيخ جعفر السبحاني

صيانة الآثار الإسلاميّة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٨٧

تتّخذوها قبوراً».

ج ـ عن جابر قال : قال رسول الله (ص) : «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته فإنّ الله جاعل في بيته من صلاته خيراً».

د ـ عن أبي موسى عن النبي (ص) : «مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحيّ والميّت».

ه ـ وعن زيد بن ثابت في حديث : «فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلّا الصلاة المكتوبة» (١).

و ـ روى أحمد أنّ عبد الله بن سعد سألَ رسول الله وقال : أيّما أفضل : الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ فقال : «فقد ترى ما أقرب بيتي من المسجد ، ولأن أُصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أُصلّي في المسجد إلّا أن تكون صلاة مكتوبة» (٢).

فهذه القرائن المؤكدة ترفع الستار عن وجه المعنى ، فإنّ المراد من الآية هو بيوت الأنبياء وبيوت النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وبيت عليّ عليه‌السلام وما ضاهاها ، فهذه البيوت لها شأنها الخاصّ ؛ لأنّها تخصُّ رجالاً يُسبّحونه سبحانه ليلاً ونهاراً ، غُدُواً وآصالاً ، تعيش فيها رجال لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وقلوبهم مليئة بالخوف من يوم تتقلّب فيه القلوب والأبصار.

__________________

(١) مسلم ، الصحيح ٢ : ١٨٧ ـ ١٨٨ باب استئجار صلاة النافلة في البيت.

(٢) أحمد ، المسند ٤ : ٣٤٢.

٢١

ما هو المراد من الرفع؟

قد تعرّفت على المقصود من البيوت ، فهلمّ معي ندرس معنى الرفع ، ومن حسن الحظّ أنّ المفسّرين لم يختلفوا فيه اختلافاً موجباً لغموض المعنى ، وذكروا فيه المعنيين التاليين :

الأول : إنّ المراد من الرفع هو البناء ، بشهادة قوله سبحانه : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) (النازعات / ٢٨) ، وقوله سبحانه : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ...) (البقرة / ١٢٧).

الثاني : إنّ المراد هو تعظيمها والرفع من قدرها ، قال الزمخشري : رَفْعُها : إمّا بناؤها ، لقوله تعالى : (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) و (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ ...) أمر الله أن تُبنى ، وإمّا تعظيمها والرفع من قدرها (١).

وقال القرطبي : ترفع : تُبْنى وتعْلى (٢).

وقال اسماعيل حقي البرسوي : أن ترفع : بالبناء ، والتعظيم ورفع القدر (٣).

وقال حسن صدّيق خان : المراد من الرفع ، بناؤها (أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) ورفع ابراهيم القواعد من البيت ، وترفع أي تعظّم وتطهر من الأنجاس عن اللغو ولها مجموع الأمرين (٤) ، إلى غير ذلك من الكلمات المتشابهة ، ولا حاجة إلى ذكرها ، إنّما المهم بيان دلالة الآية وتحقيقها.

__________________

(١) الزمخشري ، الكشاف ٢ : ٣٩٠ بتصرّف يسير بإضافة كلمة «أما».

(٢) القرطبي ، جوامع الأحكام ١٢ : ٢٦٦.

(٣) اسماعيل حقي البرسوي ، روح البيان ٦ : ١٥٨.

(٤) صديق حسن خان ، فتح البيان ٦ : ٣٧٢.

٢٢

قد عرفت أنّ المراد من البيوت هو بيوت الأنبياء والعترة والصالحين من صحابة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالآية تأذن أن تُبنى هذه البيوت بناءً حسياً وترفع من قدرها رفعاً معنوياً ، فهنا نستنتج من الآية أمرين :

١ ـ أنّ المراد من رفع البيوت ليس إنشاؤها ، لأنّ المفروض أنّها بيوت مبنيّة ، بل المراد هو صيانتها عن الاندثار ، وذلك كرامة منه سبحانه لأصحاب هذه البيوت ، فقد ترك المسلمون الأوائل بيوتاً للرسول الأكرم والعترة الطاهرة وللصالحين من صحابته وحرستها الدول الإسلامية طيلة أربعة عشر قرناً ، فعلى المسلمين قاطبة والدول الإسلاميّة عامّة بذل السعي في صيانتها عملاً بالآية المباركة ، والحيلولة دون تهديمها بحجّة توسعة المسجد النبوي أو المسجد الحرام.

ولكن من سوء الحظّ ، أو من تسامح الدول في ذلك المجال أن هُدّمت هذه البيوت ودمّرت بمعاول الوهابيين ، ومن هذه البيوت بيت الحسنين والصادقين عليهم‌السلام في محلّة بني هاشم ، فلا ترى لها أثراً ، كما لا ترى من بيت أبي أيوب الأنصاري مُضيِّف النبيّ الأكرم أثراً ، ومثلها مولد النبي في مكة المكرّمة وغيرها.

فعلى المسلمين مسئولية إعادة هذه الأبنية في أماكنها عملاً بالآية ورفع قدرها مهما أمكن ، ولئن صارت الإعادة أُمنية لا تُدرَك ، ما دام السيف على هامة المسلمين في أرض الوحي والتوحيد ، لكن صيانةُ ما بقي منها في مختلف الأقطار أمرٌ ممكن.

٢ ـ أنّ قسماً من البيوت في المدينة المنوّرة مقابر ومشاهد

٢٣

لهؤلاء ، فقد دُفن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته.

كما أنّ بيت العسكريين يعني الإمام عليّ الهادي والحسن العسكري في سامرّاء بمثابة مقابرهما ومشاهدهما ، فليس لأحد قلعها بمعاول الجور باسم التوحيد ، وأيّ توحيد أعلى وأجل ممّا دعا إليه الذكر الحكيم الذي يأمر بصيانة بيوت هؤلاء مطلقاً ، سواء كانت مقابرهم أمْ لا.

بالله عليك أيّها القارئ الكريم هل زرتَ بقيع الغرقد مراقدَ الأئمة والصحابة وزوجات النبي والشخصيّات الإسلاميّة الكبيرة ، وهل شاهدت قيام الحكومة بواجبها من رفع قدره وتنظيف أرضه ، أم شاهدت النقيض من ذلك؟ وقد كانت بعض هذه القبور بيوت الصحابة ، ولعمري إنّ القلب ليحترق إذا رأى أنّ الوهابيين يتعاملون مع قبور أفلاذ كبد النبيّ وخيار أصحابه معاملة العدوّ مع العدوّ ، ونعم من قال :

لعمري أنّ فاجعة البقيع

يشيب لهولها فُود الرّضيعِ

لقد خرجنا في دراسة هذه الآية على نتيجة خاصة ، وهي أنّ صيانة بيوت الأنبياء والأولياء أمر ندب الله سبحانه المسلمين إليه ، سواء كان فيها قبر أوْ لا ، وأنّ رفعها بالبناء وصيانتها عن الانطماس وتنظيفها عن الرجس واللغو عمل بالشريعة المقدّسة ، حيثُ نزل به الوحي وسار عليه المسلمون في جميع القرون.

٢٤

الآية الثانية

اتّخاذ المساجد على قبور المضطهدين

في سبيل التوحيد

يذكر سبحانه قصة أصحاب الكهف ، وأنّهم اعتزلوا قومَهم للحفاظ على عقيدتهم ودينهم ، حتى وافاهم الأجل وهم في الكهف ، وقد أعثر الله عليهم قوماً بعد ثلاثة قرون وأطلعهم عليهم ، يقول سبحانه : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (الكهف / ٢١).

ومعنى الآية أنّا أعثرنا على أصحاب الكهف أهلَ المدينة ليعلموا أنّ وعد الله بالبعث حقّ ، فإنّ بَعْثَ هؤلاء بعد لَبْثهم ثلاثمائة سنة دليل على إمكان الحياة الثانوية ، ليعلموا أنّ الساعة لا ريب فيها.

ثمّ إنّ القوم الذين أعثرهم الله على أجسادهم اتّفقوا على تكريمهم ، ولكن اختلفوا في طريقة التكريم ، كما يقول سبحانه : (إِذْ

٢٥

يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) ، فظاهرُ المنازعة هو ما جاء بعد هذه الجملة بضميمة لفظة الفاء ، فقال جماعة : (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) ، أي اجعلوا عليهم بنياناً كبيراً ، ويدلّ على الوصف تنكير (بُنْياناً) ، وقد صرّح الجوهري وابن منظور بأنّ البنيان بمعنى الحائط (١) ، ولذلك فسّره القاسمي بقوله : أي باب كهفهم بنياناً عظيماً كالخانقاهات والمشاهد والمزارات المبنيّة على الأنبياء وأتباعهم (٢) ، تستر أجسادهم وتعظّم أبدانهم ، ربهم أعلم بهم.

ولكن قال آخرون الذين غلبوا على أمر القائلين بالقول الأول وصار البلد تحت سلطتهم (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) ومعبداً وموضعاً للعبادة والسجود يتعبّد الناس فيه ببركاتهم.

هذا هو الظاهر المستفاد من الآية.

قال الرازي : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) قيل : المراد به الملك المسلم وأولياء أصحاب الكهف ، وقيل : رؤساء البلد ، (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) نعبد الله ، وستبقى آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد (٣).

وقال أبو حيان الأندلسي : روي أنّ التي دَعت إلى البنيان ماتت كافرة ، أرادت بناء مصنع لكفرهم ، فمانعهم المؤمنون وبنوا عليهم مسجداً (٤).

__________________

(١) الجوهري ، الصحاح ٦ : ٢٢٨ مادة بناء ؛ وابن منظور ، اللسان ١ : ٥١٠ تلك المادة.

(٢) القاسمي ، محاسن التأويل ٧ : ٢١.

(٣) الرازي ، مفاتيح الغيب ٢١ : ١٠٥.

(٤) أبو حيان محمد بن يوسف (٦٥٤ ـ ٧٥٤ ه‍) ، البحر المحيط ج ٦.

٢٦

وقال أبو السعود (ت ٩٥١) : و (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) وهم الملك والمسلمون (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (١).

وقال الزمخشري في الكشاف : و (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم ليتّخذ على باب الكهف مسجداً يصلّي فيه المسلمون ويتبرّكون بمكانهم (٢).

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في تفسير الآية ، وكأنَّ الاتفاق موجود على أنّ القول بايجاد البنيان على باب الكهف كان لغير المسلمين ، والقول ببناء المسجد على بابه قول المسلمين ، والذي يدلّ على ذلك أمران :

الأوّل : إنّ اتّخاذ المسجد دليل على أنّ القائل كان موحّداً مسلماً غير مشرك ، فأيّ صلة للمشرك ببناء مسجد على باب الكهف ، ولو كان المشركون يهتمّون بعمارة المسجد الحرام فلأجل أنّه أُنيطَ بالبيت كيانهم وعظمتهم في الأوساط العربيّة ، بحيث كان التخلّي عنها مساوقاً لسقوطهم عن أعين العرب في الجزيرة كتكريمهم البيت الحرام.

أفبعدَ اتّفاق أكابر المفسّرين هل يصحّ لباحثٍ أن يشكّ في أنّ القائلين ببناء المسجد على قبورهم كانوا هم المسلمين الموحّدين؟!

الثاني : ما رواه الطبري في تفسير قوله : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) قال : إنّ المبعوث دخل المدينة فجعل يمشي بين سوقها فيسمع أُناساً كثيراً يحلفون باسم عيسى بن مريم فزاده فزعاً ورأى أنّه

__________________

(١) أبو السعود محمد بن محمد العمادي ، التفسير ٥ : ٢١٥.

(٢) الزمخشري ، الكشاف ٢ : ٢٤٥.

٢٧

حيران ، فقام مسنِداً ظهرَه إلى جدار من جُدران المدينة ويقول في نفسه : أمّا عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلّا قتل ، أمّا الغداة فأسمعهم وكلّ إنسان يذكر أمر عيسى لا يخاف ، ثمّ قال في نفسه : لعلّ هذه ليست بالمدينة التي أعرف (١).

وهذا يعرب عن أنّ الأكثرية الساحقة كانت موحّدة مؤمنة متديّنة بشريعة المسيح ، رغم ما كانوا على ضدّه قبل ثلاثمائة سنة.

وقال في تفسير قوله تعالى : (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) فقال الذين أعثرناهم على أصحاب الكهف : (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) يقول : ربّ الفتية أعلم بشأنهم ، وقوله : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) يقول جلّ ثناؤه : قال القوم الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف : (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً).

وقد نُقل عن عبد الله بن عبيد بن عمير : فقال المشركون نبني عليهم بنياناً فإنّهم آباؤنا ونعبد الله فيها ، وقال المسلمون : نحن أحقّ بهم ، هم منّا ، نبني عليهم مسجداً فيه ونعبد الله فيه (٢).

الرأي المسبق يضرب عرض الجدار

إنّ الشيخ الألباني ربيب الوهابيّة ومروّجها ، لمّا رأى دلالة الآية على أنّ المسلمين حاولوا أنْ يبنوا مسجداً على قبورهم ، وكان ذلك على

__________________

(١) الطبري ، التفسير ١٥ : ٢١٩ في تفسير سورة الكهف ، الآية ١٩ ط. مصر مصطفى الحلبي.

(٢) الطبري ، التفسير ١٥ : ٢٢٥ ؛ ولاحظ تفسير القرطبي والكشاف للزمخشري وغرائب القرآن للنيسابوري في ذيل هذه الآية.

٢٨

طرف الخلاف من عقيدته ، حاول تحريف الكلم وقال : إنّ المراد من الغالبين هم أهل السلطة ، ولا دليل على حجيّة فعلهم ، ولكنّه عزب عن أنّ البيئة قد انقلبت عن الشرك إلى التوحيد ومن الكفر إلى الإسلام حسبما نقله الطبري ، وليس القائل ببناء المسجد على بابهم الملك ، وإنّما القائل هم الذين توافدوا على باب الكهف عند ما أعثرهم سبحانه على أحوالهم ، وطبع الحال يقتضي توافد الأكثرية الساحقة القاطنين في المدينة على باب الكهف لا خصوص الملك ، ولا وزراؤه ، بل الموحّدون بأجمعهم ، وهو في هذه النسبة عيال على ابن كثير حيث قال : والظاهر أنّهم أصحاب النفوذ (١).

نحن نفترض أنّهم أصحاب النفوذ ، إلّا أنّهم نظروا إلى الموضوع من خلال منظار دينهم ومقتضى مذهبهم لا مقتضى سلطتهم.

تقرير القرآن على صحّة كلا الاقتراحين

إنّ الذكر الحكيم يذكر كلا الاقتراحين من دون أيّ نقدٍ ورد ، وليس صحيحاً قطعاً أن يذكر الله سبحانه عن هؤلاء المتواجدين على باب الكهف أمراً باطلاً من دون أيّة إشارة إلى بطلانه ، إذ لو كان كذلك كأن يكون أمراً محرّماً أو مقدّمة للشرك والانحراف عن التوحيد ، لكان عليه أن لا يمرّ عليها بلا إشارة إلى ضلالهم وانحرافهم ، خصوصاً أنّ سياق الآية بصدد المدح وأنّ أهل البلد اتّفقوا على تكريم هؤلاء الذين هجروا

__________________

(١) ابن كثير ، التفسير ٥ : ٣٧٥.

٢٩

أوطانهم لأجل صيانة عقيدتهم ، غاية الأمر اختلفوا في كيفيّته ، فمن قائل ببناء البنيان إلى آخر ببناء المسجد.

إنّ القرآن كتاب نزل لهداية الإنسان وتربية الأجيال ، والهدف من عرض حياة الأُمم ووقائعهم هو الاعتبار ، فلا ينقل شيئاً إلّا فيه عبرة ، فلو كان الاقتراحان يمسّان كرامة التوحيد ، لِمَ سكت عنه؟ وهذا ظاهر فيمن تدبّر في القرآن الكريم ، وسيوافيك بقيّة الكلام عند بيان النتيجة.

إنّ جمال الدين القاسمي الدمشقي (١٢٨٣ ـ ١٣٣٢ ه‍) كان يصوّر نفسه مصلحاً إسلاميّاً يسعى في توحيد كلمة المسلمين ولَمِّ شَعْثِهم ، ومن شروط من يتبنّى لنفسه ذلك المقام الرفيع أن ينظر إلى المسائل من منظار وسيع ويستقبل الخلاف بين المسلمين بسعة صدر ، ولكنّه ـ عفا الله عنه ـ يريد توحيد الكلمة في ظلّ الأُصول التي ورثها عن ابن تيمية ، فزاد في الطين بلّة ، ويشهد لذلك ما علّقه على عبارة ابن كثير ، وإليك عبارة ابن كثير ، وتعليق ذاك.

قال ابن كثير بعد تفسير الآية : هل هم كانوا محمودين أم لا؟ فيه نظر ، لأنّ النبيّ قال : «لعن الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبياءهم وصالحيهم مساجد» يحذّر ما فعلوا.

وقال جمال الدين : وعجيب من تردّده في كونهم غير محمودين ، مع إيراده الحديث الصحيح بعده المسجّل بلعن فاعل ذلك ، والسبب في ذلك أنّ البناء على قبر النبيّ مَدعاة للإقبال عليه والتضرّع إليه ، ففيه فتح

٣٠

لباب الشرك وتوسّل إليه بأقرب وسيلة ... (١).

يلاحظ عليه : أنّ القرآن هو الحجّة الكبرى للمسلمين ، وفيه تبيان لكلّ شيء ، وهو المهيمن على الكتب ، فإذا دلّ القرآن على جوازه فما قيمة الخبر الواحد الذي روي في هذا المجال إذا كان مضادّاً للوحي ، ومخالفاً لصريح الكتاب ، وإن كانت السنّة المحمديّة الواقعية لا تختلف عنه قيد شعرة ، إنّما الكلام في الرواية التي رواها زيد عن عمرو حتى ينتهي إلى النبي ، فإنّ مثله خاضع للنقاش ، ومرفوض إذا خالف الكتاب ، لكن ما ذكره يعرب عن أنّ الأساس عنده هو الحديث لا الذكر الحكيم.

وكان عليه بعد تسليم دلالة القرآن أن يبحث في سند الحديث ودلالته ، وأنّ الحديث على فرض الصحّة ناظر إلى ما كان القبر مسجوداً له ، أو مسجوداً عليه أو قِبلة ، ومن المعلوم أنّ المسلمين لا يسجدون إلّا لله ، ولا يسجدون إلّا على ما صحّ السجود عليه ، ولا يستقبلون إلّا القِبلة ، وسيتّضح نصّ محقّقي الحديث ، على أنّ المراد هو ذلك ، فانتظر.

وأعجب منه ما في ذيل كلامه : من أنّه رأى التوسّل بالنبيّ شركاً ، مع أنّ النصوص الصحيحة في الصحاح تدلّ على جوازه ، فقد توسّل الصحابي الضرير بالنبيّ الأكرم حسب تعليمه وقال : اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة ، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى (٢).

__________________

(١) جمال الدين قاسمى ، محاسن التأويل ٧ : ٣٠ ـ ٣١.

(٢) الترمذي ، الصحيح ٥ : كتاب الدعوات ، الباب ١١٩ برقم ٢٥٧٨ ؛ ابن ماجة ، السنن ١ : ٤٤١ برقم ١٣٨٥ ؛ الإمام أحمد ، المسند ٤ : ١٣٨ ، إلى غير ذلك من المصادر.

٣١

وقد اتّفقوا على صحة الحديث ، حتى أنّ ابن تيمية ـ مُثيرَ هذه الشكوك ـ اعترف بصحّته وقال : وقد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبيّ أنّه علّم رجلاً يدعو فيقول : ... ، وقد أوردنا نصوص القوم في كتاب «التوسّل».

ومن زعم أنّ هذه التوسّلات أساس الشرك ، فلينظر إلى المسلمين طيلة أربعة عشر قرناً ، فإنّهم ما برحوا يتوسّلون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما عدلوا عن سبيل التوحيد قيد شعرة.

إنّ إنشاء البناء على قبر نبيّ التوحيد تأكيدٌ على مبدأ التوحيد ورسالته العالمية التي يشكل أصلها الأول قوله سبحانه : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).

وقد خرجنا عن هذه الدراسة بالنتيجتين التاليتين :

١ ـ جواز البناء على قبور الأولياء والصالحين ودعاة التوحيد فضلاً عن النبيّ وما ذلك إلّا أنّ القرآن ذكر ذلك من دون أن يغمض فيه ، وليس القرآن كتاباً قصصيّاً ولا مسرحيّاً للتمثيل ، بل هو كتاب هداية ونور ، فإن نقل شيئاً ولم يغمض عليه فهو دليل على أنّه محمود عنده.

نرى أنّه سبحانه يحكي كيفيّة غرق فرعون ويقول : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس / ٩٠).

ولمّا كانت تلك الفكرة باطلة عنده سبحانه ، أراد إيقاف المؤمنين على أنّ الإيمان في هذا الظرف غير مفيد ، فلأجل ذلك عقّب عليه بقوله : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس / ٩١).

٣٢

فالإنسان العارف بالكتاب يقف على أنّه لم يترك على صعيد العقائد أُموراً إلّا وذكر أوضحها وبيّنها بطرق مختلفة ، ومن تلك الطرق القصص الواردة في الكتاب العزيز ، فكلّ ما وقع في الأُمم السالفة وصار القرآن بصدد ذكره فهو على أقسام ثلاث : كونه بيّن الصحة ، أو بيّن البطلان ، أو المردّد بين الأمرين.

فقد يترك البيان في الأولين لعدم الحاجة ، وأمّا الثالث فلا يتركه إلّا إذا كان مقبولاً لديه.

٢ ـ جواز بناء المسجد على قبور الصالحين فضلاً عن الأنبياء وجواز الصلاة فيها والتبرّك بتربته ، فلو كانت الصلاة في المقابر مكروهة فالأدلّة المرغّبة إلى الصلاة في جِوار الصالحين والأنبياء تخصّص تلك العمومات ، وذلك لأنّ للصلاة في مشاهدهم مصلحة تغلب على الحضاضة الموجودة في الصلاة في المقابر المطلقة.

٣٣

الآية الثالثة

صيانة الآثار الإسلامية وتعظيم الشعائر

قال سبحانه : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج / ٣٢).

والاستدلال بالآية يتوقّف على ثبوت صغرى وكبرى : الصغرى عبارة عن كون الأنبياء وأوصيائهم ومن يرتبط بهم أحياءً وأمواتاً من شعائر الله.

والكبرى عبارة عن كون البناء وصيانة الآثار والمقابر تعظيماً لشعائر الله.

ولا أظنّ أنّ الكبرى تحتاج إلى مزيد بيان ، إنّما المهم بيان الصغرى ، وأنّ الأنبياء والأوصياء من شعائر الله ، وبيان ذلك يحتاج إلى نقل ما ورد حول شعائر الله من الآيات :

١ ـ (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) (البقرة / ١٥٨).

٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا

٣٤

الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً») (المائدة / ٢).

٣ ـ (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) (الحج / ٣٦).

وفي آية أُخرى جعل مكان شعائر الله حرمات الله وقال : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ...) (الحج / ٣٠).

ما هو المقصود من شعائر الله؟

هنا احتمالات :

١ ـ تعظيم آيات وجوده سبحانه.

٢ ـ معالم عبادته وأعلام طاعته.

٣ ـ معالم دينه وشريعته وكلّ ما يمت إليهما بصلة.

أمّا الأوّل ، فلم يقل به أحد ، إذ كل ما في الكون آيات وجوده ، ولا يصحّ تعظيم كلّ موجود بحجة أنّه دليل على الصانع.

وأمّا الثاني ، فهو داخل في الآية قطعاً ، وقد عدّ الصَّفا والمروةَ والبُدْن من شعائر الله ، فهي من معالم عبادته وأعلام طاعته ، إنّما الكلام في اختصاص الآية بمعالم العبادة وأعلام الطاعة ، ولا دليل عليه ، بل المتبادر هو الثالث ، أي معالم دينه سبحانه ، سواء كانت أعلاماً لعبادته وطاعته أم لا ، فالأنبياء والأوصياء والشهداء والصحف والقرآن الكريم والأحاديث النبويّة كلّها من شعائر دين الله وأعلام شريعته ، فمن عظّمها فقد عظّم شعائر الدين.

٣٥

قال القرطبي : فشعائر الله ، أعلام دينه ، لا سيما ما يتعلّق بالمناسك (١).

ولقد أحسن حيث عمّم أولاً ، ثمّ ذكر مورد الآية ثانياً ، وممّا يعرب عن ذلك أنّ ايجاب التعظيم تعلّق ب «حرمات الله» في آية أُخرى.

قال سبحانه : (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ، والحرمات ما لا يحلّ انتهاكه ، فأحكامه سبحانه حرمات الله ، إذ لا يحلّ انتهاكها ، وأعلام طاعته وعبادته حرمات الله ، إذ يحرم هتكها ، وأنبياؤه وأوصياؤهم وشهداء دينه وكتبه وصحفه من حرمات الله ، يحرم هتكهم ، فلو عظّمهم المؤمن أحياءً وأمواتاً فقد عمل بالآيتين : (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ).

__________________

(١) القرطبي ، التفسير ١٢ : ٥٦ طبع دار إحياء التراث.

٣٦

الآية الرابعة

صيانة الآثار ومودّة ذوي القربى

إنّ القرآن الكريم يأمرنا ـ بكلّ صراحة ـ بحبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقربائه ، ومودّتهم ومحبّتهم فيقول : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (المائدة / ٥٦) و (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (الشورى / ٢٣).

ومن الواضح لدى كلّ من يخاطبه الله بهذه الآية أنّ البناء على مراقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، هو نوع من إظهار الحبّ والمودّة لهم ، وبذلك يخرج عن كونه بدعة ، لوجود أصل له في الكتاب والسنّة ، ولو بصورة كليّة.

وهذه العادة متّبعة عند كافة الشعوب والأُمم في العالم ، فالجميع يعتبرون ذلك نوعاً من المودّة لصاحب ذلك القبر ، ولذلك تراهم يدفنون كبار الشخصيات السياسية والعلمية في كنائس ومقابر مشهورة ويزرعون أنواع الزهور والأشجار حولها.

٣٧

الفصل الثاني

 من منظار القواعد الفقهيّة

الأصل في الأشياء الإباحة والحلّية

إنّ الأصل في الأشياء هو الإباحة ما لم يرد فيها نهي في الشريعة ، وهذه هي القاعدة المحكمة التي اعتمد عليها الفقهاء عبر القرون إلّا المتزمّتين غير الواعين.

حتى أنّ الذكر الحكيم يصرّح بأنّ وظيفة النبيّ الأكرم هو بيان المحرّمات دون المحلّلات ، وأنّ الأصل هو حلّية كلّ عمل وفعل ، إلّا أن يجد النبيّ حرمته في شريعته ، وأنّ وظيفة الأُمّة هو استفراغ الوسع في استنباط الحكم من أدلّته ، فإذا لم تجد دليلاً على الحرمة تحكم عليه بالجواز.

ونكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى مجموعة من الآيات ، وإن كان في السنّة الغرّاء أيضاً كفاية :

١ ـ قال سبحانه : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ

٣٨

 بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) (الأنعام / ١١٩).

فإنّ هذه الآية تكشف عن أنّ الذي يحتاج إلى البيان إنّما هو المحرّمات لا المباحات ، ولأجل ذلك لا وجه للتوقّف في العمل ، بعد ما لم يكن مبيّناً في جدول المحرّمات.

وبعبارة أُخرى : أنّ المسلم إذا لم يجد شيئاً في جدول المحرّمات لم يكن له تبرير لتوقّفه وعدم الحكم عليه بالإباحة والجواز والحلّية.

٢ ـ قال سبحانه : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) (الأنعام / ١٤٥).

إنّها تكشف عن أنّ ما يلزم بيانه إنّما هو المحرّمات لا المباحات ، ولذلك يستدلّ مبلغ الوحي ـ ونعني به النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بأنّه لا يجد فيما أُوحي إليه محرّماً على طاعم يطعمه سوى الأُمور المذكورة ، فإذا لم يكن هناك شيء فهو محكوم بالحلّية والإباحة.

٣ ـ قال سبحانه : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ)

(رَسُولاً) (الإسراء / ١٥).

٤ ـ قال سبحانه أيضاً : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (القصص / ٥٩).

إنّ دلالة هاتين الآيتين على المقام واضحة ، فإنّ جملة «وما كان» تارة تستعمل في نفي الشأن والصلاحية ، وأُخرى في نفي كون الشيء

٣٩

أمراً ممكناً.

أمّا الأوّل ، فمثل قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (البقرة / ١٤٣) وغيرها كسورة آل عمران (الآيات ٧٩ و ١٦١) ، أي ليس من شأن الله سبحانه وهو العادل الرءوف أن يضيع أيمانكم.

وأمّا الثاني ، فمثل قوله : (ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) (آل عمران / ١٤٥) ، أي لا يمكن لنفس أن تموت بدون إذنه سبحانه.

فيكون معنى الآيتين بناءً على الاستعمال الأول : هو ليس من شأن الله تعالى أن يعذّب الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث إليهم رسولاً.

وعلى الاستعمال الثاني : هو ليس من الممكن أن يعذّب الله الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث إليهم رسولاً.

وعلى كلّ تقدير ، فدلالة الآيتين على الإباحة واضحة ، إذ ليست لبعث الرسل خصوصية وموضوعية ، ولو أُنيط جواز العذاب ببعثهم فإنّما هو لأجل كونهم وسائط للبيان والإبلاغ ، والملاك هو عدم جواز التعذيب بلا بيان وإبلاغ ، وأنّ التعذيب ليس من شأنه سبحانه ، أو أنّه ليس أمراً ممكناً حسب حكمته.

٥ ـ قال سبحانه : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) (الشعراء / ٢٠٨).

فإنّ هذه الآية مشعرة بأنّ الهلاك كان بعد الإنذار والتخويف ، وأنّ اشتراط الانذار كناية عن البيان وإتمام الحجّة.

٦ ـ قوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (طه / ١٣٤).

٤٠