الشّفاعة في الكتاب والسنّة

الشيخ جعفر السبحاني

الشّفاعة في الكتاب والسنّة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٠

كما يأمرنا بالتسليم على نبيّه والصلوات عليه ويقول بصريح القول : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب / ٥٦) ، فلو كان الأنبياء والأولياء أمواتاً غير شاعرين لهذه التسليمات والصلوات فأيّ فائدة في التسليم عليهم وفي أمر المؤمنين في الصلاة ، بالسلامِ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ والمسلمون أجمع يسلّمون على النبي في صلواتهم بلفظِ الخطاب ، ويقولون : السلامُ عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته ، وحَمْلُ ذلك على الشعارِ الأجوف والتحية الجوفاء ، أمرٌ لا يجترئ عليه من له إلمامٌ بالقران والحديث.

السؤال الثاني : الشفيع ميّت وهو لا يسمع؟

هذا هو السؤال الثاني الذي ربّما يُطرَح في المقام ، وهو أيضاً جديرٌ بالدراسة ، ولكنّه في التحقيق صورةٌ صغيرة من السؤال السابق ، فالتركيز ـ هنا ـ على خصوص عدم السماع ، ولكنّه في السابق على معنىً أعم وهو عدم الاستطاعة على شيء سماعاً كان أو غيره.

ونقول : ربما يقال : ظاهر الذكر الحكيم على أنّ الموتى لا يسمعون ، حيث شبّه المشركين بهم. ووجه الشبه هو عدم السماع. قال : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (النمل / ٨٠) ، فالآية تصف المشركين بأنّهم أموات وتشبِّهُهُم بها ، ومن المعلوم أنّ صحة التشبيه تتوقّف على وجود وجه الشبه في المشبَّه به بوجهٍ أقوى وليس وجه الشبه إلّا أنّهم لا يسمَعون ، فعند ذلك تُصبح

٦١

النتيجة : إنّ الأموات مطلقاً غير قابلين للإفهام ويدل على ذلك أيضاً قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (فاطر / ٢٢).

ووجه الدلالة في الآيتين واحد.

على هامش السؤال

القران الكريم منزّه عن التناقض والاختلاف وكيف لا يكون كذلك وهو يقول : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء / ٨٢) وهو يصرّح في غير واحد من آياته على أنّ الأنبياء كانوا يكلّمون الموتى ويخاطبونهم. ونلمس ذلك بوضوح في قصتي صالح وشعيب.

أمّا الأُولى : فالقران يحكي خطابَه لقومه ـ بعد هلاكهم وأخذهم الرجفة ـ ويقول : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف / ٧٨ ـ ٧٩).

أمعن النظر في قوله : (فَتَوَلَّى) حيث تصدَّر بالفاء الدالة على الترتيب : أي بعد ما عمّهم الهلاك أعرض صالح بوجهه عنهم وخاطبهم بقوله : يا قوم ...

أمّا الثانية فهو أيضاً قرينة الأُولى ونظيرتها قال سبحانه : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ

٦٢

يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (الأعراف / ٩١ ـ ٩٣).

إنّ الأُوليين من الآيات صريحتان في نزول البلاء عليهم وإبادتهم وإهلاكهم جميعاً ـ فبعد ذلك ـ يخاطبهم نبيُّهم شعيب معرِضاً بوجهه عنهم ، مشعراً بالتبرّي ويقول : يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ... وليس لنا ، ولا لغيرنا تأويل القران لأخذ موقف مسبَق في الموضوع ، بل يجب عرض الرأي عليه لا عرض القران على الفكر الإنساني.

ونكتفي من الآيات بما تلوناه عليك وهناك آيات أُخرى موحدة في المضمون نترك نقلها للاختصار.

السنّة لا تتفق مع عدم السماع

إنّ السنّة الكريمة ، عدل القران ، يُحتَجُّ بها كما يُحتجّ به ، فقد أخذت موقف الإيجاب فهي لا تتفق مع عدم السماع وإليك نزراً يسيراً منها :

١ ـ ما أنتم بأسمعَ منهم

هذه الكلمة ألقاها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كان بمقربة من قتلى قريش ، وكان يكلّمهم ولمّا اعترض عليه بعض أصحابه بقوله : «كيف تكلّمهم وهم قوم موتى» أجابه بقوله : «ما أنتم بأسمع منهم» وإليك

٦٣

التفصيل :

لقد انتهت معركة بدر بانتصارٍ عظيمٍ في جانب المسلمين وهزيمة نكراء في جانب المشركين. فقد غادر المشركون ساحة القتال هاربين صوب مكة مخلّفين وراءهم سبعين قتيلاً من صناديدهم وساداتهم وفتيانهم الشجعان وسبعين أسيراً.

ولمّا أمر النبي بإلقاء قتلى المشركين في القليب وقفَ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند القليب وأخذ يخاطب القتلى واحداً واحداً ويقول : «يا أهلَ القليب ، يا عتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة ، ويا أُمية بن خلف ، ويا أبا جهل (وهكذا عدّ من كان منهم في القليب) هل وجدتم ما وعدَكم ربّكم حقاً ، فإنّي قد وجدت ما وعدَني ربّي حقاً».

فقال له بعض أصحابه : يا رسول الله أتنادي قوماً موتى؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني».

وكتب ابن هشام يقول : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يا أهل القليب بئس عشيرة النبيّ كنتم لِنبيّكم كذَّبتموني وصدّقني الناسُ ، وأخرجتُموني وآواني الناس ، وقاتلتُموني ونصرني الناس ، (ثمّ قال :) هل وجدتُم ما وعدكم ربي حقاً؟» (١).

وقد أنشد حسان قصيدة بائيّةٌ رائعة حول وقعة بدر الكبرى يشير في بعض أبياتها إلى هذه الحقيقة ، أعني قصة القليب إذ يقول :

__________________

(١) السيرة النبوية : ١ / ٦٣٩ ؛ السيرة الحلبية : ٢ / ١٧٩ و ١٨٠ وغيرهما.

٦٤

يناديهمْ رسولُ الله لمّا

قذَفناهم كباكبَ في القليب

ألم تجِدوا كلامي كان حقاً

وأمرُ الله يأخذ بالقلوب؟

فما نَطقوا ولو نَطقوا لقالوا

صدقتَ وكنتَ ذا رأي مصيب!

على أنّه لا توجد عبارة أشد صراحة ممّا قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المقام ، حيث قال : «ما أنتم بأسمع منهم».

وليس ثمة بيان أكثر إيضاحاً وأشد تقريراً لهذه الحقيقة من مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لواحدٍ واحدٍ من أهل القليب ، ومناداتهم بأسمائهم وتكليمهم كما لو كانوا على قيد الحياة.

فلا يحق لأيّ مسلمٍ مؤمن بالرسالة والرسول ، أن يسارع إلى إنكار هذه القضية التاريخية الإسلامية المسلّمة ، ويبادر قبل التحقيق ويقول : إنّ هذه القضية غير صحيحة ، لأنّها لا تنطبق مع الموازين العقلية المادية المحدودة.

وقد نقلنا هنا نصَّ هذا الحوار ، لكي يرى المسلمون الناطقون باللغة العربية كيف أنّ حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصرّح بهذه الحقيقة ، بحيث لا توجد مثلها عبارة في الصراحة ، والدلالة على هذه الحقيقة.

ومن أراد الوقوف على مصادر هذه القصة فعليه أن يراجع ما ذكرناه في الهامش أدناه (١).

__________________

(١) إنّ تكلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع رءوس الشرك الموتى الذين أُلقيت أجسادُهم في البئر من مسلّمات التاريخ والحديث ، وقد أشار إلى هذا من بين المحدّثين والمؤرخين : صحيح البخاري : ٥ / ٧٦ و ٧٧ ـ ٨٦ و ٨٧ في معركة بدر ؛ صحيح مسلم : ٨ / ١٦٣ كتاب الجنة باب مقعد الميت ؛ سنن النسائي : ٤ / ٨٩ و ٩٠ باب أرواح المؤمنين ؛ مسند الامام أحمد : ٢ / ١٣١ ؛ السيرة النبوية : ١ / ٦٣٩ ؛ المغازي : ١ / ١١٢ غزوة بدر ؛ بحار الأنوار : ١٩ / ٣٤٦.

٦٥

٢ ـ رواية الصحابي الجليل : عثمان بن حنيف

روى الحافظ الطبراني عن الصحابي الجليل عثمان بن حنيف : أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له ، وكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته ، فلقى ابنَ حنيف فشكى إليه ذلك ، فقال له ابنُ حنيف : ائت الميضاة ، فتوضأ ثمّ ائتِ المسجد فصلِّ ركعتين ، ثمّ قل : اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمد نبيّ الرحمة ، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّك أن تقضي حاجتي ، وتذكر حاجتك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال ، ثمّ أتى باب عثمان فجاءَه البوّاب حتى أخذ بيده ، فأُدخِلَ على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة فقال : حاجتك؟ فذكر حاجته وقضى له ، ثمّ قال له : ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت الساعة ، وقال : ما كانت لك من حاجة فاذكرها ، ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقى ابن حنيف فقال له : جزاك الله خيراً ، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلّمتَه في.

فقال ابن حنيف : والله ما كلّمته ، ولكن شهدتُ رسول الله ، وأتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن شئت دعوتُ أو تصبر ، فقال : يا رسول الله إنّه ليس لي قائدٌ وقد شقّ عليّ ، فقال له النبي : ائت الميضاة فتوضّأْ ثمّ صلّ ركعتين ثمّ ادعُ بهذه الدَعَوات. قال ابنُ حنيف : فو اللهِ ما تفرَّقْنا وطال بنا الحديثُ حتى دَخَلَ علينا الرجلُ كأنّه لم

٦٦

يكن به ضر (١).

وقال الترمذي : هذا حديث حقٌّ حسنٌ صحيحٌ.

وقال ابن ماجة : هذا حديثٌ صحيحٌ.

وقال الرفاعي : لا شك أنّ هذا الحديث صحيحٌ ومشهورٌ (٢).

تفسير الآيتين

إلى هنا اتّضح الأمر وإنّ هناك إسماعاً وسماعاً ومخاطِباً وخطاباً ، وإفهاماً وفهماً ، فعند ذلك تصل النوبة إلى تفسير الآيتين ، علماً منّا ومن كل مسلم ، بأنّه لا اختلاف في القران ولا تعارض بين آياته فنقول :قال سبحانه : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ...) (الروم / ٥٢).

وقال تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (فاطر / ٢٢).

فالآيتان صريحتان في امتناع إسماع الموتى.

والجواب على هذا واضح : فإنّ هاتين الآيتين ناظرتان إلى الأجساد الموجودة في القبور ، فإنّها هي التي لا تسمع ، ولا تعي ، والاتصال لا يكون بيننا وبين هذه الأجساد ، بل يتحقّق بيننا وبين الأرواح الطاهرة والنفوس الزكية الباقية الخالدة ، وإن تبعثر الجسدُ وتناثرت أجزاؤه فالأرواح هي التي يُسلَّم ويُصلّى عليها وهي التي تَسمع وتردُّ.

__________________

(١) صحيح الترمذي : ٥ كتاب الدعوات ، الباب ١١٩ ، رقم ٣٥٧٨ ؛ سنن ابن ماجة : ١ / ٤٤١ ، رقم ١٣٨٥ ؛ مسند أحمد : ٤ / ١٣٨ وفي غير ذلك.

(٢) التوصل إلى حقيقة التوسل : ١٥٨.

٦٧

وأمّا الحضور عند المراقد التي تضم الأجساد والأبدان فلأجل أنّه يبعث على التوجه إلى صاحب تلك الأجساد ويكون أدعى إلى تذكّر خصاله ، وصفاته ، وإلّا فإنّ الارتباط بهم ، والسلام عليهم يمكن حتى ولو من مكانٍ ناءٍ وبلدٍ بعيدٍ ، كما تصرّح بعض أحاديث الصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبعبارة ثانية : إنّ الآية تنفي السماع والإفهام عن الأموات المدفونين في القبور ، فإنّهم أصبحوا بعد الموت كالجماد لا يفهمون ولا يسمعون ، وهذا غير القول بأنّ الأرواح المفارقة عن هذه الأبدان غير قابلة للإفهام ولا للإسماع. والآيتان دالّتان على عدم إمكان إسماع الأموات والمدفونين في القبور ، ولا تدلّان على عدم إمكانية تفهيم الأرواح المفارقة عن الأبدان ، العائشة في البرزخ عند ربّهم كما دلّت عليه الآيات السابقة.

ومن المعلوم أنّ خطاب الزائر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : يا محمد اشفَعْ لنا عند الله ، لا يشير إلى جَسَده المطهَّر ، بل إلى روحه الزكية الحية العائشة عند ربّها إلى غير ذلك من الصفاتِ التي يضفيها عليه القران الكريم وعلى سائر الشهداء. حتى إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن وقف عند أجساد أهل القليب لكن التكلّم مع أرواحهم ، والوقوف عنده ، لأجل تخصيص خطابه بهم وإفهامه لغيرهم من الحاضرين.

تحقيق رائع حول الآيتين

هناك تحقيق رائع حول الآيتين ، لا يقف عليه إلّا الذي كرّس

٦٨

عمره في تفسير القران. وإليك بيانه : إنّ الآيتين في مقام بيانِ أمرٍ آخر وهو أنّ المراد من الإسماع هنا هو الهداية وهي تتصوَّر على قسمين : هداية مستقلة ، وهداية معتمدة على إذنه سبحانه ، والآيتان بصدد بيان أنّ النبي غير قادر على القسم الأوّل من الهدايتين ، بل هي من خصائصه سبحانه ، وإنّما المقدور له هو الهداية المعتمدة على إذنه تعالى ، ويدل على ذلك نفس الآية الواردة في سورة فاطر حيث يقول : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ* وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ* وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ* إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ* إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) (١).

وإذا قارنتَ قولَه : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) مع قوله : (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) تقف على أنّ المراد من قوله : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) هو نفي الإسماع أو الهداية المستقلّة من دون مشيئته سبحانه ، فكأنّه يقول : لستَ أيّها النبي بقادر على الهداية ، بل الهادي هو الله سبحانه ، ولأجل ذلك يعود فيصف النبي في الجملة الأخيرة بأنّه : (ليس إلّا نذيرلا) المتصرف في عالم الوجود مستقلاً ومعتمداً على إرادته.

وبعبارة ثانية : إنّ كون الآية بصدد بيان أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس بقادر على إسماع الموتى وهدايتهم مطلقاً ، شيء ، وكونها بصدد أنّ النبي لا يقدر على الهداية والإسماع مستقلاًّ ومعتمداً على إرادة نفسه ، شيءٌ

__________________

(١) فاطر / ١٩ ـ ٢٣.

٦٩

آخر. والآية بصدد بيان الأمر الثاني لا الأوّل. ويدل على ذلك قوله سبحانه : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (البقرة / ٢٧٢). وقال سبحانه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (القصص / ٥٦) ، وقال سبحانه : (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب / ٤).

فهذه الآيات تؤكد الغاية التي تهدف إليها تلك الآية (أي نفي استقلال النبي بأمر الهداية وإسماعهم) وإن كان يقدر على ذلك بإذنه بقرينة قوله سبحانه : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (النمل / ٨١ والروم / ٥٣) وقوله سبحانه : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (السجدة / ٢٤) ، بل يصفه سبحانه بقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى / ٥٢) وبذلك يظهر أنّ المستدل أغفل هدف الآية.

والتدبر في الآيات يوحي أنّ النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان حريصاً على هداية الناس وكان راغباً في إسعادهم كما يحكي عنه قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (القصص / ٥٦) وقال تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف / ١٠٣) وقال سبحانه : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) (آل عمران / ١٢٨) وقال سبحانه : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء / ٣).

كل هذه الآيات تؤكد إلحاح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحرصه على هداية أُمته ، وعلى ذلك فيكون المراد من الآيات التي توحي طلب النبي في أمر

٧٠

الأُمة ، هو نفي كون النبي قائماً بذلك الأمر على وجه الاستقلال ، وعلى نحو الإطلاق ، سواء شاء الله أم لم يشأ. بل إنّما تتحقق إرادته وعلاقته بهدايتهم إذا وقعت في إطار إرادته ، سبحانه ومشيئته من غير فرق في ذلك بين الموتى والأحياء ، بإسماع الموتى وهداية الأحياء.

وبذلك يظهر ما تهدف إليه آية سورة النمل فإنّ المقصود من قوله : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (النمل / ٨٠) هو أنّك لا تقوم بإسماع الميت الواقعي ، أو ميّت الأحياء كالمشركين والمنافقين مستقلاًّ ، وإنّما المقدور لك هو ما تعلّقت مشيئته سبحانه بهدايتهم ، ولأجل ذلك يقول : (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (النمل / ٨١).

فلو تعلّقت مشيئته تهدي من يشاء وتسمع من يشاء من دون فرق بين المؤمن والكافر ، والحي والميت.

السؤال الثالث : الشفاعة فعل الله

الشفاعة فعل الله سبحانه ، ولا يُطلب فعلُه من غيره ، قال سبحانه : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (الزمر / ٤٤).

فاذا كانت الشفاعة مملوكة لله وهو المالك لها ، فكيف يُطلَب ما يرجع إليه من غيره؟

٧١

على هامش السؤال

لا شك أنّ الشفاعة لله كما هو صريح الآية وما يرجع إليه سبحانه لا يُطلَب من غيره. مثلاً إنّ الرزق والإحياء والإماتة له لا تُطلَب من عباده.

غير أنّ المهم تشخيص ما يرجع إليه سبحانه ، وتمييزه ما أعطاه لعباده الصالحين.

إنّ الشفاعة المطلقة ملك لله سبحانه ، فلا شفيع ولا مشفوع له ، بلا إذنه ورضاه فهو الذي يسنُّ الشفاعة ويأذن للشافع ، ويبعث المذنب إلى باب الشافع ليستغفر له ، إلى غير ذلك من الخصوصيات. فلا يملك الشفاعة بهذا المعنى إلّا هو ، وبذلك يردّ القران على المشركين الذين كانوا يزعمون أنّ أربابهم يملكون الشفاعة المطلقة فالشفاعة بهذا المعنى غير مسئولة ولا مطلوبة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والمسئول والمطلوب من النبي والصالحين هو الشفاعة المرخّصة المحدّدة ، من الله سبحانه ، أي ما رخّص لهم في أن يشفعوا ويطلبوا لعباده الغفران ، فمثل هذه الشفاعة المرخّصة المأذونة ليست له لأنّه سبحانه فوق كل شيء ، لا يَستأذن ولا يُؤذن ولا يُحدّد فعله.

وبعبارة واضحة : المراد من قوله سبحانه : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) ليس أنّه سبحانه هو الشفيع دون غيره ، إذ من الواضح أنّه سبحانه لا يشفع عند غيره ، بل المراد أنّ المالك لمقام الشفاعة هو سبحانه وأنّه لا يشفع أحد في حقّ أحد إلّا بإذنه للشفيع وارتضائه للمشفوع له ، ولكن هذا المقام ثابت لله سبحانه بالأصالة والاستقلال ، ولغيره بالاكتساب

٧٢

والاجازة ، قال سبحانه : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف / ٨٦).

فالآية صريحة في أنّ من شهد بالحق يملك الشفاعة ولكن تمليكاً منه سبحانه وفي طول ملكه.

وعلى ذلك فالآية أجنبية عن طلب الشفاعة من الأولياء الصالحين الذين شهدوا بالحق وملكوا الشفاعة ، وأُجيزوا في أمرها في حقّ من ارتضاهم لها.

وأنت أيّها الأخ المتحرر من كل رأي مسبق ، إذا لاحظتَ ما ذكرته سابقاً في تفسير الآية ، يتضح لك ، أنّ طلب الشفاعة من الصالحين ، ليس طلبَ فعله سبحانه من غيره.

السؤال الرابع : طلب الشفاعة يشبه عمل المشركين

إنّ طلب الشفاعة يشبه عمل عَبَدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة الباطلة ، وقد حكى القران ذاك العمل منهم ، قال سبحانه : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (يونس / ١٨) وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه عبادة لهذا الغير.

على هامش السؤال

ما كنت أفكّر أيّها الأخ أن تغتر بظواهر الأعمال وتقضي بالبساطة والسذاجة ، مع أن القران أمر بالتدبّر والتفكّر والدقّة في مصادر الأعمال

٧٣

وجذورها ، لا بالاغترار بظاهرها.

فالفرق واضحٌ بين عمل المسلم والمشرك لأنّك إذا أمعنتَ النظر في مضمون الآية تقف على أنّ المشركين كانوا يقومون بعملين :

١ ـ عبادة الآلهة ويدل قوله عليه : (وَيَعْبُدُونَ ...).

٢ ـ طلب الشفاعة ويدل عليه : (وَيَقُولُونَ ...).

وكان علّة اتّصافهم بالشرك هو الأوّل لا الثاني ، إذ لو كان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها بالحقيقة ، لما كان هناك مبرّرٌ للإتيان بجملة أُخرى ، أعني قوله : (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا) بعد قوله : (وَيَعْبُدُونَ ...) إذ لا فائدة لهذا التكرار ، وتوهم أنّ الجملة الثانية توضيحٌ للأُولى خلاف الظاهر ، فإنّ عطف الجملة الثانية على الأُولى يدل على المغايرة بينهما.

إذاً لا دلالة للآية على أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة ، فضلاً عن كون الاستشفاع بالأولياء المقربين عبادة لهم.

وهناك فرق واضح بين طلب شفاعة الموحِّد من أفضل الخليقة ـ عليه أفضل التحية ـ وطلب شفاعة المشرك ، حيث إنّ الأول يطلب الشفاعة منه بما أنّه عبدٌ صالح أذِنَه سبحانه ليشفع في عباده تحت شرائط خاصة ، بخلاف المشرك فإنّه يطلب الشفاعة منه ، بما أنّه ربّ يملك الشفاعة يعطيها من يشاء ويمنعها عمّن يشاء. أفيصح عطفُ أحدهما على الآخر والحكم بوحدتهما جوهراً وحقيقة؟!

كيف يصح لمسلم واع اتخاذ المشابهة دليلاً على الحكم ، فلو

٧٤

صح ذلك لزم عليه الحكم بتحريم أعمال الحج والعمرة فانّها مشابهة لأعمال المشركين ، أمام أربابهم وآلهتهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).

السؤال الخامس : إن طلب الشفاعة دعاء الغير ، وهو عبادة له

طلب الحاجة من غيره سبحانه حرام فانّ ذلك دعاء لغير الله وهو حرام. قال سبحانه : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (الجن / ١٨) وإذا كانت الشفاعة ثابتة لأوليائه وكان طلب الحاجة من غيره حراماً فالجمع بين الأمرين يتحقق بانحصار جواز طلبها من الله سبحانه خاصة ، ويوضح ذلك قوله سبحانه : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (فاطر / ٦) ، فقد عبّر عن العبادة في الآية بلفظ الدعوة في صدرها وبلفظ العبادة في ذيلها ، وهذا يكشف عن وحدة التعبيرين في المعنى. وقد ورد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الدعاء مخّ العبادة».

على هامش السؤال

لا أظن أنّ أحداً على وجه البسيطة يجعل الدعاء مرادفاً للعبادة. وإلّا لم يمكن تسجيل أحد من الناس ـ حتى الأنبياء ـ في ديوان الموحدين ، فلا بد أن يقترن بالدعاء شيءٌ آخر ، ويصدر الدعاء عن عقيدة خاصة في المدعوّ وإلّا فمجرّد دعوة الغير حيّاً كان أو ميتاً ، لا يكون عبادة له.

٧٥

هل ترى أنّ الشاعرة التي تخاطب شجر الخابور بقولها :

أيا شجر الخابور ما لك مورِقا

كأنّك لم تجزع على ابن طريف

أنّها عبدته؟ كلّا ثمّ كلّا.

إنّ العمل لا يتّسم بالعبادة إلّا إذا كانت في نية الداعي عناصر تضفي عليه صفة العبادة وحدّها وهو الاعتقاد بألوهية المدعو وربوبيته وإنّه المالك لمصيره في عاجله وآجله ، وإن كان مخلوقاً أيضاً. والمراد من الدعاء في قوله تعالى : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) ليس مطلق دعوة الغير ، بل الدعوة الخاصة المضيّقة المترادفة للعبادة ، ويدل عليه قوله سبحانه في نفس هذه الآية : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ).

وما ورد في الحديث من «أنّ الدعاء مُخُّ العبادة» فليس المراد منه مطلق الدعاء ، بل المراد دعاء الله مخ العبادة. كما أنّ ما ورد في الروايات من أنّه : من أصغى إلى ناطق فقد عَبَدَه ، فإنْ كان ينطق عن الله فقد عبد الله ، وإن كان ينطق عن غير الله فقد عبد غير الله (١) فليس المراد من العبادة هنا : العبادة المصطلحة ، بل استعيرت في المقام لمن يجعل نفسه تحت اختيار الناطق.

وعلى ذلك فيكون المراد من النهي عن دعوة الغير هو الدعوة الخاصة المقترنة بالاعتقاد ، أي كون المدعو ذا اختيارٍ تامّ في التصرّف في الكون وقد فُوِّض إليه شأن من شئُونه سبحانه.

فإذا كان طلب الشفاعة مقترناً بهذه العقيدة فانّه يُعَدُّ عبادةً

__________________

(١) الكافي : ٦ / ٤٣٤ الحديث ٤.

٧٦

للمشفوع إليه. وإلّا فيكون طلب الحاجة كسائر الطلبات من غيره سبحانه الذي لا يشك ذو مسكة في عدم كونه عبادة.

وبعبارة أُخرى : طلب الشفاعة إنّما يُعَدُّ عبادة للشفيع إذا كان مقروناً بالاعتقاد بألوهيته وربوبيته ، وأنّه مالك لمقام الشفاعة أو مفوَّض إليه ، يتصرّف فيها كيف يشاء ، وأمّا إذا كان الطلب مقروناً باعتقاد أنّه عبدٌ من عباد الله الصالحين يتصرف بإذنه سبحانه للشفاعة ، وارتضائه للمشفوع له ، فلا يُعَدُّ عبادة للمدعوّ ، بل يكون وزانه وزان سائر الطلبات من المخلوقين ، فلا يعدُّ عبادة بل طلباً محضاً ، غاية الأمر لو كان المدعو قادراً على المطلوب يكون الدعاء ـ عقلاً ـ أمراً صحيحاً ، وإلا فيكون لغواً.

فلو تردّى إنسان وسقط في قعر بئر وطلب العون من الواقف عند البئر القادر على نجاته وإنقاذه ، يُعَدّ الطلب أمراً صحيحاً ، ولو طلبه من الأحجار المنضودة حول البئر يكون الدعاء والطلب منها لغواً مع كون الدعاء والطلب هذا في الصورتين غير مقترن بشيء من الألوهية والربوبية في حق الواقف عند البئر ، ولا الأحجار المنضودة حولها.

إنّ الآية تحدّد الدعوة التي تُعَد عبادة بجعل المخلوق في رتبة الخالق سبحانه كما يفصح عنه قوله : (مَعَ اللهِ) وعلى ذلك فالمنهيُّ هو دعوة الغير ، وجعله مع الله ، لا ما إذا دعا الغيرَ معتقداً بأنّه عبدٌ من عباده لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً ولا حياةً ولا بعثاً ولا نشوراً إلّا بما يتفضل عليه بإذنه ويقدر عليه بمشيئته ، فعند ذاك فالطلب منه بهذا

٧٧

الوصف يرجع إلى الله سبحانه.

وبذلك يبدو أنّ ما تدل عليه الآيات القرانیة من أنّ طلب الحاجة من الأصنام كان شركاً في العبادة ، إنّما هو لأجل أنّ المدعوّ عند الداعي كان إلهاً أو ربّاً مستقلاً في التصرف في شأن من شئُون وجوده أو فعله.

قال سبحانه : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) (الأعراف / ١٩٤) ترى أنّه سبحانه يستنكر دعاءهم بقوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) وقوله : (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) مُذكِّراً بأنّ عقيدتهم في حق هؤلاء عقيدة كاذبة وباطلة فالأصنام لا تستطيع نصرة أحد ، وهذا يكشف عن أنّ الداعين كانوا على جانب النقيض من تلك العقيدة وكانوا يعتقدون بتملّك الأصنام لنصرهم وقضاء حوائجهم من عند أنفسهم.

وحصيلة البحث : أنّ الدعاء ليس مرادفاً للعبادة ، وما ورد في الآية والحديث من تفسير الدعاء بالعبادة لا يدل على ما يراه المستدِلّ ، فالمراد من الدعاء فيهما قسمٌ خاصٌّ منه ، وهو الدعاء المقترن باعتقادِ الألوهية في المدعو والربوبيّة في المطلوب منه كما عرفت.

٧٨

٨

الشفاعة في الأحاديث الإسلامية

لقد اهتمّ الحديث بأمر الشفاعة وحدودها وشرائطها وأسبابها وموانعها اهتماماً بالغاً لا يوجد له مثيل إلّا في موضوعات خاصة تتمتع بالأهمية القصوى ، وأنت إذا لاحظت الصحاح والمسانيد والسنن وسائر الكتب الحديثية لوقفت على جمهرة كبرى من الأحاديث حول الشفاعة بحيث تدفع الإنسان إلى الإذعان بأنّها من الأُصول المسلّمة في الشريعة الإسلامية. ولأجل هذا التضافر نرى أنفسنا في غنىً عن المناقشة في الاسناد.

نعم لو كانت هناك رواية اختصت بنكتة خاصة غير موجودة في الروايات الأُخر فإثبات النكتة الخاصة يحتاج إلى ثبوت صحة سندها

٧٩

كما هو المحقّق في علم الحديث.

ولما كانت الأحاديث حول الشفاعة وفروعها كثيرة جداً ، ومبثوثة في الكتب جمعناها في هذه الصحائف تحت عناوين خاصة ، ولسنا ندّعي أنّنا قد أحطنا بكل الأحاديث في هذا المجال وإنّما ندّعي أنّا قد جئنا بقسم كبير من الأحاديث (١).

أحاديث الشفاعة عند أهل السنّة : (٢)

١ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لكلّ نبي دعوة مستجابة فتعجّل كل نبي دعوته وأنّي اختبأت دعوتي شفاعة لأُمتي وهي نائلة من مات منهم لا يشرك بالله شيئاً» (٣).

__________________

(١) لقد جمع العلّامة المجلسي أحاديث الشفاعة الواردة من طرق أئمة أهل البيت في موسوعته «بحار الأنوار» فلاحظ ٨ / ٢٩ ـ ٦٣ كما أنّه أورد بعضها في الأجزاء التالية من موسوعته : بحار الأنوار ١٠٠ / ١١٦ ، ١٦٢ ، ١٧٠ ، ٢٦٥ ، ٣٠٣ ، ٣٠٧ ، ٣٣١ ، ٣٤٠ ، ٣٤٥ ، ٣٤٩ ، ٣٥١ ، ٣٧٦ ، ٣٧٩ ، ولاحظ ١٠١ / ٨ ، ٢١١ ، ٢١٢ ، ٢١٣ ، ٢٩٣ ، ٢٩٧ ، ٢٩٨ ، ٢٩٩ ، ٣٧٢ ، ٣٧٤ ، ولاحظ ١٠٢ / ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٥ ، ٣٦ ، ٤٤ ، ٤٧ ، ٧١ ، ١٧١ ، ١٨١ ، ١٨٣ ، إلى غير ذلك من الموارد. وعقد أحمد بن محمد بن خالد البرقي باباً للشفاعة في موسوعته «المحاسن» فلاحظ : ١ / ١٨٤.

(٢) وقد عقد العلامة علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي المتوفى ٩٧٥ ه‍ باباً خاصاً للشفاعة نقل فيه طائفة من الأخبار فلاحظ كنز العمال : ٤ / ٦٣٨ ـ ٦٤٠.

كما عقد الشيخ منصور علي ناصف في كتابه التاج الجامع للأصول أبواباً للشفاعة لاحظ التاج : ٥ / ٣٤٨ ـ ٣٦٠ وقد جاء فيها بأحاديث طوال قد أخذنا موضع الحاجة منها. غير أنّ ملاحظة مجموع الأحاديث لا تخلو عن فائدة. وعقد النسائي في سننه أبواباً أربعة خاصة للشفاعة لاحظ : ٣ / ٦٢٢ ط. دار احياء التراث الإسلامي.

(٣) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٤٤٠ ، وبهذا المضمون راجع مسند أحمد : ١ / ٢٨١ ، وموطأ مالك : ١ / ١٦٦ ، وسنن الترمذي : ٥ / ٢٣٨ ، وسنن الدارمي : ٢ / ٣٢٨ ، وصحيح مسلم : ١ / ١٣٠ ، وصحيح البخاري : ٨ / ٨٣ و ٩ / ١٧٠.

٨٠