الشّفاعة في الكتاب والسنّة

الشيخ جعفر السبحاني

الشّفاعة في الكتاب والسنّة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٠

باب التوبة مُوصداً ، في وجه العصاة والمذنبين ، واعتقد المجرم بأنّ عصيانه مرّة واحدة أو مرّات سيخلده في عذاب الله ، ولا مناص له منه ، فلا شك أنّ هذا الاعتقاد يوجب التمادي في اقتراف السيّئات وارتكاب الذنوب ، لأنّه يعتقد بأنّه لو غيّر وضعه وسلوكه في مستقبل أمره لا يقع ذلك مؤثراً في مصيره وخلوده في عذاب الله. فلا وجه لأن يترك المعاصي ويغادر اللذة المحرّمة ، ويتحمّل عناء العبادة والطاعة ، بل يستمر في وضعه السابق حتى يوافيه الأجل.

وهذا بخلاف ما إذا وجد الطريق مفتوحاً ، والنوافذ مشرعة واعتقد بأنّه سبحانه سيقبل توبته إذا كانت نصوحاً ، وأنّ رجوعه هذا سيغيّر مصيره في الآخرة ، ويُنقِذه من تبعات أعماله ، وأليم العذاب ، فعند ذاك سيترك العصيان ويرجع إلى الطاعة ويستغفر لذنوبه ويطلب الإغضاء عن سيئاته.

فهذا الاعتقاد له الأثر البنّاء في تهذيب الناس والشباب خاصة ، وكم من شباب اقترفوا السيئات وأمضوا الليالي في اللذة المحرّمة ، ثمّ عادوا إلى خلاف ما كانوا عليه في ظل التَّوبة والاعتقاد بأنّها تجدي المذنبين ، وبأنّ أبواب الرحمة والفلاح مفتوحةٌ لم تغلق بعد ، فعادوا يسهرون الليالي في العبادة ، ويحيونها بالطاعة.

وليس هذا إلّا أثر ذلك الاعتقاد ، وذاك التشريع. ومثل ذاك ، الاعتقاد بالشفاعة المحدودة ، فإنّه إذا اعتقد العاصي بأنّ أولياء الله سبحانه قد يشفعون في حقه في شرائط خاصة إذا لم يهتك الستر ، ولم

٤١

يبلغ حداً لا تنفع معه شفاعة الشافعين ، فعند ذاك سوف يعيدُ النظر في سيرته الشخصيّة ، ويحاول تطبيق سلوكه على شرائط الشفاعة حتى يستحقّها ، ولا يحرمها.

نعم ، إنّ الاعتقاد بالشفاعة المطلقة ، المحرّرة من كلّ قيد ، من جانب الشفيع والمشفوع له ، هو الذي يوجب التجرّي والتمادي في العصيان. وهذه الشفاعة مرفوضة في منطق العقل والقرآن ، وكأنّ المعترض قد خلط بين الشفاعة المحدودة والشفاعة المطلقة من كل قيد ، ولم يُميز بينهما وبين آثارهما.

فالشفاعة الموجبة للتجرّي ومواصلة العناد والتمرّد ، هي الاعتقاد بأنّ الأنبياء والأولياء سيشفعون في حقّه يوم القيامة على كلّ حال وفي جميع الشرائط وإن فعل ما فعل ، وارتكب ما ارتكب. وعند ذلك سيستمر في عمله الإجرامي إلى آخر حياته رجاءَ تلك الشفاعة التي لا تخضع لضابط ولا قانون ، ولا تقيّد بقيد ولا شرط.

وأمّا الشفاعة التي نطق بها الكتاب وأقرّت بها الأحاديث واعترف بها العقل فهي الشفاعة المحدودة بشرائط في المشفوع له والشافع.

ومجمل تلك الشرائط هو أن لا يقطع جميع علاقات العبودية مع الله ، ولا يفصم وشائجه الروحية مع الشافعين ، ولا يصل تمرّده إلى حدّ القطيعة ونسف الجسور. فالاعتقاد بهذا النوع من الشفاعة مثل الاعتقاد بتأثير التوبة في الغفران ماهية وأثراً.

٤٢

ه ـ الأمر بيده سبحانه أوّلاً وآخراً

ما ذكرناه من الوجوه هي مبررات الشفاعة والجهات التعليلية لجعلها في صميم العقائد الإسلامية ، ومع ذلك كلّه فالأمر إليه سبحانه فهو إن شاء أذن في الشفاعة وإن لم يشأ لم يأذن ، وهو القائل سبحانه : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (فاطر / ٢).

وصفوة القول : إنّ الشفيع إنّما يشفع بإذنه ، وفي إطار مشيئَته ، وتحت الشروط التي يرتضيها ، إذ هو الذي يبعثُ الشفيعَ على أن يشفع في حقّ المشفوع له. وعند ذلك فلا تستلزم شفاعة الشافعين خروج الأمر عن يده ، وتحديد سلطته (تعالى) وملكه.

٤٣

٥

أثر الشفاعة

(هل هو إسقاط العقاب أو زيادة الثواب؟)

هل إنّ نتيجة الشفاعة هو حطّ ذنوب المذنبين وإسقاط العقاب والمضار عنهم والعفو عن العصاة ، أم هي زيادة الثواب ورفع الدرجات للمطيعين؟ لقد ذهب جمهور المسلمين إلى الأوّل ، والمعتزلة إلى الثاني.

إنّ فكرة الشفاعة كانت عند اليهود والوثنيين قبل الإسلام ، إلّا أنّ الإسلام طرحها مهذّبةً من ما علق بها من الخرافات.

وغير خفي على من وقف على آراء اليهود والوثنيين في أمر الشفاعة ، أنّ الشفاعة الدارجة بينهم ـ خصوصاً اليهود ـ كانت مبنيّة على

٤٤

رجائهم لشفاعة أنبيائهم وآبائهم في حطّ ذنوبهم وغفران آثامهم ، ولأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي ، ويرتكبون الذنوب تعويلاً على ذلك الرجاء.

وفي هذا الموقف يقول سبحانه ردّاً على تلك العقيدة الباعثة على الجرأة : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (البقرة / ٢٥٥). ويقول أيضاً رفضاً لتلك الشفاعة المحرّرة من كل قيدٍ : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (الأنبياء / ٢٨). وحاصل الآيتين أنّ أصل الشفاعة التي يدّعيها اليهود ويلوذ بها الوثنيّون حقّ ثابتٌ في الشريعة السماوية ، غير أنّ لها شروطاً أهمّها إذنه سبحانه للشافع ورضاؤُه للمشفوع له.

ولعلّ أوضح دليل على عمومية الشفاعة في الإسلام ما اتّفق على نقله المحدِّثون من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ادّخرتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي» (١).

فكان دافع المعتزلة بتخصيص آيات الشفاعة بأهل الطاعة دون العصاة هو الموقف الذي اتخذوه في حقّ العصاة ومقترفي الذنوب في أبحاثهم الكلامية. فإنّهم قالوا بخلود أهل العصيان في النار.

ومن الواضح أنّ من يتخذ مثل هذا الموقف لا يصح له أن يعمّم آيات الشفاعة إلى العصاة ، وذلك لأنّ التخليد في النار لا يجتمع مع التخلص عنها بالشفاعة.

قال الشيخ المفيد : اتّفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالخلود في

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٤٤١ وغيرها ، والحديث ممّا اتّفق على نقله المحدثون.

٤٥

النار موجهة إلى الكفّار خاصّة ، دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى ، والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة. وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك ، وزعموا أنّ الوعيد بالخلود في النار عام في الكفّار وجميع فسّاق أهل الصلاة.

واتّفقت الإمامية على أنّ من عُذِّب بذنبه من أهل الإقرار والمعرفة والصلاة لم يخلد في العذاب وأُخرج من النار إلى الجنة ، فينعم فيها على الدوام ووافقهم على ذلك من عددناهم ، وأجمعت المعتزلةُ على خلاف ذلك وزعموا أنّه لا يخرج من النار أحدٌ دخلها للعذاب (١).

نعم ، نسب العلامة الحلي في «كشف المراد» تلك العقيدة إلى بعض المعتزلة لا إلى جميعهم (٢) ، وكذلك نظامُ الدين القوشجي في «شرحه على التجريد» (٣).

وقد خالفهم أئمة المسلمين وعلماؤهم في هذا الموقف وقالوا بجواز العفو عن العصاة عقلاً وسمعاً.

أمّا العقل فلأنّ العقاب حق لله تعالى فيجوز تركه.

وأما السمع ، فللآيات الدالة على العفو في ما دون الشرك ، قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (النساء / ٤٨).

__________________

(١) المفيد : أوائل المقالات : ١٤.

(٢) العلّامة الحلّي : كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٢٦١ ، ط. صيدا.

(٣) نظام الدين القوشجي : شرح التجريد : ٥٠١.

٤٦

والآية واردة في حق غير التائب ، لأنّ الشرك مغفور بالتوبة أيضاً ، وقال سبحانه : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (الرعد / ٦) أي تشملهم المغفرة مع كونهم ظالمين.

وقال سبحانه : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (الزمر / ٥٣) ، إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة على العفو في حق العصاة. ومع ذلك لا مانع من شمول أدلّة الشفاعة لهم.

وأوضح دليل على العفو بدون التوبة قوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) (الشورى / ٢٥) فإنّ عطف قوله : (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) على قوله : (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) ب «واو العطف» ، يدل على التغاير بين الجملتين ، وإنّ هذا العفو لا يرتبط بالتوبة وإلّا كان اللازم عطفُه بالفاء.

وقال سبحانه : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى / ٣٠). فإنّ الآية واردةٌ في غير حق التائب ، وإلّا فإنّ الله سبحانه يغفر ذنوب التائب جميعها لا كثيرها مع أنّه سبحانه يقول : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ).

فتلخّص من ذلك أنّه لا مانع من القول بجواز العفو في حق العصاة كما لا مانع من شمول آيات الشفاعة لهم.

نعم ، يجب إلفات النظر إلى نكتة وهي أنّ بعض الذنوب الكبيرة ربما تقطع العلائق الإيمانية بالله سبحانه ، كما تقطع الأواصر الروحية مع

٤٧

النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصاحب هذه المعصية لا تشمله الشفاعة ، فيجب عليه دخول النار حتى يتطهّر بالعذاب وتصفو روحه من آثار العصيان ، ويليق لشفاعة الشافعين.

٤٨

٦

طلب الشفاعة من المأذونين بالشفاعة

قد تجلّتِ الحقيقة بأجلى مظاهرها وتبيّن أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولفيفاً من الأولياء والصالحين يشفعون عند الله في ظروف خاصة وأنّهم مأذونون من جانبه سبحانه يوم القيامة.

كما أن تبيّن أنّ المفهوم الواضح لدى العامّة من الشفاعة ، هو دعاء الرسول وطلبه من الله غفرانَ ذنوب عباده ، إذا كانوا أهلاً لها. إذن يرجع طلب الشفاعة من الشفيع إلى طلب الدعاء منه لتلك الغاية ، وهل ترى في طلب الدعاء من الأخ المؤمن إشكالاً؟! فضلاً عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي يُستجاب دعاؤه ولا يُردّ بنص الذكر الحكيم (١).

__________________

(١) النساء / ٦٤ ؛ والمنافقون / ٥.

٤٩

فعند ما كان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّاً في دار هجرته ، كان طلبُ أصحابِه الدعاءَ منه ، راجعاً إلى طلب الشفاعة منه والاختلاف في الاسم لا في الواقع والحقيقة.

وبعد انتقاله من الدنيا إلى عالم البرزخ ، يرجع طلب الشفاعة منه أيضاً إلى طلب الدعاء منه لا غير.

فلو أنّ أعرابياً جاء إلى مسجده فطلب منه أن يستغفر له ، فقد طلب منه الشفاعة عند الله. ولو جاء ذاك الرجل بعد رحيله ، وقال له : يا أيها النبي ، استغفر لي عند الله. أو قال : اشفع لي عند الله فالجميع بمعنى واحدٍ لبّاً وحقيقةً ، وإنّما يختلفان صورةً وظاهراً. فالإذعان بصحة أحدِهما ، والشك في صحة الآخر كالتفكيك بين المتلازمين.

نعم ، هناك سؤالٌ يطرح نفسَه وهو أنّه إذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّاً يُرزَق في هذه الدنيا ويسمع كلام السائل ، فلا فرق بين طلب الدعاء وطلب الشفاعة.

وأمّا بعد رحيله وانتقاله إلى رحمة الله الواسعة ، فلا يسمع كلام السائل ، بأيّ صفة خاطبَه وكلَّمه سواء أقال : استغفر لي ، أم قال : اشفع لي.

والإجابة واضحة ، لأنّ الكلام مركَّزٌ في تبيين معنى طلب الشفاعة منه حيّاً وميّتاً وأنّ حقيقته أمرٌ واحدٌ بجميع صوره ، وأمّا أنّه يسمع أو لا يسمع ، أو أنّ الدعوة تنفع أو لا تنفع ، فهو أمرٌ نرجع إليه بعد الفراغ من صميم البحث. ولإيضاح الأمر نورد بعض النصوص من المفسّرين في

٥٠

تفسير الشفاعة :

قال الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (غافر / ٧) إنّ الآية تدل على حصول الشفاعة للمذنبين ، والاستغفار طلب المغفرة ، والمغفرة لا تُذْكر إلّا في إسقاط العقاب ، أمّا طلب النفع الزائد فإنّه لا يسمّى استغفاراً. وقوله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) يدل على أنّهم يستغفرون لكل أهل الإيمان ، فإذا دللنا على أنّ صاحب الكبيرة مؤمن ، وجب دخوله تحت هذه الشفاعة (١).

نرى أنّ الإمام الرازي جعل قول الملائكة في حق المؤمنين والتائبين ، من أقسام الشفاعة ، وفسّر قوله : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) بالشفاعة. وهذا دليل واضح على أنّ الدعاء في حق المؤمن ، شفاعة في حقّه ، وطلبه منه طلبُ الشفاعة.

ونقل نظام الدين النيسابوري ، في تفسير قوله تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) (النساء / ٨٥) عن مقاتل : «إنّ الشفاعة إلى الله إنّما هي دعوة الله لمسلمٍ ، لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له ، وقال الملك ولك مثل ذلك» (٢).

__________________

(١) مفاتيح الغيب : ٧ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ، ط. مصر ، الجزء ٢٧ / ٣٤ ط. دار إحياء التراث الإسلامي ، بيروت.

(٢) نظام الدين النيسابوري : غرائب القران بهامش تفسير الطبري : ٥ / ١١٨.

٥١

والذي يوضح أنّ شفاعة النبي عبارة عن دعائه في حقّ المشفوع له ، ما رواه مسلم في «صحيحه» عن النبي الأكرم أنّه قال : «ما من ميّت يُصلّي عليه أُمة من المسلمين يبلغون مائة كلّهم يشفعون له إلّا شُفِّعوا فيه» (١).

وفسّر الشارح قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفعون له» بقوله : أي يدعون له ، كما فسّر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إلّا شُفِّعوا فيه» بقوله : أي قبلت شفاعتهم.

وروي أيضاً عن عبد الله بن عباس أنّه قال : سمعت رسول الله يقول : «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلّا شفّعهم الله فيه» (٢) أي قبلت شفاعتهم في حق ذلك الميت فيغفر له.

فإذا كان مرجع الاستشفاع من الصالحين إلى طلب الدعاء ، فكل من يطلب من النبي الشفاعة لا يقصد منه إلّا المعنى الشائع (٣).

إلى هنا تبيّن أنّ طلب الشفاعة يرجع إلى طلب الدعاء ، وهو أمر مطلوب في الشرع من غير فرق بين طلبه من الشفيع في حال حياته أو مماته ، فهو لا يخرج عن حد طلب الدعاء ، وأمّا كونه ناجعاً أو لا؟ فهو أمر آخر نرجع إليه كما مرّ.

والذي يحقّق هذا الأمر هو صدور مثله من السلف الصالح في

__________________

(١) صحيح مسلم : ٤ / ٥٣ ، ط. مصر ، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) لو كان للشفاعة معنى آخر من التصرف التكويني في قلوب المذنبين ، وتصفيتهم في البرزخ ، ومواقف القيامة فهو أمر عقلي لا يتوجّه إليه إلّا الأوحدي من الناس.

٥٢

الأعصار المتقدمة وإليك نزراً منه :

السلف وطلب الشفاعة من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١ ـ الأحاديث الإسلامية وسيرة المسلمين تكشفان عن جواز هذا الطلب ، ووجوده في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد روى الترمذي في «صحيحه» عن أنس قوله : سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة ، فقال : «أنا فاعل» ، قال : قلت : يا رسول الله فإنّي أطلبك ، فقال : «اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط» (١).

السائل يطلب من النبي الأعظم ، الشفاعة دون أن يخطر بباله أنّ هذا الطلب يصطدم مع أُصول العقيدة.

٢ ـ هذا سواد بن قارب ، أحد أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول مخاطباً إيّاه :

فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة

بمغن فتيلاً عن سواد بن قارب (٢)

٣ ـ روى أصحاب السير والتاريخ ، أنّ رجلاً من قبيلة حمير عرف أنّه سيولد في أرض مكة نبي الإسلام الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولما خاف أن لا يدركه ، كتب رسالة وسلّمها لأحد أقاربه حتى يسلّمها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما يبعث ، وممّا جاء في تلك الرسالة قوله : «وإن لم أدرك فاشفع لي

__________________

(١) صحيح الترمذي : ٤ / ٦٢١ ، كتاب صفة القيامة ، الباب ٩.

(٢) الإصابة : ٢ / ٩٥ ، الترجمة ٣٥٧٦ ، وقد ذكر طرق روايته البالغة إلى ست ، وراجع أيضاً الروض الأنف : ١ / ١٣٩ ؛ بلوغ الإرب : ٣ / ٢٩٩ ؛ عيون الأثر : ١ / ٧٢.

٥٣

يوم القيامة ولا تنسني» (١) ولمّا وصلت الرسالة إلى يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «مرحباً بتُبَّع الأخ الصالح» فإنّ وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لطالب الشفاعة بالأخ الصالح ، أوضح دليل على أنّه أمر لا يتعارض وأُصول العقيدة.

٤ ـ وروى المفيد عن ابن عباس أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا غسّل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفّنه كشف عن وجهه وقال : «بأبي أنت وأُمّي طبتَ حيّاً وطبت ميتاً ... اذكرنا عند ربك» (٢) وروى الشريف الرضي في «نهج البلاغة» : أنّ عليّاً عليه‌السلام قال عند ما ولي غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بأبي أنت وأُمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك» (٣).

٥ ـ روي أنّه لمّا توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقبل أبو بكر فكشف عن وجهه ثمّ أكبّ عليه فقبّله وقال : «بأبي أنت وأُمّي طبت حيّاً وميتاً اذكرنا يا محمد عند ربّك ولنكن من بالك» (٤).

وهذا استشفاع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دار الدنيا بعد موته.

٦ ـ وختاماً نذكر ما ذكره الدكتور عبد الملك السعدي في كتابه «البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق» : أمّا طلب الشفاعة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة عامّة وبدون قيد بعد أذان أو غيره فقد ورد في السنّة ، حيث قد طلبها منه بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ دون نكير من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والأحاديث الواردة بهذا الخصوص وبمواضع

__________________

(١) المناقب : ابن شهرآشوب : ١ / ١٢ ؛ السيرة الحلبية : ٢ / ٨٨.

(٢) مجالس المفيد ، المجلس الثاني عشر : ١٠٣.

(٣) الرضي : نهج البلاغة : الخطبة ٢٣٥.

(٤) السيرة النبوية للحلبي : ٣ / ٤٧٤ ، ط. بيروت ، دار المعرفة.

٥٤

ومناسبات عديدة كثيرة جداً نذكر منها :

عن مصعب الأسلمي قال : انطلق غلام منّا فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : إنّي سائلك سؤالاً قال : «وما هو؟» قال : أسألك أن تجعلني ممَّن تشفع له يوم القيامة ، قال : «من أمرك هذا؟» أو «من علّمك هذا؟» أو «من دلّك على هذا؟» قال : ما أمرني به أحد إلّا نفسي ، قال : «فإنّك ممّن أشفع له يوم القيامة». أورده الهيتمي في «مجمع الزوائد» وقال : رواه الطبراني.

وقد أورد الهيتمي بهذا الموضوع كثيراً من الأحاديث (١). هذا في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أمّا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى فهل يصح طلب الشفاعة منه لا سيما أمامَ قبره الشريف وعند السلام عليه؟ بما أنّه ثبت بما لا يقبل الشك أنّ الأموات يسمعون ويتكلّمون ويدعون في عالم البرزخ وبخاصة هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما يُسلَّم عليه تردّ إليه روحه الشريفة ، فلا موجب للتفرقة في طلب الشفاعة بين حياته قبل انتقاله وبين حياته ، الحياة البرزخية بعد انتقاله. ومن ادّعى المنع فعليه بالدليل والله الموفق (٢).

كل هذه النصوص تدل على أنّ طلب الشفاعة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أمراً جائزاً وشائعاً ، وذلك لأنّهم يرونه مثل طلب الدعاء منه ، ولا فرق بينها وبينه إلّا في اللفظ ، وقد عرفت صحّة إطلاق لفظ الشفاعة على الدعاء ، والاستشفاع على طلب الدعاء ، وممّا يدلّ على ذلك أنّ البخاري عقد بابين بهذين العنوانين ، وهما :

__________________

(١) مجمع الزوائد : ١٠ / ٣٦٩ ؛ صحيح مسلم : ١ / ٢٨٩.

(٢) الدكتور عبد الملك السعدي : البدعة في مفهومها الإسلامي : ١٠٥ ـ ١٠٦.

٥٥

١ ـ إذا استشفعوا ليستسقى لهم لم يردهم.

٢ ـ وإذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط (١).

فنرى أنّ البخاري يطلق لفظ الاستشفاع على الدعاء وطلبه من الإمام في العام المجدب ، من دون أن يخطر بباله أنّ هذا التعبير غير صحيح.

وعلى العموم أنّ طلب الشفاعة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم داخل فيما ورد من الآيات التالية : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء / ٦٤) ، (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ) (يوسف / ٩٧ ـ ٩٨).

وقوله سبحانه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (المنافقون / ٥) فكلّ ما يدل على جواز طلب الدعاء من المؤمن الصالح يمكن الاستدلال به على صحة ذلك.

__________________

(١) البخاري : الصحيح : الجزء ٢ ، كتاب الاستسقاء ، الباب ١١ ـ ١٢.

٥٦

٧

أسئلة حول طلب الشفاعة

قد اتّضح أنّ طلب الشفاعة بمعنى طلب الدعاء ، ليس ممّا يرتاب في جوازه مؤمن واعٍ ، عارفٌ بالكتاب والسنّة ، نعم ربما تُثار هنا شبهات أو أسئلة يجب رفعها أو الإجابة عليها وليست الأسئلة مطروحة على صعيد واحد ولأجل ذلك نذكر كلّ واحدٍ بعنوان يُعرّف مغزاه ، والجميع يرجع إلى طلب الدعاء من الشفيع بعد رحيله بعد تجويزه في حياته.

السؤال الأول : الشفيع ميّت كيف يُطلبُ منه الدّعاء؟

إنّ طلب الشفاعة وإن كان طلب الدعاء لكنّه لا جدوى فيه لكون الشفيع بعد الموت لا يستطيع أن يقوم بالدعاء.

٥٧

على هامش السؤال

السؤال جدير بالدراسة والتحليل ، وهو عالق على ذهن لفيف من الناس فهم يناجون في أنفسهم كيف يُطلَب الدّعاء والشفاعة من النبي الأكرم وهو ميّت لا يستطيع على إجابة طلب الطالب؟

أولاً : إنّ الرجوع إلى القران المجيد ، واستنطاقه في هذا المجال يوقفنا على جليّة الحال ، وهو يعترف بموتهم ماديّاً لا موتهم على الإطلاق ، بل يصرّح بحياة لفيف من الناس الذين انتقلوا من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة من صالحٍ وطالحٍ ، وسعيدٍ وشقيٍّ ، وها نحن نتلو على القارئ الكريم قسماً منها ليقف على أنّ الموت ، أمرٌ نسبي ، وليس بمطلق ، ولو صار بدن الإنسان جماداً ، ليس معناه بطلانه وانعدام شخصيته وليس الموت إلّا انتقالاً من دارٍ إلى دارٍ ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة وإليك لفيفاً من الآيات :

١ ـ قال سبحانه : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (آل عمران / ١٦٩ ـ ١٧٠).

والآية صريحة في المقصود ، صراحةً لا تتصوّر فوقها صراحة ، حيث أخبرت الآية عن حياتهم ورزقهم عند ربهم وتبشيرهم لمن لم يلحقوا بهم ، وما يتفوهون به في حقهم بقولهم : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

٥٨

وعلى ذلك فلو كان الشفيع أحد الشهداء في سبيل الله تعالى فهل يكون هذا المطلب لغواً؟!

٢ ـ إنّ القران يعدّ النبي شهيداً على الأُمم جمعاء ، ويقول سبحانه : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (النساء / ٤١).

فالآية تصرّح بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهد على الشهود الذين يشهدون على أُممهم فإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهداً على الأُمم جمعاء ، أو على شهودهم فهل تعقل الشهادة بدون الحياة ، وبدون الاطلاع على ما تجري فيهم من الأُمور من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان؟! ولا يصح لك أن تفسّر شهادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهادته على معاصريه فقط ، وذلك لأنّه سبحانه عدّ النبي شاهداً في عداد كونه مبشّراً ونذيراً ، وهل يتصوّر أحدٌ أن يختص الوصفان الأخيران بمن كان يعاصر النبي؟! كلّا. فإذن لا وجه لتخصيص كونِهِ شاهداً على الأُمة المعاصرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣ ـ الآيات القرآنية صريحة في امتداد حياة الإنسان إلى ما بعد موته ، يقول سبحانه في حقّ الكافرين : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون / ٩٩ ـ ١٠٠).

فهذه الآية تصرّح بامتداد الحياة الإنسانية إلى عالم البرزخ ، وإنّ هذا العالم وعاءٌ للإنسان يعذّب فيها مَن يُعذّب وينعَّم فيها من ينعَّم.

٥٩

أمّا التنعُّم فقد عرفت التصريح به في الآية الواردة في حقّ الشهداء.

وأمّا العقوبة ، فيقول سبحانه : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (غافر / ٤٦).

٤ ـ هذا هو الذكر الحكيم ينقل بياناً عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة ، وأيّد رسل المسيح ، فلمّا قتل خوطب باللفظ التالي : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) فأجاب بعد دخوله الجنة : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (يس / ٢٦ ـ ٢٧) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على امتداد الحياة ، واستشعار لفيف من عباد الله لما يجري هنا وهناك ، غير أنّا لا نَسمع بيانَهم ولا نفهم خِطابهم ، وهم سامعون ، عارفون بإذن الله سبحانه.

ثانياً : إنّ الأحاديث الواردة في هذا المورد فوق الحصر فحدِّث عنها ولا حرج ، وقد روى المحدِّثون عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من أحد يسلّم عليّ إلّا ردّ الله روحي حتى أردّ عليه‌السلام» (١) كما نَقَلوا قوله : «إنّ لله ملائكةً سيّاحين في الأرض يبلّغوني من أُمتي السلام» (٢).

ثالثاً : نرى أنّه سبحانه يسلم على أنبيائه في آيات كثيرة ، ويقول : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ـ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ ـ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ ـ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ـ وسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (الصافات / ٧٩ ، ١٠٩ ، ١٢٠ ، ١٣٠ ، ١٨١).

__________________

(١)وفاء الوفا : ٤ / ١٣٤٩.

(٢) المصدر نفسه : ١٣٥٠.

٦٠