النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة

ميثم بن علي بن ميثم البحراني

النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة

المؤلف:

ميثم بن علي بن ميثم البحراني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٤

البحث الأوّل

في بيان أنّ الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علي بن أبي طالب عليه‌السلام

وبيان ذلك بثلاثة أنواع من الأدلّة :

النوع الأوّل : في النصوص الجليّة ، وهي ثلاثة :

الأوّل : النصّ المتواتر على إمامته ، وهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مخاطبا لأصحابه : «سلّموا عليه بإمرة المؤمنين» (١).

الثاني : قوله وهو مشير إليه آخذ بيده : «هذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا» (٢).

الثالث : قوله عليه‌السلام يوم الدار وقد جمع بني عبد المطّلب : «أيّكم يبايعني ويؤازرني يكن أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي» (٣) فبايعه علي عليه‌السلام فوجب أن يكون أخاه ووزيره ووصيّه وخليفته من بعده.

لا يقال : لا نسلّم وجود هذه الأخبار ، بل هي موضوعة وفي المشهور أنّ

__________________

(١) الغدير ١ : ٢٧٠.

(٢) الغدير ١ : ٢٠٧ ، ومصادر حديث الدار في سبيل النجاة : ١١٣ ـ ١١٥.

(٣) الغدير ١ : ٢٠٧ ، ومصادر حديث الدار في سبيل النجاة : ١١٣ ـ ١١٥.

٨١

الواضع لها ابن الراوندي (١) ، سلّمناه ، لكن لا نسلّم أنّها متواترة ، سلّمناه ، لكنّها معارضة بامور تنافي النصّ :

الأوّل : أنّه لمّا مرض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال العباس لعلي عليه‌السلام : «ادخل بنا عليه نسأله عن هذا الأمر فإن كان لنا بيّنه وإن كان لغيرنا وصّى الناس بنا» (٢) ومعلوم أنّ عليا عليه‌السلام لو كان منصوصا عليه لكان العباس أعرف الناس بذلك فكان لا يقول مثل هذا الكلام.

الثاني : لمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال العباس لعلي عليه‌السلام «امدد يدك ابايعك فيقول الناس : هذا عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بايع ابن عمّه فلا يختلف عليك اثنان» (٣).

ومعلوم أنّ العباس إنّما قال ذلك لأنّه وثق بطاعة الناس لمن يبايعه هو لكونه عمّا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إعظاما منهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذين يكونون كذلك لا بدّ وأن يكونوا مطيعين لمن نصّ عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ من رضيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله للإمامة فقبول المسلمين له أكثر ممّن رضيه غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فالعباس كيف يمكنه الجزم بأنّه لا يختلف اثنان على من بايعه عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع مشاهدته أنّ الصحابة كلّهم تركوا نصّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! فإنّ هذا الكلام إمّا جهالة مفرطة أو وقاحة.

__________________

(١) أحمد بن يحيى المروزي البغدادي المتكلّم المعتزلي ، كان في أوّل أمره حسن السيرة جميل المذهب كثير الحياء ، وقيل أنّه تاب ومات ١٢٤٥ أو ٢٥٠ ببغداد. هدية الأحباب : ٦٨ ، طبعة الحيدري.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ : ٣٠٤ ، ورواه المعتزلي عن كتاب السقيفة للجوهري في ٢ : ٤٨ و٥١ ، طبعة أبو الفضل إبراهيم ، دار المعارف و١٢ : ٢٦٢ وفي الطبري خبر يشير إليه ٤ : ٢٣٠.

(٣) الإمامة والسياسة ١ : ٤ ، وشرح المعتزلي ١ : ١٦٠.

٨٢

الثالث : أنّ الأنصار لمّا طلبوا الإمامة وقدّم المهاجرون أنفسهم عليهم لمسابقتهم (١) في الإسلام ، ومزيد اختصاصهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال أبو بكر : بايعوا عمر أو أبا عبيدة. فدفع عمر ذلك عنه قال : ولكن أقدّم فانحر كما ينحر البعير أحبّ إليّ من أن أتقدّم قوما فيهم أبو بكر (٢) فقال عمر لأبي عبيدة : امدد يدك ابايعك! فقال أبو عبيدة : تقول هذا وأبو بكر حاضر؟! ثمّ قال لأبي بكر : كنت صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله معه في المواطن كلّها ، شدّتها ورخائها ، قدّمك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصلاة فخصّ بالإمامة لأجل الدين (٣) ومعلوم أنّ أمثال هذه الكلمات عمّن يعلم النصّ ، ويعلم من غيره علمه بكونه كاذبا فيما يقوله ، وقاحة.

الرابع : أنّ أبا بكر قال : قد وددت أنّي سألت الرسول عن هذا الأمر في من هو فكنّا لا ننازعه أهله (٤) وقال عمر : إن استخلف فقد استخلف من هو خير منّي ـ يعني أبا بكر ـ وإن ترك فقد ترك من هو خير منّي (٥) يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّهما بزعم الشيعة كانا عالمين بكونهما غير صادقين وأنّ السامعين يعلمون كذبهما ،

__________________

(١) كذا في النسختين ، ولعلّ الأولى : لسابقتهم.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٢ : ٢٥ ، طبعة دار التعارف ، عن الواقدي.

(٣) الطبري ٣ : ٢٢٠ ـ ٢٢٢ ، عن الكلبي عن أبي مخنف وأقرب منه لفظا في الإمامة والسياسة ١ : ٩ ، طبعة ٦٩ م ، و١ : ١٦ ، طبعة بيروت. وفي تأريخ الخلفاء للسيوطي : ٨٠ ـ ٨٢ ، بيروت ٤٠٨ ه‍.

(٤) الطبري ٣ : ٤٣٠ ، بإسناده عن عبد الرحمن بن عوف. و١٢ : ٢٦٣ ، والإمامة والسياسة ١ : ١٨ ، طبعة مصر ، و١ : ٢٤ ، طبعة بيروت ، وشرح النهج ١٧ : ١٦٤.

(٥) الطبري ٤ : ٢٢٨ ، عن أبي مخنف وغيره. والإمامة والسياسة ١ : ٢٣ ، طبعة مصر ، و : ٢٨ ، طبعة بيروت ، وكنز العمّال ٥ : ٧٣٤ ، وشرح النهج ١ : ١٨٥.

٨٣

ولو كانا كذلك لما آمنوا أن يتجاسر واحد ممّن حضر مقالتهما على تكذيبهما وتخجيلهما ، فكيف يمكن إقدامهما على هذه المكابرة والوقاحة من غير حاجة ولا ضرورة إلى هذا الكلام؟!

الخامس : لو ثبت النصّ لامتنع علي عليه‌السلام في الشورى ، لأنّ دخوله فيها أرضى منه بالنصّ على أيّ واحد منهم كان.

لا يقال : أنّه دخل فيه للتقيّة.

لا نقول : التقية إنّما يحتاج إليها فيما يقرّبه إلى الإمامة لا فيما يبعده منها.

السادس : ولمّا قال علي عليه‌السلام لطلحة «إن أردت بايعتك» فقال طلحة : أنت أحقّ بهذا الأمر منّي وقد يجتمع لك (١) من هؤلاء ما لم يجتمع لي.

السابع : لمّا احتجّ عليّ عليه‌السلام على معاوية ببيعة الناس له لأنّه لو كان منصوصا عليه لما كانت إمامته بالبيعة حتّى يحتجّ بها ، وقد كتب إلى معاوية : «أمّا بعد فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، فإنّه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه (٢).

الثامن : ولمّا قال : أترككم كما ترككم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإن يعلم الله فيه خيرا يجمعكم على خير كما جمعكم على خير بأبي بكر (٣).

التاسع : ولمّا قال : لو لا أخاف عليها تيسا من تيوس بني اميّة يحكم بغير ما أنزل الله لما دخلت فيها (٤).

__________________

(١) البحار ٣٢ : ٣٢ ، مع اختلاف في التعبير.

(٢) بمعناه في نهج البلاغة ، الكتاب ٦ ، وبنصّه.

(٣) صدره في مجمع الزوائد ٩ : ١٣٧ ، وكنز العمّال ٥ : ١٦٧.

(٤) لم نجده في مظانه.

٨٤

العاشر : ولمّا قال حين دعي إلى البيعة : اتركوني والتمسوا غيري ، فإنّي أسمعكم وأطوعكم إن ولّيتم غيري (١).

الحادي عشر : ولمّا أنكر أكثر أهل البيت هذا النصّ ، فإنّ من المعلوم فرط حبّهم لعلي عليه‌السلام ، ومن كان كذلك استحال أن ينكر أعظم فضيلة لمحبوبه ، ومعلوم أنّ زيد بن علي رضي الله عنهما ـ مع كمال فضله ودينه ـ وجميع أتباعه أنكروا ذلك (٢).

الثاني عشر : روي أنّ السيد الحميري قال : ما لأمير المؤمنين فضيلة إلّا ولي فيها قصيدة (٣) وهذا النصّ الجلي لو صحّ لكان أعظم فضيلة له ، وما كان كذلك استحال من مادحه إلّا ذكره في أكثر قصائده ، وأشعاره ، ولكن ليس لهذا النصّ في أشعار السيد الحميري ذكر ، فدلّ على كونه موضوعا مخلقا.

فثبت بمجموع هذه الأدلّة أنّ النصّ على إمامة عليّ عليه‌السلام لم يوجد.

والجواب عن الأوّل والثاني أن نقول : إنّ هذه الأخبار بلغت مبلغ التواتر ولا يمكن إنكارها ، أقصى ما في الباب أن يقال لو كان كذلك لتواتر إلى المخالف والموافق ولما اختصّت به الشيعة دون غيرهم.

لأنّا نقول : إنّه كما يشترط صحّة النقل في نفس الأمر اشترط أيضا انتفاء المانع عن الأذهان القابلة له.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة : ٩١ ، شرح النهج للمعتزلي ١ : ١٦٩.

(٢) النصّ في الخطبة ٩٢ : دعوني والتمسوا غيري ... ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم.

(٣) بمعناه في الأغاني ٧ : ٢٥٧ ، وأخبار السيد الحميري للمرزباني بتحقيق الأميني ، طبعة النجف الأشرف عام ١٣٨٦ ه‍ ، وعنهما في الغدير ٢ : ٢٤١ و٢٤٢.

٨٥

وقد ذكر السيد المرتضى رحمه‌الله شرطا في التواتر لا يمكن إنكاره فقال : من شرط حصول العلم بالشيء بحسب التواتر أن لا يسبق إلى ذهن السامع اعتقاد نفي موجب الخبر لشبهة (١) ومعلوم أنّ هذا شرط صحيح ، فإنّا نجد من أنفسنا أنّا متى اعتقدنا نفي شيء اعتقادا جازما استحال لنا أن نعتقد صحّة ضدّه. وإذا كان كذلك فنقول : أنّ تلك النصوص لمّا جزم الخصم بنفي موجبها بحسب ما لاح له من الشبهة لا جرم ما يمكنه الجزم بوجود هذا النصّ المضادّ لليقين ، أمّا من لم يسبق له اعتقاد نفي ذلك الموجب لا جرم حصل له العلم بموجب ذلك النصّ ضرورة ، إذا (٢) كان حصول العلم من النقل هو الدليل على صحّة ذلك التواتر.

وعن الثالث وهو الأوّل من المعارضات أن نقول : إنّ العبّاس لم يقل لعليّ عليه‌السلام ذلك لجهله بالنصّ والاستحقاق ، وإنّما مقصوده أن يسأله عن استقامة هذا الأمر فيهم بعده وتسليم الامّة لهم ، وهل المعلوم لله الواقع بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تمكينهم منه وعدم الحيلولة بينهم وبينه ، فيطمئن لذلك قلبه ويسكن ، أو لا يستقيم ذلك لهم ، بل يكون مع استحقاقهم له كائنا لغيرهم.

ويدلّ على أنّ المراد ذلك تمام الخبر وهو جواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للعباس : «عليّ سبيلكم معشر الشيعة أنتم المظلومون المقهورون» (٣) وهذه التتمّة ممّا جاءت به الرواية ، ولو لا أنّ السؤال من العبّاس كان على الوجه الذي ذكرناه لم يكن لجواب

__________________

(١) بمعناه في الذخيرة : ٤٦٥ ، وفي الذريعة ٢ : ٤٩٢.

(٢) كذا في النسختين ، ويبدو أنّ الصحيح : إذ.

(٣) كذا في النسختين ، وفي الفصول المختارة ٢ : ٢٠٣ جاء النصّ هكذا : «على رسلكم معشر بني هاشم أنتم المظلومون وأنتم المقهورون» وهو الصحيح.

٨٦

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتتمّة المذكورة فائدة تعقل (١).

وعن الثاني من وجهين :

أحدهما : أنّ دعاء العباس أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى بسط اليد للبيعة إنّما كان بعد ثبوت إمامته ، لتجديد العهد في نصرته والحرب لمن خالفه وضادّه ، ولم يحتج عليه‌السلام في إثبات إمامته.

ويدلّ على ذلك قول العباس : «يقول الناس هذا عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بايع ابن عمّه فلا يختلف عليه اثنان» فعلّق الاتّفاق بوقوع البيعة ، ولم يكن متعلّقه (٢) إلّا وهي بيعة الحرب التي يذهب عندها الأعداء ويحذرون من مخالفته ، ولو كانت بيعة الاختيار من جهة الشورى والاجتهاد لما منع ذلك من الاختلاف ، بل كانت البيعة نفسها طريقا إلى تشتّت الرأي وتعلّق كلّ قبيل باجتهاده واختيار من يراه.

وينبّه على ذلك تمام الخبر أنّه لمّا (٣) ألح عليه العباس قال : «يا عمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه أوصاني أن لا اجرّد سيفا بعده حتّى يأتيني الناس طوعا ، وأمرني بجمع القرآن ، والصمت حتّى يجعل الله لي مخرجا» (٤) فدلّ ذلك على أنّ البيعة إنّما دعا العبّاس إليها للنصرة والحرب ، وأنّه لا تعلّق لثبوت الإمامة

__________________

(١) في النسختين : يعقل.

(٢) كذا في النسختين ، والنصّ للشيخ المفيد في العيون والمحاسن والفصول المختارة منها ٢ : ٢٠١ وفيه : «لتعلّقه بها» وعنه في الدرجات الرفيعة : ٨٥ وفيه : «ليعلّقه بها» وهو الصحيح ، أي ليعلق الاتّفاق بالبيعة.

(٣) النصّ في النسختين «إنّما إلخ» وأثبتنا الصحيح من الفصول المختارة ٢ : ٢٠١.

(٤) النصّ في النسختين : «حتّى يخرج الله مخرجا» وأثبتنا الصحيح من الفصول المختارة ٢ : ٢٠١.

٨٧

بها (١).

الثاني : أن يقال : إنّ القوم لمّا أنكروا النصّ وأظهروا أنّ الإمام يثبت بطريق الاختيار ، أراد العباس رضى الله عنه أن يكيدهم من حيث ذهبوا إليه ، ويبطل أمرهم بنفس ما جعلوه طريقا لهم إلى جحد النصّ ، فقال : ابسط يدك ابايعك ، فإن سلّموا الحق إلى أهله لم تضرّك البيعة ، وإن ادّعوا الشورى والاختيار وأنكروا حقّك كان لك من البيعة والعقد والاختيار ما لم يكن لهم فلم يمكنهم الاستبداد بالأمر دونك. فكره عليه‌السلام أن يجعل الباطل طريقا إلى حقّه (٢) مع ظهور النصّ بينهم عليه في ذلك الوقت.

فإن قلت : إن لم تكن البيعة طريقا صحيحا فلم اعتمدها بعد قتل عثمان واحتجّ بها على معاوية؟!

قلت : إنّه لمّا كان يطمع منهم أن يرجعوا إلى النصّ في حال وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وقرب عهدهم به ، لأجله لم يجعل البيعة طريقا إلى حقّه ، خصوصا مع ما انضاف إلى ذلك من إشارة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عدم استتمام هذا الأمر له بعده فلمّا طال العهد وتقادم إنكار النصّ وصار كأن لم يوجد ، ثمّ رأى إقبال الخلق بأسرهم عليه ، لم يمكنه إلّا القيام بالحق ونصرة الدين ، كما قال عليه‌السلام : «والله لو لا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها» (٣).

وأمّا أنّ العباس لما وثق بطاعة الناس في هذا الأمر له ، فدلّ ذلك على أنّهم

__________________

(١) الفصول المختارة ٢ : ٢٠١.

(٢) الفصول المختارة ٢ : ٢٠١ و٢٠٢.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة الثالثة ، الخطبة الشقشقية.

٨٨

أطوع لمن نصّ عليه الرسول صلّى الله عليه [وآله] وارتضاه للإمامة وكيف يمكنه الجزم بأنّه لا يختلف اثنان مع مشاهدته أنّهم بأسرهم تركوا نصّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لو لا أنّ النصّ غير صحيح؟!

فنقول : أنّه لا يلزم من وثوق العباس بطاعتهم كونهم مطيعين لنصّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لو كان النصّ موجودا ، وكيف لا يعقل الفرق بين طاعة رجل هو عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع ما يتعلّق به من خواصّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته ثمّ يبايع مثل عليّ عليه‌السلام قيام النصّ وطراوته في حقه وبين مجرّد نصّ ذكره الرسول صلّى الله عليه مرّة أو مرّتين في حقّ شخص قد اتّفق السامعون لذلك النصّ على حسده بما خصّه الله تعالى به من الفضائل ، استحقّ أن يقال فيه ذلك النصّ ؛ وعلى بغضهم بما أبلاهم به من قتل الأعزّة والأحبّاء ، خصوصا وهم الطالبون لهذه الرئاسة فإنّه لا عجب من طباع إنسان تعلّقت بحبّ رئاسة عامة في امور الدين والدنيا أن يكتم شهادة ولو أثبتها بخطّه في صكّ وقوبل بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فضلا عن نصّ ذكره مرّة أو مرّتين ، فإنّ من لا يعقل مثل هذا الفرق كاد أن لا يكون إنسانا.

وعن الثالث : من المعارضة أنّ غايته استبعاد المستدلّ من أمثال هؤلاء المذكورين أن يكتموا النصّ ويتواطئوا على جحده. وقد بيّنا أنّ ذلك غير بعيد منهم ، ونزيده وضوحا فنقول : إنّ الناس كانوا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على طبقات ثلاث سادات ، وأتباع ، ومقلّدة.

أمّا السادات فإنّهم اجتمعوا على كتمان النصّ لأنّهم كانوا على قسمين :حسّادا ومبغضين. أمّا حسد الحسّاد فلما كانوا يشاهدونه من تفضيل الرسول إيّاه في المواطن كلّها ، وأمّا بغضهم إيّاه فلأنّه وتر أكابر القوم ، ولا شكّ أنّ مقتضى الطباع البشرية بغض من قتل أكابرهم وأحبّائهم ومحبّة قتله والاجتهاد في سدّ

٨٩

أبواب مطالبه مهما استطاعوا.

وأمّا الاتّباع والمقلّدة فيتابعون السادات في ذلك ، فليت شعري ممّن يحصل الإنكار عليهم فيما فعلوه من عرض بعضهم البيعة على بعض وردّها إلى أبي بكر.

وعن الرابع : أنّهما يعلمان أنّ كليهما غير صادق. قوله : لو كان كذلك لم يأمنا من ينكر عليهما ، وكيف يمكن منهما هذه المكابرة لو كان النصّ موجودا.

قلنا الجواب ما مرّ أنّهما كانا من الأكابر والباقون أتباع وحسدة مبغضون.

وعن الخامس : أنّه عليه‌السلام لمّا رأى اعتقاد الجمهور حسن سيرة الشيخين. وأنّهما كانا على الحقّ ، لم يتمكّن من ذكر ما يدلّ على فساد إمامتهما ، لما في ذلك من الشهادة بالظلم والجور منهما بتحديد القول بأنّهما لم يكونا مستحقّين للإمامة.

وأمّا أنّه عليه‌السلام لم (١) دخل في الشورى فلوجهين :

أحدهما : ما قرّرناه من أنّه مأخوذ عليه دفع الظلم والقيام بأمر الدين مهما تمكّن ، فلمّا علم عدم التفاتهم إلى النصّ عليه قصد التوصّل إلى حقّه بمثل هذا الأمر.

الثاني : أنّه لم يكن مقصود عمر إلّا قتله ، ولذلك قال : «فإن اختار رجلان رجلا ورجلان رجلا فاقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن بن عوف» ، لعلمه أنّ عبد الرحمن لا يقبل إلّا عثمان لأنّه صهره (٢) ، وكان علي عليه‌السلام من الثلاثة الذين يقتلهم ، وإذا كان كذلك كان دخوله في الشورى ليس إلّا تقيّة من القوم فإنّه

__________________

(١) في النسختين : لما دخل ... والصحيح : لم ، أو : لما ذا.

(٢) أي لأنّ عبد الرحمن بن عوف كان زوج أمّ كلثوم بنت عقيبة بن أبي معيط الأموي وهي اخت عثمان من أمّه. راجع شرح النهج للمعتزلي ١ : ١٨٩. هذا وقد قتل علي عليه‌السلام عقبة بن أبي معيط يوم بدر.

٩٠

كان يعلم إنّه لو امتنع لم يترك.

وعن السادس : أنّه إنّما قال عليه‌السلام ذلك على وجه الغضب من الامور المتقدّمة ، أي إنّ مثل الأمر قد تركته إلى هذا الحين ما نازعت فيه ، فإن شئت أن اسلّمه أيضا إليك سلمته ، وهذا كما يقول أحدنا عند ما (١) يتواتر عليه الظلم ثمّ يجيء وقت يطمع فيه ارتفاع الظلم عنه فيظهر له من يروم ظلمه فيقول : فقد ظلمني الناس وأنت أيضا من جملتهم إن شئت فافعل.

وأمّا قول طلحة له : أنت أحقّ بهذا الأمر ، وتعليله ذلك باجتماع الذين لم يجتمعوا له ، فلا يدلّ ذلك على عدم النصّ ، إذا (٢) كان طلحة في مظنّة الجحد (٣) للنصّ إذ (٤) كان من الحاسدين له ، بدليل خروجه عليه بعد ذلك.

وعن السابع : أنّه إنّما احتجّ على معاوية بالبيعة ليفيء إلى نصرته وترك الحرب والقتال ، لأنّ إمامته لم تثبت بالنصّ ، لأنّ معاوية ممّن جحد بالنصّ أيضا على إمامته عليه‌السلام ، فلم يمكنه الاستدلال عليه إلّا ببيعة الناس له ليوقع في قلبه رهبة عساه يفيء إلى الخلق بها ، وقد سبق مثل ذلك في الوجه الأوّل.

وعن الثامن : أنّا لا نسلّم صحّة هذا الخبر ، سلّمناه لكن معنى الخبر : أترككم كما ترككم رسول الله فإن يعلم الله فيكم خيرا يجمعكم على خيركم ، أي إن يعلم فيكم انتظام أمر يجمعكم على خيركم بعدي كما جمعكم على خير أي على انتظام اموركم الدنيوية وسكون الفتنة بأبي بكر ، وذلك لأنّ لفظ الخبر لفظ مفرد

__________________

(١) في النسختين : عند أن ... أثبتنا الصحيح.

(٢) في النسختين : إذا ، وأثبتنا الصحيح.

(٣) في النسختين : الحجّة ، وأثبتنا الصحيح.

(٤) في النسختين : إذا وهو غلط.

٩١

فسواء نكّر أو عرّف تعريف الطبيعة فإنّه لا يعمّ كلّ خير ، فبقى أن يحمل على بعض الخيرات ، وليس تخصيصكم أولى من تخصيصنا.

وعن التاسع : أنّ العلّة الحاملة له على الدخول في هذا الأمر هو المحافظة على طاعة الله بتنفيذ أحكامه كما قال عليه‌السلام : «لو لا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر» (١) إلى آخره ، وقد تقدّم ، فكان كلّ واحد من ظهور الحجة وقيام الناصر والأخذ من الله تعالى على العلماء العهد المذكور شرطا لدخوله في هذا الأمر ، وذلك خوفه من قول بني اميّة لهذا الأمر شرط أيضا لدخوله فيه ، ومعلوم أنّه يصدق أن يقال : لو لا وجود الشرط لما وجد المشروط ، لكن هذا لا ينافي وجود النصّ لجواز أن يقال : ولو لا وجود النصّ أيضا ، ولا يكون قبيحا.

وعن العاشر : أنّه إنّما قال ذلك لمعرفته بأنّهم لا يفلحون في صحّة الاجتماع عليه ، ولا يتمّ ذلك الاجتماع منهم ، فيحسن حينئذ منه أن يقول هذا الكلام لوجهين :

أحدهما : إنّكم ينبغي أن تجروا على قاعدتكم السابقة ، بقوله «غيري» (٢) فأنا أعلم أنّ قلوبكم لا تجتمع معي ولا تصفوا لي ، فاطلبوا غيري ، وأنا اطيعكم وأسمع كما سمعت لمن سبق ؛ وهذا لا ينافي وجود النصّ في حقّه فإنّه يعلم أنّهم كما قدّموا على كثير النصّ في حال طراوته حين وفاة النبي صلّى الله عليه فهم بعد مضي المدّة الطويلة أشدّ إقداما على نفيه ، فكيف يحسن منه ذكره في ذلك الوقت.

الثاني : يحتمل أنّه إنّما قال ذلك ليختبر صدق نياتهم في الإقبال عليه ، إذا

__________________

(١) النصّ في النسختين : «لو لا ظهور الحجة وقيام الناصر» ، وأثبتنا الصحيح كما في الخطبة الشقشقية ، الثالثة من نهج البلاغة.

(٢) هكذا النصّ في النسختين ، ولعلّ فيه سقطا.

٩٢

كان الإنسان حريصا على ما يمنع منه ، فإن رأى لهم في الإقبال عليه وطلبه متانة (١) التزم بهم ما طلبوه ، وإلّا فلا فائدة.

وعن الحادي عشر : لا نسلّم أنّ أحدا من أهل البيت عليهم‌السلام أنكر ذلك النصّ ، والزيدية بأسرهم على أنّ عليا عليه‌السلام ثابت الإمامة بالنصّ الجليّ.

وعن الثاني عشر : أنّ للسيد الحميري رحمه‌الله في ذلك شعرا لكن عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود ، وبيان ذلك ، أنّه وجد في شعره رضي الله عنه في القصيدة التي أوّلها :

ألا الحمد لله حمدا كثيرا

وليّ المحامد ربّا غفورا

حتّى انتهى إلى قوله :

عليّ وصيّ النبيّ الذي

بمحضرهم قد دعاه أميرا

وكان الخصيص به في الحياة

فصاهره واجتباه عشيرا(٢)

ألا ترى إلى قوله أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا عليا عليه‌السلام في حياته بامرة المؤمنين.

وأنت بعد إحاطتك بضوابط أجوبتنا يمكنك أن تطّلع منها على فساد كلّ علّة يذكرونها في هذا الباب! وبالله التوفيق والعصمة.

__________________

(١) اللفظ غير واضح ، وأقرب ما يقرأ : متانة كما أثبتناه.

(٢) انظر الغدير ٢ : ١٦ وأخبار السيد الحميري ، للمرزباني. بتحقيق الأميني ، وشاعر العقيدة ، للحكيم.

٩٣

النوع الثاني : الاستدلال بالنصوص ، وهي ثلاثة :

[البرهان] الأوّل : قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١) والاستدلال بهذه الآية مبنيّ على امور ثلاثة :

أحدها : أنّ لفظة الوليّ محتملة في اللغة [المعنى] (٢) أولى.

الثاني : أنّ هذا الاحتمال متعيّن الإرادة هاهنا منها.

الثالث : أنّ المراد بقوله : (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) عليّ عليه‌السلام وحده ، ويلزم من هذه المقدمات أن يكون علي عليه‌السلام أولى بتدبير الامّة والتصرّف في امورهم ، وذلك معنى كونه إماما.

أمّا المقدمة الاولى : فبيانها بالنقل والعرف ، أمّا النقل فإنّ المبرّد قال في كتاب (كتاب العبارة) عن صفات الله تعالى : إنّ الولي هو الأولى أي الأحقّ (٣) قال الكميت :

ونعم ولي الأمر بعد وليّه

ومنتجع التقوى ونعم المؤدّب(٤)

أراد المقيم بتدبير الأمر.

__________________

(١) المائدة : ٥٥.

(٢) زيادة لازمة.

(٣) لا نعرف نسخة من الكتاب ، ونقل عنه هذا السيد المرتضى في الشافي وفي تلخيصه ٢ : ١٣ ، وفي الذخيرة : ٤٣٨.

(٤) انظر التبيان ٣ : ٥٥٩ ، طبعة النجف الأشرف ، وتلخيص الشافي ٢ : ١١ ، والهاشميات ، ديوان شعر الكميت بن زيد الأسدي ، في قصيدة مطلعها :

طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

ولا لعبا منّي ، وذو الشيب يلعب!

٩٤

وأمّا العرف : فإنّ أخا المرأة يوصف بأنّه وليّها لأنّه يملك العقد عليها ، ويقال : السلطان وليّ من لا وليّ له ، ويقال : فلان وليّ الدم ، إذا كان أحقّ بالتصرّف فيه بالأخذ والعفو.

وأمّا المقدّمة الثانية : فبيانها أنّ الوليّ يقال بحسب الاشتراك اللفظي على معنيين أحدهما : ما ذكرناه. والثاني : الناصر ، لكن حملها على الناصر [منتف] (١) ، فتعيّن حملها على ما ذكرناه ، وإنّما قلنا : أنّه يتعذّر حملها على الناصر لوجهين (٢) :

أحدهما : أنّ الولاية بمعنى النصرة عامة في حقّ المؤمنين ، والولاية المذكورة هذه في الآية غير عامة في حقّ كلّ المؤمنين ، ينتج من الثاني أن لا تكون الولاية المذكورة في الآية هي النصرة ، وإنّما قلنا : إنّ الولاية التي في الآية يمتنع أن تكون عامّة لأنّ صيغة «إنّما» تفيد حصر الولاية ـ التي في الآية ـ في المؤمنين الموصوفين بتلك الصفات ، فأمّا أنّ صيغة «إنّما» تفيد الحصر فللنقل والشعر أمّا النقل فلأنّ القائل إذا قال : إنّما لك عندي درهم ، أفاد حصر الدرهم ونفي ما سواه ، وكذلك قولك : إنّما أكلت اليوم رغيفا ، فإنّ مفهومه نفي ما زاد على رغيف واحد.

وأمّا الشعر فقول الأعشى :

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنّما العزّة للكاثر(٣)

فإنّه يفهم نفي العزّة عمّن ليس بالكاثر وهو مراده.

وإنّما قلنا : إنّ كلّ المؤمنين ليسوا موصوفين بالصفات المذكورة في الآية لأنّ

__________________

(١) في النسختين : منتفية.

(٢) الظاهر أنّه لم يذكر إلّا وجها واحدا.

(٣) تلخيص الشافي ٢ : ١٦.

٩٥

قوله تعالى : (وَهُمْ راكِعُونَ) إمّا أن يكون حالا أو استينافا ، والثاني باطل لوجهين :

أحدهما : أنّه ذكر الصلاة وهي مشتملة على الركوع ، فيكون استيناف ذكر الركوع مرّة اخرى تكرارا.

الثاني : أنّ من قال رأيت زيدا وهو راكب ، فإنّ المتبادر إلى فهم السامع أنّ الرؤية كانت في حال الركوب ، والمبادرة إلى الذهن دليل الحقيقة (١).

وإنّما قلنا أنّ الولاية بمعنى النصرة عامة لقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢) فثبت بما ذكرنا أنّ الولاية التي في الآية غير عامة وأنّ الولاية بمعنى النصرة عامة وإحداهما مغايرة للاخرى وحيث امتنع حمله على الولاية بمعنى النصرة تعيّن حمله عليها بمعنى الأولى والأحقّ بالتصرّف ، ضرورة أنّه لا ثالث لهذين المعنيين.

أمّا المقدّمة الثالثة : وهو أنّه يلزم من ذلك إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بيانه من وجوه :

الأوّل : أنّه لمّا ثبت أنّ المراد من هذه الآية إثبات كون بعض الناس متصرّفا في الامّة ، ولا معنى للإمام إلّا ذلك ، لزم دلالة هذه الآية على بعض الناس ، وقد أجمعت الامّة على أنّ هذه الآية لا تقتضي إمامة غير علي عليه‌السلام ولو لم تقتض إمامته أيضا لزم تعطيل الآية ، وأنّه غير جائز ، فلا بدّ من الجزم بدلالة هذه الآية على إمامته.

الثاني : أنّ الامّة أجمعت على أنّ عليا عليه‌السلام مراد بهذه الآية ، وإنّما اختلفوا

__________________

(١) انظر مظانّ البحث في كتب اصول الفقه.

(٢) التوبة : ٧١.

٩٦

أنّ غيره مراد أيضا بها أم لا؟ ومتى ثبت أنّ مقتضى الآية الإمامة ، وثبت بالإجماع اندراج علي تحتها ثبتت إمامته ، ثمّ يلزم من ثبوت إمامته نفي إمامة غيره بالإجماع ، ويلزم من ذلك نفي اندراج غيره تحتها ، لأنّ غيره لو اندرج تحتها لكان إماما.

الثالث : أطبق المفسّرون على نزول هذه في حقّ عليّ عليه‌السلام لأنّه لم يتصدّق وهو راكع غيره ، فوجب أن يكون هو المراد لا غير ، فهذا تقرير هذه الحجّة.

لا يقال : إنّنا لم ننازعكم في المقام الأوّل والثالث (١) بل إنّما ننازعكم في المقام الثاني فلم قلتم : إنّه ليس المراد بالولي الناصر؟

قوله : الولاية في الآية بمعنى النصرة عامة والولاية المذكورة في هذه الآية غير عامة.

قلت : الولاية بمعنى النصرة في الآية الاولى (٢) وإن كانت عامة في حقّ المؤمنين إلّا أنّها لا تنافي أن تكون في هذه الآية أيضا بمعنى النصرة ، وذلك لأنّ معنى تلك الآية أنّ كلّ واحد من المؤمنين موصوف بالنصرة للآخر ، والحال هاهنا أيضا كذلك وأنّه تعالى قسّم المؤمنين قسمين ، أحدهما : المخاطبون بقوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ). وثانيهما : الذين عناهم بقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) فكأنّه قال لكلّ بعض من المؤمنين : إنّما ناصركم الله ورسوله والبعض الآخر من المؤمنين ، وإذا ثبت ذلك ظهر أنّ إثبات مطلق النصرة لكلّ واحد من المؤمنين لا ينافي نصرة أحد ، فسمّى المؤمنين بالقسم الآخر منها ، وحينئذ لا يكون بين

__________________

(١) الأوّل في معنى الولي ، والثالث في الدلالة على الإمامة ، والثاني أي المقدّمة الثانية في نفي معنى الناصر.

(٢) التوبة : ٧١.

٩٧

قوله : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أنصار بعض ، وبين قوله : إنّما ناصركم الله ورسوله والذين آمنوا ، منافاة.

سلّمناه لكن لم قلتم : إنّ الولاية التي في هذه الآية خاصة؟

قوله : لأنّ صيغة «إنّما» تفيد حصر الولاية في المؤمنين الموصوفين بالصفات المذكورة وكلّ المؤمنين ليسوا كذلك.

قلنا : لا نسلّم أنّ كلمة «إنّما» تفيد الحصر ، بيانه من وجوه :

الأوّل : أنّه يحسن دخول التوكيد والاستفهام عليها ، تقول : إنّما جاءني زيد وحده ، وإذا قال إنسان : إنّما أكلت رغيفا ، حسن أن يقول : كم أكلت ، رغيفا واحدا أو أكثر؟ وعندكم أنّ حسن التوكيد والاستفهام دليل الاشتراك ، وليس لكم أن تمنعوا من حسن ما ذكرنا لأنّكم تستحسنون دخول الاستفهام والتوكيد على صيغ العموم مع أنّ اقتضاءها له أظهر من اقتضاء «إنّما» للحصر.

الثاني : أنّ قوله : إنّ زيدا في الدار لا يدلّ على أنّ غيره ليس فيها ، وكلمة ما دخلت للتوكيد فاقتضى أنّ قول القائل إنّما زيد في الدار تأكيد لكونه فيها ، ولا يدلّ ذلك على أنّ غيره ليس فيها.

الثالث : أنّهم يقولون في العرف : إنّما الناس أهل العلم ، وإنّما الرجل هو الشجاع ، ولا يريدون نفي الإنسانية والرجولية عن غير العالم وغير الشجاع ، بل المراد أنّ الإنسانية والرجولية في العالم والشجاع أظهر آثارا.

ثمّ إن سلّمنا أنّ صيغة «إنّما» تفيد الحصر في المؤمنين الموصوفين بالصفات المذكورة فلم قلتم أنّ المؤمنين ليس كلّهم موصوفين بهذه الصفات؟

أمّا الزكاة حال كونه راكعا ، فإنّا : لا نسلّم أنّ قوله : (وَهُمْ راكِعُونَ) متعيّن للحال ، بل هو استيناف لوجوه :

الأوّل : أنّ القائل إذا قال : فلان أدّى الزكاة وهو راكع ، حسن أن يستفهم

٩٨

فيقال : أدّاها حال الركوع أو قبله وهو الآن راكع؟ وحسن الاستفهام دليل الاشتراك.

الثاني : إنّ المفهوم من قوله تعالى : (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) إنّ ذلك من شأنهم وعادتهم فإنّه لا يقال مثل هذا القول في من أتى بفعل مرّة واحدة ، ومعلوم أنّه لم يكن إيتاء الزكاة ومن صفتهم أنّهم راكعون.

الثالث : أداء الزكاة في الصلاة مخلّ بكمال الخشوع والخضوع ، وذلك إمّا أن يكون مبطلا للصلاة أو لكمالها وذلك لا يليق بأمير المؤمنين.

الرابع : أنّ الآية لو أفادت المدح على إيتاء الزكاة حال الركوع لكان ذلك سنّة مندوبا إليها ، ومعلوم أنّه ليس كذلك في حقنا ، فعلمنا أنّ هذه الواو ليست للحال.

وقوله : لما جرى ذكر الصلاة فذكر الركوع بعده يكون تكرارا.

قلنا : يحتمل أنّ غرضه من ذكره على الخصوص تشريفه ، فلا يلزم من كون السجود أشرف إذ لا يخصّ هو بالذكر ، لاحتمال أن يكون في تخصيصه بهذا (١) التشريف مصلحة لا يطلع عليها ، ومع هذا الاحتمال لا يثبت القطع.

قوله : إنّ من قال (٢) رأيت زيدا وهو راكب فهم منه الحال.

قلنا : لا نسلّم ، أنّه إذا قيل فلان يحارب عنّي ويبني داري فإنّه لا يفهم منه أنّه يحارب عنه حال كونه بانيا هاهنا ، وهب أنّ المراد منه الاستئناف لكن المؤمنين بأسرهم ما كانوا راكعين حال نزول الآية قلنا : إذا حملنا الراكع على ما من شأنه أن يكون راكعا صار عامّا في كلّ المؤمنين.

__________________

(١) في نسخة «عا» : هذا ، وأثبتنا الصحيح من نسخة «ضا».

(٢) من نسخة «ضا».

٩٩

قوله في الوجه الثاني : أن يكون المؤمنين بعضهم أولياء بعض بمعنى النصرة أمر ظاهر عرف من قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فلا يكون في حمل الآية فائدة.

قلنا : بل فيه ثلاث فوائد : أحدها : أنّ الحكم العام يصحّ تخصيصه أي بعض منه كان ، وأمّا التنصيص على البعض المعيّن فلا يصحّ ذلك فيه. وثانيها : التشريف بالذكر. وثالثها : أنّ القصد بالآية إثبات ولاية المؤمنين للمؤمنين ، ونفيها عن اليهود والنصارى على ما دلّ عليه سياق هذه الآية وهذا المقصود غير حاصل في قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

لا يقال : العلم بكون اليهود والنصارى ليسوا أولياء المؤمنين ضروري فلا حاجة فيه إلى هذه الآية.

لأنّا نقول : لا يمتنع أن تكون الآية دلّت على سبب يقتضي الشكّ في وجوب نصرة اليهود والنصارى ، وإذا لم يمتنع ذلك لم يكن القطع على أنّه لا فائدة في نزول الآية لبيان ذلك ، كيف وقد روي أنّه كان بين الخزرج وبين يهود بني قينقاع حلف في الجاهلية ، فلمّا أسرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أقام عبد الله بن ابي (١) على نصرتهم ونودي عبادة بن الصامت (٢) ودخل عبد الله بن ابي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسأله وألحّ عليه فأطلقهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنزل الله هذه الآية (٣) تمنعهم عمّا اعتقدوا من أنّه إذا

__________________

(١) عبد الله بن ابي بن سلول رأس المنافقين.

(٢) ابن القيس الأنصاري الخزرجي (٣٨ ق ـ ٣٤ ه‍) شهد العقبة في نقباء الأنصار ، وشهد بدرا وسائر المشاهد ، وحضر فتح مصر ، وولي على القضاء في الرملة أو القدس من فلسطين ومات هناك في ٣٤ ه‍.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ : ٥٠ ـ ٥٣ ، ومغازي الواقدي ١ : ١٧٦ ـ ١٨٠ ، وإعلام الورى : ٨٠ ، ولعلّه عن ابن إسحاق.

١٠٠