النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة

ميثم بن علي بن ميثم البحراني

النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة

المؤلف:

ميثم بن علي بن ميثم البحراني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٤

وبه خرج الجواب عن الثانية وعن الثالثة : فإنّ قبول فعل الشاهد ليس بمجرد قول ، بل لأنّ قوله أفاد ظنّا امرنا بوجوب العمل به ، حتى [أنّه] لو لم يفد قوله الظنّ لم يجب بمجرد قوله.

وعن الرابعة : أنّ متابعة الإمام في الصلاة ليست أيضا بمجرد قوله ، بل لقيامه مقام الإمام الحق ، حتى لو اختلّ أمر إمامته وجبت مراجعة الإمام الأكبر.

وعن الخامسة : أنّ حكم الأب والسيد في حقّ الولد والعبد حكم الأمير في رعيّته ، وقد مرّ الجواب عنه وهو جواب المعارضة الاولى ، وبالله التوفيق.

البرهان الثالث :أنّه لو جاز الخطأ على الإمام فبتقدير أنّ ترجّح المفاسد التي تحصل من نصبه على المصالح يجب عزله وتولية غيره بالإجماع ، لكن عزله محال ، لأنّ العازل له إمّا آحاد الامّة أو مجموعها ، والقسمان باطلان ، فيمتنع وجوب عزله.

[و] إنّما قلنا أنّه يستحيل أن يكون العازل له آحاد الامّة لوجوه ثلاثة :

أحدها : لو صحّ من أحدهم عزله كما صحّ عزل آحادهم لم يتميّز حاله عن حال كل واحد منهم ، فحينئذ لا يكون هو أولى بالإمامة من أحدهم.

الثاني : أنّ كلّ من شاهد أحوال الملوك والرعايا وتصفّح كثيرا من جزئيات العالم ، علم بالضرورة بحسب مقتضى العادة أنّ كلّ واحد من آحاد الرعية لا يتمكّن من عزل ملك بلدته فضلا عن ملك الأرض بجملتها.

الثالث : أنّه يلزم أن يكون كلّ واحد من الرعية لطفا في حقّ الإمام الذي هو لطف في حقّ كلّ واحد منهم ، فيلزم الدور.

وإنّما قلنا : أنّه لا يجوز أن يكون العازل له مجموع الامّة لوجوه :

أحدها : أنّ رعيّة الإمام هو مجموع أهل الأرض ، لكن اجتماع أهل الأرض

٦١

على الشيء الواحد محال في العرف والعادة ، ولو سلّمنا في صورة لكن لا نسلّمه في كلّ صورة ، فإنّ اجتماعهم على إزالة ملك الأرض الذي قد خضعت له الرقاب ورغبت فيه طوائف من الأصدقاء وأحاطت به الغلمان ، أصعب وأعزّ من اجتماعهم على دفع منكر لا مخافة في دفعه.

الثاني : أنّه وإن أمكن ذلك في حقّ الإمام على سبيل الندور في بعض المعاصي ، لكن لا يكفي ذلك في منع الإمام عن جميع المعاصي واجتماعهم على دفعه عند كلّ معصية (١) محال.

الثالث : أنّا نعلم أنّ كلّ واحد من الرعية يخالف غيره لا يوافقه على المخالفة على الإمام قتله ، فيكون خلافه سببا لقتله (٢) وإذا كان ذلك حاصلا لكل واحد من آحاد الامّة لم يتحقّق المجموع على الاتفاق ، وبالله التوفيق.

احتجّ الخصم بأنّه لو وجب نصب الإمام المعصوم على الله لفعله ، ولو فعله لكان ظاهرا ، لأنّا نعلم بالضرورة أنّ هذا المقصود لا يحصل إلّا إذا كان ظاهرا متمكنّا من الترغيب والترهيب ، فأمّا إذا كان مستخفيا عن الخلق لم يحصل منه البتة شيء من المنافع.

والجواب : أنّ اللطف الحاصل لانبساط يده ذو أجزاء ثلاثة ، جزء يجب على الله فعله ، وهو إيجاد الإمام المعصوم بجميع شرائط الإمامة ، والثاني يجب على الإمام نفسه ، وهو تحمل أعباء الإمامة والقيام بامورها ، والثالث يجب على سائر المكلفين ، وهو تمكينه والانقياد تحت أوامر أقلامه.

ثمّ إنّ الماهية المركبة لا تحصل إلّا بتمام أجزائها ، والجزء الفائت من اللطف

__________________

(١) في الأصلين : مصيبة ، وهو غير مصيب.

(٢) كذا في الأصلين.

٦٢

هاهنا إنّما هو المتعلّق بالمكلفين ، فإنّهم لمّا خوّفوا الإمام لا جرم كان مستترا منهم ، ولم يلزم من ذلك عدم وجوده ، فإنّ الجزء المتعلّق بالله تعالى أو الجزء المتعلّق به نفسه موجودان.

سلّمناه ، لكن لا نسلم أنّه ليس بظاهر ، وقد بيّنا أنّه يظهر لأوليائه والانتفاع به قائم.

لا يقال : الله تعالى قادر على أن ينصره بجيش معصوم يزيلون الخوف عنه ، سلمناه ، لكن لم لم يخلق الله تعالى في نفسه من القدرة والعلم ما يطّلع بها على بواطن الخلق ، ويقوى على دفع شرورهم عن نفسه؟!

لأنّا نجيب عن ذلك بأنّه معارض : بخوف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من المشركين واستتاره منهم ، فإنّه أمر متّفق على وقوعه مع أنّه لم ينصره في حال خوفه بجيش معصوم ، ولم يطلعه في تلك الحال على ما في بواطنهم ، وعلى ما يتخلّص به من شرورهم. أقصى ما في هذا الباب أن يفرّقوا بين الاستتارين بقصر المدّة هناك وطولها هاهنا ، لكن هذا لا يصلح فرقا ، لجواز أن يكون قد علم [أنّ] فرصة التمكين التام غير ممكنة في هذه المدة ، أو لعذر آخر لا يطّلع عليه ، وبالله التوفيق.

٦٣
٦٤

البحث الثاني

في أنّ الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيّته في ما هو إمام فيه

وبرهانه من وجوه :

الأوّل :أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما ، وكلّ من كان كذلك وجب أن يكون أفضل من غير المعصوم.

أمّا المقدمة الاولى فقد مرّ بيانها ، وأمّا الثانية فمعلومة بالضرورة.

الثاني :لو لم يجب كون الإمام أفضل من رعيته لكان إمّا أن يكون مساويا أو أنقص ، والتالي بقسميه باطل فالمقدّم مثله [و] إنّما قلنا : أنّه يستحيل أن يكون مساويا لأنّه لو كان في رعية الإمام من هو مساو له فيما هو إمام فيه لما كان متعيّنا في الحاجة إليه ، فلم يجب أن يوجد ، وقد تعيّن في الحاجة إليه من بين سائر الأمّة فوجب أن يكون موجودا ، فوجب أن لا يكون فيهم مساو له فيما هو إمام فيه.

بيان الملازمة : أنّه إذا ثبت أن هناك مساويا لكان قائما مقامه فيما هو إمام فيه ، فلم تتعيّن الحاجة إليه ، فلم يجب وجوده.

بيان بطلان التالي ما بيّنا أنّ الحاجة إليه معيّنة وأنّه واجب أن يكون موجودا.

وأمّا أنّه يستحيل أن يكون أنقص ، فظاهر بطريق الأولى.

٦٥

الثالث :أنّا سنبيّن إن شاء الله تعالى أنّ الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه من قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإذا كان كذلك لزم أن يكون الأفضل ، لأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يخصّ بتأدية أحكام الله تعالى وأوامره إلّا من كان أحفظ لها وأقوم بتأديتها ، وأعلم بمواردها ، وذلك هو الأفضل الأعلم ، والعلم بصدق هذه الصفة فطري فوجب أن يكون الإمام أفضل.

الرابع :لو جاز تقديم غير الأفضل لجاز إمّا تقديم المساوي أو الأنقص ، والأوّل باطل لأنّ تقديم المساوي إن كان لا لأمر كان ذلك ترجيحا للممكن من غير مرجح وهو محال ، وإن كان لأمر فهو إمّا أن يرجع إلى ذات الإمام فيكون في نفسه أرجح من غيره وقد فرضناه مساويا هذا خلف ، أو إلى غيره مع أنّ نسبة غيره إليه وإلى من يساويه في الحكم بالتقديم على سواء فاختصاصه بالحكم دون الآخر يستدعي مخصصا آخر ، والكلام فيه كالكلام في الأوّل ، فيلزم إمّا التسلسل أو الترجيح من غير مرجّح ، والثاني ، أيضا محال لأنّك علمت في حدّ الإمامة أنّها : رئاسة عامة لجميع الخلق في امور الدين والدنيا ، وذلك يقتضي أن يكون جميع المكلّفين في محلّ الحاجة في طريق الدين والدنيا إلى من تحقّقت هذه الرئاسة في حقّه ، فوجب حينئذ أن يكون الإمام أفضل من سائر الخلق فيما هو إمام فيه.

واعلم أنّه قد دخل في هذه المسألة بحسب مقتضى البراهين المذكورة وجوب أن يكون الإمام أعلم الخلق وأشجعهم وأحلمهم وأكرمهم وأتقاهم وبالجملة سائر الكمالات ، للمعنى المفهوم من الإمامة ، وبالله التوفيق.

٦٦

البحث الثالث

في أنّ الإمام يجب أن يكون عالما بكلّ الدين

مرادنا بذلك أنّه عالم بالأحكام الكلية من الدين بالفعل وأمّا الأحكام الجزئية المتعلّقة بالوقائع الجزئية فله ملكة أخذ تلك الأجزاء من القوانين الكلّية من موادّها متى شاء وأراد ، ومعنى ذلك أنّه يكون متمكّنا من استنباط كلّ حكم في كلّ صورة صورة متى شاء.

وأطلق بعض أصحابنا القول بأنّه يجب أن يكون عالما بكلّ الدين ولم يفصّلوا ، فإن كان مرادهم ما ذكرناه من التفصيل فهو حق ، وإن كان المراد أنّه يجب أن يكون عالما بجميع قواعد الشريعة وضوابطها وقوانينها ، ثمّ بجزئيات الأحكام المتعلّقة بالحوادث الجزئية التي يمكن وقوعها على سبيل التفصيل ، فليس الأمر كذلك ، وبرهان فساده : أنّ الجزئيات التي يمكن وقوعها كالمسائل الجزئية الواقعة في كلّ باب من أبواب الفقه والتي يمكن وقوعها غير متناهية ، وما لا نهاية له يستحيل تعلّق علم الإنسان به على سبيل التفصيل دفعة ، والمقدمتان نظريتان ، وما كان محالا استحال أن يكون شرطا في صحّة الإمامة ، وبالله التوفيق.

٦٧
٦٨

البحث الرابع

في السبب الذي يتعيّن به الإمام

أجمعت الامّة على أنّ الإنسان لا يصير إماما بمجرّد أهليته للإمامة وأجمعت أيضا على أنّ المقتضي لتعيين الإمام ليس إلّا أحد الامور الثلاثة :

الأوّل : إمّا أن ينصّ عليه النبي أو الإمام.

الثاني : أن تختاره الامّة وتجتمع عليه.

الثالث : أن يدعو أهل الإمامة إلى نفسه بشرط أن يكون مباينا للظالمين آمرا بالمعروف عاملا به ، ناهيا عن المنكر مجتنبا له ، وهذا الإجماع إجماع عرضيّ ليس مقصودا بالقصد الأوّل من جميع الامّة ، بل معناه أنّ أحدا من الامّة لم يذكر سببا رابعا لتعيّن الإمام.

اعلم أنّ الاتفاق من كلّ الامّة حاصل على كون السبب الأوّل ـ وهو النصّ من النبي أو الإمام ـ سببا إلى تعيين الإمام ، واختلفوا في الطريقين (١) الباقيين ، واتّفقت الإمامية على إبطال أن يكون أحدها سببا. وذهب الأشعريّة (٢) وجمهور

__________________

(١) في الأصلين : الطرفين.

(٢) نسبة إلى أبي الحسن الأشعري المتوفى ٣٢٠ ه‍.

٦٩

المعتزلة (١) والخوارج (٢) والصالحية من الزيدية (٣) إلى أنّ الاختيار سبب لثبوت الإمامة ، وذهب الباقون من الزيدية إلى أنّ الدعوة طريق إلى ذلك ، ووافقهم على ذلك أبو علي الجبّائي (٤) دون غيره من الامّة.

لنا في المسألة من الاستدلال أنواع ثلاثة :

أحدها : أن نبيّن فساد الاختيار والدعوة عقلا فيتعيّن أنّ السبب هو النصّ فقط.

الثاني : أن نبيّن أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يفوّض أمر الإمامة إلى الاختيار والدعوة عقلا ، فيتعيّن أنّ السبب [النصّ] (٥) وإن جاز ذلك عقلا.

الثالث : أن نبيّن أنّ النصّ وجد من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيكون الاختيار باطلا.

أمّا النوع الأوّل فمن وجوه :

الأوّل : أنّا بيّنا أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما ، وذلك ممّا لا يصحّ معرفته بالاختيار والدعوة عقلا ، فتعيّن أنّ السبب هو النصّ فقط.

الثاني : أنّا بيّنا أنّ الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيّته في كلّ ما هو إمام فيه ، وذلك ممّا لا يمكن معرفته بالاختيار والدعوة.

__________________

(١) أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس درس الحسن البصري. بهجة الآمال ١ : ٨٤.

(٢) بدءوا بالخروج على علي عليه‌السلام وافتقروا إلى أكثر من عشرين فرقة ، بهجة الآمال ١ : ١٠٥ ـ ١١٠.

(٣) الزيدية : القائلون بإمامة زيد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام ، والصالحية فرقة منهم. بهجة الآمال ١ : ٩٥.

(٤) الأهوازي البصري البغدادي المعتزلي المتوفى في بغداد ٣٠٦ ه‍.

(٥) كذا الأصلان ، ولا يستقيم الكلام بدون [النص].

٧٠

الثالث : القول بالاختيار يؤدي إلى خلوّ الزمان عن الإمام ، وذلك غير جائز.

بيان الأوّل : أنّ الاختيار ليس لكلّ أحد بل لأهل الحلّ والعقد من الامّة الذين هم أقلّ الامّة عددا ، وهؤلاء بالاتفاق غير معصومين ، فبتقدير أن يختلفوا في إمامين مثلا فتعيّن كلّ فرقة إماما باختيارهم تتعادل الفرقتان ، فأمّا أن يعمل باختيارهما ، وهو باطل بالاتفاق ، وإمّا أن يعمل بأحدهما ، وهو تحكم محض ، لأنّه ترجيح فيه على الآخر. وإمّا أن ينتفي الاختياران فيكون ذلك إخلاء للزمان من الإمام.

وأمّا بيان الثاني فبالاتفاق ، ولمثل هذا الدليل يبطل القول بالدعوة.

لا يقال على الأوّل : أنّه لا امتناع في أن ينصّ الله تعالى على قوم بأعيانهم ثم يفوض اختيار العقل.

وعلى الثاني : أنّا لا نسلّم أنّ الإمام يجب أن يكون أفضل ، وإن سلمناه لكن أفضل حقيقة. أو في الظاهر الأوّل ممنوع ، والثاني مسلّم ، وكونه أفضل الخلق في الظاهر لا يتوقّف على التنصيص بل يكفي فيه الاختيار كما في تولية الامراء والقضاة ، وإنّما قلنا أنّه يكفي أفضليته في الظاهر لما أنّا قد اكتفينا بالظنون في الشهود وعدالة إمام الصلاة وأمر السيد عبده والزوج زوجته ؛ فيجوز أن يكون هنا كذلك.

سلمناه لكن يجوز أن ينصّ الله تعالى على قوم كثيرين يكون كلّ واحد منهم أفضل أهل زمانه في الباطن ، ثم إنّه يفوّض الاختيار في إمامتهم إلينا.

لأنّا نجيب عن الأوّل : أنّا بيّنا أنّ العصمة تستلزم الأفضلية ، والأفضلية تستلزم التعيين ، وحينئذ لا حاجة إلى تفويض الاختيار إلى الامّة ، ويظهر اعتباره بتقدير اختيارهم غير الأفضل ، وقد سبق بيان ذلك.

٧١

وعن الثاني : أنّا بيّنا أنّه يجب أن يكون أفضل ، قوله : «في الحقيقة أو في الظاهر» قلنا : بل في الحقيقة ، سلّمنا أنّ أفضليته في الظاهر معتبرة لكن لا نسلّم أنّه يكتفى باختياره ، بل لا بدّ فيه من التنصيص ، والقياس على الامراء أو أئمة الصلاة ، قد بيّنا الفرق بين إمام الأصل والمذكورين.

قوله : «يجوز مع نصّ الله تعالى على أفضلية قوم أن يفوّض إلينا اختيارهم».

قلنا : لا نسلّم ، فإنّا بيّنا أنّ الأفضلية تستلزم التعيين فيكون الاختيار هدرا ، وبالله التوفيق.

النوع الثاني : في الاستدلال ، بيانه من وجوه :

الأوّل : أنّ الضرورة قاضية بعد الخوض في أمر الدين أنّ السياسة هي التي يقوم عليها الدين ولا يتمّ بدونها ، ثمّ إنّه قد علم من حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يسوس أمّته كما يسوس الوالد أولاده الصغار ، ومصداق ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما أنا لكم كالوالد الشفيق» أو قال : «أنا لكم كالوالد لولده فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها» (١) ، ثمّ إذا كان الوالد تجب عليه الوصية بأولاده الصغار عند موته فلأن يجب عليه أن يوصي بامّته إلى أحد يقوم فيهم مقامه وينفّذ فيهم أمر الدين ويحفظه يكون أولى.

الثاني : أنّه عليه‌السلام قد شاع وتظاهر عنه مبالغته في بيان أحكام الشرع من

__________________

(١) الحديث ٢٥٨٠ من الجامع الصغير للسيوطي عن مسند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجة.

٧٢

الفرائض والسنن والآداب وشرح كيفيّة الاستنجاء والمسح على الخفّين (١) والعقل يشهد بأنّ أمر الإمام أهمّ من كلّ واحد من هذه الجزئيات فإذا ثبت أنّه عليه‌السلام لم يخلّ ببيان هذه الأشياء فبطريق الأولى أن لا يخلّ بأمر الإمامة.

الثالث : أنّ الله تعالى ما قبض نبيّه إليه حتّى أنزل عليه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٢). ولا يكون مكملا للدين إلّا وقد بيّن كلّ ما يتعلّق به ، والإمامة إن لم تكن أعظم أركان الدين فلا شكّ أنّها من الامور المهمّة في الدين ، فإذن من الواجب أن يكون تعالى قد بيّن أمر الإمامة إمّا في كتابه أو على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك يقتضي وجود النصّ.

لا يقال على الأوّل : أنّا لا نسلّم : أنّه يلزمه في أمّته كلّ ما يلزم الوالد في حقّ أولاده الصغار. لأنّه ما كان يلزمه دفع الضرر عنهم ولا الانفاق عليهم وإن وجب ذلك على الوالد.

وعلى الثاني : أنّ الصحابة لمّا أجمعوا على صحّة الاختيار وجب أن يكونوا عالمين بما دلّهم على صحّة الاختيار لانعقاد الإجماع لا على الدلالة.

ثمّ الذي يدلّ على جواز الاختيار وجهان :

أحدهما : قوله عليه‌السلام : «إن ولّيتم أبا بكر وجدتموه قويا في دين الله ضعيفا في بدنه ، وإن ولّيتم عمر وجدتموه قويا في دين الله قويا في بدنه ، وإن ولّيتم عليا وجدتموه هاديا مهديا» (٣) وذلك إشارة إلى صحّة الاختيار.

ما روي : أنّ المسلمين ولّوا يوم مؤتة خالد بن الوليد ولم ينكر ذلك عليهم

__________________

(١) كذا في النسختين ، ولعلّه من باب الجري في الجدل.

(٢) المائدة : ٣.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٥١ و٥٢ عن الجوهري. وذيله في ١١ : ١١ و١٧ : ١٧١.

٧٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإذا ثبت أنّه عليه‌السلام نبّههم على جوازه كان قد بيّن لهم أمر الإمامة كما بيّن لهم سائر الشرائع. وهذا هو الاعتراض أيضا على الثالث.

لأنّا نجيب عن الأوّل : بأنّا ما ادّعينا أنّه يلزمه في أمّته كلّ ما يلزم الوالد مع أولاده ، بل بيّنا أنّه إذا كان قد وجب على الوالد أن يوصي بأولاده الصغار مع أنّ أمرهم جزئي من جزئيات أحوال الخلق فوصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمّته الذين هم كلّ الناس في الحقيقة يكون بطريق الأولى.

وعن الثاني : لا نسلّم أنّ الإجماع حجّة ، سلّمناه ، ولكن لا نسلّم على أنّ الإجماع انعقد على ذلك ، فإنّ كثيرا من الصحابة لم يكن حاضرا ، وكثير منهم لم يكن راضيا ، وبالجملة فعليكم حصر الصحابة ليتمّ لكم الإجماع.

وأمّا الخبر الوارد في ذكر الشيخين فلا نسلّم صحّته ، ثمّ إن سلّمناه لكن لا دلالة فيه على صلاحيتهما للاختيار ، فإنّ ذكر قوّتهما في الدين لا يوجب صحّة اختيارهما ، فإنّ غيرهما من أكابر الصحابة كانوا أقوى منهما في الدين ، فلو كانت القوّة في هذين الأمرين موجبة للاختيار لما كانا أولى بالتعيين ، بل نقول : إنّ هذا الخبر كأنّ فيه تنبيها عظيما للصحابة على وجوب نصب علي عليه‌السلام وتعيّنه دونهما ؛ لأنّ مقصوده الأوّل إلى الإقامة (١) إنّما هو هداية الخلق الطريق المستقيم ممّن هو مهتد في نفسه ، فإنّه لا يصلح لمثل هذا الأمر إلّا من كان كاملا في نفسه قادرا على تكميل غيره من الناقصين. فلذلك نبّه الصحابة على وجوب اتباعه صلّى الله عليهما بقوله : «هاديا مهديا» وإنّما احتاج هاهنا إلى هذه الرموز لما يعلم أنّ أكثر الصحابة كانوا بطباعهم الحيوانية يرغبون عن علي عليه‌السلام ، وتنفر قلوبهم منه ، وهذا أمر ظاهر لو كانت لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها.

__________________

(١) كذا في النسختين ، ولعلّ الصواب : لأنّ المقصود الأوّل من الإمامة إنّما هو ...

٧٤

وأمّا قوله : «إنّ المسلمين ولّوا يوم مؤتة خالد بن الوليد ولم ينكر عليهم ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» فنقول : بعد تسليم صحّة هذا الخبر فليس فيه أيضا دلالة على صحّة اختيارهم ، فإنّ الحجّة ليست إلّا في تقريره عليه‌السلام لهم على ذلك الاختيار لا في نفس الاختيار ، ثمّ أقلّه [أنّه] كان ذلك لضرورة أو حاجة اقتضت سكوته عليه‌السلام عن الإنكار عليهم ، فأين ذلك من مجرّد اختيارهم بعد موته وخلاف كثير من الصحابة لهم؟!

وبهذا ظهر الجواب عن الاعتراض الثالث ، وبالله التوفيق.

وأمّا النوع الثالث من الاستدلال فسنبيّنه إن شاء الله تعالى في تعيين الإمام.

احتجّ الخصم في إبطال النصّ بأن قال : لو نصّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على الإمام بعده نصا جليا لكان ذلك بمشهد أهل التواتر أو لا يكون والتالي بقسميه باطل ، فالمقدم كذلك ، أمّا الملازمة فظاهرة ، أمّا بطلان القسم الثاني من التالي ، فلأنّه يبطل أصل الحجة ، وأمّا القسم الأوّل فلأنّه لو كان كذلك لوجب اشتهاره بين الامّة كسائر المتواترات.

وإنّما قلنا ذلك لأنّ تنصيص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على إمامة شخص معيّن (أمر عظيم ، وكلّ أمر عظيم) (١) يقع بمشهد أهل التواتر فلأنّه لا بدّ وأن ينتشر في أكثر الخلق ، وكلّ خبر هذا شأنه فلأنّه لا بدّ وأن يحصل العلم لسامعيه فهذا ادّعاء بحت ... (٢) يصحّ بصحّتها المطلوب.

__________________

(١) عن هامش الأصل نسخة ، أو هي مقتضى السياق ويأتي الإرجاع عليه.

(٢) كلمة غير مقروءة في النسختين.

٧٥

وإنّما قلنا أنّ تنصيص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على إمامة شخص معيّن أمر عظيم ، لأنّ أعظم الأشياء عند الإنسان الدين وأعظم الناس الشارع ، فإذا أقام الشارع إنسانا نائبا له في دين أمّته ودنياهم فلا شكّ في كون تلك المنزلة أعظم المنازل.

وإنّما قلنا أنّ الأمر العظيم الواقع بمشهد الناس لا بدّ وأن ينتشر لأنّا نعلم بالضرورة أنّ أهل الجمعة إذا انصرفوا عن المسجد وقد تنكّس الخطيب عن المنبر مثلا فإنّما يمتنع أن لا يخبروا الناس بذلك وأن تتوفّر دواعيهم على نقله.

وإنّما قلنا : أنّ الخبر الذي هذا شأنه يفيد العلم ، لأنّ ذلك ضروري.

وإذا ثبتت هذه المقدّمات لزم من وجود النصّ انتشاره وظهوره فيما بين الخلق كسائر المتواترات ، فلمّا لم يكن كذلك علمنا كذبه.

والجواب : أنّا سنبيّن إن شاء الله تعالى صحّة النصّ الجليّ على إمامة عليّ عليه‌السلام وأنّه بلغ مبلغ التواتر ، وحينئذ ينتفي الاختيار ، وبالله التوفيق.

٧٦

الباب الثاني

في تعيين الإمام

المقدّمة

١ ـ في أنّ الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علي بن أبي طالب عليه‌السلام

٢ ـ في تعيين باقي الأئمة عليهم‌السلام

٧٧
٧٨

وفيه مقدّمة وأبحاث :

أمّا المقدّمة ، ففي تفصيل المذاهب في هذه المسألة ، فنقول :

ذهب جمهور المعتزلة والأشعرية والخوارج والمرجئة (١) : إلى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينصّ على إمام بعده.

وقال قوم : إنّه نصّ على إمام بعينه. ثمّ اختلفوا في ذلك المنصوص عليه ، فقالت الشيعة : إنّه نصّ على علي عليه‌السلام. وقال قوم من الشّذاذ : إنّه نصّ على أبي بكر. وقال آخرون : إنّه خصّ العبّاس بأقوال وأفعال تستلزم إنّه الأحقّ بالإمامة دون غيره. والذين ذهبوا إلى القول بالنصّ على أبي بكر فمنهم من قال : إنّه نصّ خفيّ وهو تقديمه له في الصلاة وهذا القول محكي عن الحسن البصري. ومنهم من قال : إنّه نصّ جليّ وهو قول جماعة من أصحاب الحديث. فهذا تفصيل المذاهب.

__________________

(١) سبقت الإشارة إلى هذه الفرق إلّا المرجئة ، وهم القائلون بإرجاء القرار بشأن الفاسقين إلى يوم القيامة ، وراجع بهجة الآمال ١ : ١١٠ ـ ١١٣.

٧٩
٨٠