النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة

ميثم بن علي بن ميثم البحراني

النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة

المؤلف:

ميثم بن علي بن ميثم البحراني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٤

أمّا المقدّمة ففيها بحثان :

البحث الأوّل

[تعريف الإمامة]

الإمامة رئاسة عامة لشخص من الناس في امور الدين والدنيا ؛ إذ الرئاسة هي الجنس القريب للإمامة ، ومجموع القيود الباقية خاصّة مركبة (١) إذ كلّ منهما لا يخصّ نوع الإمامة دون كلّ ما عداه وإن خصّه بالنسبة إلى بعض الأشياء : فإنّ كون الرئاسة عامة وإن ميّز نوع الإمامة عن نوع القضاء وكلّ رئاسة خاصة لكنّه لا يميّزه عن نوع السلطنة الجوريّة ، إذ هي عامة أيضا ، وقولنا «لشخص» وإن ميّزه عن رئاسة لشخصين أو أكثر غير أنّه لا يميّزه عن السلطنة الجورية أيضا ، وقولنا «في امور الدين والدنيا» وإن ميّزه عن سلطان الجور غير أنّه لا يكفي في تميّزه إذ ليس كلّ رئاسة في امور الدين والدنيا وجب أن تكون عامّة ، فإذن كلّ واحد من هذه القيود وإن كان أعمّ من نوع الإمامة إلّا أنّها إذا اجتمعت حصل

__________________

(١) أي مجموعة أعراض بمجموعها تكون عرضا خاصا وسيفسره المؤلف قريبا.

٤١

من المجموع قدر مميّز لذلك النوع تمييزا مطلقا يسمّى باصطلاح قوم الخاصّة المركبة ، وبالله التوفيق.

٤٢

البحث الثاني

في ضبط مذاهب الناس في هذه المسألة وتقرير الصحيح منها

الإمامة إمّا أن تكون واجبة مطلقا أو ليست واجبة مطلقا أو أن تكون واجبة في حال دون حال ؛ وإلى كلّ واحد من هذه الأقوال ذهب قوم : فالأوّل هو مذهب جمهور المتكلّمين ، والثاني هو مذهب النجدات من الخوارج (١) ، والثالث مذهب أبي بكر الأصمّ (٢) والفوطي (٣).

أمّا القائلون بوجوبها مطلقا : فمنهم من أوجبها على الله تعالى وجعل طريق وجوبها العقل فقط ، وهو مذهب الإمامية من الاثني عشرية وغيرهم ويثبتون الوجوب على الله تعالى بأنّ الإمامة لطف في الدين فتجب على الله تعالى بأن لا يخلي الزمان عنه.

ومنهم من أوجبها على الخلق إمّا سمعا فقط ، وهو مذهب أصحاب الحديث

__________________

(١) أتباع نجدة الخارجي ، يقولون بعدم وجوب الإمامة مطلقا. انظر الملل والنحل : ٩٦ ، طبعة طهران ١٢٨٨ ه‍.

(٢) هو أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصمّ المعتزلي ، وكان يخطّئ عليا عليه‌السلام في كثير من أفعاله ويصوّب معاوية في بعض أفعاله (٢٢٥ ه‍) ، أعلام الزركلي ٣ : ٣٢٣.

(٣) في النسختين : النوطي ، والظاهر أنّه يريد هشام بن عمرو الفوطي أحد رءوس المعتزلة ، الفهرست : ٢١٤.

٤٣

والأشعرية وجمهور المعتزلة ، منهم أبو علي (١) وأبو هاشم (٢) وأتباعهما.

وإمّا عقلا وسمعا وهو مذهب الجاحظ (٣) وأبي القاسم البلخي (٤) وأبي الحسين البصري ومن تابعه.

وهؤلاء لمّا لم يقولوا بأنّه لطف في الدين لا جرم لم يوجبوه على الله تعالى.

وأمّا القائلون بوجوبها في حال دون حال : فقال الأصمّ : لا يجب نصب الإمام في حال ظهور العدل والإنصاف بين الخلق ، إذ لا حاجة إليه ، ويجب نصبه عند انتشار الظلم وظهوره.

وقال هشام (٥) بالعكس من ذلك أي عند ظهور الظلم لا يجب نصبه لأنّه ربّما كان سببا للفتنة ، لتمرّدهم واستنكافهم عن طاعته فيكون نصبه سببا لازدياد الشرور ، فأمّا عند ظهور الانتصاف وانتشاره فيجب نصبه لبسط الشرع وإظهار شعاره ؛ فهذا تفصيل المذاهب في هذه المسألة.

__________________

(١) أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبّائي الأهوازي البصري البغدادي ، المعتزلي الكبير المتوفى في بغداد سنة ٣٠٦ ه‍ ، وفيات الأعيان ١ : ٤٨١.

(٢) أبو هاشم عبد السلام بن محمد الجبّائي الأهوازي البغدادي المعتزلي الكبير المتوفّى في بغداد سنة ٣٢١ ه‍. وفيات الأعيان ١ : ٢٩٢.

(٣) عمرو بن بحر الجاحظ البصري المتوفى بالفالج في البصرة سنة ٢٢٥ وهو غلام النظّام المعتزلي.

(٤) أبو القاسم البلخي عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي المتوفى ٣١٧. وفيات الأعيان ١ : ٢٥٢.

(٥) هشام بن الحكم الشيباني (١٧٥ أو ١٧٩ أو ١٩٠ أو ١٩٩ ه‍) ولد بالكوفة ونشأ بواسط وسكن بغداد ، كانت له كتب في الردّ على الزنادقة وعلى القائلين بإمامة المفضول وعلى المعتزلة في طلحة والزبير ، وفي القدر والإمامة.

٤٤

وأمّا تقرير ما يتمسّك به كلّ فريق والاشتغال بتزييفه وإبطاله فممّا يخرج عن الغرض فيما نحن بصدده ، غير أنّه عند تحقيق الحقّ يزهق الباطل.

فنقول : الإمامة واجبة عقلا وسمعا ؛ أمّا العقل فمن وجهين :

الأوّل : نصب الإمام إمّا أن يكون خيرا محضا أو الخير فيه أغلب ، أو شرّا محضا أو الشرّ فيه أغلب ، أو متساويين والأقسام الثلاثة الأخيرة باطلة لما يعلم بالضرورة بعد تصفح أحوال الخلق وعاداتهم أنّه متى كان بينهم رئيس منبسط اليد قوي الشوكة ، يردع ظالمهم وينصر مظلومهم ، ويحثّهم على الواجبات ويكفّهم عن المحرمات ، كانوا إلى الصلاح أقرب وعن الفساد أبعد ، وإذا لم يكن بينهم مثل هذا الرئيس كان حالهم بالعكس ، وفطرة العقل شاهدة بما ذكرنا ، وإذا كان الأمر كذلك لم يمكن أن يقال الشر في هذه الحالة مساو للخير فضلا عن القسمين الأخيرين فبقي أن يقال أنّها خير أو الخير فيه غالب ، وأيّما كان فهي تفيد المطلوب.

أمّا الأوّل : فلأنّ ذات الله تعالى فيّاضة بالخيرات ، لا توقف لها في إفاضة الخيرات على أمر غير ذاتها ، فكان إيجادها لمثل هذا الخير المحض واجبا.

وأمّا الثاني : فهو أيضا كذلك ، فأمّا كونها مشتملة على شيء من الشرور فلا يضرّ في وجوب وجودها ، لأنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرّ كثير في الجود والحكمة.

فيثبت بما قرّرناه أنّ نصب الإمام واجب من الله تعالى ، وهو المطلوب.

لا يقال (١) : لم قلتم بأنّ الأقسام الثلاثة باطلة ، قوله : «لأنّ الخلق إذا كان لهم رئيس يأمرهم بالواجبات كانوا إلى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد» قلنا :

__________________

(١) سيأتي الجواب عن هذا القول والإشكال بعنوان : الجواب عن الأوّل.

٤٥

يدعي هذا مطلقا في كلّ وقت أو في بعض أوقات دون البعض؟ والثاني مسلّم ، والأوّل ممنوع ، فلم قلتم : إنّه كذلك؟! وبتقدير أن لا يكون كذلك لم يكن الخير فيها أغلب. سلّمنا ولكنّه معارض ، بما أنّ نصب الإمام يتضمّن الإضرار بالخلق ، وحينئذ يكون شرا محضا أو الشرّ فيه أغلب فوجب أن لا يجب ، بل ولا يجوز.

وإنّما قلنا إنّه يتضمّن الضرر ، لوجهين :

أحدهما : أنّه قد يستنكف أكثر الناس من طاعته فيحاربونه ويحاربهم ، فيؤدي ذلك إلى القتل والفتن وذلك محض الضرر ، واعتبر الوقائع الحاصلة بسبب إمامة علي عليه‌السلام بحرب الجمل وصفّين وحرب الخوارج ، فأنّا نعلم بالضرورة أنّ ذلك إنّما كان بسبب إمامة علي عليه‌السلام بحيث لو لم يكن لم يكن شيء من ذلك.

الثاني : أنّ الإمام إن لم يكن معصوما فبتقدير فسقه أو كفره إن لم يعزل تعدّى ضرر فسقه وكفره إلى الخلق ، وإن عزل احتيج في عزله إلى المحاربة والفتنة ، وذلك عين الضرر وإن كان معصوما جاز فسقه وكفره ، وحينئذ يتوجّه التقسيم المذكور فيه.

سلّمنا أنّ الإمامة لا تشمل على ضرر ، لكن لا نسلّم أنّها مشتملة على شيء من المصالح ، وحينئذ لا يكون فيها خير فضلا عن أن تكون خيرا محضا أو الخير فيها غالبا ، وبيان ذلك : أنّها إمّا أن تجب لا لفائدة ، فتكون عبثا وهو قبيح عندكم ، وأيضا فيكون تسليما للغرض أو لفائدة ، وهي إمّا منفعة دنيوية أو اخروية أو دفع مضرّة دنيوية أو اخروية ، وعلى كلّ التقديرات فهو محال : أمّا أوّلا : فلأنّكم لا توجبون على الله تعالى تحصيل كلّ المنافع للعباد ولا دفع كلّ المضارّ عنهم ، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن تكون الإمامة من تلك المنافع أو دفع المضارّ؟ وأمّا ثانيا : فلأنّ إيصال تلك المنفعة أو دفع تلك المضرّة مقدور لله تعالى بدون الإمامة فينبغي أن توجبوا ذلك عليه ابتداءً.

٤٦

والجواب (١) عن الأوّل : أنّا ندّعي ذلك مطلقا وفي كلّ وقت ، ولذلك فإنّ العقلاء بأسرهم متّفقون على إقامة الرؤساء في كلّ وقت معتقدون أنّ الحاجة إليهم في انتظام امور الدين والدنيا ضرورية ، وهو ضروري ، ولو كان نصبهم في وقت ما سببا لفساد أكثري أو متساويا لما كان اعتقاد الخلق كما ذكرناه دائما.

وعن الثاني : لا نسلّم أنّه يتضمّن الإضرار أو الأكثرية بالخلق أو المساوية للخير. قوله في الوجه الأوّل من المعارضة «أنّهم ربّما استنكفوا عن طاعته فيكون ذلك سببا للحروب والفتن كما في الوقائع المذكورة».

قلنا : هذا وإن وقع بسبب وجود الإمام إلّا أنّه أمر خيري بالنسبة إلى الفتن والأضاليل الواقعة على تقدير عدمه ، فإنّ العاقل إذا رجع إلى عقله علم أنّ غفلة الخلق عن امور الدين وثوران الفتن والتغلّب وعدم تسليم بعضهم لبعض عند ما لا يكون الإمام المذكّر بها والمعاتب على الإخلال بها موجود أكثر ممّا إذا كان موجودا بكثير.

قوله في الوجه الثاني : «إنّ الإمام إن كان معصوما جاز فسقه وكفره».

قلت : لا نسلّم أنّه إن كان معصوما جاز ذلك منه ، وذلك كما سنبيّن أنّ العصمة ملكة ترك المعاصي ، وهي متمكّنة في جوهر النفس ، فيستحيل زوالها إلى أضدادها ، وبالله التوفيق.

وعن الثالث : لم لا يجوز أن يكون وجوب الإمامة لفائدة هي تقريب عباده من طاعته المرادة له تعالى ، قوله «تلك المنفعة بدون الإمامة» إن كان ممكنا إلّا أنّه ليس بحسن ، بل هو قبيح عندنا عقلا ، وينبّهك على ذلك أنّ من دعا غيره إلى طعامه يعلم أنّه لا يحضر إلّا أن يتولّى دعاءه بنفسه وهو قادر على ذلك

__________________

(١) هذا جواب قوله : لا يقال.

٤٧

ولا غضاضة عليه في فعله ، فإنّه متى لم يفعل عدّ مقصّرا في عرف العقل أو استقبح ذلك منه. واستعمالنا لهذا المثال في حقّ الله تعالى بحسب قياس الغائب على الشاهد ، فإنّ الفطرة شاهدة بعلّيته أي بمؤثّرية هذا الحكم مطلقا ، بل للتنبيه على ملاحظة عدم حسنه في حقّ الله تعالى.

الوجه الثاني : الإمامة جزء من أجزاء التمكين الذي هو واجب ، وجزء الواجب لا بدّ وأن يكون واجبا ، فالإمامة واجبة ، أمّا الكبرى فظاهرة ومتّفق عليها وأمّا الصغرى فبيانها : أنّ الداعي إلى فعل أكثر الطاعات واجتناب المعاصي في أكثر الخلق في كلّ وقت موقوف على وجود الإمام وغير ممكن الحصول من دونه ، وهذه ضرورية بعد تصحيح أحوال الخلق والاطلاع على أخلاقهم وطبائعهم ولوازم أمزجتهم ، وإذا كان فعل الطاعة غير ممكن بدون الداعي لاستحالة الترجيح من غير مرجّح والداعي غير ممكن من أكثر الخلق إلّا بوجود الإمام ، وجب أن يكون الإمام جزءا من أجزاء التمكين ، وكانت أولى بالوجوب.

وهذا التقدير (١) أولى من قول أصحابنا : إنّ الإمامة لطف وكلّ لطف واجب ؛ لأنّ تقدير كبرى قياسهم في غاية الصعوبة والتعسّر ، وبالله التوفيق.

لا يقال : لا نسلّم أنّ فعل الطاعات واجتناب المعصية موقوف على وجود الإمام ؛ وبيانه : أنّك إن أردت أنّ جميع الخلق في زمان وجود الإمام يمتنعون من جميع المعاصي ويفعلون جميع الطاعات فهذا ممنوع ، بل الضرورة تشهد ببطلانه ، وإذا كان كذلك كان بعض المعاصي واقعا وبعض الطاعات مفعولا في زمان وجوده ، وهذا أيضا ثابت في حال عدمه ، فإنّ بعض المعاصي موجود وبعض

__________________

(١) كذا في النسختين «عا» و «ضا» ، ولعلّ الأولى : التقرير.

٤٨

الطاعات مفعول.

سلّمناه ، لكن متى تكون المعاصي مرتفعة والطاعات واقعة إذا كان الإمام ظاهرا نافذ الحكم؟! وإذا لم يكن كذلك فالأوّل مسلّم والثاني ممنوع.

بيانه : أنّ انزجار الخلق عن القبائح بسبب الإمام إنّما يكون إذا كان متمكّنا من زجرهم عن القبائح ، وإذا لم يكن قادرا على ذلك لم يحصل الانزجار.

والحاصل : أنّ الإمام الذي توجبونه لا يفيد مطلوبكم ، والذي يفيد مطلوبكم لا توجبونه.

لأنّا نجيب عن الأوّل : أنّا ما ادّعينا أنّ كلّ الخلق يمتنعون بوجوده من كلّ المعاصي ، بل نقول : إنّ الحازم يجزم بعد تصفّح أحوال الخلق أنّ دواعي أكثرهم إلى الطاعات واجتناب المعاصي موقوف على وجود الإمام ؛ أمّا في حقّ تاركي أصل العبادة والمترخّصين من أنفسهم فيها بما لا يجوز لهم فعله والإخلال به منها ، فظاهر ممّا بيّناه ، وأمّا في حقّ من كان سالكا للعبادة قائما بها فإنّ الحركات فيها مقولة بحسب التشكيك أي أنّها قابلة للأشدّ والأضعف ، فالعلم الضروري حاصل بأنّ العبادة ممّن كان قائما بها قبل وجود الإمام تكون بوجوده أوفى وأتمّ لتوفّر الدواعي عليها بوجوده ، فإذا القدر الزائد على العبادة بعد وجوده كان موقوفا على توفّر الدواعي إليه وذلك التوفّر موقوف على وجود الإمام ، والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف.

وعن الثاني من وجهين :

أحدهما : أنّ الانزجار حاصل بالإمام وإن كان غائبا فإنّ المكلّفين إذا تقرّر في عقولهم وجود الإمام وصحّة إمامته واعتقدوا أنّه لا حال من الأحوال إلّا ويجوز ظهوره عليهم ويمكنه من التصرّف فيهم بالأخذ بالجرائم ، فحينئذ لا حال إلّا ويكون المكلّف فيه خائفا ، فلأجل ذلك يمتنع من القبيح.

٤٩

الثاني : أنّ الانزجار وإن لم يحصل إلّا عند ظهوره وتمكّنه لكن هذا لا يقدح في وجوبه من الله سبحانه ، فإنّ عدم تمكينه إنّما كان لأمر يرجع إلى المكلّفين ، وهو إخافتهم للإمام وعدم أخذهم بيده ، مع قدرتهم على تمكينه وإزاحة علّته ، فهم إنّما أتوا من قبل أنفسهم.

لا يقال على الجواب الأوّل : إنّا إذا توقّعنا حدوث الإمام في كلّ وقت وعلمنا أنّه متى حدث كان مانعا من القبائح ، كان الخوف منه في كلّ وقت ـ وإن كنّا لا نعلم أنّه حاصل في ذلك الوقت أم لا ـ كالخوف الحاصل من وجوده وإمكان ظهوره ، وإذا كان كذلك فجوّزوا أن لا يكون موجودا إلّا أنّ الله تعالى يجب عليه أن يخلقه عند تحقّق المصلحة في إيجاده.

وعلى الثاني : أنّه ضعيف أيضا ، لأنّ العذر الذي ذكرتموه من تخويف الخلق له غير حاصل في أوليائه الذين يكونون له في غاية الولاء والإخلاص والمحبّة ، فكان ينبغي أن يظهر لهم عند شدّة حاجتهم إليه لاستفادة ما أشكل عليهم من العلوم.

لأنّا نجيب عن الأوّل : بأنّ الخوف من الإمام إنّما هو مشروط بوجود الإمام ، لأنّ الخوف ممّن يجزم العقل بعدمه محال وإن جوّز وجوده ، وما أحسب عاقلا لا يفرّق في حصول الخوف بين إمام موجود يتوقّع ظهوره عليه في كلّ لحظة ، وبين من يجزم بعدمه ويجوّز وجوده حتّى يستوي بينهما ، نعوذ بالله من عدم الإنصاف.

وعن الثاني : أنّا لا نسلّم أنّ الإمام الذي نقول بغيبته الآن لا يظهر لأوليائه ، بل يظهر لهم ويأخذون عنه الأحكام ، وقد ظهرت إليهم عنه أحكام وأجوبة مسائل سألوها وغير ذلك من الأدعية والمكاتبات كما هو مشهور بين

٥٠

الاثني عشرية (١).

سلّمنا أنّه لا يظهر لأحد من أوليائه وإن كانوا في غاية الصلاح والمحبّة له والحاجة إليه ، لكن السبب فيه أحد أمرين :

أحدهما : أنّ الإنسان وإن كان في غاية الصلاح إلّا أنّ طبيعته مجبولة على طلب الكمال ، وأعظم كمال يتنافس فيه في الدنيا ويتخيّل كونه أشرف الكمالات هو الجاه ، فإنّ الإنسان ربّما يجهد في تحصيله بكلّ وسيلة ، حتّى أنّ كثيرا من الزّهاد ربّما جعلوا الوسيلة إليه إظهار بغضه ، ثمّ إنّه إذا كان مطلوبا للخلق من تعظيم أقلّ أمير من أمراء الجور لهم ، فكيف من الإمام الحقّ المؤيّد بالكرامات ، الذي لو عرف الخلق بأسرهم حقّيّة وجوده وصحّة إمامته وأنّ الحقّ معه لبذلوا مهجتهم دونه ، إذا اختصّ إنسانا من خلق الله ـ ربّما كان فقيرا مطّرحا ـ فتطرق إليه وظهر إليه ، فإنّه والحال هذه لا يؤمن أن يفتخر بمثل ذلك ويسرّه إلى أخ له أو ولد أو زوجة ، فينتشر ذلك إلى الأعداء أو ولاة الأشرار فإنّ لكلّ نصوح نضوحا (٢) وكلّ حديث جاوز اثنين شاع (٣) ، وإذا انتشر ذلك كان سببا للفساد.

الثاني : أنّ ذلك الولي لا يعرفه إلّا بالكرامات التي تظهر له منه ، ولا يصدقه بمجرد قوله ، ثمّ لا يمتنع أن تطرأ الشبهة على المكلّف في ذلك فلا يقف على وجه دلالة الكرامة على مدّعي الإمامة ، فيعتقد ما جاء به منكرا فيستعين بغيره ، فيصير خصما وسببا لوصول ذلك الأمر إلى الأعداء.

__________________

(١) راجع الاحتجاج على أهل اللجاج ٢ : ٢٧١ ـ ٣١٥ ، طبعة النجف الأشرف.

(٢) النصوح : الناصح المخلص ، النضوح : الرشح. أي : الناصح المخلص قد يترشّح منه الكلام إلى غيره.

(٣) في النسختين : شايع. والشائع ما أثبتناه.

٥١

واعلم أنّ للخصم اعتراضات اخر رغبنا عن إيرادها كراهة التطويل ، والله المستعان.

٥٢

الباب الأوّل

في الشرائط المعتبرة في الإمامة

١ ـ في كون الإمام معصوما

٢ ـ في أنّ الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيّته

٣ ـ في أنّ الإمام يجب أن يكون عالما بكلّ الدين

٤ ـ في السبب الذي يتعيّن به الإمام

٥٣
٥٤

وفيه أبحاث :

البحث الأوّل

في كون الإمام معصوما

قالت الإمامية والاسماعيلية : أنّ العصمة شرط في الإمامة ، وإن اختلفوا في علّة وجوبها ؛ فإنّ الاسماعيلية بنوا وجوبها على أنّه لمّا كان الإمام معلّما للمكلّفين ما يحتاجون إليه من العلوم وجب أن لا يخطئ ، وقالت الإمامية : إنّما وجبت في حقّه لكونه لطفا ، فلو لم يكن معصوما لم يكن لطف إذ لا إمام غيره.

وقال الباقون من الامّة : إنّها ليست بشرط.

وقبل إثبات هذا المطلوب لا بدّ من بيان معنى العصمة :

فنقول : العصمة ملكة نفسانية يمتنع معها المكلّف من فعل المعصية. إذا عرفت هذا فنقول : لنا في وجوب كون الإمام معصوما وجوه :

الأوّل : لو لم يكن الإمام معصوما للزم التسلسل في وجود الأئمة ، والثاني

٥٥

باطل فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ علّة حاجة الخلق إلى الإمام إنّما هي جواز الخطأ عليهم ، بدليل أنّا متى تصوّرنا جواز الخطأ عليهم استلزم ذلك التصوّر حاجتهم إلى الإمام من غير توقّف على تصوّر أمر آخر ، وذلك يوجب كون جواز الخطأ علّة حاجتهم إلى الإمام ، فلو ثبت جواز الخطأ عليه لكانت حاجته إلى إمام آخر حاصلة ، لقيام علّة الحاجة فيه ، ولزم التسلسل. وأمّا بيان بطلان التالي فظاهر.

لا يقال : لا نسلّم أنّه لو لم يكن معصوما لافتقر إلى إمام آخر ، بل يكون خوفه من قيام الامّة عليه وعزله لو ارتكب خطأ يقوم في حقّه مقام الإمام في حقّ غيره ، وحينئذ لا حاجة إلى إمام آخر.

سلّمناه لكن ذلك معارض بأمرين :

أحدهما : أنّ علّة الحاجة إلى وجود الإمام هي بعينها علّة الحاجة إلى الامراء والقضاة ، وبالاتّفاق لا تجب عصمتهم ، فلا تجب عصمة الإمام.

الثاني : مفهوم الإمامة مركّب من قيدين : أحدهما : نفوذ حكم الإمام على الغير ، والثاني : عدم نفوذ حكم غيره عليه ، فلو وجبت العصمة لكان وجوبها إمّا للقيد الأوّل ، أو للثاني ، أوّلهما ، والتالي بالأقسام الثلاثة باطل. لما أنّ الأمير الذي في الصقع البعيد عن الإمام بحيث لا يصله حكم الإمام يكون كلّ واحد من تلك الأقسام متحقّقا فيه ، مع أنّه لا تجب عصمته بالاتّفاق.

الثالث (١) : أنّا سنبيّن أنّ إمامة الأئمة الثلاثة كانت صحيحة ، مع أنّهم ما كانوا معصومين ، وحينئذ يتبيّن عدم وجوب اشتراط عصمة الإمام.

__________________

(١) سيظهر من خلال أجوبة المؤلف على هذه المناقشات أنّها أربعة ، أوّلها ما ذكره بعد قوله : لا يقال.

٥٦

لأنّا نجيب عن الأوّل : من وجهين :

أحدهما : أنّ الامّة غير معصومة فكان الخطأ عليهم جائزا ، فبتقدير أن يرتكب الإمام الكبائر جاز حينئذ أن يتابعوه على ذلك ، وعند متابعته لا يكون له منهم خشية إنكار عليه ، فتحقق حاجته إلى إمام آخر ، ويعود المحذور المذكور.

الثاني : أنّ كلّ من تصفّح أحوال العالم وعوائدهم اضطرّ إلى الحكم بأنّ الرعيّة في غالب الأوقات لا يتمكّنون من عزل الملوك الظالمين فجاز حينئذ أن يتغلّب عليهم ولا يكون له منهم خوف.

وعن الثاني : أنّ الفرق بين الامراء والقضاة وبين الإمام ظاهر ، فإنّا إنّما لم نوجب عصمة من عداه لأنّهم عند أن يرتكبوا ما لا يجوز كان الإمام هو الآخذ على أيديهم والرادع لهم عمّا ارتكبوه من ذلك ، وهذا الحكم غير موجود في حقّه من جهتهم ، لجواز اتّفاقهم على الخطأ على ما بيّناه أوّلا.

وعن الثالث ، من وجوه :

أحدها : لا نسلّم أنّ الإمامة مركّبة من القيدين المذكورين (١) ، وبيانه : أنّ القيد الأوّل وجودي والثاني عدميّ ولا يتركّب منهما حقيقة محصلة بل ماهية الإمامة ما ذكرناه أوّلا (٢) ، وهذان القيدان لازمان لها.

الثاني : لا نسلّم الحصر في الأقسام المذكورة ، على أنّا قد بيّنا سبب وجوب العصمة وذلك يستلزم عدم الحصر فيما ذكراه من الأقسام الثلاثة ، سلّمنا الحصر لكن لم لا يجوز أن يكون وجوبها لأجل نفوذ حكمه على كلّ من عداه من المسلمين ، والأمير المفروض في السؤال غير نافذ الحكم على كلّ المسلمين ، فلم

__________________

(١) الأوّل : نفوذ حكمه على غيره. والثاني : عدم نفوذ حكم غيره فيه.

(٢) الإمامة : رئاسة عامة في امور الدين والدنيا.

٥٧

تكن علّة وجوب العصمة متحقّقة في حقه فلم تجب عصمته.

وعن الرابع : أنّا سنبيّن إن شاء الله تعالى أنّ إمامة المذكورين لم تكن حقّا وبالله التوفيق.

البرهان الثاني :الإمام تجب متابعته بمجرّد قوله ، وكلّ من كان كذلك كان واجب العصمة ، فالإمام واجب العصمة. أمّا أنّه تجب متابعته فلوجهين :

أمّا أوّلا : فبالاتّفاق لأنّه لا نزاع في وجوب متابعته على العامي في الفتوى والحكم ، ومتابعة من ينصبه لهما ، وأنّ العالم والعامي يجب عليهما متابعته في سياسته ، وعدله وتوليته ، وأمره ونهيه ، وتنفيذه إلى الغزوات ، وإقامة الحدود والتعزيرات. وأمّا أنّ ذلك بمجرّد قوله فلأنّه لو كان لأمر آخر ما كان فعلنا متابعة له ، لأنّا لا نوصف بمتابعة اليهود مثلا في اعتقاد نبوة موسى عليه‌السلام ، وذلك ظاهر.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لو جاز خلافه لجاز إمّا في كلّ الأحكام أو في بعضها ، والأوّل محال ، لأنّ الأحكام الحقّة لا يجوز خلافها ، والثاني أيضا باطل ، لأنّا على تقدير أنّا خالفناه في حكم جاز أن يكون ذلك الحكم في نفسه حقا ، وحينئذ يكون قد خالفنا الحقّ وإنّه غير جائز. وبتقدير تسليمه فالمقصود حاصل لأنّ مقصودنا ليس إلّا وجوب اتّباعه في بعض الأحكام.

وأمّا الكبرى : فلأنّه لو لم يكن معصوما لجاز أنّ يخطئ الحق ويرتكب خلافه ونحن لا نعرفه ، فبتقدير ذلك منه وقد وجب اتباعه وجب علينا حينئذ ارتكاب ما نهينا عنه ، هذا خلف.

لا يقال : لا نسلم أنّ الإمام تجب متابعته ، قوله : «لو جاز خلافه لجاز إمّا في كلّ الأحكام أو في بعضها» قلنا : لم لا يجوز أن يكون في بعضها؟ قوله : «يجوز أن يكون ذلك في نفسه حقا فنكون قد خالفنا الحق» قلنا : لا نسلّم ، وهذا بناء على

٥٨

أنّ الحقّ في جهة ، وذلك ممنوع ، فلم لا يجوز أن يكون كلّ مجتهد مصيبا؟! وحينئذ يجوز أن يخالفه العلماء ويكونوا مصيبين وإن كان هو أيضا مصيبا.

سلّمنا أنّه تجب متابعته بمجرد قوله فلم قلتم إنّ كلّ من كان كذلك وجب أن يكون معصوما؟

قوله : «لو جاز عليه الخطأ فبتقدير أن يأتي به نكون مأمورين باتباعه فيه فنكون مأمورين بفعل الخطأ وإنّه غير جائز».

قلت : هذا معارض بامور :

أحدها : أنّه تجب على الرعية متابعة القاضي والأمير بمجرد قولهما ، مع أنّه لا تجب عصمتهما.

وليس لقائل أن يقول : أنّ الإمام من وراء القاضي والأمير فيكون آخذا على أيديهما ومقوّما لزيغهما.

لأنّا نقول : هذا متصوّر في أمير قريب الدار من الإمام بحيث يمكنه تدارك ما يهمّ من سفك الدماء وإباحة الفرج الحرام ، فما القول في أمير يبعد عن الإمام بألف فرسخ (١) فإنّه يجب على الرعية الانقياد لقبول قوله ، مع أنّ الإمام غير منتفع به في حقّ مثل هذا الأمير عند تفريطه. وهب أنّ الإمام يدارك ذلك في ثاني الحال ولكن كيف ما كان فإنّه يجب على الرعية (٢) الانقياد للأمير الظالم في تلك الحال ، وأيضا فأيّ نفع للمقتول ظلما والموطوءة حراما في تدارك الإمام بعد ذلك.

وثانيها : أنّ المفتي من الشيعة يجب متابعة قوله مع أنّه ليس بمعصوم.

__________________

(١) فرسخ : معرّب عن الفارسية : فراسنگ ، بعد ما بين الحجرين المنصوبين في الطريق علامة. والفرسخ يعادل : خمس كيلومترات ونصف كيلومتر تقريبا.

(٢) في النسختين : للرعية.

٥٩

وثالثها : يجب على الحاكم الحكم بشهادة من ظاهره العدالة مع أنّه لا تجب عصمة الشاهد.

ورابعها : أنّه يلزم العبد طاعة سيّده فيما لا يعلمه محرّما ، وكذلك الابن لوالده ، مع أنّه لا تجب عصمة السيّد والوالد.

وخامسها : أنّ المأموم يتبع الإمام في الصلاة وإن جوّز أن يكون فعل الإمام محظورا بأن قصد بركوعه وسجوده عبادة صنم ، فضلا عن وجوب عصمته.

والجواب عن الأوّل : أنّه ثبت في اصول الفقه أنّ الحق في جهة ، وحينئذ يجوز أن تكون تلك الجهة جهة الإمام. فلو جوّزنا خلافه لجاز أن يقع ذلك خلاف الحقّ ، وحينئذ يعود المحال! سلمناه ، لكن خطأ في أمر منصوص عليه جائز ، وحينئذ يعود الإلزام.

وعن المعارضات :

أمّا عن الاولى : فهو أنّا لا نسلّم أنّ متابعة الأمير والقاضي بمجرد قولهما ، بل لقيام قولهما مقام قول الإمام ولأمره لنا باتباع أقوالهما ، ولهذا فإنّه لو خالفت أوامرهما شيئا من الشريعة وجب على الخلق مراجعة الإمام.

قوله : «هذا إنّما يتصوّر في أمير قريب الدار من الإمام أمّا في البعيد بحيث لا يتمكّن تلافى ما يفعله» إلى آخره.

قلت : الأمير المفروض إمّا أن يمكن للإمام تدارك كلّ الأحكام عنه ، أو لا يمكن تدارك شيء منها ، أو يمكن تدارك بعضها دون البعض ، وعلى التقديرات الثلاثة فاشتراط عصمة الإمام إنّما هو للقدر الممكن من تدارك الأحكام ، وسواء كان امتناع التدارك لبعد المسافة أو لعدم الاطلاع فإنّ كلّ ذلك لا يقدح في اشتراط وجوب العصمة ، لأنّه لا يلزم من اشتراط العصمة اطلاع المعصوم على كلّ الكائنات ، ولا اقتداره على ما يخرج عن طاقة البشر.

٦٠