النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة

ميثم بن علي بن ميثم البحراني

النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة

المؤلف:

ميثم بن علي بن ميثم البحراني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٤

تقدّم حلف في الجاهلية مع اليهود والنصارى وجب التزام ذلك الحلف.

فظهر أنّ في حمل الآية على ما ذكرنا فائدة جديدة.

ثمّ إن سلّمنا أنّه لا بدّ إلى بيان أنّه عليه‌السلام قد نصّ على إقامة علي من قبل نصّا جليّا لأنّ هذه الآية مدنية وعندهم أنّه قد نصّ عليه بمكّة نصّا جليّا ، بل هذا لكم ألزم لأنّ النصّ الخفي بعد النصّ الجلي أولى أن تكون فيه فائدة من نصّ خاص ورد بعد نصّ عام ، ومعلوم أنّ قوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) يحتمل من التأويل ما لا يحتمله الخاص لأنّه قد يمكن أن يقول قائل في بعض الأشخاص أنّه غير داخل في ذلك العام ، إذ يقول من أين لكم أنّه بصفة اللفظ العام بحيث إذا قال الله تعالى هذا الشخص وليّ المؤمنين لم يمكن هذا القول ، فيثبت أنّ حمل الآية على ما ذكرنا أكثر فائدة من حملها على المعنى الذي ذكرتموه.

ثمّ إن سلّمنا إنّ ما ذكرتموه يقتضي تعذّر حمل الولاية التي في الآية على النصرة ففيها ما يمنع حملها على الإمامة من وجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّ قوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) يشتمل على سبعة جموع (١) ولفظ الجميع يفيد أكثر من واحد فحملها على الواحد ترك للظاهر.

الثاني : أنّ الآية تقتضي ثبوت الولاية في الحال ، فلو كان المراد من الآية الإمامة لزم أن يكون علي عليه‌السلام إماما حال حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّه باطل.

أمّا لو حملناه على النصرة والمحبة كان ذلك حاصلا في الحال فوجب حمله عليه.

الثالث : أنّ ما قبل هذه الآية وما بعدها ينافي حملها على الإمامة ، وذلك من

__________________

(١) وليكم ... والذين آمنوا ... الذين يقيمون ... ويؤتون ... وهم راكعون.

١٠١

وجوه :

أحدها : أنّه تعالى قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ثمّ قال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) الآية والظاهر من ذلك إنّها أثبتت الولاية التي نفتها (١) عن اليهود والنصارى لأنّ الإنسان إذا قال لأقوام الفسّاق : إنّما وليّكم (٢) أهل الصلاح ، عقلوا (٣) أنّه أثبت الولاية المنفية عن اليهود والنصارى وليست هي (٤) الإمامة بل النصرة.

[ثانيها] (٥) : قوله تعالى في صفة اليهود والنصارى (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ومعلوم أنّ الولاية الثابتة لبعضهم مع بعض ليست ولاية استحقاق التصرّف لأنّ المستحقّ لها هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإمام المسلمين بعده فإذا يجب حمل تلك الآية على النصرة ، لأنّ بعضهم كان ينصر بعضا ويدفع عنه فأخبر الله تعالى عن وجود المناصرة الحاصلة بينهم.

وثالثها : قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) والتولية هي النصرة والدفع عنهم وما قال ومن يتّخذهم أئمّة.

ورابعها : قوله تعالى بعد الآية : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٦) فعلمنا أنّ المراد من الآية تولّي النصرة لا تولّي الإمامة فهذه هي الوجوه المانعة [عن] حمل الولاية على الإمامة.

__________________

(١) النصّ : نفاها.

(٢) النصّ : وليك.

(٣) في الأصل : عقل.

(٤) النصّ : وليس هي.

(٥) في الأصل : الثاني.

(٦) المائدة : ٥١.

١٠٢

لأنّا نجيب عن الأوّل : أنّا وإن سلّمنا أنّه لا ينافي لكن مطلوبنا إنّما هو المغايرة ... ، ولا شكّ أنّ المغايرة ثابتة لأنّ العام مغاير للخاص وغير مناف له ، لأنّ النصرة لا تنافي الإمامة لكن المدّعي لنا أنّ الولاية في هذه الآية بمعنى الإمامة ، وقد بيّناه.

وعن الثاني قوله : لم قلتم إنّ الولاية في هذه خاصّة.

قلنا : لما مرّ من الدليل.

قوله : لا نسلّم أنّ لفظة «إنّما» تفيد الحصر.

قلنا : بيّنا ذلك.

قوله : في الوجه الأوّل من نفي إفادتها للحصر أنّه يحسن دخول التوكيد والاستفهام عليها.

قلنا : دخول التوكيد عليها ممّا يدلّ على إفادتها للحصر ، لأنّ معنى التوكيد تقوية المعنى الذي يفيده اللفظ الأوّل بلفظ ثان ، فلمّا انحصر المعنى (١) في زيد صحّ تقويته لذلك المعنى بقوله (وحده) ؛ وأيضا فهو معارض بحسن قولنا : ما جاءني إلّا زيد وحده ، مع إفادة (إلّا) للحصر هاهنا.

وأمّا حسن الاستفهام فنحن نمنعه هاهنا ، وبيانه أنّ قول القائل : إنّما أكلت رغيفا ، لا يفرّق الذوق السليم في لغة العرب بينه وبين قولنا : أكلت رغيفا واحدا ، فكما لا يحسن الاستفهام هناك فكذا لا يحسن هاهنا ؛ سلّمناه ، لكن لو حسن الاستفهام هاهنا لزم الاشتراك ، وأنّه خلاف الأصل.

قوله في الثالث : إنّه يقال في العرف : إنّما الناس أهل العلم ، وإنّما الرجل صاحب الشجاعة.

__________________

(١) كما في نسخة «عا» ، وفي «ضا» لا تقرأ الكلمة.

١٠٣

قلت : ليس المقصود هاهنا بالناس كلّ الناس ، ولا بالرجل المختصّ بالرجولية دون غيره ، وإنّما المقصود الناس الموصوفون بصفات الكمال وكذلك الرجل ، وحينئذ يتحقّق الحصر ؛ سلّمناه لكن إفادتها للحصر ظاهرة ؛ بدليل أنّ الجاهل والجبان يستقبحان هذا الكلام وتنفر طباعهما عنه ، ولو لا إفادتها للحصر لما حصل ذلك الاستقباح.

وعن الثالث : قوله : لم قلتم إنّ المؤمنين ليسوا كلّهم موصوفين بالصفات المذكورة؟

قلنا : للدليل المتقدّم.

قوله : لا نسلّم أنّ قوله : (وَهُمْ راكِعُونَ) متعيّن للحال ، بل هو للاستيناف.

قلنا : سبق بيانه.

قوله : لوجوه أربعة أحدها : أنّه إذا قال : أدّى الزكاة إلى آخره.

قلنا : لا نسلّم أنّه يحسن الاستفهام هاهنا فإن ذكر كونه راكعا لا يحتمل ما بعد الركوع ولا ما قبله ؛ سلّمنا لكن حسن الاستفهام دلّ على الاشتراك وأنّه خلاف الأصل.

قوله : ثانيا إنّ المفهوم من قوله : (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) إلى آخره.

قلنا : لا نسلّم أنّ من عادة علي عليه‌السلام وأهل بيت الرسول عليهم‌السلام ذلك ، بل هو من عوائدهم ؛ سلمناه ، لكن أهليّتهم لذلك وفعلهم موافقة لتلك الأهلية مجرى عاداتهم.

قوله ثالثا : إنّ أداء الزكاة في حال الصلاة مخلّ بالخضوع.

قلنا : لا نسلّم ، بل هو من تمامه فإنّه عليه‌السلام جمع بين جهات الالتفات إلى الله بالجمع بين الصلاة والزكاة ، وذلك مؤكّد ومقوّ للخضوع والخشوع.

١٠٤

قوله : رابعا : لو أفادت المدح على إيتاء الزكاة حال الصلاة ، إلى آخره.

قلنا : الملازمة ممنوعة ؛ فليس كلما حسن وجب أن يكون سنّة ، لكن لم قلتم : إنّه ليس سنّة في حقّهم عليهم‌السلام إذ (١) كانوا يلزمون أنفسهم جميع الامور المقرّبة إلى الله تعالى وإن استلزمت المشاقّ والكلفة ، فجائز أن يسنّ في حقهم سنن ليست في حقّنا ، وإذا كانت كذلك تعيّن أنّ الواو للحال كما سبق بيانه.

قوله يحتمل أن يكون غرضه من ذكر الركوع على الخصوص تشريف.

قلنا : قد سلمتم أنّه يكون تكرارا ، بقي أن يؤوّلوا أنّه مشتمل على فائدة هي التشريف ، لكن التكرار خلاف الأصل ، وما ذكرتم أنّه زيادة فليس بحقّ وإنّه باطل لوجهين :

أحدهما : أن يقول : لو كان الواو للاستئناف لكان الكلام في غاية الركاكة ؛ وذلك لأنّ ذكر إقامة الصلاة أتمّ وأشرف من إقامة بعض أركان الصلاة ، وعادة الكلام الفصيح أن يبدأ بالأشرف فالأشرف (٢) لا أن يبدأ ويختم بما دونه ، لأنّا إذا علمنا أوصاف المؤمنين على الوجه الأكمل ثمّ ذكر لنا بعد ذلك وصف دون ذلك لم يكن للوصف الثاني ذوق في النفس ، بل يكون ذلك في غاية الركاكة.

الثاني : لو كان الواو للاستئناف لبقي الكلام منقطعا عمّا قبله وصار بمنزلة من يقول ابتداء ، هم راكعون ، وهذا الكلام غير مفيد.

بقي أن نقول : أنّهم أرادوا بالاستئناف العطف لكن الخطأ قائم من وجهين :

أحدهما : أنّ (٣) واو الاستئناف لا تطلق على واو العطف بالاتفاق.

__________________

(١) أثبتنا الراجح في الظنّ ، وفي النسختين : إذا.

(٢) أثبتنا الصحيح ، وفي النسختين : إلّا ، وفي نسخة «ضا» : إلّا أن يبدو.

(٣) من نسخة «ضا».

١٠٥

والثاني : إن سلّمنا العطف لكن عطف على الذين يؤتون الزكاة فإمّا أن يكون تقديره الذين يقيمون الصلاة والذين يؤتون الزكاة وهم راكعون ؛ وحينئذ يكون عطف جملة على مفرد وأنّه غير جائز أو يصير التقدير والذين هم راكعون وحينئذ يكون محتاجا إلى الإخبار ، والتقدير ، وأنّه (١) خلاف الأصل ؛ سلّمنا أنّه (٢) يحتمل أن تكون في ذكره فائدة زائدة لكن ذكر هذه الجملة عقيب الكلام يوجب سبق الذهن إلى أنّ الواو للحال ، والسبق إلى الذهن دليل الحقيقة.

قوله : لا نسلّم ، فإنّه إذا قيل : فلان يحارب عنّي ويبني داري ، لم يفهم منه الحال.

قلنا : الفرق من وجهين :

أحدهما : أنّه لم تجر العادة (٣) بالمحاربة حال البناء.

الثاني : أنّ الجمع بين البناء والمحاربة غير ممكن ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الجمع بين إيتاء الزكاة حال الركوع عادة لعلي عليه‌السلام ، وهو أمر ممكن في نفسه.

قوله : يحمل الراكع على ما من شأنه أن يكون راكعا ، وحينئذ يصير عامّا لكلّ المؤمنين.

قلنا : ذلك لا يكون حقيقة بل مجازا وأنّه خلاف الأصل.

قوله : حمل الآية هاهنا على النصرة فيه ثلاث فوائد.

أحدها أنّ العام يصحّ تخصيص أي فرد منه كان ، أمّا التنصيص على البعض فقط غير جائز.

__________________

(١) زيادة الواو بمقتضى السياق.

(٢) في النسختين : أنّ.

(٣) في «عا» هنا زيادة : أن.

١٠٦

قلنا : بل هو جائز لأنّه لما ثبت أنّ الواو للحال ، وامتنع بالاتفاق أن تكون هذه الصفات حال الركوع ثابتة لكلّ المؤمنين ، وجب الحمل على البعض ، خصوصا والآية في سياق المدح والتعظيم ، فاستعمال لفظ الجمع في المفرد للتعظيم مشهور في اللغة ، كقوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) (١) ، (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (٢).

قوله في الفائدة الثانية : التشريف بالذكر.

قلنا : سبق الجواب عنه.

قوله في الفائدة الثالثة : المقصود من هذه الآية إثبات نصرة المؤمنين للمؤمنين ونفيها عن اليهود والنصارى.

قلنا : هذا المعنى بأسره موجود في الآية التي قبل هذه وهو قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) الآية ، فإنّه أثبت فيها موالاة بعضهم لبعض ونهى المؤمنين عن أنّهم يتّخذونهم (٣) أولياء ، ففهمنا من مجموع هذه الآية أنّهم ليسوا أنصارا للمؤمنين ، وكلّ واحد من المؤمنين يعلم بالضرورة (٤) أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر المؤمنين ينصرونه ، ونعلم ذلك من قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (ويعلمون أنّ من كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين فلا بدّ (٥) وأن يكون معه (٦) دليل العقل ،

__________________

(١) نوح : ١.

(٢) القدر : ١.

(٣) أثبتنا الصحيح ، وفي النسختين : يتّخذوهم.

(٤) هنا في النسختين : حسنه ، ولا مناسبة لها.

(٥) أثبتنا الراجح في الظنّ ، وفي النسختين : ولا بدّ.

(٦) في نسخة (عا) : منعه.

١٠٧

والحسّ (١) أقوى من (٢) اللفظ) (٣) فكان (٤) حمل الولاية في هذه الآية على معنى غير النصرة أولى وأكثر فائدة.

سلّمنا لكن النصرة لا شكّ أنّها أعمّ من الإمامة ، فلو حملنا هذه الآية على الإمامة لكان أولى من حملها على النصرة ، لما أنّ الإمامة مستلزمة للنصرة استلزام الخاصّ للعامّ ، وذلك تكثيرا (٥) لفوائد كتاب الله عزوجل وصونا له عن كثرة التكرار.

قوله : سلّمنا : أنّه ليس هناك فائدة زائدة لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نصّ على عليّ نصا جليا إلى آخره.

قلنا : لمّا نحن بيّنا أنّه يمتنع حمل الولاية هاهنا على النصرة وجب حملها على الإمامة ، أمّا أنّ هذه الفائدة زائدة على النصّ الجليّ أو ليست (٦) بزائدة ، فحديث آخر لأنّ لنا أن نحملها على التأكيد للنصّ الجليّ ليوافق كلام الله تعالى سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمّا أنتم فزعمتم حملها على النصرة من غير ضرورة ، مع دلالة الآية المذكورة على النصرة وكان تكرارا لا حاجة إليه ولا ضرورة بحملها عليه ، فافترق الأمران.

قوله : هاهنا ما يمنع حمل هذه الآية على الإمامة.

الأوّل : قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) إلى آخره.

__________________

(١) في «عا» : الحسن.

(٢) زيادة بمقتضى السياق.

(٣) كذا وردت العبارة في النسختين ، وهي مضطربة.

(٤) في النسختين : وكان. وأثبتنا الراجح.

(٥) أثبتنا ما صحّ ، وفي النسختين : تكثير.

(٦) في النسختين : ليس.

١٠٨

قلت : هب أنّه يصير مجازا لكن المجاز يصار إليه عند عدم إرادة الحقيقة ، وقد بيّنا أنّها غير مرادة.

قوله : ثانيا : الآية تقتضي ثبوت الولاية في الحال فيلزم أن يكون إماما في الحال.

قلنا : مقتضى الآية ذلك ، إلّا أنّ قرينة امتناع اجتماع أوامر الخليفة مع أوامر المستخلف بحسب العرف والعادة صرفت عن حملها على ثبوت الإمامة الفعلية في الحال ، وكانت قرينة في الحال فعلية بعد عدم المستخلف. وهذا ظاهر.

قوله : ثالثا : ما قبل الآية وما بعدها ينافي حملها على الإمامة لوجوه : الأوّل إلى آخره.

قلنا : لا نسلّم التنافي فإنّه إذا حملناها على الإمامة استلزمت النصرة وما يدلّ على مرادية الملزوم لوجود اللازم في الملزوم ، وهو الجواب عن باقي الوجوه ، وبالله التوفيق والعصمة.

البرهان الثاني : التمسّك بقوله يوم غدير خم وقد جمع الناس بعد رجوعه عند حجّة الوداع ، وكان يوما صائفا حتّى أنّ الرجل ليضع رداءه تحت قدميه لشدّة الحرّ ، وجمع الرحال (١) وصعد عليها مخاطبا لهم : «ألست أولى بكم منكم بأنفسكم» ، قالوا : اللهم بلى ، قال : «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» (٢).

__________________

(١) الرحال : جمع الرحل : ما يوضع على الإبل لركوبها.

(٢) انظر الجزء الأوّل من موسوعة الغدير في الكتاب والسنّة والأدب ، للعلّامة الشيخ عبد الحسين الأميني التبريزي النجفي قدس‌سره.

١٠٩

والاستدلال بهذا الخبر لما كان مشروطا بصحّته وجب تصحيحه أوّلا ثمّ بيان وجه الاستدلال به.

أمّا الأوّل : فعندنا أنّ هذا الخبر متواتر لكن حصول العلم عقيب خبر التواتر لما كان من باب الوجدانيات مع أنّه لا يعمّ ، لم يمكنّا الاستدلال به على خصومنا ؛ فلا جرم حاولنا إثباته عليهم من وجهين.

أحدهما : أنّ الامّة أجمعت على نقله ، وإجماعهم على مذهب الخصم حجّة.

أمّا أنّها أجمعت على صحّته فلأنّ الشيعة بأسرهم ينقلونه ليثبتوا به إمامتهم ، والخصم ينقله ليثبت به فضيلته ، فوجب أن يكون مجمعا على صحته.

الثاني : أنّ عليّا عليه‌السلام ذكره في الشورى عند أول حاول ذكر فضائله (١) ولم ينكره أحد منهم ، فعدم إنكارهم لذلك مع توفّر دواعي الخصم على إنكاره فيما يفتخر خصمه عليه (٢) ما يشهد بصحّته شهادة ضرورية.

وأمّا المقام الثاني ، وهو دلالته على الإمامة ، فمبني على امور ثلاثة :

أحدهما : انّ لفظة المولى محتملة لمعنى (٣) الاولى.

الثاني : أنّها متعينة للمراد هنا.

الثالث : أنّه يلزم من ذلك القول بإمامة علي عليه‌السلام.

أمّا الأوّل : فيدلّ عليه الكتاب ، والسنّة ، والشعر ، والنقل.

أمّا الكتاب : فقوله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) (٤) قال المفسّرون

__________________

(١) أيضا انظر الغدير ١ : ١٥٩ ـ ١٦٣.

(٢) هنا في النسختين زيادة : (ما).

(٣) زيادة بمقتضى السياق.

(٤) الحديد : ١٥.

١١٠

معناه أولى بكم (١).

وقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) (٢) أطبق المفسّرون على أنّ معناه من كان أولى بالميراث وأحقّ به (٣).

وأمّا السنّة : فقوله عليه‌السلام : «أيّما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن مولاها» في بعض الروايات (٤) ولا يصحّ حمل المولى هاهنا على غير المالك لأمرها والأولى به.

وأمّا الشعر فقول لبيد :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخالفة خلفها وأمامها(٥)

وقال الأخطل :

فأصبحت مولاها على الناس كلّهم

وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا(٦)

وقال :

كانوا موالي حق يطلبون به

فأدركوه وما ملّوا ولا لغبوا(٧)

__________________

(١) التبيان ٩ : ٥٢٧ ، ومجمع البيان ٩ : ٣٥٥ ، وتفسير شبّر : ٥٠٤ ، وانظر الميزان ١٩ : ١٥٨.

(٢) النساء : ٣٣.

(٣) التبيان ٣ : ١٨٦ ، ومجمع البيان ٣ : ٦٥ ، وتفسير شبّر : ١١٣ ، وانظر الميزان ٤ : ٣٤٣.

(٤) انظر التبيان ٣ : ١٨٧ ، ومجمع البيان ٣ : ٦٥.

(٥) انظر مجمع البيان ٢ : ٤١ ، والضمير في غدت إلى البقرة.

(٦) انظر التبيان ٣ : ١٨٧.

(٧) الظاهر أنّ الصواب ما أثبتناه من ديوان الأخطل : ١٠٧.

وفي الأصل :

كانوا موالي حقّ يطلبون لهم

فأدركوه وما ملّوا ولا تعبوا

١١١

لم يأشروا فيه إذ كانوا مواليه

ولو يكون لقوم غيرهم أشروا(١)

فكان الولي في هذه الأبيات ليس المقصود منه إلّا الأولى.

وأمّا النقل : فقال الفرّاء (٢) في كتاب (معاني القرآن) : الولي والمولى في كلام العرب واحدا.

وقال المبرد : هو تأويل الأولى.

وقال ابن الأنباري في (مشكل القرآن) : المولى هو الأولى بالشيء ؛ وأمثال ذلك كثيرة.

فثبتت بهذه الوجوه أنّ لفظ المولى محتمل [معنى] (٣) الأولى.

وأمّا بيان الثاني : وهو أنّ المراد بالمولى في هذا الحديث «الأولى» فمن وجوه :

الأوّل : أنّ ذكر مقدّمة الكلام وهي (٤) قوله : «ألست أولى منكم بأنفسكم» وذكر المولى عقيب ذلك دليل يوضح أنّ المقصود بالمولى هو الأولى السابق لوجهين :

__________________

(١) الظاهر أنّ الصواب ما أثبتناه ، راجع ديوان الأخطل : ٨٥. والمعنى : أنّهم لم يبطروا فتغرّهم النعمة كسواهم الذين إذا ما أنعم الله عليهم ملك رأسهم الغرور والكبر. نقلا عن هامش الديوان : ٨٥. وفي الأصل :

لم يثأروا فيه إذا هم كانوا مواليه

ولو يكون لقوم غيرهم

(٢) يحيى بن زياد الديلمي الكوفي اللغوي النحوي ، كان من خواصّ الكسائي ، واستخدمه المأمون لتأديب أبنائه ، توفّي في ٢٠٧ ه‍. وقد يطلق الفرّاء على معاذ بن مسلم الكوفي النحوي من أصحاب الصادق عليه‌السلام ـ هدية الأحباب : ٢٣٠.

(٣) زيادة بمقتضى السياق.

(٤) في النسختين : وهو.

١١٢

أحدهما : أنّه السابق إلى الفهم والسبق إلى الفهم دليل الحقيقة.

الثاني : أنّه لم يرد إلّا الأولى ، وإلّا لم يبق للمقدّمة فائدة وكان ذلك ألغازا لا بيانا مثاله : لو قال إنسان لجماعة وله عدّة عبيد : ألستم تعرفون عبدي زيدا اشهدكم أنّ عبدي حرّ فإنّا نفهم أنّه أراد عبده زيدا دون غيره فكذا هاهنا ، لمّا قدّم ذكر الأولى ثمّ أردفه بذكر المولى المحتمل [معنى] (١) وجب أن يكون المولى هو الأولى.

والثاني : أنّ لفظة المولى تفيد المعتق ، والمعتق ، والعمّ ، والجار ، والحليف ، والناصر ، والأولى بالتصرّف. فلفظة المولى هاهنا إمّا أن تكون بمعنى المعتق ، وهو باطل ، لأنّه ليس معه صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا من صفات علي عليه‌السلام وكذلك المعتق ، فأمّا ابن العمّ فيستلزم كذب الكلام لأنّ التقدير : من كنت ابن عمه كان علي ابن عمه! ومعلوم أنّه عليه‌السلام (٢) كان ابن عم لجعفر وعقيل ولم يكن علي كذلك بل كان أخا لهما ، وأمّا الجار فهو أيضا ظاهر ، وأمّا الحليف فلم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حليفا.

وأمّا الناصر فغير مراد أيضا ؛ لأنّ كلّ أحد يعلم من ضرورة الدين وجوب تولّي المؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فجمع الناس لشرح هذا المعنى الواضح الظاهر غير لائق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإذا بطلت هذه الأقسام لم يبق إلّا المولى بمعنى الأولى بالنصر وهو المطلوب.

الثالث : أنّه إمّا أن نكون نحمل هذه اللفظة على كلّ هذه المعاني ونجعلها

__________________

(١) زيادة بمقتضى السياق.

(٢) المقصود به رسول الله.

١١٣

حقيقة في كل واحد منها فيكون ذلك اشتراكا لفظيا ، وأنّه خلاف الأصل ، أو نستعملها في بعض هذه المعاني دون البعض ، وهو ترجيح من غير مرجّح وهو محال فتعيّن أن نحملها على العلّة المشتركة بين هذه المفهومات وهو الأولى حقيقة ، وعلى كلّ واحد من هذه المفهومات مجازا ، ولا يمكن المعارضة بأنّ المجاز خلاف الأصل لأنّا إذا تردّدنا بين المجاز والاشتراك فالمجاز أولى كما هو مبيّن في اصول الفقه.

الرابع : أنّ عمر قال له عقيب كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة (١) وظاهر بالضرورة أنّ عمر لم يرد معتقي ولا معتقي ولا حليفي ولا ابن عمّي ، بقي أن يقال : أراد : أصبحت ناصري ، لكنه باطل أيضا لوجهين :

أحدهما : أنّ النصرة معلومة من قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) وأمثاله.

الثاني : أنّ نصرة علي عليه‌السلام وأهله أمر في غاية الظهور ، بل لا نسبة لأحد من الصحابة إليه في ذلك ، وما كان كذلك فلا يكون تعظيم عمر له بذلك وغبطه به لائقا بذكاء عمر وفطنته فلم يبق إلّا أن يقال أنّه أراد الأولى بالتصرّف في الامور ، وهو المطلوب.

وأمّا بيان الثالث : وهو أنّه لمّا كان المراد بالوليّ في الحديث : الأولى كان ذلك دليلا على إمامته ، وبيانه من وجهين :

أحدهما : أن تقول : إنّ الأولى لا يقبل إلّا معنى الأولى بالتصرّف فإنّ أهل اللغة لا يطلقون لفظة الأولى إلّا في من تملّك تدبير الأمر المتصرّف فيه فإنّهم.

__________________

(١) انظر الغدير ١ : ٢٧٠ ـ ٢٨٣.

١١٤

يقولون : السلطان أولى بإقامة الحدود والولد أولى بالميراث ، والزوج أولى بامرأته ، ومرادهم ليس إلّا ما ذكرناه ، واتّفق المفسّرون على أنّ قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (١) المراد به أولى بتدبيرهم والقيام بامورهم (٢) وإذا ثبت أنّ المراد بالأولى المتصرّف فيه ثبت كونه إماما ، إذ لا معنى للإمام إلّا الشخص الذي هو أولى الناس بتدبير الخلق والتصرّف.

والثاني : أن نساعد على أنّ لفظة المولى (٣) غير متعينة [في معنى] (٤) الأولى بالتصرّف ، لكن نبيّن أنّ المراد بالأولى هاهنا هو الأولى بالتصرّف لأنّه إذا ثبت حمل قوله : «فعليّ مولاه» على الأولى بالتصرّف بالأمر والنهي لأجل المقدمة أيضا لأنّ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألست أولى بكم منكم بأنفسكم» معناه : أولى بالتصرف فيكم بالأمر والنهي ، فيجب أن يكون قوله : «فعليّ مولاه» معناه : أولى بهم من أنفسهم في التصرّف في امورهم ، وهو المطلوب. فثبت أنّ (٥) المطلوب من هذا الحديث الإمامة.

[الشبهات في الاستدلال بالحديث] :

لا يقال : لا نسلّم صحّة هذا الحديث ، أمّا دعوى العلم الضروري بصحّته فمكابرة ، إذ ليس العلم به كالعلم بوجود محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله والعلم بغزواته مع الكفّار

__________________

(١) الأحزاب : ٦.

(٢) التبيان ٨ : ٣١٧ ، ومجمع البيان ٨ : ٥٣٠ ، وتفسير شبّر : ٣٩٧ ، والميزان ١٦ : ٢٧٦.

(٣) في النسختين : الأولى ، وفي هامش «ضا» المولى ، وهو الصحيح.

(٤) زيادة بمقتضى السياق.

(٥) في «عا» هذا زيادة : من هذا.

١١٥

وفتحه لمكّة وغير ذلك من المتواترات ، وأيضا فلأنّ كثيرا من أصحاب الحديث لم ينقلوا هذا الحديث كالبخاري ومسلم والواقدي وغيرهم ، وأيضا فلا تزعمون أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما قال هذا الكلام بغدير خمّ بعد رجوعه عن الحجّ ، ولم يكن علي عليه‌السلام مع النبي صلّى الله عليه [وآله] في ذلك الوقت لأنّه كان باليمن.

وأمّا دعواكم تواتر هذا الخبر فنقول : مخالفوكم أيضا يدعون تواتر الأخبار الدالّة على فضائل الشيخين ، فإن قبلتموها تركتم مذهبكم ، وإن لم تقبلوها لاحتمال أن يكون ذلك التواتر لا على سبيل الرواية بل على سبيل مذاكرة الخبر ببعضهم مع بعض ، واحتمال إنهاء ذلك إلى جمع قليل (١) في أوّل الأمر ، فكذلك ما ذكرتموه.

وأيضا فتعويلكم على رواية الشيعة إمّا أن يكون لأجل كثرتهم ، أو لما تقولونه من أن إجماعهم حجّة ، والأوّل باطل لأنّ سلفهم بلغوا حدّ التواتر ، ولأنّ مخالفيهم يروون فضائل الشيخين مع أنّهم أكثر ومع ذلك فالشيعة يقدحون في تلك الأحاديث ، وإن كان لما يقولون من أنّ إجماعهم حجّة فذلك باطل عندنا ، ولأنّ ذلك فرع من مسألة الإمامة فتصحيحها بها دور.

وأمّا الوجه الأوّل ممّا استدلّوا به فنقول : الامّة أجمعت على جعله من أخبار الآحاد أو من أخبار التواتر ، والأوّل مسلّم والثاني ممنوع ، فلم قلتم : أنّ ذلك يدلّ على القطع بصحّته.

بيانه : أنّ أكثر الامّة يجعلونه خبرا واحدا ، بمعنى أنّهم يعتقدون أنّ صحّته مظنونة لا معلومة ، وإنّ كلّ ما يكون صحّته غير يقينية عند الامّة فإنّهم لا يقبلونه ، بل أكثر الأخبار التي قبلوها وعملوا بها واجتهدوا في معرفة معانيها

__________________

(١) في نسخة «عا» : قبلتين ، وفي «ضا» : فنلبن ، وأثبتنا الراجح الصحيح.

١١٦

غير مقطوعة الصحة ، فثبتت بهذا أنّه لا يلزم من عدم ردّ الامّة لهذا الحديث أو اشتغالهم بحمله تارة على الإمامة وتارة على الفضيلة قطعهم بصحته.

ثمّ إن سلّمنا حصول الإجماع ، ولكن قد بيّنا أنّه لا يمكنكم التمسّك بالاجماع لاحتمال أن يكون الإمام لا يظهر الحقّ لأجل الخوف من الظالمين.

أمّا الوجه الثاني وهو المناشدة به في الشورى ، فهو ضعيف ، لأنّ الحاجة إلى تصحيح المناشدة كالحاجة إلى تصحيح هذا الحديث ، بل ذلك أولى ، لأنّ أكثر المحدّثين ينكرون تلك المناشدة ، وبتقدير صحتها فلا نسلّم إنهائها إلى جميع الصحابة ، وبتقدير إنهائها إلى كلّهم فلا نسلّم أنّ ذلك يدلّ على قطعهم بصحّة الحديث ، بل الظاهر أنّهم قبلوا هذا الحديث كما قبلوا سائر الأحاديث من سائر الرواة من العدول وأن يقطعوا بصحّتها ، وبتقدير أنّهم لم يعتقدوا صحّة الحديث ، فلعلّهم سكتوا عن التكذيب تقيّة وخوفا من بني هاشم. وهذه المقدّمات ممّن لا ينكر تقديرها لا سيّما على مذهب من يجوّز على الخلوّ العظيم كتمان ما عملوا به.

ثمّ إن سلّمنا صحة هذا الحديث ولكن لا نسلّم صحّة هذه المقدّمة وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألست أولى بكم من أنفسكم» بيانه أنّ الطرق التي ذكرتموها في تصحيح أصل الحديث لم يوجد في شيء منها هذه المقدمة ، فلم يمكن دعوى التواتر فيها ، ولم يمكن أيضا دعوى إطباق الامّة على قبولها ، لأنّ من خالف الشيعة إنّما يروي أصل الحديث للاحتجاج به على فضيلة علي عليه‌السلام ولا يروي هذه المقدّمة.

وأيضا فلم يقل أحد ، أنّ عليا عليه‌السلام ذكرها يوم الشورى ، فثبت أنّه لا يمكنكم إثبات هذه المقدّمة ، سلّمنا أصل الحديث ومقدمته لكن لا نسلّم دلالته على الإمامة ، ولا نسلّم أنّ لفظة المولى محتملة للأولى ، ويدلّ عليه أمران :

١١٧

أحدهما : أنّ أولى موضوع ليدلّ على معنى التفضيل ، ومفعل موضوع ليدلّ على الحدثان أو الزمان أو المكان ، ولم يذكر أحدا من أئمة النحو واللغة أن مفعلا قد يكون بمعنى أفعل التفضيل ، وذلك يوجب امتناع إفادة المولى بمعنى الأولى.

وثانيهما : أنّ المولى لو كان يجيء بمعنى الأولى لصحّ أن يقرن بأحدهما ما صحّ أن يقرن بالآخر ، والثاني باطل ، فالمقدم كذلك ، بيان الشرطية أنّ تصرّف الواضع ليس إلّا في وضع الألفاظ المفردة للمعاني المفردة فأمّا ضمّ بعض الألفاظ إلى بعض الوضع فهو أمر عقلي ، وإذا ثبت ذلك فلفظة الأولى إذا كانت موضوعة لمعنى آخر فصحة دخول إحداهما على الاخرى لا يمكن بالوضع بل بالعقل ، وإذا كان كذلك فلو كان المفهوم من لفظة المولى هو المفهوم من لفظة الأولى في العقل نحكم (١) أيضا بصحّة اقتران مفهومها لمفهوم الأولى لأنّ صحّة ذلك الاقتران ليس بين اللفظين بل بين مفهومهما.

وأمّا أنّه ليس كلّما صحّ دخوله على أحدهما صحّ دخوله على الآخر فظاهر ، إذ لا يقال : مولى من فلان كما يقال أولى منه ، فثبت أنّه لا يجوز حمل المولى على الأولى.

فأمّا النقل عن أئمة اللغة فلا حجة فيه لوجهين :

أحدهما : أنّ أبا عبيدة (٢) قال في قوله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ)

__________________

(١) في نسخة «عا» : نحكم بصحة اقتران مفهوم من مفهوم الأولى نحكم ... وفي نسخة «ضا» : نحكم بصحة اقتران مفهوم من مفهوم الأولى نحكم أيضا ... والراجح أنّ الجملة متكرّرة زائدة.

(٢) معمر بن المثنى البصري اللغوي النحوي (١١٠ ـ ٢١٠ ه‍).

١١٨

معناه أولى بكم ، وذكر ذلك أيضا الأخفش (١) والزجّاج (٢) وعلي بن عيسى (٣) واستشهدوا ببيت لبيد ، لكن ذلك تساهل من هؤلاء الأئمة لا تحقيق ، لأنّ الأكابر مثل الخليل وأضرابه لم يذكروه ، والذاكرون له لم يذكروه إلّا في تفسير هذه الآية وآية اخرى مرسلا غير مسند ، ولم يذكروه في الكتب الأصلية من اللغة ، وليس كلّما يذكر في التفاسير كان ذلك لغة أصيلة ، ولذلك فإنّهم يفسّرون اليمين بالقوة في قوله تعالى : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (٤) والقلب بالعقل في قوله تعالى : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) (٥) مع أنّ ذلك ليس لغة أصيلة.

وثانيهما : أنّ أصل تركيب «والى» (٦) يدلّ على الدنوّ والقرب ، يقال وليته إليه وليا أي دنوت منه دنوّا وأوليته إياه أي أدنيته منه ، وتباعدنا بعد ولي ، ومنه قوله : «كل ممّا يليك» ، وقولهم فلان أولى من فلان ، أفعل التفضيل من الوالي : فالأدنى والأقرب من الداني والقريب ، ففيه معنى القرب ، لأنّ الأحقّ بالشيء أقرب إليه والمولى اسم لموضع الولي كالمرقى والممشى (٧) لموضع الرقي والمشي.

وإذا عرفت ذلك فنقول : أنّ تفسير أبي عبيدة : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) بأنّه أولى بكم فنقول إنّ ذلك ليس حقيقة لأنّ ذلك يقتضي أن يكون

__________________

(١) الأخفش على الاطلاق هو الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة المجاشعي تلميذ الخليل وسيبويه ، ومعنى الأخفش : صغير العينين مع ضيق النظر تشبيها بالخفاش.

(٢) إبراهيم بن محمد الزجّاج الأديب النحوي تلميذ المبرّد وثعلب توفّي في (٣١٠ ه‍).

(٣) علي بن عيسى بن عبد الله الرماني الواسطي النحوي والمعتزلي (٢٩٦ ـ ٣٨٤ ه‍).

(٤) الزمر : ٦٧.

(٥) ق : ٣٧.

(٦) كذا في النسختين ، ولعل الصحيح : ولي.

(٧) هنا في النسختين لفظة فموضع زائدة.

١١٩

للكفّار حصّة في الجنّة إلّا أنّ النار أحقّ بهم ، لأنّ من لوازم أفعل التفضيل ذلك ، وهو باطل ، بل الأولى أن نحملها على الناصر أي هي ناصركم ومعناه : لا ناصر لكم غيرها والمقصود نفي الناصر مطلقا.

وأمّا بيت لبيد (١) فقد حكي عن الأصمعي فيه قولان :

أحدهما : أنّ المولى اسم لموضع الولي ، أي تحتسب البقرة أنّ كلّا من الجانبين موضع المخافة ، وإنّما جاء مفتوح العين تغليبا لحكم اللام على الفاعل أنّ الفتح في المولى ألفا قد جاء كثيرا.

الثاني : أنّه أراد بالمخافة الكلاب ومولاها : صاحبها.

وأمّا قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) (٢) فمعناه : ورّاثا يلون (٣) ما تركه الولدان.

وأمّا قول الأخطل :

فأصبحت مولاها على الناس كلّهم ...

وقوله : لم يأشروا فيه إذ كانوا مواليه ...

وقوله : (كانوا) موالي (حق) يطلبون (به) (٤) ...

فالمراد به : الأولياء ، ومنه قوله عليه‌السلام : «مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي

__________________

(١) قوله :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها

وانظر مجمع البيان ٣ : ٦٥.

(٢) النساء : ٣٣.

(٣) في النسختين : يليون ، غلطا.

(٤) الألفاظ بين الأقواس ساقطة.

١٢٠