لبّ الأثر في الجبر والقدر

الشيخ جعفر السبحاني

لبّ الأثر في الجبر والقدر

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-27-4
الصفحات: ٣١٥

موجود بالوجود والوجود بنفسه ، فهكذا الإرادة.

ولا يخفى أنّ الإشكال بعد باق.

توضيحه : أنّ القائل خلط بين الجهات التقييدية والتعليليّة ، فإنّ مرادهم من قولهم : الوجود موجود بنفسه ، هو أنّه لا يحتاج إلى ضمّ حيثية تقييدية وراء وجود موضوعه نظيره حمل الأبيض على البياض الذي لا يحتاج إلى ضمّ ضميمة وراء وجود الموضوع ، بخلاف قولنا : الجسم أبيض فإنّ الحمل رهن وجود حيثية تقييدية وراء الموضوع ، ويسمّى الأوّل المحمول بالصميمة والثاني المحمول بالضميمة.

وفي الوقت نفسه أنّ البياض وإن كان مستغنيا عن الحيثية التقييدية ولكنّه غير مستغن عن الحيثية التعليلية وعلى ضوء ذلك ، فحصول الإرادة في صقع الذهن غير مستغن عن الحيثية التعليلية فعندئذ فإمّا أن تحدث في النفس بإرادة سابقة عليها أولا ، وعلى الثاني تكون أمرا غير اختياريّ لعدم مسبوقيتها بإرادة أخرى وعلى الأوّل ، إمّا أن لا تنتهي سلسلة الإرادات فيلزم التسلسل ، وإمّا أن تنتهي فيلزم الجبر ثم يعود الإشكال ويطرح نفسه من جديد.

٨١

الجواب السادس ما أجاب به سيّدنا الأستاذ

وحاصل ما أفاده : أنّ الإرادة تصدر عن النفس بلا توسّط شيء آخر ، فإنّها فاعلة بالتجلّي الذي يكون تصوّر الفاعل كافيا في الإيجاد والإبداع ولا يتخلّف عنه ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنّ النفس من الفواعل الإلهية وكل فاعل إلهي يجد كمالات فعله في مقام الذات فإذا كان الاختيار والانتخاب موجودا في مقام الفعل فهو موجود في مرتبة الذات على نحو الإجمال والبساطة لنفس القاعدة ، فيكون معنى ذلك أنّ النفس واجدة في مقام ذاتها وحاق وجودها كمالات فعلها ، أعني : العلم والاختيار والإرادة ، بنحو أتمّ وأشرف ، فإنّ وجود هذه الثلاثة فى أقسام الفعل امر بديهيّ فلا بد أن تكون موجودة في مقام الذات ، لما أشرنا إليه من القاعدة.

وعلى ضوء ذلك فالنفس مختارة بالذات وفي ظلّ هذا الاختيار تصدر الإرادة منها ، فيكون الإنسان في إرادته مختارا في ظلّ الاختيار الذاتي للنفس.

هذا إجمال ما أفاده (دام ظله) وإليك تفصيله :

١. إنّ الأفعال الصادرة عن النفس تنقسم إلى : تكوينيّ

٨٢

ونفسيّ ، وإن شئت قلت : إلى تسبيبي ومباشري ، فالأوّل منهما ما يصدر عنها لا بآلة ، كالخياطة والكتابة وإحداث البناء إلى غير ذلك من الأمور الموجودة خارج لوح النفس ، ففي هذه الموارد كل من المقدمة وذيها ، مسبوق بالتصوّر والتصديق والشوق المؤكّد (في أغلب الموارد) فإذا تمّت المقدمات يجد الإنسان في ذهنه العزم والجزم والتصميم ، وعند ذلك ، تنقاد الأعضاء وتتوجّه نحو القيام بالفعل.

إنّ النفس في مجال هذا النوع من العمل فاعلة للحركة فبحركة العضلات تتحقق الأفعال التكوينية التسبيبية من الخياطة والكتابة.

والثاني منهما ما يصدر عنه بلا آلة أو بآلة غير جسمانية ، وإن شئت قلت : ما يصدر عنها بخلّاقية النفس وإيجادها في صقعها. كصاحب ملكة علم الفقه أو النحو ، فإذا سئل عن عدة مسائل تأتي الأجوبة في الذهن تباعا ، واحدة تلو الأخرى ، ونظيرها خلق الصور البديعة الهندسية المقدارية ، لمن زاول هندسة البناء وصار ذا ملكة فيها.

وهذا النوع من أفعال النفس ، اختيارية لها ، وإن لم يكن هناك تصوّر ولا تصديق ، ولا شوق ، ولا إرادة ، وسيوافيك وجهه

٨٣

ومثلها الإرادة ، فإنّها فعل مباشري للنفس ، وليست مسبوقة بمقدمات الإرادة أصلا.

٢. إنّ النفس في هذا النوع من الأفعال ، فاعلة بالتجلّي وليست فاعلة بالعناية ، والفاعل بالتجلّي جامع لكمالات فعله في مقام الذات على نحو الإجمال والإيجاد ، فالأجوبة العلمية والصور البديعة ، والاختيار الملموس لكل إنسان قبل التصميم والجزم ، وحتى نفس الإرادة ونظائرها موجودة في مقام الذات لكن لا على نحو التفصيل ، بل على سبيل الإجمال ، فتكون النفس في مقابل الذات مريدة ومختارة بالذات بشهادة وجودهما في مقام الفعل ، ويكون هذا هو الملاك في كون القسم الثاني فعلا اختياريا وإراديا ، لا سبق إرادة تفصيلية عليه فبالاختيار الذاتي تنشأ الإرادة والجزم والتصميم.

وتعلم حال النفس إذا قيست إلى الواجب عزّ اسمه ، فإنّه سبحانه خلق الكون وما فيه لا بإرادته التفصيلية وإلّا يلزم أن تكون الذات محلّا للحوادث ، بل بإرادة إجمالية أو اختيار ذاتي ، هما عين ذاته سبحانه وإن لم ينكشف لنا كنههما ، فكما أنّ الملاك لكون فعله اختياريا هو كونه موجودا مختارا بالذات ، باختيار هو عين ذاته ، فهكذا النفس فهي مختارة في إيجاد القسم

٨٤

الثاني من الأفعال باختيار ذاتي هو عين ذاتها.

والذي يحلّ العقدة ، ويزيل الشبهة من رأسها هو نفي كون شيء واحد (مسبوقية الشيء بالإرادة) ملاكا منحصرا للاختيار ، بل الملاك أحد الأمرين ، إما مسبوقية الفعل بالاختيار ، أو كونه صادرا عن فاعل مختار ومريد بالذات ، ولأجل ذلك صارت النفس مثلا لله سبحانه وإن كان سبحانه منزّها عن المثل والندّ.

الشبهة الثانية :

قد ثبت في الفن الأعلى أنّ «الشيء ما لم يجب لم يوجد» وهي قاعدة محكمة بنيت على أصول صحيحة ، عامة لجميع الفواعل والعلل واجبا كانت أو ممكنة ، مختارة كانت أو مضطرّة.

ثم إنّ جماعة ممّن لم يقفوا على مغزى القاعدة جعلوها من أدلّة القول بالجبر ، قائلين بأنّ وجوب الشيء عبارة عن ضرورة تحقّقه وامتناع عدمه وما كان كذلك يكون الفاعل موجبا (بالفتح) ومضطرّا في إيجاده وملجأ في إحداثه ، وإلّا لم يجب وجوده ولم يمتنع عدمه.

وثمّة من رفض القاعدة في أفعال الواجب وإبداعاته لئلّا يلزم الجبر في أفعاله ، وفي الوقت نفسه أخذوا بها في مقام

٨٥

إثبات الصانع ، مستدلّين بأنّ وجوب الشيء وضرورة وجوده فرع وجود فاعل يخرجه عن الإمكان إلى حدّ الضرورة وليس هو إلّا الواجب سبحانه.

ومعنى ذلك أنّ القاعدة خاضعة لميولهم فرفضوها في مقام لا يناسب مذاقهم وأخذوا بها في مقام آخر يوافق فكرتهم وعقيدتهم ، ولأجل حسم الشبهة نبحث عنها في مقامين :

الأوّل : في مفاد القاعدة.

الثاني : عدم منافاتها لاختيار الفاعل.

وإليك الكلام في المقام الأوّل.

أ. ما هو مفاد القاعدة؟

إنّ تبيّن مفاد القاعدة رهن بيان أمرين :

الأوّل : وصف الشيء بالإمكان بالنظر إلى حاق ذاته :

إنّ تقسيم المفهوم إلى الممكن وغيره (المراد من الغير هو واجب الوجود وممتنعه) إنّما هو بالنظر إلى مفهوم الشيء الممكن مع قطع النظر عن الخارج ، وإلّا فبالنظر إلى خارج ذاته فهو إمّا ضروري الوجود ، أو ممتنعه ، إذ لو كانت علّة الوجود

٨٦

موجودة فيدخل في القسم الأوّل ، ولو كانت معدومة فيدخل في الثاني.

فلا يمكن الحكم بإمكان الشيء أي سلب الضرورة عن الطرفين إلّا إذا قصّر النظر على ذات الشيء دون ما حوله من علل الوجود أو خلافها.

وبعبارة أخرى : كلّ ممكن لا يخلو في نفس الأمر من إحدى حالتين :

فإمّا أن يكون مقارنا مع علل وجوده ، أو مقارنا مع عدمها ، ففي كل من الحالتين يحكم عليه بإحدى الضرورتين أي ضرورة الوجود أو ضرورة العدم ، ففرض الإمكان للماهية إنّما هو بتحليل من العقل وقصر النظر على صميم ذاتها ، دون ملاحظتها مع الخارج.

الثاني : الأولوية غير كافية في الإيجاد

إنّ نسبة الممكن إلى الوجود والعدم على حدّ سواء ، وخروجه عن طرفي الاستواء رهن علّة فاعلية تضفي عليه الوجود أو العدم (وإن كان عدم العلّة كافيا في عدم المعلول) فإذا كانت العلّة مركّبة من عدة أجزاء فلا تخلو العلّة :

٨٧

إمّا أن تسدّ جميع أبواب العدم عليه باجتماع الأجزاء أو لا ، فعلى الأوّل يثبت المطلوب أي يكون وجوده واجبا وضروريّا ، لأنّ المفروض أنّ كلّ ما يحتاج إليه المعلول في وجوده فهو موجود بالفرض وشيء دخيل في تحقّق المعلول إلّا وهو موجود.

وعلى الثاني أي لا يسدّ جميع أبواب العدم عليه وذلك بفقد بعض الأجزاء يكون ممتنع الوجود ، والقول بوجوده مع نقصان العلّة يرجع معناه إلى وجود المعلول بلا علّة وهو باطل بالضرورة.

وأمّا ما ربّما يقال من كفاية الأولوية في تحقّق المعلول ، وعدم لزوم وصول وجود المعلول إلى حدّ الوجوب بل يكفي ترجّح جانب الوجود على العدم ، فغير تام.

لأنّه إن أراد من الأولوية كفاية وجود بعض أجزاء العلة دون بعض ، لحصول الأولوية بذلك فغير صحيح ، لأنّ معنى ذلك عدم مدخلية غير الموجود من اجزاء العلة في تحقق المعلول مع أنّ المفروض أنّه من أجزائها ومدخليته في تحقّقه ومرجعه إلى التناقض.

٨٨

وإن أراد منها لزوم اجتماع جميع اجزاء العلة لكن لا يشترط وصول وجود المعلول الى حد الوجوب فقد عرفت بطلانه ، لأنّه مع ذلك الفرض يسدّ جميع أبواب العدم ويستحيل عروضه عليه ، فيكون النقيض الآخر واجبا بلا كلام.

فاتّضح بذلك أمران :

١. إنّ وجود الشيء فرع اجتماع جميع أجزاء علّته حتى ينسدّ به أبواب العدم على المعلول. وتحقق جميع الأجزاء يلازم وجوب الوجود ولزومه ، وإلّا فلو افترضنا اجتماع جميع أجزاء العلّة ومع ذلك لم يكن المعلول متحققا يرجع معناه إلى عدم كفاية الموجود في التحقّق ، وإلّا فمع افتراضها لا وجه للانفكاك وعدم التحقّق.

٢. عدم كفاية رجحان الوجود على العدم في تحقّقه لما عرفت من أنّ مرجع كفاية الرجحان إمّا إلى التناقض في القول وافتراض مدخلية شيء في تحقّق المعلول. وإمّا عدم تحقّقه مع اجتماع جميع ما يتوقف عليه من أجزاء العلّة.

إذا علمت هذين الأمرين ، تقف على أنّ القاعدة لا تنفي اختيارية الفاعل في فعله إذا كان الفاعل فاعلا مختارا ، بل تؤكّد

٨٩

الاختيار ، لأنّ الفاعل بإرادته واختياره يوجب وجود المعلول ويحتّم ثبوته ، والوجوب والإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وعلى ذلك فالفاعل فاعل موجب (بالكسر) لا فاعل موجب (بالفتح).

وإن شئت قلت : إنّ مفاد القاعدة هو أنّ المعلول لا يتحقّق إلّا بسدّ جميع أبواب العدم عليه ، ولا يسدّه إلّا الفاعل ، فهو لو كان فاعلا مضطرّا يسدّه بالاضطرار ، ولو كان فاعلا مختارا يسدّه كذلك ، فلا صلة بين القاعدة ونفي الاختيار.

تنبيه :

وربّما يتصوّر أنّ القاعدة مبنيّة على القول بامتناع الترجيح بلا مرجّح وعدمه ، فاذا قلنا بالأوّل فالقاعدة تامّة وإلّا فلا.

يلاحظ عليه : أوّلا : أنّ قاعدة امتناع الترجيح بلا مرجّح ، من الأوّليات التي لا يشك فيها ذو مسكة ، لأنّ مآل تجويزه هو جواز الترجح بلا مرجّح والمعلول بلا علّته وهو باطل بالضرورة.

وجه ذلك لو افترضنا أنّ بين يديك رغيفين أو أمام الهارب طريقين ، فكما أنّ أصل الأكل والهرب يحتاج إلى علّة ، فهكذا

٩٠

تخصيص أحدهما دون الآخر أمر وجوديّ لا يفارق العلة فمن قال بجواز الترجيح بلا مرجح ، فقد جوّز تحقّق أمر وجوديّ وهو تخصيص أحدهما دون الآخر بلا علة ، وما مثل برغيفي الجائع أو طريقي الهارب فثمة مرجّحات خفية لا يلتفت إليها الإنسان بتفصيل ، كأن يختار ما يقع في جانب اليمين على ما في جانب اليسار ، او يختار أوّل ما تطرف إليه عيناه ، إلى غير ذلك من المرجحات التي ربّما تخفى على الإنسان إلّا بعد الإمعان والدقة.

وثانيا : أنّ ترجيح أحد الفعلين متقدّم على تعلّق إرادته بالإيجاد فهو يرجّح أوّلا ثم يريد الإيجاد ، فعند ذلك يأتي دور قاعدة «الشيء ما لم يجب لم يوجد» فاختيار الفعل عن ترجيح متقدم على الإرادة ثم الإيجاب والوجوب ، فكيف يناط وجوب المعلول وعدمه بشيء لا دخل له فيه؟

وإن شئت قلت : إنّ النفس بعد اختيارها إيجاد شيء بأيّ نحو حصل ، يكون فاعلا موجبا للإرادة أوّلا ، وفاعلا موجبا بتوسّط الإرادة لتحريك العضلات ثانيا ، وفاعلا موجبا بالمعلول الخارجي ثالثا ، فجواز الترجيح بلا مرجّح وعدمه المتقدم على مسألة الإيجاب والوجوب لا صلة له بالقاعدة.

٩١

نعم ثمة نكتة وهي : أنّ الاستقلال في الإيجاد والإيجاب فرع الاستقلال في الوجود ، والعلّة التامة المستقلّة ما تسد بنفسها وبذاتها جميع الأعدام الممكنة للمعلول ، ومن تلك الأعدام عدمه بانعدام فاعله ولا تجد لذلك مصداقا في نظام الوجود يسدّ بنفسه جميع الأعدام سوى الخالق المتعال (جلّت قدرته) وما سواه يمتنع عليه سدّ جميع أبواب العدم التي منها عدم وجود الفاعل.

الشبهة الثالثة : تعلّق علمه بأفعال العبد ينافي الاختيار

إنّ صفاته الجمالية سبحانه مع كثرتها واختلافها في المفاهيم ، ترجع حسب الوجود إلى حقيقة بسيطة هي صرف كل كمال وجمال وليس في مقام الذات أيّ كثرة وتعدّد ، بمعنى أنّ حيثية علمه في الوجود هي حيثية قدرته وإرادته وبالعكس ، فالذات كلّها علم ، وكلّها قدرة ، وكلّها إرادة ، فصدور فعل عن إرادته عين صدوره عن علمه ، وهو عين صدوره عن ذاته الأحدية أخذا بوحدة الصفات في مقام الذات.

إذا علمت ذلك فتقرّر الشبهة بالنحو التالي :

إنّ العلم على قسمين : انفعاليّ وفعليّ ، ففي الأوّل ، العلم يتبع

٩٢

المعلوم الخارجي ويستند إليه ، فإذا رأى أنّ زيدا قائم ، يحصل له العلم بأنّه كذا وكذا فليس للعلم أيّ تأثير في المعلوم الخارجي ، وإنّما الأمر على العكس فالخارج ، هو الذي صار مبدأ لعلم الإنسان بكونه قائما.

وفي الثاني الأمر على العكس ، فالعلم يكون سببا لحدوث المعلوم وتحقّقه في الخارج كما هو الحال في الفاعل العنائي والتجلّي (على الفرق المقرر بينهما).

فالناظر من شاهق يتصوّر السقوط ويكون مبدأ لسقوطه ، فالمعلوم تابع للعلم ويكون متحقّقا في ظلّه ، والله سبحانه فاعل بالتجلّي الذي يكون نفس العلم فيه مبدأ ومصدرا من غير استعانة بشيء آخر ، وما شأنه كذلك يكون العلم متبوعا والمعلوم تابعا ، وإلى ذلك ينظر قول الأكابر من أنّ النظام الكياني تابع للعلم الربّاني وأنّه المبدأ لنظام الوجود من الغيب والشهود ، وأنّ ما في سلسلة الوجود من الجواهر والأعراض والمجرّدات والماديات تابع لعلمه الذاتي الذي هو علّة لتحقّق السلسلة.

وعلى هذا يكون علمه سبحانه مبدأ لما في الكون من سلسلة الوجود على وجه لا يتخلّف المعلوم عن علمه ، فعندئذ

٩٣

يجب صدور جميع الموجودات ومنها أفعال العباد ، بالقضاء الإلهي والعلم الأزلي ، وإلّا لزم تخلّف المعلوم عن العلم ، والمراد عن الإرادة الممتنع في حقه عزوجل ، فيصير العباد مقهورين في أفعالهم وإن كانوا مختارين في الظاهر.

الجواب عن الشبهة

إن الجواب عن الشبهة واضح بشرط الالتفات إلى ما ذكرنا سابقا ، وهو أنّ علمه تعالى لم يتعلّق بتحقّق الموجودات في عرض واحد حتى تسلب العلّية عن سائر مراتب الوجود ويستند الكل إليه سبحانه في درجة واحدة ، بل تعلّق علمه بالنظام الكياني على ترتيب الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات بحيث يصدر كلّ مسبّب عن سببه القريب حقيقة ، ولم يتعلّق بتحقق الموجود في عرض علته أو به بلا توسّط سببه ، والشاهد على ذلك كون الوجود معقولا بالتشكيك وتعلّق كل مرتبة بمرتبة متلوّة على وجه لا يكون لكل درجة من الوجود ، التجافي عنها ، وإلّا يلزم الانقلاب الذاتي الممتنع ، وعلى ذلك فكلّ ما في الكون من وجود وتحقّق فهو مرتبط بعلّته القريبة وسببه.

فالسبب يؤثّر في مسبّبه ، والعلّة في معلوله ، وبه تعلّق علمه

٩٤

الرباني وعلى ذلك يكون علمه بصدور كل معلول عن علّته مؤكّدا للاختيار ، لا سالبا له ، إذ معناه أنّه تعلّق علمه بصدور كل فعل عن فاعله فلو كان الفاعل مضطرا تعلّق علمه بصدوره عنه على وجه الاضطرار ، ولو كان فاعلا مختارا تعلّق علمه بصدوره عنه كذلك ، فالنظام الكياني بوجوده وصفاته ، متعلّق علمه ، ولو صدر فعل الفاعل الاختياري عنه على وجه الاضطرار لزم تخلّف علمه عن معلومه.

وإن شئت قلت : إنّ كلّ ما يوجد من الكمال والجمال فهو من صقع وجوده وتجلّيات ذاته وإنّ ما في دار الوجود من النظام الأتمّ فهو عين علمه الفعلي إلّا أنّه لا يلازم الاضطرار ، لأنّ كل مرتبة متعلّقة متدلّية بتمام هويتها لما فوقها ، بحيث لا يمكن التجافي عنها ولا التنزّل إلى ما دونها ومعنى ذلك تعلّق علمه بصدور كلّ مسبّب عن سببه ، والمعلول عن علّته على النظام الخاص ولم يتعلّق علمه بصدور كلّ معلول عن علّته فقط ، وإنّما تعلّق بصدور كلّ معلوم عن علته على الوصف الخاص لها من اضطرار واختيار ، فالقول بعلمه العنائي ، وأنّ النظام الكياني تابع للعلم الرباني مع التحفّظ على نظام العلل والمعاليل يؤكّد الاختيار وينفي الاضطرار.

٩٥

وبعبارة موجزة : من عرف كيفية صلة الموجودات بأسبابها يعرف أنّ لكل جزء من النظام الكياني مع كونه مظهرا لأسمائه وصفاته ، أثر خاص ، فالإنسان فاعل مختار تحت ظل العامل المختار بالذات كالله سبحانه وفاعليته ظل فاعليته تعالى (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) فتعلّقت إرادته بالنظام الأتم على وجه يكون الإنسان فيه فاعلا مختارا والنار فاعلا مضطرّا ، فكون علمه العنائي منشأ للنظام الكياني ، لا ينافي الاختيار.

إلى هنا تمّت الشبهات الثلاث مع أجوبتها ، أعني :

أ : كون فعل الإنسان داخلا في إطار إرادته سبحانه ، ينافي الاختيار.

ب : أنّ تحقق كلّ فعل إذا كان رهن الإيجاب ، فهو ينافي الاختيار.

ج : أنّ كون علمه العنائي منشأ للنظام الكياني ، ينافي الاختيار. وقد عرفت عقم تلك الشبهات.

بقي الكلام في شبهه أخرى وهي السعادة والشقاء الذاتيّين.

٩٦

الشبهة الرابعة : السعادة والشقاء الذاتيّان

ربما يتصوّر أنّ لكلّ من السعادة والشقاء تأثيرا في مصير الإنسان وأنّ السعيد بالذات يختار ما يناسبه والشقيّ بالذات ينتقي ما يلائمه ، فالإنسان يكون مجبورا ومكتوف اليدين أمام مصيره.

هذه حاصل الشبهة لكنّ دفعها ، وتحقيق معانيها يتوقف على بيان أمور :

الأوّل : يطلق الذاتي ويراد منه معان مختلفة

، ونذكر في المقام معنيين.

الأوّل : الذاتي ما ليس بخارج عن ذات الإنسان فيكون إمّا جنسه أو فصله أو نوعه ، ويطلق عليه الذاتي بالمعنى المصطلح في باب الايساغوجي.

الثاني : ما ينتزع من ذات الشيء وحاقّه دون حاجة إلى ضمّ

٩٧

حيثية وجودية إلى منشأ الانتزاع كلوازم الماهية كالزوجية والإمكان ، وهذا ما يطلق عليه الذاتي في باب البرهان ، فإنّ افتراض الأربعة كاف في انتزاع الزوجية وكافتراض الإنسان كاف في انتزاع الإمكان ، ويقابله العرضي ما لا ينتزع من حاق الذات وإنّما ينتزع من حيثية وجودية منضمة إلى منشأ الانتزاع كانتزاع الأبيض عن الجسم فلا ينتزع إلّا بعد انضمام حيثية وجودية ـ أعني البياض ـ إليه.

ويشير المحقّق السبزواري إلى ما ذكرنا بقوله :

كذلك الذاتي بذا المكان

ليس هو الذاتي بالبرهان

بل لاحق لذات شيء ، من حيث هي

بلا توسّط لغير ذاته

فمثل الإمكان هو الذاتي

لا الذاتي الايساغوجي بل ثاني

الثاني : عرف الذاتي بأنّه الذي لا يعلّل ، قال الحكيم السبزواري :

ذاتي شيء لم يكن معلّلا

وكان ما يسبقه تعقّلا

٩٨

وربما ينسبق إلى الذهن بأنّ الذاتي لا يحتاج إلى علّة موجدة وهو خطأ محض ، لأنّ الذاتي أمر ممكن ، والممكن لا يتحقّق إلّا بعلّة محدثة ، فالذاتي بحاجة ماسّة إلى العلّة في وجوده وتحقّقه ، لأنّ نسبة الوجود إلى موضوع لا يخلو عن حالات ثلاث : إمّا أن يكون وصفه به واجبا ، أو ممكنا ، أو ممتنعا والأمر دائر بين الثلاثة والحصر فيه عقلي ، فإن كانت النسبة على النحو الأوّل والثالث وقلنا باستقلال الامتناع في الجهة ولم نقل برجوعه إلى جانب الوجوب ، على ما هو المبيّن في محلّه كان مستغنيا عن العلّة والجعل ، لأنّ وجوب الوجوب أو وجوب العدم مناط الاستغناء عن الجعل والعلّة ، كما أنّ الثاني هو مناط الاحتياج ، إذ المفروض أنّ الممكن برزخ بينهما يصح أن يوصف به وأن لا يوصف ، وما هو كذلك لا يوصف إلّا مع العلة.

وعلى ذلك فإذا قلنا : الأربعة موجودة ، فنسبة الوجود إليها يكون من قبيل الثاني ، فهي في حدّ الاستواء لا يخرج عنه إلّا بسبب يضفي عليه وجوب الوجود ، أو وجوب العدم ، وإن كان يكفي في عدمه عدم العلّة ، ولكنّه بعد تحقّق الأربعة في الخارج ينتزع الزوجية من دون حاجة إلى سبب آخر ، بل سبب وجود الأربعة كاف في انتزاعها عنه ، لأنّ المفروض أنّها لا تفارقها في

٩٩

وعاء من الأوعية ، ففرض وجود الأربعة كاف في فرض الزوجية.

هذا كلّه في الذاتي في باب البرهان ، ومنه يعلم حال الذاتي في باب الايساغوجي ، فإنّ نسبة الوجود إلى الإنسان نسبة ممكنة فلا يخرج عن حدّ الاستواء إلّا مع العلّة ، ولكن بعد فرض وجوده في الخارج ينتزع منه الإنسانية والحيوانية والناطقية بلا حاجة إلى سبب خاص فإنّ السبب المحقّق للإنسان ، كاف في انتزاع المفاهيم الثلاثة بلا حاجة إلى سبب آخر.

وعلى ذلك فالإنسان ، حيوان ناطق ، بالضرورة ، لكنّه ممكن وجودا.

فظهر من ذلك أنّ المراد من عدم حاجة الذاتي إلى العلّة هو أحد أمرين على وجه مانعة الخلوّ :

١. إنّ فرض الموضوع في عالم المفاهيم كاف في حمل المحمول عليه سواء كان داخلا في الذات كالذاتي المصطلح عليه في باب الايساغوجي ، أو خارجا عنها لكن لازما لها كالذاتي في باب البرهان.

١٠٠