لبّ الأثر في الجبر والقدر

الشيخ جعفر السبحاني

لبّ الأثر في الجبر والقدر

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-27-4
الصفحات: ٣١٥

الإنسان ، قال سبحانه : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١).

فكيف الجمع بينهما؟

أقول : إنّ اتضاح معنى الآيتين رهن مقدمة وهي :

دلّت البراهين على أنّ الكمالات كلّها راجعة إلى الوجود إذ مقابلها ـ أعني الماهيّات والأعدام ـ لم تشم رائحة الوجود والكمال إلّا بالعرض ويترتّب عليه أمران :

١. إنّه سبحانه صرف الوجود وإلّا لزم التركيب من الوجود وغيره وهو مستلزم للإمكان ، لأنّ كلّ مركّب محتاج إلى أجزائه ، والحاجة نفس الإمكان أو لازمه.

٢. إنّ شأنه سبحانه إفاضة الوجود على كل موجود وهو كلّه خير محض والشرور والأعدام وكذا الماهيات غير مجعولة ، وأمّا ما يشتمل عليه من الشرور والنقائص فهي من لوازم درجة الوجود ومرتبته. فكل موجود من حيث اشتماله على الوجود خير وحسن وليس فيه شرّ ولا قبح ، وإنّما يعرض له الشرّ من حيث نقصه عن التمام أو من حيث منافاته لخير آخر وكل منهما

__________________

(١). النساء / ٧٩.

٦١

يرجع إلى نحو عدم ، والعدم غير مجعول (١).

فاعلم أنّ مقتضى القاعدة الحكمية ، أعني لزوم وجوب الصلة بين الصادر والصادر عنه ، هو كون الشيء الصادر هو الكمال إذ لا صلة بين الكمال المطلق والنقص والشرّ والعدم.

أضف إلى ذلك أنّ الجعل لا يتعلّق بغير الوجود وهو نفس الخير والسعادة ، وأمّا الأعدام والنقائص فلا يتعلّق بها الجعل لعدم القابلية.

وبذلك يظهر معنى قوله سبحانه : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أمّا الخير فواضح ، وأمّا الشرّ فلما عرفت من أنّ الشيء الصادر هو الوجود وهو مساوق للخير وأمّا الشرّ فهو لازم أحد الأمرين :

الأوّل : كون الشرّ لازم مرتبته ، مثلا الموجود النباتي يلازم فقدان الشعور والإرادة والحركة بحيث لو شعر لخرج عن حدّه ، وكونه نباتا ، فهذا النقص راجع إلى عدم الوجود الذي هو من لوازم ذات الموجود في تلك المرتبة ، والذي تعلّق به الجعل هو الوجود لا الدرجة والحد.

الثاني : تزاحم وجوده مع وجود آخر لأجل ضيق عالم

__________________

(١). الأسفار ٦ / ٣٧٥.

٦٢

الطبيعة كالتزاحم الموجود بين وجود الإنسان ووجود العقرب مثلا.

وبذلك يتبيّن أنّ كلّ النقائص راجعة إمّا إلى حدّ الوجود ، أو إلى التزاحم في عالم الطبيعة.

فيصحّ أن يقال : إنّ الحسنات والسيّئات من الله سبحانه باعتبار أنّ الوجود المفاض في كل منهما خير ومفاض من الله تبارك وتعالى ، وإن نسبة الشرور والنقائص إليه بالعرض ولعلّه لهذا الأمر يقول : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، بتخلّل كلمة «عند» ولكنّه عند ما ينسب السيّئة إلى العبد يستخدم كلمة «من» مكان «عند» ويقول : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) وذلك لأنّ نسبة النقص والقبح إلى الله سبحانه نسبة بالعرض وهذا بخلاف نسبتهما إلى الفاعل المادّي ، فإنّ النسبة إليه نسبة بالحقيقة.

فنسبة الوجود إلى الخيرات والشرور نسبة واحدة على حدّ سواء وأمّا الخير والشرّ فهي من لوازم مرتبته ودرجته أو تصادمه مع الخير الآخر ، فهو كنوز الشمس يشعّ على الطيّب والطاهر والرجس والخبيث ، دون أن يوصف بصفاتها ودون أن يخرجه عن أصل نوريّته.

٦٣

الايضاح الأمر بين الأمرين بالتمثيل :

قد اشتهر أنّ المثال يقرّب من وجه ويبعّد من ألف ، وقد استمدّ المحقّقون لتبيين مكانة فعل الفاعل إلى الله سبحانه بتمثيلين.

التمثيل الأوّل : إذا أشرقت الشمس على موجود صيقليّ كالمرآة وانعكس النور منها على الجدار ، فنور الجدار ليس من المرآة بالأصالة وبالذات ، ولا من الشمس بلا واسطة ، إذ ربّما تشرق الشمس والجدار مظلم ، بل هو من المرآة والشمس معا ، فالشمس مستقلّة بالإفاضة منوّرة بالذات دون الأخرى ، والنور المفاض من الشمس غير محدود وإنّما يتحدّد بالمرآة ، فالحدّ للمرآة أوّلا وبالذات ، وللنور ثانيا وبالعرض.

وإن شئت قلت : النور المفاض من الشمس غير محدود ، وإنّما جاء الحد من قالبها الذي أشرقت عليه وهي المرآة المحدودة بالذات ، والمفاض هو نفس النور دون حدوده وكلّما تنزّل يتحدّد بحدود أكثر ويعرضه النقص والعدم ، فيصح أن يقال النور من الشمس ، والحدود والنقائص من المرآة ومع

٦٤

ذلك لو لا الشمس وإشراقها لم يكن حدّ ولا ضعف ، فيصح أن يقال : كلّ من عند الشمس.

فنور الوجود البازغ من أفق عالم الغيب كلّه ظلّ نور الأنوار ومظهر إرادته وعلمه وقدرته وحوله وقوته ، والحدود والتعيّنات والشرور كلّها من لوازم الذات الممكنة وحدود إمكانها ، أو من تصادم المادّيات وتزاحم الطبائع.

التمثيل الثاني : قد نقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» ولعلّ الإمعان في قوى النفس ظاهرية كانت أو باطنية يبيّن لنا مكانة أفعال العباد إلى الباري تعالى ، لأنّ قوى النفس قائمة بها ، فإذا قامت القوى بالفعل والإدراك يصح نسبتهما إلى القوى كما يصح نسبتهما إلى النفس فإذا رأى بالبصر وسمع بالسمع ، فالأفعال كلّها فعل للنفس بالذات وللقوى بالتبع فلا يصح سلبها عن النفس ، لكونها بالبصر تبصر وبالسمع تسمع ، ولا سلبها عن القوى لكونها قائمة بها ومظاهر لها.

يقول صدر المتألّهين : الإبصار مثلا فعل الباصرة بلا شك ،

٦٥

لأنّه إحضار الصورة المبصرة أو انفعال البصر بها (١) ، وكذلك السماع فعل السمع لأنّه إحضار الهيئة المسموعة أو انفعال السمع بها ، فلا يمكن شيء منهما إلّا بانفعال جسماني فكلّ منهما فعل النفس بلا شك لأنّها السميعة البصيرة بالحقيقة. (٢)

وأنت إذا كنت من أهل الكمال والمعرفة تقف على أنّ تعلّق نور الوجود المنبسط على الماهيات بنور الأنوار وفنائه فيه ، أشدّ من تعلّق قوى النفس وفنائها فيها ، لأنّ النفس ذات ماهية وحدود وهما تصحّحان الغيرية بينها وبين قواها ، ومع ذلك ترى النسبة حقيقة وأين هو عن الموجود المنزّه عن التعيّن والحد ، المبرّأ عن شوائب الكثرة والغيرية ، والتضاد والتباين الذي نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله المعروف : «داخل في الأشياء لا بالممازجة ، خارج عنها لا بالمباينة». (٣)

إيضاح :

قد اتّضح بما ذكرنا أنّ حقيقة الأمر بين الأمرين تلك الحقيقة الربانيّة التي جاءت في الذكر الحكيم بالتصريح تارة والتلويح

__________________

(١). إشارة إلى النظريتين المختلفتين في حقيقة الإبصار فهل الإبصار بخلاقية النفس أو بانطباع الصورة فيها.

(٢). الأسفار ٦ / ٣٧٧.

(٣). وفي النهج ما يقرب منه : «لم يحلّل في الأشياء فيقال هو كائن ، ولم ينأ عنها فيقال : هو منها بائن». نهج البلاغة ، الخطبة ٦٢ طبعة عبده.

٦٦

أخرى وجرت على ألسنة أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

مثلا تجد أنّه سبحانه : نسب التوفّي تارة إلى نفسه ويقول : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (١) وأخرى إلى ملك الموت ويقول : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٢) وثالثة إلى الملائكة ويقول : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (٣).

ومثله أمر الضلالة ، فتارة ينسبها إلى نفسه ويقول : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) (٤) وأخرى إلى إبليس ويقول : (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (٥) وثالثة إلى العباد ويقول : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٦) والنسب كلّها صحيحة وما هذا إلّا لكون أمر التوفّي منزلة بين المنزلتين ، وهو مصحّح لعامة النسب.

وممّا يشير إلى أنّه منبع كلّ كمال على الإطلاق حتى الكمال الموجود في الممكن قوله سبحانه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) حيث قصّر المحامد عليه حتى أنّ حمد غيره لكماله ، حمد لله تبارك وتعالى ، فلو لا أنّ كلّ كمال وجمال له عزوجل بالذات لما صحّ هذا الحصر.

__________________

(١). الزمر / ٤٢.

(٢). السجدة / ١١.

(٣). محمد / ٢٧.

(٤). غافر / ٧٤.

(٥). القصص / ١٥.

(٦). طه / ٨٥.

٦٧

ويشير إلى المنزلة الوسطى بقوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بمعنى نحن عابدون وفاعلون بعونك وحولك وقوّتك.

هذه نزر من الآيات التي تبيّن مكانة أفعال الإنسان بالنسبة إلى البارئ ، وأمّا الروايات ففيها تصريحات وتلويحات ، وقد جمع المحقّق البارع الداماد ما يناهر اثنين وتسعين حديثا في الإيقاظ الرابع من قبساته ، ونحن نقتصر على عدة روايات منها :

١. روى الكليني عن محمد بن أبي عبد الله (١) عن سهل بن زياد ، (٢) عن أحمد بن أبي نصر الثقة الجليل قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : إنّ بعض أصحابنا يقول بالجبر وبعضهم يقول بالاستطاعة.

قال : «فقال لي : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، قال عليّ بن الحسين : قال اللهعزوجل : يا بن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء ، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعا بصيرا ، ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك ، وذلك أنّي أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيئاتك منّي ، وذلك أنّي لا أسأل عمّا أفعل

__________________

(١). هو أبو الحسن محمد بن أبي عبد الله جعفر بن محمد بن عون الأسدي الكوفي ساكن الري ، قال النجاشي: كان ثقة صحيح الحديث. (تنقيح المقال : ٢ / ٩٥).

(٢). الأمر في سهل ، سهل وإتقان رواياته آية وثاقته في النقل عنه دام ظلّه.

٦٨

وهم يسألون ، قد نظمت لك كل شيء تريد». (١)

هذه الرواية هي المقياس لتفسير جميع الأحاديث الواردة في هذا المقام.

٢. وبهذا المضمون ما رواه الوشاء عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال سألته فقلت : إنّ الله فوض الأمر إلى العباد؟ قال : الله أعزّ من ذلك ، قلت : فأجبرهم على المعاصي؟ «قال : الله أعدل وأحكم من ذلك» ، ثم قال : «قال الله عزوجل : يا بن آدم أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، عملت المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك». (٢)

٣. روى هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد». (٣)

٤. روى حفص بن قرط عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زعم أنّ الله تعالى يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه». (٤)

__________________

(١). الكافي ، ١ / ١٦٠ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، الحديث ١٢.

(٢). بحار الأنوار ٥ / ١٥ الحديث ٢٠.

(٣). بحار الأنوار ٥ / ٤١ الحديث ٦٤.

(٤). بحار الأنوار ٥ / ٥١ الحديث ٨٥.

٦٩
٧٠

الفصل الرابع

شبهات وحلول

٧١
٧٢

قد ظهر وجه الحقيقة وانكشف الفجر الصادق من بين ظلمات مدلهمّة ، غير أنّ ثمة شبهات نذكرها تباعا مع حلولها.

الشبهة الأولى : الإرادة ليست اختيارية :

إنّ اختيارية الفعل ، بمسبوقيتها بالإرادة الحاصلة في ضمن مقدّمات غير أنّا ننقل الكلام إلى نفس الإرادة فهل اختياريّتها بإرادة ثانية فثالثة ولا ينتهي إلى حدّ فلازمه التسلسل ، أو ينتهي إلى إرادة غير مسبوقة بإرادة أخرى وهو إمّا إرادة الواجب تعالى ، أو إرادة نفس الإنسان الحاصلة بلا سبق إرادة ، فيصبح الإنسان مجبورا في فعله لأنّ المفروض أنّ الإرادت التي انتهت إليها سائر الارادات غير مسبوقة بإرادة أخرى؟

وقد أجيب عن الإشكال بأجوبة غير مقنعة ، وإليك بيانها واحدا تلو الآخر :

٧٣

الأوّل للسيّد المحقق الداماد : وقد اجاب عنه السيّد المحقّق الداماد ونقله صدر المتألّهين في الأسفار وهذا لفظه : إذا انساقت العلل والأسباب المترتّبة المتأدّية بالإنسان إلى أن يتصوّر فعلا ويعتقد فيه خيرا ما ، انبعث له تشوّق إليه لا محالة ، فإذا تأكد هيجان الشوق واستتمّ نصاب إجماعه ، تمّ قوام الإرادة المستوجبة اهتزاز العضلات والأعضاء الادوية ، فإنّ تلك الهيئة الإرادية حالة شوقية إجمالية للنفس ، بحيث إذا ما قيست إلى الفعل نفسه ، وكان هو الملتفت إليه بالذات ، كانت هي شوقا إليه وإرادة له ، وإذا قيست إلى إرادة الفعل وكان الملتفت إليه هي نفسها لا نفس الفعل ، كانت هي شوقا وإرادة بالنسبة إلى الإرادة من غير شوق آخر وإرادة أخرى جديدة ، وكذلك الأمر في إرادة الإرادة ، وإرادة إرادة الإرادة إلى سائر المراتب التي في استطاعة العقل أن يلتفت إليها بالذات ، ويلاحظها على التفصيل ، فكل من تلك الإرادات المفصّلة يكون بالإرادة وهي بأسرها مضمّنة في تلك الحالة الشوقية الإرادية. والترتب بينها بالتقدّم والتأخّر عند التفصيل ليس يصادم اتّحادها في تلك الحالة الإجمالية بهيئتها الوحدانيّة ، فإنّ ذلك إنّما يمتنع في الكمية الاتّصالية والهوية الامتدادية لا غير ، فلذلك بان أنّ المسافة الأينية تستحيل أن تنحل إلى متقدّمات ومتأخّرات بالذات هي أجزاء تلك المسافة

٧٤

وأبعاضها ، بل إنّما يصحّ تحليلها إلى أجزائها وأبعاضها المتقدّمة والمتأخّرة بالمكان». (١)

يلاحظ عليه : أنّ المعلّم الثالث مع ماله من العظمة والجلالة اشتبه عليه الأمر ، ومنشأ الاشتباه هو الخلط بين الحقائق والاعتباريات ، فإنّ الإرادة والعلم بالشيء والعلم بذواتنا صفات وجودية لا بدّ لها من علّة موجدة حتى يستند كلّ إليها ، وحينئذ فالعلّة التي أوجدت الإرادة في أنفسنا إمّا إرادة أخرى غير منتهية إلى حدّ يلزم التسلسل ، أو كانت منتهية إلى إرادة غير مسبوقة بإرادة أخرى من إرادة الواجب أو الممكن فيلزم الاضطرار ولا يمكن أن تكون علة الإرادة نفسها بالضرورة ونظير ذلك ، اللزوم بين العلّة والمعلول فهو أمر حقيقي يقوم بعلّة.

نعم إذا لاحظنا العلم بالعلم أو لزوم اللزوم ، بحيث صار العلم الأوّل طرفا ومعلوما بهذا اللحاظ وخرج اللزوم الأوّل عن الوسطية وصار موضوعا ، فيعتبر علم آخر ولزوم ثان بينها وبين الموضوع وينقطع بانقطاع الاعتبار ، وهذا ما يقال من أنّ التسلسل في الأمور الاعتبارية غير مضرّ لقوامه بالاعتبار وينتفي بانتفائه ، وكم له من نظير مثل موجودية الموجود

__________________

(١). الأسفار : ٦ / ٣٨٩.

٧٥

وإمكان الممكن وغيرها.

والعجب أنّه قاس المقام بالنية مع أنّ الضرورة قاضية بعدم لزوم أن تكون نفس النية منوية فهي لا تحتاج إلى نية أخرى ، بخلاف الإرادة إذ هي محتاجة إلى أخرى حتى لا يلزم الاضطرار أو الإلجاء.

وقد أورد عليه صدر المتألّهين وجوها ثلاثة نأخذ منها الوجه الأخير حيث قال : إنّ لنا أن نأخذ جميع الإرادات بحيث لا يشذّ عنها شيء منها ونطلب أنّ علّتها أي شيء هي ، فإن كانت إرادة أخرى لزم كون شيء واحد خارجا وداخلا بالنسبة إلى شيء واحد بعينه هو مجموع الإرادات وذلك محال ، وإن كان شيئا آخر لزم الجبر في الإرادة. (١)

قلت : نظير هذا ما يقال في إبطال التسلسل من أنّ السلسلة غير المتناهية المترتبة على نحو الترتّب العليّ والمعلولي كلّها روابط ومعاني حرفية ، فهذه الموجودات المتسلسلة وإن كان لا يمكن الإحاطة بها بالإشارة الحسّية غير أنّه يمكن بالإشارة العقلية ولو بعنوان المشير ، فنقول :

__________________

(١). صدر المتألّهين : الأسفار : ٦ / ٣٩٠.

٧٦

السلسلة غير المتناهية المحكوم عليها بالفقر والحاجة لا يمكن أن يدخل فرد منها في الوجود إلّا بالإفاضة عليه من جانب الغني بالذات ، إذ الفقير الفاقد لجميع شئونه حتى وجود ذاته لا يمكنه أن يكون معطيا ومغنيا سواء كان واحدا أو كثيرا ، متناهيا أو غير متناه.

الثاني جواب صدر المتألّهين : وهنا جواب ثان ذكره صدر المتألّهين وحاصله : أنّ المختار ما يكون فعله بإرادته لا ما يكون إرادته بإرادته وإلّا لزم أن لا تكون إرادته سبحانه عين ذاته ، والقادر ما يكون بحيث إن أراد الفعل صدر عنه الفعل وإلّا فلا ، لا ما يكون إن أراد الإرادة للفعل فعل وإلّا لم يفعل (١).

وقد أوضحه سيدنا الأستاذ (دام ظله) ما هذا ملخّصه : إنّ الإرادة والعلم والحبّ من الصفات الحقيقية ذات الإضافة بين الإنسان ومتعلّقه.

ثم إنّ المعلوم ما تعلّق به العلم ، والمحبوب ما تعلّق به الحب لا ما تعلّق بعلمه العلم وبحبه الحب ، فهكذا المراد والمختار ما تعلّقت به الإرادة والاختيار لا ما تعلّقت بإرادته واختياره ، الإرادة والاختيار ، والقادر عند العقلاء من إذا شاء صدر عنه

__________________

(١). صدر المتألهين : الأسفار : ٦ / ٣٨٨.

٧٧

الفعل وإذا لم يشأ أو شاء عدمه لم يصدر لا ما إذا أراد إرادة الفعل صدر عنه ، ولو كان المقياس في الاختيار هو تعلّق الإرادة على نظيرتها لم يصدر فعل إرادي عن المريد قط حتى الواجب.

فإن قلت : ليس النزاع في التسمية والاصطلاح حتى يندفع بما هو الميزان عند العقلاء في تشخيص الفعل الاختياري عن غيره ، بل هو معنوي وهو أنّ مبدأ الفعل أعني الإرادة إذا لم تكن باختيار النفس وانتخابها ، بل كان رهن مقدمات غير اختيارية يصير الفعل معها اضطراريا غير اختياري ومعه لا تصحّ العقوبة وإن سمّي عندهم فعلا اختياريا.

قلت : إنّ البحث يقع تارة في تشخيص الفعل الإرادي عن غيره ، وأخرى في تنقيح مناط صحّة العقوبة ، وما أفاده (طيب الله رمسه) كاف في المقام الأوّل ، إذ لا يشك أيّ ذي مسكة من أنّ الفعل الإرادي هو ما تعلّقت به الإرادة لا ما تعلّقت بإرادتها إرادة ثانية ، في مقابل حركة المرتعش ، إذ هي صادرة عنه لا بإرادة متعلّقة بفعله ، من غير فرق بين الواجب والممكن.

وأمّا المقام الثاني أي تشخيص مناط صحّة العقوبة وعدمها ، فالمرجع في ذلك هو العقلاء وفطرياتهم ومرتكزاتهم ، ولا ريب أنّ جميع العقلاء يميّزون بين الحركة الإرادية والحركة

٧٨

الارتعاشية بصحة المؤاخذة على الأولى دون الثانية ، وليس ذلك إلّا لحكمهم بأنّ الفعل صادر عن إرادته واختياره من دون اضطرار وإجبار وما ذكر من الشبهة إنّما هو جدل عقيم في سوق الاعتبار.

الجواب الثالث للمحقّق الخراساني :

وثمة جواب ثالث للمحقّق الخراساني أشار إليه في أوائل الجزء الثاني عند البحث في التجرّي وقال : «إنّ الاختيار (يريد من الاختيار ، الإرادة) وإن لم يكن بالاختيار إلّا بعض مباديه ، يكون غالبا بالاختيار للتمكّن من عدمه بالتأمل فيما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة (١).

يلاحظ عليه : أنّ الإشكال لا يحسم بما أفاد : إذ لقائل أن يسأل عن المبادئ التي ادّعي أنّها بالاختيار ، فهل الإرادة المتعلّقة بها مسبوقة بإرادة أخرى أو لا؟ فعلى الأوّل ينتهي إلى إرادة غير مسبوقة بإرادة أخرى ولازمه الجبر والاضطرار ، وعلى الثاني يلزم التسلسل.

الجواب الرابع للمحقّق الحائري :

انّ شيخ مشايخنا العلّامة الحائري قد دفع الشبهة بوجه آخر

__________________

(١). كفاية الأصول : ٢ / طبعة المشكيني.

٧٩

وقال : «إنّما يلزم التسلسل لو قلنا بانحصار سبب الإرادة في الإرادة ولا نقول به ، بل ندّعي أنّها قد توجد بالجهة الموجودة في المتعلّق ، أعني : المراد ، وقد توجد بالجهة الموجودة في نفسها فيكفي في تحقّقها أحد الأمرين ، وما كان من قبيل الأوّل لا يحتاج إلى إرادة أخرى وما كان من قبيل الثاني حاله حال سائر الأفعال التي يقصدها الفاعل بملاحظة الجهة الموجودة فيها ـ إلى أن قال : ـ والدليل على أنّ الإرادة قد تتحقّق في مصلحة في نفسها هو الوجدان ، لأنّا نرى إمكان أن يقصد الإنسان ، البقاء في المكان الخاص عشرة أيام بملاحظة أنّ صحة الصوم والصلاة التامّتين تتوقف على القصد المذكور ، مع العلم بعدم كون هذا الأثر مترتبا على نفس البقاء واقعا ، ونظير ذلك غير عزيز. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الإشكال بعد باق ، إذ لقائل أن يسأل عن تعلّق الإرادة على إيجاد الإرادة فهل هي مسبوقة بإرادة أخرى وهكذا فيتسلسل أو لا؟ فيلزم الجبر.

الجواب الخامس : ما هو المشهور بين المحصلين

إنّ اختيارية كلّ شيء بالإرادة وأمّا اختياريتها ، فبذاتها إذ كل ما بالعرض لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات ، فكما أنّ كل موجود

__________________

(١). درر الفوائد : ٢ / ١٤ ـ ١٥.

٨٠