لبّ الأثر في الجبر والقدر

الشيخ جعفر السبحاني

لبّ الأثر في الجبر والقدر

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-27-4
الصفحات: ٣١٥

أنّ عدمه رهن فقدان واحد منها وإن وجدت سائر الأجزاء ، ففقدان كلّ جزء مع وجود سائر الأجزاء بفتح الطريق أمام طروء العدم إلى المعلول فلا يوجد إلّا بسدّ جميع الأعدام الخمسة الطارئة على الشيء ، وهذا ما يقال : «الشيء ما لم يجب لم يوجد».

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ استقلال الشيء في الفاعلية والإيجاد إنّما يصحّ إذا كان سدّ جميع أبواب العدم الطارئة على المعلول ، مستندا إلى نفس الشيء وإلّا فلا يستقل ذلك الشيء في التأثير ، وليس المقام من هذا القبيل لانّه لا يستند سدّ جميع ابواب العدم إلى الفاعل وذلك لانّ منها انعدام المعلول بانعدام الفاعل وسدّ طروء هذا العدم على المعلول مستند إلى الله سبحانه لانّه قائم به ، فهو محتاج إليه حدوثا وبقاء ، ومع عدم استناد بعض أجزاء العلّة إلى نفسها كيف يكون في مقام التأثير مستقلا؟

والحاصل : أنّه لو قلنا باستقلاله في الإيجاد ، فلازمه أن يكون مستقلّا في الوجود وهو عين انقلاب الممكن إلى الواجب.

وربّما يتصوّر أنّ الفاعل بعد الوجود مستغن عن الله سبحانه فيكون مستقلّا في الفعل ، تشبيها له سبحانه بالبنّاء وفعله ، فكما

٤١

أنّ البناء مستغن عن البنّاء بعد الإيجاد فكذلك الإنسان مستغن عن الله بعد التكوين ، ولكن التشبيه باطل فإنّ البنّاء علّة لحركات يده ورجله وأمّا صورة البناء وبقائها ، فهي مستندة إلى القوى الماديّة الموجودة في المواد الأساسية التي تشكّل التماسك والارتباط الوثيق بين أجزائه ، فيبقى البناء بعد موت البنّاء ، فليس البنّاء علّة لصورة البناء ولا لبقائه ، بل الصورة مستندة إلى نفس الأجزاء المتصوّرة المتآلفة على الوضع الهندسي الخاص ، كما أنّ البقاء مستند إلى القوى الطبيعية التي توجد التماسك والارتباط بين الأجزاء على وجه يعاضد بعضها بعضا ، فيبقى ما دامت القوى كذلك.

الثاني : إنّ الفاعل الإلهي غير الفاعل الطبيعي وتفسيرهما بمعنى واحد ، ليس على صواب.

أمّا الأوّل ، فهو مفيض الوجود وواهب الصور الجوهرية من كتم العدم ، ومثله الأعلى هو الواجب ثم المجرّدات النورية من العقول والنفوس حتى نفس الإنسان بالنسبة إلى أفعاله في صقعها.

وأمّا الثاني ، فهو المعد ومهيّئ الشيء لإفاضة الصورة عليه ، فالأب فاعل مادّي وطبيعي يقوم بإلقاء النطفة في رحم الأم ،

٤٢

وبعمله هذا يقرب الممكن من طروء الصور النوعيّة عليه حتى تتحرك من مرحلة إلى أخرى ، إلى أن تصلح لأن تفاض عليها الصورة الإنسانية المجرّدة.

إنّ عدم التمييز بين الفاعلين انجرّ إلى الوقوع في أخطاء فادحة ، فالمادّي بما أنّه لا يؤمن بعالم الغيب ، يرى الفواعل الطبيعية كافية لخلق الصور الجوهرية الطارئة على المادة ، ولكنّه لم يفرّق بين واهب الصور ، ومعدّ المادة ، وقس على ذلك سائر العلل الطبيعية.

إذا علمت ذلك فنقول : إنّ المجعول في دار الإمكان هو الوجود وهو أثر جعل الجاعل وهو متدل بالفاعل بتمام هويته ، وحيثيته ، بحيث لا يملك واقعية سوى التعلّق والربط بموجده ، وليس له شأن سوى الحاجة والفقر والتعلّق ، على نحو يكون الفقر عين ذاته والتدلّي عين حقيقته ، لا أمرا زائدا على ذاته ، وإلّا يلزم أن يكون في حدّ ذاته غنيّا ، ثم صار محتاجا وهو عين الانقلاب الباطل بالضرورة إذ كيف يتصوّر أن ينقلب الغنيّ بالذات إلى الفقير بالعرض.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الإنسان مخلوق لله ومعلول له فقير في حدّ ذاته وكيانه ، وما هذا شأنه لا يستغني في شئونه وأفعاله

٤٣

عن الواجب سبحانه ، إذ لو استغنى في مقام الخلق والإيجاد يلزم انقلاب الفقير بالذات إلى الغني بالذات ، لأنّ الفقير ذاتا فقير فعلا ، والمتدلّي وجودا متدلّ صدورا.

وإن شئت قلت : إنّ الإيجاد فرع الوجود ولا يعقل أشرفية الفعل من الفاعل ، فلو كان مستقلّا في الإيجاد لصار مستقلّا في الوجود ، فالقول بأنّ ممكن الوجود مستقلّ في فعله ، يستلزم انقلاب الممكن بالذات إلى الواجب بالذات وهو محال ، قال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (١).

وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ* ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢).

فتلخّص من هذين البرهانين بطلان القول بالتفويض. ومادة البرهان في الأوّل غيرها في الثاني.

فإنّ الأوّل ، يعتمد على أنّ المعلول لا يوجد إلّا بعد الإيجاب وليس الإيجاب شأن الممكن ، لأنّ من طرق تطرّق العدم إلى الممكن هو عدم الفاعل وليس سدّ هذا العدم بيد الفاعل.

__________________

(١). فاطر / ١٥.

(٢). الحج / ٧٣ ـ ٧٤.

٤٤

وأمّا الثاني ، فيعتمد على أنّ ما سوى الله فقير في ذاته قائم به قيام الربط بذيه والمعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، والفقر ذاته والحاجة كيانه ، وما كان كذلك لا يمكن أن يكون مستقلّا في مقام الإيجاد وإلّا يلزم انقلاب الممكن إلى الواجب ، وهو باطل بالضرورة.

٤٥

الكلام في إبطال الجبر

قد تبيّن بطلان التفويض ، وحان حين البحث في إبطال الجبر.

البرهان الأوّل لا بطال الجبر

وهذا البرهان يتألّف من عدة مقدّمات هي كالتالي :

١. أصالة الوجود

إنّ الأصل في التحقّق هو الوجود دون الماهية ، لأنّ الوجود بما هو هو يأبى عن العدم ، بخلاف الماهية فإنّ حيثيتها حيثية عدم الإباء عن الوجود والعدم ، فاذا كان هذا حالهما فكيف يمكن أن يكون الأصيل هو الماهيّة؟

وإن شئت قلت : اتّفق الحكماء على أنّ الأصل في الواجب هو الوجود ، ولكنّهم اختلفوا فيما هو الأصل في غير الواجب ،

٤٦

فهل المجعول والصادر منه ، هو الوجود أو الحدود القائمة به ، فالإنسان الخارجي يتركّب عقلا من وجود وحدّ له ، وهو أنّه حيوان ناطق ، فهل الصادر هو الوجود ، والماهية من لوازم مرتبته ، أو المجعول هي الحدود بمعنى إفاضة العينية لها ثم ينتزع منه الوجود والتحقّق؟

والتحقيق هو الأوّل ، لأنّ الحدود قبل التحقّق ، والوجود أمور عدمية ليس لها أيّ شأن ، وإنّما تكون ذات شأن بعد إفاضة الوجود عليها ، فحينئذ يكون الوجود هو الأولى ؛ بالأصالة.

وبعبارة أخرى : إفاضة الوجود على ترتيب الأسباب والمسبّبات تلازم اقتران الوجود مع حدّ من الحدود الجسمية أو المعدنية أو النباتية أو الحيوانية أو الإنسانية ، فالحدود مجعولة بالعرض ضمن جعل الوجود.

٢. بساطة الوجود

الوجود بما هو وجود بسيط بحت في جميع مراتبه وتجلّياته ، فلا حدّ ولا فصل له حتى يكون له أجزاء حدّية ، فلا يمكن تحديده بالأجزاء الحملية حتى يكون له أجزاء عقلية ، ولا بالمادة والصورة حتى يتألّف من الأجزاء العينية. وقد

٤٧

برهنوا على البساطة بما هذا حاصله : لو كان الوجود مؤلّفا من جنس وفصل لكان جنسه إمّا حقيقة الوجود ، أو ماهية أخرى معروضة للوجود ، فعلى الأوّل يلزم أن يكون الفصل مفيدا لمعنى ذات الجنس فكان الفصل المقسم مقوما وهذا خلف.

وعلى الثاني : يكون حقيقة الوجود إمّا الفصل أو شيئا آخر.

وعلى كلا التقديرين يلزم خرق الفرض (١) كما لا يخفى ، لأنّ الطبائع المحمولة متحدة بحسب الوجود مختلفة بحسب المعنى والمفهوم ، والأمر هنا ليس كذلك. (٢)

وقد أقاموا براهين على البساطة طوينا الكلام عنها.

٣. وحدة حقيقة الوجود

إنّ الوجود في الواجب والممكن في عامة مراتبه ، ليس حقائق متباينة مختلفة بحيث لا جهة اشتراك بينهما وإن أصرّ عليه المشّاءون ، بل هو حقيقة واحدة يعبّر عنها بالإباء عن العدم وطارديته له ، وعلى ذلك فالوجود في عامة تجلّياته حقيقة واحدة ذات مراتب مشكّكة بالشدة والضعف والتقدّم والتأخّر.

__________________

(١). وهو لزوم كون ما به الاتّحاد عين ما به الاختلاف.

(٢). الأسفار : ١ / ٥٠.

٤٨

وبرهانه :

هو امتناع انتزاع مفهوم واحد من أشياء متخالفة بما هي متخالفة من دون جهة وحدة بينها وإلّا لزم أن يكون الواحد كثيرا ، لأنّ المحكي بالمفهوم الواحد هي هذه الكثرات المتكثّرة من دون وجود وجه اشتراك بينها ، فكيف يكون الحاكي واحدا والمحكي متكثّرا؟

ثم إنّ لازم كون الوجود بسيطا وله حقيقة واحدة ، هو أن يكون الشدة والضعف عين تلك المرتبة لا شيئا زائدا عليها ، فالوجود الشديد هو الوجود ، لا المركّب من الوجود وشدته ، كما أنّ الوجود الضعيف نفس الوجود لا أنّه مركّب من وجود وضعف.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّه إذا كانت حقيقة الوجود في كلّ مرتبة هو أن تكون المرتبة نفس حقيقته لا شيئا عارضا عليه ، وعليه يكون كل وجود في مرتبة لا حقة ، متعلّقا بالمرتبة السابقة غير متجافية عنها على وجه لو تخلّى عن مرتبته ، يلزم الانقلاب الذاتي المحال.

وبعبارة أخرى : إذا كانت درجة الوجود تشكّل في كلّ مرتبة

٤٩

من المراتب واقع وجودها فلا يمكن إسناد جميع المراتب إلى الله سبحانه والقول بأنّه قام بإيجادها مباشرة بلا توسّط الأسباب ، لأنّ معنى ذلك عدم كون المرتبة مقومة لحقيقة الوجود فيها وقد عرفت خلافه ، فهذا البرهان يجرّنا إلى القول بأنّ الوجود في كل درجة ومرتبة مؤثر في المرتبة اللّاحقة وإن كان تأثير كلّ بإذنه سبحانه ، والجميع يستمدّ منه سبحانه إمّا بلا واسطة كالصادر الأوّل أو مع الوسائط كسائر الصوادر.

البرهان الثاني لإبطال الجبر

قد أثبت المحقّقون من العلماء في مسألة «ربط الحادث بالقديم» أنّ سبب الحادث حادث وأنّ المتغيّرات والمتجدّدات جواهر كانت أم أعراضا ، لا يمكن أن يستند إلى الواجب القديم الثابت غير المتغيّر ، بل لا بدّ من توسّط أمر مجرّد بينهما يكون له وجهان : وجه يلي الربّ الثابت ، ووجه يلي الخلق المتجدّد والمتصرّم.

ومبدؤه بساطة ذاته ويترتب عليها أمران :

الأوّل : رجوع جميع صفاته وشئونه إلى الوجود التام ، البحت الخالي عن شوب التركيب فلا يعقل في ذاته وصفاته أيّ

٥٠

تركّب واثنينية فضلا عن التصرّم والتجدّد ، لأنّ الأخير يستلزم القوة والنقص حتى يكتمل بتجدّده ، وبخروجه عن القوة إلى الفعلية وهذا ممّا ينافي بساطته الحقة ، إذ كلّ متدرّج ومتصرّم مركّب من حقيقة وأمر طارئ عليه مضافا إلى وقوعه في إطار الزمان والمكان.

الثاني : انّ كلّ ما يصدر عن البسيط فلا بدّ أن يصدر عن حاق ذاته وصرف وجوده، لعدم شائبة التركيب فيه حتى يصدر الشيء عن بعض الذات دون الآخر.

إذا عرفت هذين الأمرين :

فاعلم أنّ معنى ذلك هو امتناع صدور المتصرّمات والمتجدّدات عن ذاته بلا واسطة وإلّا يلزم التصرّم والتغيّر والتجدّد في هويته الوجوبية البسيطة ، لأنّ سبب الحادث حادث وسبب المتغيّر متغيّر ، وما ربما يقال : من أنّ المصحّح لصدور المتغيّرات والمتجدّدات المتكثّرة عن الذات البسيطة هو توسّط الإرادة بينه سبحانه وبين الصوادر ، غير تام.

لأنّ إرادته سبحانه بأيّ معنى فسّرت ، عين ذاته وليست زائدة على الذات ، لاستلزامه تصوّر وجود أكمل منه تعالى ، فما

٥١

يصدر عنه بلا واسطة يمتنع أن يصدر عن إرادته دون ذاته ، أو بالعكس.

وبالجملة فصدور المتغيّرات عنه سبحانه يستلزم حدوث القديم أو قدم الحادث ، ثبات المتغيّر أو تغيّر الثابت ، فلا محيص أن يكون المؤثّر فيها غير الذات وهو عين نفي الجبر ونفس الاعتراف بأنّ هنا مؤثرا ولو ظلّيا وراء الذات.

البرهان الثالث لإبطال الجبر

قد ثبت في محلّه وجود الخصوصية بين العلّة والمعلول ، بمعنى أنّه يجب أن تكون العلة مشتملة على خصوصية بحسبها يصدر عنها المعلول المعيّن ، وإلّا يلزم أن يكون كلّ شيء علة في كل شيء ، ولازم ذلك أن لا يصدر من البسيط الواحد إلّا الواحد ، إذ لو صدر شيئان متغايران لاقتضت كلّ خصوصية تركب الذات البسيطة من شيئين وهو محال.

وإن شئت قلت : إنّه سبحانه هو البسيط غاية البساطة ، لا تركّب في ذاته ولا هو ذو أجزاء فلا جنس ولا فصل له ولا مادة ولا صورة ، عينية كانت أو ذهنية ، ولا هو متكمّم حتى يتألف من الأجزاء المقدارية ، فهذا الوجود البحت البسيط يمتنع أن يكون

٥٢

مصدرا للملك والملكوت والمجرّد والمادّي ، وإلّا لزم إمّا صدور الكثير من الواحد البسيط وهو يلازم إمّا بساطة الكثير أو تكثر البسيط.

وما ربما يقال من أنّ القول بوجود الخصوصية يختصّ بالفواعل الطبيعية حيث إنّ بين الماء والارتواء رابطة خاصة ليست موجودة في غيره. وأمّا المجردات فلم يدلّ دليل على لزوم اعتبار الخصوصية. غير تام لأنّ القاعدة عقلية والتخصيص فيها غير ممكن وتوسيط الإرادة بين الذات والعقل غير ناجح ، لما عرفت من رجوعها إلى ذاته فلو صدر المتغيّرات والمتكثّرات عنه سبحانه فكلّ يقتضي خصوصية مستقلّة فيلزم وجود الكثرات في ذاته سبحانه.

ولا تتوهم أنّ معنى ذلك هو التفويض والاعتراف بالقصور في قدرته سبحانه ، وإغلال يديه كما هي مزعمة اليهود لما سيوافيك من أنّ جميع المراتب العالية والدانية مع كونها مؤثرة في دانيها ، متدلّيات بذاته ، قائمة به تبارك وتعالى ، كقيام المعنى الحرفي بالاسمي والاعتراف بالدرجات والمراتب ، وإنّ كلّا يؤثر في الآخر لا يستلزم شيئا من التفويض.

٥٣

البرهان الرابع لإبطال الجبر

قد عرفت أنّ حقيقة الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب وليست المرتبة سوى نفس الوجود ، وأنّ الشدّة والضعف يرجع في واقعها إلى الوجود ، فإذا كانت حقيقة الوجود كذلك فلا يصحّ أن يكون مؤثرا في مرتبة عليا كالواجب ، دون المراتب الدانية مع وحدة الحقيقة.

وما ربما يقال من أنّ التأثير من لوازم المرتبة الشديدة دون الضعيفة ، غير تام ، وذلك لما مرّ من أنّ الشدّة ليست إلّا نفس الوجود لا أمرا زائدا عليه ، فلو كان الوجود الشديد مؤثرا فمعناه أنّ حقيقة الوجود هي التي تلازم التأثير ، فإذا كان كذلك فالوجود يكون مؤثرا في جميع المراتب عالية كانت أو دانية ، ولأجل ذلك قال الحكماء : إنّ حقيقة الوجود عين المنشئية للآثار ولا يمكن سلبها عنه ، فسلب الآثار ولو في مرتبة من المراتب غير ممكن لاشتمالها على حقيقة الوجود وهو خلاف المفروض.

إلى هنا تمّ الكلام في إبطال الجبر والتفويض ، بقي الكلام في إثبات المذهب المختار ، أي الأمر بين الأمرين ، والمنزلة بين المنزلتين.

٥٤

الفصل الثالث

مذهب

الأمر بين الأمرين

٥٥
٥٦

إذا ظهر بطلان كلا المذهبين فتثبت صحة القول بالأمر بين الأمرين ، وذلك لما ظهر من أنّه لا يصحّ استقلال الممكن في الإيجاد كما لا يمكن سلب الأثر عنه ، فالجمع بين الأمرين يقتضي القول بالأمر بين الأمرين ، وهو أنّ الموجودات الإمكانية موجودات لا بالاستقلال بل استقلالها وتأثيرها باستقلال عللها إذ لا مستقلّ في الوجود والتأثير ، غيره سبحانه.

وإن شئت قلت : إنّ وجوداتها إذا كانت عين الربط والفقر والتدلّي والتعلّق ، فتكون أوصافها وآثارها وأفعالها متدلّيات وروابط ففاعليتها بفاعلية الربّ ، وقدرتها بقدرته ، فأفعالها وإرادتها مظاهر فعل الله وقدرته وإرادته وعلمه.

ويرشدنا إلى ذلك الذكر الحكيم يقول سبحانه : (وَما رَمَيْتَ

٥٧

إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (١).

أثبت سبحانه الرمي للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث نفاه عنه ، وذلك لأنّه لم يكن الرمي من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعونه وحوله بل بحول الله تعالى وقوته ، فهناك فعل واحد منتسب إلى الله سبحانه وإلى عبده ، وقال سبحانه : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (٢).

فأثبت سبحانه المشيئة لنفسه حيث كانت لهم ، وجه ذلك أنّ هنا مشيئة واحدة منتسبة إلى العبد وفي الوقت نفسه هو مظهر لمشيئة الله سبحانه.

إنّ المفوّضة لجئوا إلى القول بالتفويض بغية تنزيهه سبحانه عن القبائح ، ولكنّهم غفلوا عن أنّهم بذلك القول وإن نزّه فعله عن القبح وحفظ بذلك عدله وحكمته ، لكن أخرج الممكن عن حدّ الإمكان وأدخل في حدّ الواجب فوقعوا في ورطة الشرك «لأنّ الاستقلال في الإيجاد فرع الاستقلال في الوجود» وبالتالي قالوا بتعدّد الواجب من حيث لا يشعرون.

يقول الإمام الرضا عليه‌السلام : «مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله عزوجل بعدله ، فأخرجوه من قدرته وسلطانه» (٣).

__________________

(١). الأنفال / ١٧.

(٢). الإنسان / ٣٠.

(٣). البحار : ٥ / ٥٤ ، كتاب العدل والإيمان ، الحديث ٩٣.

٥٨

كما أنّ المجبّرة لجئوا إلى الجبر ونفي العلّية والقدرة والاختيار عن العباد لصيانة التوحيد في الخالقية وتمجيدا وتعظيما له سبحانه ، ولكنّهم غفلوا عن أنّهم نسبوا إلى الخالق القول ، بالتكليف بما لا يطاق.

روى هشام بن سالم عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله أكرم من أن يكلّف الناس بما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد». (١)

وأمّا القائل بالأمر بين الأمرين ، فقد حفظ مقام الربوبية والحدود الإمكانية وأعطى لكلّ حقّه.

إن الناقد البصير والقائل بالأمر بين الأمرين له عينان يرى بواحدة منهما مباشرة العلّة القريبة بالفعل بقوته وإرادته وعلمه ، فلا يحكم بالجبر ، ويرى بالأخرى أنّ مبدأ هذه المواهب هو الله سبحانه وأنّ الجميع قائم به فلا يحكم بالتفويض ويختار الوسط.

فالجبري عينه اليمنى عمياء فلا يرى تأثير العلّة القريبة في الفعل ، بل ينظر بعينه اليسرى إلى قيام الجميع بالله تبارك وتعالى.

__________________

(١). البحار ، ٥ / ٤١ الحديث ٦٤.

٥٩

والتفويضي عينه اليسرى عمياء ، يرى بعينه اليمنى مباشرة الفاعل القريب للفعل ولا يرى بعينه اليسرى قيام الجميع بالله تبارك وتعالى.

فالجبرية مجوس هذه الأمة تنسب النقائص إلى الله تعالى والمفوضة يهود هذه الأمة ، حيث تجعل يد الله مغلولة : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) والقائل بالأمر بين الأمرين ينظر بكلا العينين ويسلك الجادة الوسطى ، ومن ذلك يعلم وجه وصف الإمام الرضا للقائل بالجبر بالكفر ، وللقائل بالتفويض بالشرك حيث قال : والقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك (١).

إيقاظ :

دلّ الذكر الحكيم على أنّ الحسنة والسيّئة من عند الله ، قال سبحانه : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (٢).

ولكن دلّت الآية التالية على أنّ الحسنة من الله والسيّئة من

__________________

(١). عيون أخبار الرضا : ١ / ١١٤.

(٢). النساء / ٧٨.

٦٠