لبّ الأثر في الجبر والقدر

الشيخ جعفر السبحاني

لبّ الأثر في الجبر والقدر

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-27-4
الصفحات: ٣١٥

وتكون منه فتكون كالحسنة من الله تعالى ، وبما انّ الإنسان بأعماله غير المرضية وطغيانه على ما كلّف به ، يستحق النقمة والبلاء ، تصح ان تنسب إليه السيئة ، وكلتا النسبتين نسبة حقيقية لا تزاحم إحداهما الأخرى ، ويؤيد صحة النسبة الثانية قوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

فتكذيبهم الأنبياء صار سببا لسدّ أبواب بركات السماء والأرض ، فلا يكون نصيبهم في الحياة إلّا الجدب والغلاء.

وهناك سؤال آخر وهو انّه إذا صحّت نسبة السيئة إلى الإنسان لأجل انّه هو الباعث بأعماله نزول الغلاء والجدب أو الهزيمة في الغزو ، فلتكن كذلك الحسنة ، فالإنسان المطيع المخلص ينزّل البركة من السماء في ظلّ عمله ، ومع ذلك لا ينسب القرآن ، الحسنة إلى الإنسان أبدا ، فما هو الفرق بين السيئة والحسنة؟

والجواب :

انّ التحليل الصحيح يؤدّي بنا إلى القول بأنّ الحسنة من باب

__________________

(١). الأعراف : ٩٦.

٢٨١

التفضّل لا من باب الاستحقاق ، بخلاف السيئة فإنّها من باب الاستحقاق. فالإنسان بطغيانه على مولاه وجرأته عليه يستحق نزول البلاء ، ولكنه بإطاعته وإخلاصه وامتثاله لأوامر مولاه لا يستحق شيئا على مولاه ، لأنّه انّما قام بالطاعة بالمواهب التي منحها الله سبحانه إليه ، ولم يكن مالكا لشيء ، منفقا له في مسير الطاعة حتى يستحقّ شيئا على الله ، بل انّ وجوده وإرادته وأعضاءه وأفعاله كلّها مواهب لله. فصار عمله أشبه بإحسان الولد لوالده بما ملّكه له ، وللفرق الواضح بين الحسنة والسيئة نرى أنّ الحديث القدسي المنقول عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفرق بين الحسنة والسيئة ويقول : «يا بن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبنعمتي أدّيت إليّ فرائضي ، وبقدرتي قويت على معصيتي ، خلقتك سميعا بصيرا ، أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك منّي» (١).

__________________

(١). المجلسي : بحار الانوار : ٥ / ٤ ح ٣ ، كتاب العدل والمعاد ، الباب الأوّل.

٢٨٢

شبهات حول الاختيار

الشبهة الثالثة

ما معنى السعادة والشقاء الذاتيتين؟

من الأسئلة المثارة في مجال الجبر والاختيار هي تقسيم الناس إلى صنفين : سعيد وشقي ، وانّ كل إنسان منذ كونه جنينا في رحم أمّه إمّا سعيد أو شقي ، وهذا يكشف عن كونهما من الأمور الذاتية للإنسان ، ومعه لا يبقى للاختيار مفهوم ، بل كلّ مسيّر إلى ما توحيه ذاته ، وقد اشتهر في الألسن انّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الشقي من شقي في بطن أمّه ، والسعيد من سعيد في بطن أمّه» (١) فيقال ما معنى هذا التقسيم الذي لو صح بظاهره لأدّى إلى الجبر؟

إنّ تفسير الحديث وإن كان لا يتوقف على بيان السعادة والشقاء في القرآن الكريم ، لكن لأجل الإحاطة بالبحث نذكر ما

__________________

(١). الصدوق : التوحيد : ٣٥٦ ح ٣ ، باب السعادة والشقاء.

٢٨٣

ورد في الكتاب العزيز ، وربّما صار مستمسكا للجبر. فنقول :

قد ورد في الذكر الحكيم آيتان :

الآية الأولى :

قال سبحانه : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ* فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١).

وقد استدلّ الرازي بهذه الآية على الجبر الأشعري ، الذي كان يتبنّاه وقال : اعلم أنّه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنّه سعيد ، وعلى بعضهم بأنّه شقي ، ومن حكم الله عليه بحكم وعلم فيه ذلك الأمر ، امتنع كونه بخلافه ، وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا وعلمه جهلا ، وذلك محال ، فثبت انّ السعيد لا ينقلب شقيا ، وانّ الشقي لا ينقلب سعيدا. (٢)

إنّ كلام الرازي يحتمل وجهين :

١. يعتمد في استدلاله على الجبر بعلمه سبحانه بأنّ الناس

__________________

(١). هود : ١٠٥ ـ ١٠٨.

(٢). الرازي : مفاتيح الغيب : ٥ / ٩٣ ، ط ١ ـ ١٣٠٨ ه

٢٨٤

يوم القيامة على صنفين : سعيد وشقي ، وبما انّ علمه لا يخطأ ، فيكون كل إنسان مضطرا في سعادته وشقائه ، غير مختار في اختيار أحدهما ، إذ يلزم من كونهما اختياريين جواز تبديل الشقاء بالسعادة وبالعكس ، وهو يوجب تطرّق الخطأ إلى علمه.

فلو أراد الرازي هذا المعنى ، فقد مضى جوابه ، وقلنا : إنّ علمه الأزلي بمصير كل إنسان لا يجعله مجبورا في مجال العمل ، وذلك لأنّ علمه كما تعلّق بصدور الفعل عن الإنسان تعلّق بصدوره عنه عن اختيار ، فلو صدر عن اضطرار للزم انقلاب علمه جهلا ، وقد مر تفصيل هذا الجواب فلا نطيل الكلام. وكون كل شخص مختارا معناه أنّه يملك بالذات ان يغيّر مصيره ، وإن كان حسب الواقع غير مغيّر ، فلا يلزم من القول بالاختيارية ، محذور.

٢. انّه سبحانه يحكم الآن على بعض أهل القيامة بأنّه سعيد ، وعلى بعضهم بأنّه شقي. ولكن الإجابة عنه واضحة بمثل الإجابة عن علمه بانقسام الناس إلى صنفين ، فحكمه سبحانه ناشئ عن علمه بهما ، وعلمه ليس إلّا كشفه عن أحوالهم في الآخرة ، وهذا لا ينافي أنّهم اكتسبوا هاتين الحالتين بأعمالهم

٢٨٥

الصالحة والطالحة في الدنيا ، فصاروا سعداء أو أشقياء في الآخرة.

الآية الثانية :

قال سبحانه : (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ* رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) (١).

فيستظهر من إضافة الشقوة إلى أنفسهم أنّ شقاء المجرمين كان أمرا نابعا من ذواتهم.

لكنه ظهور بدوي يزول بالإمعان في مفاد الآية ، بل الظاهر انّ في الإضافة تلويحا إلى أنّ لهم صنعا في شقوتهم من اكتسابهم ذلك بسوء اختيارهم ، ويدل على أنّ شقوتهم كانت أمرا اكتسابيا ، أمران :

١. انّه سبحانه ذكر قبل الآية ، السعادة بلفظ الفلاح ، والشقاء بلفظ الخسران ، وجعلهما من آثار ثقل الميزان وخفّته اللّذين يعدّان من الأمور الاختيارية ، قال سبحانه : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢) أيّ السعادة النابعة من ثقل الميزان وقال سبحانه : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ

__________________

(١). المؤمنون : ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٢). المؤمنون : ١٠٢.

٢٨٦

خالِدُونَ) (١) أي الشقاء النابع من خفة الميزان.

٢. انّهم يطلبون من الله الخروج من جهنم والرجوع إلى الدنيا لكي يعملوا صالحا ويصيروا سعداء ، فلو كان شقاؤهم أمرا ذاتيا غير متغيّر ، فما معنى طلب الخروج لكسب السعادة؟

إنّ الروايات تفسّر حقيقة السعادة ، يقول الامام علي عليه‌السلام : «حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة ، وحقيقة الشقاء أن يختم المرء عمله بالشقاء» (٢) وهو ظاهر في أنّهما من الأمور التي يستحصلها الإنسان بأعماله.

بقي الكلام في تفسير الرواية المعروفة : «الشقي شقي في بطن أمه ، والسعيد سعيد في بطن أمّه» فلهذا الحديث تفاسير نذكر منها وجهين :

الأوّل : انّ السعادة والشقاء مفاهيم عامّة يوصف بها الإنسان بملاكات مختلفة ، إمّا من حيث الجسم فالصحة سعادة جسمانية والسقم شقاء كذلك ، وإمّا من حيث الحياة الاجتماعية فالغنى سعادة والفقر المدقع شقاء ، كما يصح وصف الإنسان بهما من

__________________

(١). المؤمنون : ١٠٣.

(٢). المجلسي : بحار الأنوار ٥ / ١٥٤ ح ٥ باب السعادة والشقاء.

٢٨٧

حيث سائر علاقاته من الزوجة والرفيق والبيئة ، فالزوجة المطيعة والرفيق الوفي والبيئة المناسبة للجسم والروح سعادة ، وأضدادها شقاء ، وعلى ذلك فلا وجه في تخصيص السعادة والشقاء بالإيمان والكفر ، بعد كونهما ذا ملاكات متعدّدة. إذا علمت ذلك فنقول :

يمكن تفسير الحديث بالسعادة والشقاء ، في بطن الأم بما يرجع إلى تكوينه وخلقته ، فالجنين المتكوّن من «بويضة» سالمة و «حويمن» كذلك فهو سعيد في هذه الحالة وتترتب عليه سعادات أخرى بعد خروجه من بطن أمّه ؛ كما أنّ المتكوّن من جزءين عليلين ، شقيّ في هذه الحالة ، تتوالى عليه شقاءات بعد خروجه من بطن أمّه.

لا شك انّ لسلامة الأب والأم تأثيرا في سلامة الأولاد ، فالأولاد في بطون أمّهاتهم بين سعيد وشقي يرافقانهم إلى آخر العمر ، وبالنتيجة لا يرتبط الحديث بأمر الجبر والاختيار.

ولو قلنا بعمومية الحديث وانّ الأولاد ترث روح العصيان والطاعة من الوالدين وميولهما ، لكن ما يرثه الأولاد لا تعدو من كون الموروث أرضية قابلة للتغيّر والتبدّل بأن يبدل روح الطغيان إلى ضدّه بالتدبّر فيما يترتّب عليه من الخسائر.

٢٨٨

الثاني : ما ورد عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : «الشقي من علم الله وهو في بطن أمّه انّه سيعمل أعمال الأشقياء ، والسعيد من علم الله وهو في بطن أمّه سيعمل أعمال السعداء» (١)

سواء أصح ما ذكرنا من التفسير أم لم يثبت ، فلا يمكن رفع اليد عن محكمات العقل والكتاب والسنّة بمثل هذا الحديث الذي ربما يحتمل أن يكون دخيلا وموضوعا.

تحليل فلسفي لرد كون الشقاء ذاتيا

وما ربما يقال إنّ السعادة والشقاء من الأمور الذاتية للإنسان أمر لا يمكن المساعدة معه ، وذلك لأنّ الذاتي قد يطلق ويراد منه هو الذاتي في باب الكليات الخمس ، وأخرى يطلق ويراد منه الذاتي في باب البرهان ، والأوّل يتلخّص في النوع والجنس والفصل ، والثاني يتلخّص فيما هو خارج عن حقيقة الشيء ، ولكن يوضع بوضعه من دون حاجة إلى ضم ضميمة كالإمكان بالنسبة إلى الجسم ، ويقابله العرضي الذي لا يوضع بوضع الموضوع ويتوقّف حمله على الموضوع على ضم ضميمة إليه كالأبيض بالنسبة إلى الجسم ، فبما أنّ الجسم ليس ملازما للبياض ، لا يصح وصفه بالأبيض إلّا بعد انضمام أمر خارج عنه

__________________

(١). التوحيد للصدوق : ٣٥٦ ، باب السعادة والشقاء.

٢٨٩

كالبياض إلى الجسم.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ السعادة والشقاء ليستا ذاتيتين بالمعنى الأوّل ، إذ ليستا جنسا ولا نوعا ولا فصلا للإنسان ، كما أنّهما ليستا ذاتيتين من النوع الثاني ، لأنّ الذاتي بهذا المعنى ينتزع من صميم الشيء بدون ضم ضميمة إليه وليس فرض الإنسان وحده كافيا في انتزاع السعادة والشقاء عنه ما لم ينضم إليه شيء من العقيدة والعمل ، فالعقائد الصالحة والأعمال المرضية هي المصححة لانتزاع السعادة من الإنسان ، كما أنّ انضمام العقائد الفاسدة والأعمال الطالحة هما المصحّحان لانتزاع الشقاء. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّهما من الأمور التي يكتسبها الإنسان طيلة حياته ، سواء أرجعتا إلى الملكات الصالحة أو الخبيثة ، أو إلى الأعمال المنجية أو الموبقة.

٢٩٠

شبهات حول الاختيار

الشبهة الرابعة

القضاء والقدر

إنّ القضاء والقدر من الأصول التي دلّ عليها الكتاب والسنّة ، وليس لأحد أن ينكر واحدا منهما ، ومعنى التقدير انّ لوجود كل شيء حدا وقدرا ، كما أنّ لتحقّقه ووجوده قضاء وحكما مبرما من جانبه سبحانه ، فكل شيء يقدر أوّلا ، ثم يحكم عليه بالوجود. من غير فرق بين الجواهر والأعراض وأفعال الإنسان.

غير انّ القول بالتقدير ثم القضاء أوجب مشكلة للباحثين ، فكأنّهم زعموا انّ القول بهما لا يجتمع مع كون الإنسان مخيّرا. وقد ورد في الأحاديث نفس هذا الزعم حيث أقبل شيخ إلى الإمام على عليه‌السلام عند منصرفه من صفين ، فقال : أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء الله وقدره؟ فقال : «أجل يا شيخ ما علوتم من طلعة ، ولا هبطتم من واد إلّا بقضاء من الله وقدره» فقال

٢٩١

الشيخ : عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين : (ومعنى هذه الجملة : انّي لم أقم بعمل اختياري ، ولأجل ذلك احتسب عنائي عند الله) فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «يا شيخ ، فو الله لقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم ، وأنتم سائرون ، وفي مقامكم إذ أنتم مقيمون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، لم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليه مضطرين».

فقال الشيخ : فكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ، ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟! فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أتظن أنّه كان قضاء حتما وقدرا لازما ، إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، والأمر والنهي ، والزجر من الله تعالى وسقط معنى الوعد والوعيد ، ولم تكن لائمة للمذنب ، ولا محمدة للمحسن ، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، وتلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن ، وحزب الشيطان وقدرية هذه الأمّة ومجوسها ، وانّ الله كلّف تخييرا ونهى تحذيرا ، وأعطى على القليل كثيرا ولم يعص مغلوبا ، ولم يطع مكرها ، ولم يملك مفوضا ، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا ، ولم يبعث النبيّين مبشّرين

٢٩٢

ومنذرين عبثا ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار» (١).

والحديث جمع بين القول بين القدر والقضاء وكون الإنسان مخيّرا لا مسيّرا ، ثم إنّ الناس أمام هذه الرواية وأشباهها على صنفين ، صنف منهم كبعض المشايخ تخلّص من مشكلة الجبر بنفي وقوع أفعال الإنسان في مجالي القضاء والقدر ، وقال باختصاصهما بعالم الجواهر والأعراض ، وانّه لا صلة لهما بفعل الإنسان لئلا يلزم الجبر ، ومنهم من أخذ بالثلاثة: القضاء والقدر والجبر.

واللائح من كتب السير والتاريخ انّ القول بالجبر تحت غطاء القضاء والقدر ، كان يروّج في عهد الأمويين ، ولأجل ذلك اشتهر «الجبر والتشبيه أمويان» «والعدل والتوحيد علويان».

ويظهر من بعض الآيات انّ مشركي العرب كانوا أصحاب الجبر تحت ظل القول بالقضاء والقدر قال سبحانه : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) (٢).

وإذا أردنا أن نسرد ما في تاريخ الأمويّين من القول بالجبر

__________________

(١). الصدوق : التوحيد : ٣٨٠ الحديث ٢٨.

(٢). الأنعام : ١٤٨.

٢٩٣

في ظل العقيدة بالقضاء والقدر لطال بنا الكلام ولطال موقفنا مع القرّاء الكرام ، وقد ذكرنا قسما من ذلك في محاضراتنا الكلامية. (١)

ولأجل الاختصار نقتصر بذكر أمور :

الأوّل : مصادر القضاء والقدر في الكتاب والسنّة

احتفل الكتاب بالقدر والقضاء في لفيف من آياته نقتصر بقليل منها :

قال سبحانه : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (٢).

قال سبحانه : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٣).

وقال سبحانه : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٤).

روى الصدوق في «الخصال» بسنده عن علي عليه‌السلام أنّه قال :

__________________

(١). حسن محمد مكي العاملي : الإلهيات : ٢ / ١٦٥ ـ ١٦٩.

(٢). التوبة : ٥١.

(٣). فاطر : ١١.

(٤). الحديد : ٢٢.

٢٩٤

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة : حتى يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وانّي رسول الله بعثني بالحق ، وحتى يؤمن بالبعث بعد الموت ، وحتى يؤمن بالقدر». (١)

الثاني : تفسير القدر والقضاء

قال الراغب : القدر والتقدير تبيين كمية الشيء ، يقال قدرته وقدرته بالتشديد ، ثم قال : فتقدير الأشياء على وجهين : أحدهما بإعطاء القدرة (وهذا خارج عن موضوع البحث) والثاني بأن يجعلها على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسب ما اقتضت الحكمة.

قال سبحانه : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٢).

وقال سبحانه : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٣).

وقوله : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) (٤).

وأمّا القضاء فهو الإحكام والإتقان والإنفاذ.

قال سبحانه : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (٥) أيّ أحكم خلقهن.

__________________

(١). المجلسي : البحار : ٥ / ٨٧ ح ٢ ، باب القضاء والقدر.

(٢). الطلاق : ٣.

(٣). القمر : ٤٩.

(٤). عبس : ١١٩.

(٥). فصّلت : ١٢.

٢٩٥

إذا عرفت ذلك فنقول : المراد من القدر تقدير وجود الشيء وخصوصياته وكما أنّ المراد من القضاء ضرورة وجوده في ظرف خاص عند تحقّق علّته التامة ، فيكون التقدير مقدما على القضاء ، مثلا ، المهندس يقدّر فنّيات البناء ، ثم بعد أن تمت التصميمات الهندسية في ذهنه يحكم ويقضي على بناء الدار وفق ما صمّمه.

هذا هو الملموس لنا في الوجود الإمكاني ، وأمّا الباري تبارك وتعالى ففي علمه الوسيع تقدير كل شيء حسبما تقتضيه حكمته ، ثم حكمه وقضاؤه على تحقّقه في ظرفه.

الثالث : انّ التقدير والقضاء على أصناف ثلاثة :

ألف ـ التقدير والقضاء العلميان الكليان.

ب ـ التقدير والقضاء العلميان الجزئيان.

ج ـ التقدير والقضاء العينيّان الجزئيان.

القضاء والقدر العلميّان الكليّان

إنّ التقدير أو القضاء العلميين ، لا يتجاوزان السنن الكلية الواردة في الكتاب والسنّة من دون إشارة إلى قوم دون قوم ، أو شخص دون شخص ، بل بذكر سيادة القوانين العامة على

٢٩٦

الإنسان ، وقد دفع مفتاح التظلّل تحت أيّة سنّة من السنن بيد الإنسان ، ونذكر من هذه السنن ، القليل من الكثير.

١. قال سبحانه حاكيا عن شيخ الأنبياء نوح عليه‌السلام : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) (١).

فترى أنّ نوحا عليه‌السلام يجعل الاستغفار سببا مؤثرا في نزول المطر وكثرة الأموال وجريان الأنهار ، ووفرة الأولاد. وإنكار تأثير الاستغفار في هذه الكائنات أشبه بكلمات الملاحدة ، وموقف الاستغفار هنا موقف العلّة التامة أو المقتضى بالنسبة إليها ، والآية تهدف إلى أنّ الرجوع إلى الله وإقامة دينه وأحكامه يسوق المجتمع إلى النظم والعدل والقسط ، وفي ظلّه تنصبّ القوى على بناء المجتمع على أساس صحيح ، فتصرف القوى في العمران والزراعة وسائر مجالات المصالح الاقتصادية العامة ، كما أنّ العمل على خلاف هذه السنّة ، وهو رجوع المجتمع عن الله وعن الطهارة في القلب والعمل ، ينتج خلاف ذلك.

للمجتمع الخيار في التمسّك بأهداب أيّ من السنتين ،

__________________

(١). نوح : ١٠ ـ ١٢.

٢٩٧

فالكل قضاء الله وتقديره.

٢. قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

٣. قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٢).

٤. قال سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٣).

والتقرير في مورد هذه الآيات الثلاث مثله في الآية السابقة عليها.

٥. وقال سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٤).

ترى أنّ الآية تتكفّل ببيان كلا طرفي السنّة الإلهية إيجابا وسلبا ، وتبيّن النتيجة المترتبة على كل واحد منهما. والكلّ قضاؤه وتقديره والخيار في سلوكهما للمجتمع.

__________________

(١). الاعراف : ٩٦.

(٢). الرعد : ١١.

(٣). الأنفال : ٥٣.

(٤). إبراهيم : ٧.

٢٩٨

٦. وقال سبحانه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)(١).

٧. وقال سبحانه : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٢).

فالمجتمع المؤمن بالله وكتابه وسنّة رسوله إيمانا راسخا يثبّته الله سبحانه في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، كما أنّ الظالم والعادل عن الله سبحانه يخذله الله سبحانه ولا يوفقه إلى شيء من مراتب معرفته وهدايته. ولأجل ذلك يرتّب على تلك الآية قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) (٣).

٨. وقال سبحانه : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (٤).

فالصالحون لأجل تحلّيهم بالصلاح في العقيدة والعمل ، يغلبون الظالمين وتكون السيادة لهم ، والذلّة والخذلان لمخالفيهم.

__________________

(١). الطلاق : ٢ ـ ٣.

(٢). إبراهيم : ٢٧.

(٣). إبراهيم : ٢٨ ـ ٢٩.

(٤). الأنبياء : ١٠٥.

٢٩٩

٩. وقال سبحانه : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(١).

فالاستخلاف في الأرض نتيجة الإيمان بالله والعمل الصالح وإقامة دينه على وجه التمام ويترتب عليه ـ وراء الاستخلاف ـ ما ذكره في الآية من التمكين وتبديل الخوف بالأمن.

١٠. وقال سبحانه : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) (٢).

والآيات الواردة حول الأمر بالسير في الأرض والاعتبار بما جرى على الأمم السالفة لأجل عتوّهم وتكذيبهم رسل الله سبحانه ، كثيرة في القرآن الكريم تبين سنّته السائدة على الأمم جمعاء.

١١. وقال سبحانه : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٣).

١٢. وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ

__________________

(١). النور : ٥٥.

(٢). محمد : ١٠.

(٣). آل عمران : ١٣٧.

٣٠٠