لبّ الأثر في الجبر والقدر

الشيخ جعفر السبحاني

لبّ الأثر في الجبر والقدر

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-27-4
الصفحات: ٣١٥

الفصل الثالث

شبهات وحلول

٢٦١
٢٦٢

شبهات حول الاختيار

الشبهة الأولى

الهداية والضلالة بيد الله تبارك وتعالى

إذا كان الإنسان مختارا في أفعاله ، فما معنى ما تضافرت عليه الآيات من أنّ الهداية والضلالة بيده سبحانه يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ، إذ معنى الاختيار انّ الإنسان هو الذي يختار الهداية أو الضلالة ، لا أنّهما تفرضان عليه ، والمعنى الثاني يلازم كونه مسيّرا فيهما لا مخيّرا ، وإليك لفيفا من الآيات الدالّة على أنّ الضلالة والهداية بيده سبحانه ، ولا يمتّان إلى العبد بصلة ، نذكر منها ما يلي :

١. قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١).

٢. وقال سبحانه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُ

__________________

(١). إبراهيم : ٤.

٢٦٣

مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١).

٣. وقال سبحانه : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٢).

إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المجال؟

والجواب : انّ تفسير ما ورد حول الضلالة والهداية من الآيات لا يتيسّر إلّا بالنظر إلى مجموع ما ورد في ذلك المجال ، فإنّ الآيات الواردة في ذلك المضمار متخالفة المفهوم ، وربما يتراءى في بادئ الأمر وجود التضارب بينها ، ولكن إذا نظرنا إلى المجموع ، وجعلنا البعض قرينة للآخر ، يصبح المجموع ذا معنى واحد ، وهذا ما يتكفّله التفسير الموضوعي لآيات القرآن الكريم ، وإلّا فهناك آيات وقعت ذريعة للجبريّين كما عرفت ، وآيات أخرى اتّخذتها المفوضة سندا لمذهبها ، وما هذا الاختلاف إلّا للنظر إلى بعض الآيات غافلا عن البعض الآخر ، ولو وقع الجميع موردا للنظر والدراسة لأصبح الكل هادفا إلى معنى واحد لا إلى الجبر ولا إلى الاختيار بمعنى التفويض.

__________________

(١). النحل : ٩٣.

(٢). فاطر : ٨.

٢٦٤

ويعلم ذلك ببيان أقسام الهداية الإلهية ، وإليك البيان :

الهداية العامة

هناك آيات دالّة على أنّ هداية الله سبحانه لا تختص بفرد دون فرد ، بل تعم جميع الناس بل أوسع منهم ، فتعم جميع الموجودات عاقلها وغير عاقلها ، وتتلخص الهداية العامة في الهدايتين : التكوينية والتشريعية ، وإليك بيانها :

أ. الهداية العامة التكوينية

هناك لفيف من الآيات تدل على أنّه سبحانه ما خلق شيئا إلّا وقد هداه إلى الغاية التي خلق لأجلها ، قال سبحانه ناقلا عن لسان نبيه الكليم : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (١) وأيّ تعبير أصرح من هذا الكلام بأنّ كل مخلوق مقرون بالهداية ، ولأجل ذلك ترى أنّ الحبة المستورة تحت التراب سوف تشقّ الأرض وتخرج منها وتأخذ بالنمو والرشد حتى تصير شجرة مثمرة ، ومثلها الحيوان والإنسان.

قال سبحانه : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٢) ومعنى الآية أنّه سبحانه خلق كل شيء

__________________

(١). طه : ٥٠.

(٢). الأعلى : ١ ـ ٣.

٢٦٥

بتقدير خاص تتبعه الهداية العامة.

وهذه الآيات واردة في الدلالة على عموم الهداية التكوينية لجميع الموجودات.

وهناك آيات تدل على وجودها في قسم خاص منها كالنحل ، يقول سبحانه : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١) فالآية صريحة في أنّ ما يقوم به النحل من الأعمال الغريبة من اتخاذها الجبال والشجر وما يعرش من الكرم بيوتا ، كلّها بوحي من الله سبحانه ، كما أنّ أكلها من كل الثمرات وانتهائه إلى خروج شراب مختلف ألوانه بتعليم منه سبحانه تعليما عاما لجميع أفراد النحل بلا استثناء.

ونرى مثل تلك الهداية العامة في حق الإنسان ، ولكن باختلاف مجال الهداية سعة وضيقا ، فمجال الهداية في النحل يرجع إلى حياتها المادية وأعمالها الجسمانية ، لكن مجال الهداية العامة في الإنسان يعم كلتا الهدايتين المادية والمعنوية ،

__________________

(١). النحل : ٦٨ ـ ٦٩.

٢٦٦

يقول سبحانه : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١) يقول سبحانه : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) ليبصر بهما آثار حكمته (وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) لينطق بهما فيبين باللسان ، ويستعين بالشفتين على البيان (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أيّ سبيل الخير والشر ، فالإنسان بفطرته الطاهرة يعرف الحسن والقبيح ويميز الخير عن الشر قبل أن يدخل في مدرسة أو يتلمذ على يد إنسان.

ويقول سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٢).

يريد بالنفس نفس الإنسان ، فالله سبحانه يخبر عن أنّه عدّل خلقها ، وسوّى أعضاءها ، بل سوّى عقلها الذي به فضّل على سائر الموجودات ، فعرّفها طريق الفجور والتقى ، وفي الوقت نفسه زهّدها في الفجور ورغّبها في التقوى كل ذلك يحسّه الإنسان في صميم ذاته ، حيث إنّه إذا ترك الفجور ولو لسبب خارج عن الاختيار يفرح به ، وما هذا إلّا انسياق ذاته إلى الخير والتقوى.

وهذا القسم من الآيات يصرّح بعمومية الهداية التكوينية

__________________

(١). البلد : ٨ ـ ١٠.

(٢). الشمس : ٧ ـ ٨.

٢٦٧

على اختلاف مجالها سعة وضيقا لجميع الموجودات ، وإليك القسم الثاني من الهداية العامة.

ب. الهداية العامة التشريعية

إذا كانت الهداية التكوينية العامة أمرا نابعا من صميم الشيء ، فالهداية التشريعية العامة مفاضة عليه بواسطة عوامل خارجة عن ذاته ، كالأنبياء والرسل والأولياء والأوصياء وخلفائهم والمصلحين.

قال سبحانه : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (١).

وقال سبحانه : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على عمومية الهداية التشريعية لكل إنسان قابل أو مجتمع مستعدّ لهذه الإفاضة.

فإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، ودعوة العلماء والمصلحين من فروع هذه الهداية العامة ، كما أنّ هداية النبي الأكرم وهداية كتابه من فروعها ، قال سبحانه : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣) وقال تعالى في هداية القرآن إلى الطريق الأقوم : (إِنَ

__________________

(١). فاطر : ٢٤.

(٢). الحديد : ٢٥.

(٣). الشورى : ٥٢.

٢٦٨

هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (١).

فعمومية الهداية التشريعية لكلّ مكلّف في الأرض تنفي الجبر وتثبت الاختيار ، إذ في وسع كل إنسان أن يهتدي بعقله وبما خصّه سبحانه به من هداية الأنبياء والرسل والزبر والكتب ، فإذا سادت الهداية التشريعية على عامة الأفراد لما بقي للجبر مكانة.

إنّه سبحانه يصرّح في بعض آياته بأنّه لا يعذّب قبل بعث الرسل أو لا يهلك القرى إلّا بعد بعثهم قال سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٢) وقال سبحانه : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) (٣) كما أنّه يؤكد في بعض الآيات على صحة منطق الإنسان ويقول : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٤) وهو بنقله احتجاج الإنسان على الله إذا لم يبعث الرسل ، يقرّر صحته ، ولأجل هذا لم يكن هناك هلاك إلّا وقد سبقته الهداية الإلهية العامة ، كإرسال الرسل وغيره.

فإذا كان ملاك الجبر والاختيار هو ضيق الهداية الإلهية أو

__________________

(١). الإسراء : ٩.

(٢). الإسراء : ١٥.

(٣). القصص : ٥٩.

(٤). طه : ١٣٤.

٢٦٩

شمولها ، فالآيات تصرّح بالعمومية فيبطل الجبر ويثبت الاختيار ، وأمّا ما معنى كون الهداية والضلالة بيده ، فيتضح بالبحث التالي.

الهداية الخاصّة

إذا كانت هناك هداية عامة تكوينية أو تشريعية ، فهناك هداية خاصة ببعض الناس ولا تعم الجميع ، ولو انّ بعض الآيات تعلّق الهداية والضلالة بمشيئته سبحانه ، فهي ناظرة إلى ذلك القسم من الهداية التي تخص بعض العباد ، ولكن ليس تخصيصها ببعض العباد بلا ملاك.

والملاك بيد الإنسان ، وهو انّ من استضاء بنور الهداية العامة التكوينية والتشريعية ، فقد تعلّقت مشيئته سبحانه بهدايته بالهداية الخاصة ورفع مستوى الهداية التي استحصلها قبلها ، فيقع موردا للعناية الربّانية ، ولأجل ذلك نرى أنّه يخص تلك الهداية بإنسان منيب أو إنسان مجاهد في سبيل الله أو المهتدي بالهداية.

يقول سبحانه : (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (١).

__________________

(١). الرعد : ٢٧.

٢٧٠

ويقول أيضا : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١).

وفي آية ثالثة يقول : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٢).

وفي آية رابعة : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٣).

وفي آية خامسة يقول : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً* وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ* لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً)(٤).

فخصّ سبحانه هذا القسم من الهداية بقسم من الناس دون قسم ، بملاك انّ المعنيّين بالهداية الخاصة صاروا مستحقّين لنزول تلك الرحمة ، إما بإنابتهم إليه سبحانه ، أو بجهادهم في سبيله ، أو بإيمانهم القويّ بربهم ، ففي هذه الحالة شملتهم العناية الربانية الخاصة ، فجهّزهم بهداية ثانية التي يعبر عنها بقوله (يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) و (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) و (زادَهُمْ هُدىً) و (رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ).

فالهداية الخاصة تتّبع مشيئة الله ، وليست مشيئته اعتباطية ،

__________________

(١). الشورى : ١٣.

(٢). العنكبوت : ٦٩.

(٣). محمد : ١٧.

(٤). الكهف : ١٣ ـ ١٤.

٢٧١

بل تتبع لصلاحيات اكتسبها أصحابها بالاهتداء بالهداية الأولى العامة واتّبعتها أعمال صالحة.

فكما أنّه سبحانه يعلّق هدايته على مشيئته ، يعلّق إضلاله عليها أيضا ، وليست مشيئته في هذا المورد أيضا بلا ملاك وليس هو إلّا إعراض العبد عن الاهتداء بالهداية العامة ، فانتهى أمره إلى اكتساب صفات تمنع نفوذ الهداية الإلهية الثانية ، بل يستحق معها حرمان الهداية الإلهية ، يقول سبحانه : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١).

وفي آية ثانية : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٢).

وفي آية ثالثة : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٣).

وفي آية رابعة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) (٤).

وفي آية خامسة : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٥).

وبما أنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية ، فإضلاله

__________________

(١). الجمعة : ٥.

(٢). إبراهيم : ٢٧.

(٣). البقرة : ٢٦.

(٤). النساء : ١٦٨ ـ ١٦٩.

(٥). الصف : ٥.

٢٧٢

سبحانه النابع عن مشيئته ، يعمّ الظالم والفاسق والزائغ قلبه ، لظلمهم وزيغهم وفسقهم المكتسبة ، فتصير هذه الحالات حجبا تمنع من نفوذ الهداية الإلهية الثانية ، ويصدق انّه سبحانه أضلّه وليس لحرمانه سبب إلّا عمله وحاله.

وعلى ضوء ذلك يكون المراد من الإضلال حرمانه من الهداية الثانية ، ولأجل ذلك يذكر سبحانه إضلاله بعد إرسال الرسل ، فكان إعراضه عنهم صار سببا لحرمانه من العناية الخاصة قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١) يذكر إضلاله وهدايته بعد الإخبار عن إرساله للرسل ، فالآية تدلّ على أنّ الهداية والضلالة التابعة لمشيئته ترجع إلى الظروف التي تمت فيها الحجة على العبد بالهداية العامة ، وعند ذاك فمن استضاء بالهداية العامة عمّته الهداية الثانية ، وإلّا يحرم منها ويكون حرمانه إضلاله لا شيئا آخر.

وعند ذاك تستطيع إرجاع جميع ما ورد حول الضلالة والهداية إلى معنى واحد من دون أن نتصور أيّ اختلاف في محتواها ، بل كل قسم من الآيات يشير إلى بعد من أبعاد الهداية

__________________

(١). إبراهيم : ٤.

٢٧٣

والضلالة ، فالآيات المطلقة تهدف إلى الهداية العامة التكوينية والتشريعية ، والآيات المعلّقة بالمشيئة ناظرة إلى الهداية الخاصة ، فإذن لا منافاة بين الآيات ، كما أنّها لا تهدف إلى الجبر بل إلى الاختيار.

نعم هناك جملة من الآيات تدلّ على أنّ مشيئته الأزلية لم تتعلّق بهداية الكل ، قال سبحانه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) (١).

وقال سبحانه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (٢).

وقال سبحانه : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (٣).

وقال سبحانه : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٤).

وقال سبحانه : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (٥).

إنّ هذه الآيات ناظرة إلى الهداية الجبرية التي تسلب عن الإنسان الاختيار والحرية والقدرة على الطرف المقابل. ولما

__________________

(١). الأنعام : ٣٥.

(٢). الأنعام : ١٠٧.

(٣). يونس : ٩٩.

(٤). النحل : ٩.

(٥). السجدة : ١٣.

٢٧٤

كان مثل هذه الهداية الخارجة عن الاختيار ، منافية لحكمته سبحانه أوّلا ، وغير رافعة لمنزلة الإنسان ثانيا ، نفى سبحانه تعلّق مشيئته بها ، إذ لا قيمة للإيمان غير المكتسب والهداية الجبرية ، وانّما القيمة للإيمان الذي يكتسبه الإنسان بفكره واختياره ، كما أنّ القيمة للهداية التي يتبنّاها الإنسان باختياره.

هذا موجز القول في الآيات الواردة حول الهداية والضلالة ، ولا تحلّ عقدة هذه الآيات إلّا بالنظر إليها جملة واحدة ، وإلّا فالأخذ بآية واحدة وردت لبيان بعد خاص وتناسي سائر الآيات التي تصلح أن تكون قرينة على مفادها ، ليس تفسيرا واقعيّا للقرآن ، كيف والقرآن يفسّر بعضه بعضا؟!

٢٧٥

شبهات حول الاختيار

الشبهة الثانية

هل الحسنة والسيئة من الله أو من العبد؟

ربّما يتبادر إلى الذهن في بادئ النظر وجود الاختلاف في بيان القرآن في منشأ الحسنات والسيئات ، فقد اختلف بيانه ـ في بادئ النظر ـ في منشئهما.

فتارة ينقل عن المنافقين بأنّهم كانوا ينسبون الحسنة إلى الله والسيئة إلى النبي الأكرم تطيّرا بوجوده ، ثم يأخذ القرآن بردّه ، ويقول : إنّ كلّا منهما منه سبحانه.

قال تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (١).

فعلى ضوء هذه الآية تكون الحسنة والسيئة من الله ، ولكنّه

__________________

(١). النساء : ٧٨.

٢٧٦

في آية أخرى يفرّق بين الحسنة والسيئة ، فينسب الحسنة إلى الله والسيئة إلى الإنسان. يقول سبحانه بعد الآية المتقدمة : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١).

فكيف نجمع بين الآيتين مفادا؟

الجواب : إنّ المنافقين حسب ما ورد في الآية الأولى نسبوا الحسنة إلى الله ، والسيئة إلى النبي ، ولكن فراعنة عصر موسى تبنّت رأيا أشدّ بطلانا ممّا تبنّاه المنافقون ، حيث إنّهم نسبوا الحسنات إلى أنفسهم (مكان انتسابها إلى الله) والسيئات إلى نبيّهم الكليم ، قال سبحانه : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ* فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢).

والقرآن يعدّ تينك النظريتين خاطئة ، وناشئة من عدم معرفة ما عليه عالم الإمكان من انتساب جميع الحوادث (حلوها

__________________

(١). النساء : ٧٩.

(٢). الأعراف : ١٣٠ ـ ١٣١.

٢٧٧

ومرّها) إلى الله سبحانه ، وأن لا مؤثر في الوجود إلّا هو ، وأنّ كل ما في الكون من جواهر وأعراض وحركات وأفعال كلّها منتهية إلى الله سبحانه ، فليس في عالم الكون مؤثران مستقلان ، يؤثر أحدهما في الحسنة والآخر في السيئة ، والنظريتان مبنيتان على الشرك في الخالقية ، غير انّ المنافقين نسبوا الحسنة إلى الله والسيئة إلى النبي ، والفراعنة نسبوا الحسنات إلى أنفسهم والسيئات إلى نبيّهم.

والله سبحانه يردّ كلتا النظريتين ، أمّا نظرية المنافقين فيقول ردّا عليها : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) وأمّا نظرية الفراعنة من تطيّرهم بموسى ، وبالتالي نسبة السيئة إليه فيقول :

(أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) وانّه تعالى هو الذي يأتي بطائر البركة وطائر الشؤم من الخير والشر والنفع والضرر ، فلو عقلوا لطلبوا الخير والسلامة من الشر منه.

وعلى كل تقدير فالمراد من الحسنة والسيئة في الآيات ، هو السرّاء والضرّاء ، والبؤس والرخاء ، والنعمة والمصيبة ، والخصب والجذب ، والظفر والهزيمة ، والغنيمة والحرمان ، والموت والحياة ، فكلها أمور ممكنة ، وكل ممكن قائم بالله

٢٧٨

سبحانه ، متحقّق بإيجاده ، فلا يمكن أن ينتسب شيء إلى غيره سبحانه.

وهؤلاء المنافقون إنّما اخترعوا نظرية الشرك تعييرا بنبيهم وتضعيفا لعقول أتباعهم ، فجعلوا الحسنة منسوبة إلى الله والسيئة إلى نبيّهم ، ولم يكن الداعي لهذا التفريق إلّا التعيير بالنبي الأكرم ، كما أنّ الفراعنة ركبوا مركب الغرور فجعلوا أنفسهم مبادئ الحسنة ، ونبيّهم مبدأ السيئة. ولم يكن دافعهم إلى هذا التقسيم إلّا ازدارءهم بنبيهم ، ولكنهم لو كانوا موضوعيين في التفكير عارفين بالكون وما يجري فيه ، وانّ كل ممكن ينتهي إلى الواجب لرفضوا ذلك التقسيم ، ولنسبوا الأمور ، حسنها ونافعها ، سيّئها وضارّها إلى الله سبحانه.

إلى هنا تبيّن مفاد الآية الأولى وانّ مقتضى التوحيد في الخالقية والربوبية هو إنهاء كل شيء ممكن إلى الله سبحانه.

وأمّا الآية الثانية ، فنذكر قبل تفسيرها نكتتين :

الأولى : انّ محاسن بلاغة الآية انّه عدل سبحانه عن الخطاب إليهم ـ لأنّه وصفهم بأنّهم قوم لا يفقهون ـ إلى الخطاب إلى نبيه وقال : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)

٢٧٩

فلو كان القوم عارفين لوجّه الخطاب إليهم ، وقال ما أصابكم من حسنة ... وما أصابكم من سيئة ... ، فلأجل فقدانهم الفهم عدل عن مخاطبتهم إلى مخاطبة النبي ، ولكن ليس للنبي هناك خصوصية ، بل هو وجميع الناس بالنسبة إلى مفاد الآية الثانية سواسية.

الثانية : انّ الآية الثانية وردت بعد الآية الأولى ، فلا يمكن أن تحكم على خلاف الأولى ، فلا بد أن تكون في مفادها ناظرة إلى شيء آخر يتناسب مع مفاد الآية الأولى. وذلك انّ الآية الثانية تنسب الحسنة إلى الله والسيئة إلى الإنسان ، ولكن بملاك آخر غير الملاك الموجود في النسبة الأولى. وليس هذا الملاك إلّا ملاحظة المناشئ والمبادئ التي تجر النقمة إلى الإنسان ، فالسيئات لأجل وجودها الإمكاني ممكنة منسوبة إلى الله تبارك وتعالى ، وبما أنّ الإنسان بطغيانه في حياته وركوبه المعاصي والموبقات يستحق نزول البلاء ، فيصح ان تنسب السيئة إليه ، لأنّه هو الذي صار سببا لنزول القهر والهزيمة والمصيبة إليه. ولو لا أعماله السيئة ، وطغيانه ، لما نزلت الحوادث المؤلمة ، في الحرب والسلم ، وعلى ضوء ذلك فالسيئة بالمعنى الذي عرفته قابلة للملاحظة من جهتين ، بما أنّها حادثة ممكنة ، تنتهي إلى الله

٢٨٠