لبّ الأثر في الجبر والقدر

الشيخ جعفر السبحاني

لبّ الأثر في الجبر والقدر

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-27-4
الصفحات: ٣١٥

إلى العبد إذ لولاه ولو لا إرادته ، واختياره ، لما كان عن فعله أثر ، فالأكل والشرب ، والقتل والضرب ، عناوين لفعله ، تتحقّق بإعمال أعضائه فكيف يكون منفصلا عنه؟

هذا إجمال ما يسوقنا إليه البرهان العقلي ، ولكن بيان كيفية النسبتين ، يتوقف على إفاضة في الكلام حتى يتضح مفهومها.

فإنّ الأنظار في المقام مختلفة.

١. نسبة الفعل إلى الله بالتسبيب وإلى العبد بالمباشرة

إنّ كثيرا من علمائنا بيّنوا حقيقة الأمر بين الأمرين ، وخرجوا بهذه النتيجة : انّ نسبة فعل العبد إلى الله بالتسبيب وإلى العبد بالمباشرة ، فإنّ الله سبحانه وهب الوجود والحياة والعلم والقدرة ، لعباده وجعلها في اختيارهم ، وانّ العبد هو الذي يصرف الموهوب في أيّ مورد شاء فينسب الفعل إلى الله تعالى لكونه مفيض الأسباب ، وإلى العبد لكونه هو الذي يصرفها في أيّ مورد شاء ، والمثال الذي ذكره المحقّق الخوئي لتبيين النظريات الثلاث ، يبيّن هذه النظرية ، وإليك نصه :

لو فرضنا شخصا مرتعش اليد ، فاقد القدرة ، فإذا ربط رجل بيده المرتعشة سيفا قاطعا ، وهو يعلم أنّ السيف المشدود في

٢٤١

يده سيقع على آخر ويهلكه ، فإذا وقع السيف وقتله ، ينسب القتل إلى من ربط يده بالسيف ، دون صاحب اليد الذي كان مسلوب القدرة في حفظ يده.

ولو فرضنا أنّ رجلا أعطى سيفا لمن يملك حركة يده وتنفيذ إرادته فقتل هو به رجلا ، فالأمر على العكس ، فالقتل ينسب إلى المباشر دون من أعطى.

ولكن لو فرضنا شخصا مشلول اليد (لا مرتعشها) غير قادر على الحركة إلّا بإيصال رجل آخر التيّار الكهربائي إليه ليبعث في عضلاته قوّة ونشاطا بحيث يكون رأس السلك الكهربائي بيد الرجل بحيث لو رفع يده في آن ، انقطعت القوة عن جسم هذا الشخص في الحال وأصبح عاجزا. فلو أوصل الرجل تلك القوة إلى جسم هذا الشخص ، فذهب باختياره وقتل إنسانا ، والرجل يعلم بما فعله ، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كل منهما ، أمّا إلى المباشر فلأنّه قد فعل باختياره وإعمال قدرته ، وأمّا إلى الموصل فلأنّه أقدره وأعطاه التمكّن ، حتى في حال الفعل والاشتغال بالقتل ، كان متمكنا من قطع القوة عنه في كل آن شاء وأراد.

فالجبري يمثّل فعل العبد بالنسبة إلى الله تعالى كالمثال

٢٤٢

الأوّل ، حيث إنّ اليد المرتعشة فاقدة للاختيار ومضطرة إلى الإهلاك.

كما أنّ التفويضي يمثّل نسبة فعله إليه كالمثال الثاني ، فهو يصور أنّ العبد يحتاج إلى إفاضة القدرة والحياة منه سبحانه حدوثا لا بقاء والعلّة الأولى كافية في بقاء القدرة فيه إلى نهاية المطاف ، كما أنّه كان الأمر في المثال كذلك ، فكان الإنسان محتاجا إلى رجل آخر في أخذ السيف ، وبعد الحصول عليه انقطعت حاجته إلى المعطي.

والقائل بالأمر بين الأمرين يصور النّسبة كالمثال الثالث ، فالإنسان في كل حال يحتاج إلى إفاضة القوة والحياة منه إليه بحيث لو قطع الفيض في آن واحد بطلت الحياة والقدرة ، فهو حين الفعل يفعل بقوة مفاضة منه وحياة كذلك من غير فرق بين الحدوث والبقاء ـ إلى أن قال ـ : إنّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيتين ، إحداهما : نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره وإعمال قدرته ؛ وثانيتهما : نسبته إلى الله تعالى باعتبار أنّه معطي الحياة والقدرة في كل آن وبصورة مستمرة حتى في آن اشتغاله بالعمل. (١)

__________________

(١). المحاضرات : ٢ / ٨٧ ـ ٨٨ ، أجود التقريرات : ١ / ٩٠.

٢٤٣

غير أنّ المتألّهين من الإمامية لا يرضون بذلك البيان ، ويرون انّ النسبة أرفع من ذلك ، والاتصال الوثيق بين الواجب والممكن أشدّ مما جاء في هذا المثال ، ويبيّن موقفهم التمثيلان الآتيان :

أحدهما : ما ذكره معلم الأمّة الشيخ المفيد (٣٣٦ ـ ٤١٣ ه‍) ، على ما حكاه عنه العلّامة الطباطبائي في محاضراته ، ولم أقف عليه في كتب الشيخ المفيد ، وهو :

نفترض انّ مولى من الموالي العرفيين يختار عبدا من عبيده ويزوجه إحدى فتياته ، ثم يقطع له قطعية ويخصّه بدار وأثاث ، وغير ذلك ممّا يحتاج إليه الإنسان في حياته إلى حين محدود ولأجل مسمّى.

فإن قلنا : إنّ المولى وإن أعطى لعبده ما أعطى ، وملّكه ما ملّك ، لكنّه لا يملك ، وأين العبد من الملك ، كان ذلك قول المجبرة.

وإن قلنا : إنّ المولى بإعطائه المال لعبده وتمليكه ، جعله مالكا وانعزل هو عن المالكية ، وكان المالك هو العبد ، كان ذلك قول المعتزلة.

٢٤٤

ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين ، وقلنا : إنّ للمولى مقامه في المولوية ، وللعبد مقامه في الرقية ، وانّ العبد يملك في ملك المولى ، فالمولى مالك في حين انّ العبد مالك ، فهنا ملك على ملك ،

كان ذلك القول الحق الذي رآه أهل البيت عليهم‌السلام وقام عليه البرهان. (١)

وفي بعض الروايات إشارات رائعة إلى هذا التمثيل ، منها :

ما رواه الصدوق في «توحيده» عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قال الله عزوجل : «يا بن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد». (٢)

ترى أنّه يجعل مشيئة العبد وإرادته ، مشيئة الله سبحانه وإرادته ، ولا يعرّفهما مفصولتين عن الله سبحانه بل الإرادة في نفس الانتساب إلى العبد ، ولها نسبة إلى الله سبحانه.

__________________

(١). الميزان : ١ / ١٠٠ ، وقد أشار إلى هذا التنزيل في تعليقته على البحار ، لاحظ ج ٥ / ٨٣ ومعناه في درسه الشريف عام ١٣٦٨ ه‍ ق.

(٢). التوحيد : ٣٤٠ ، الحديث ١٠ باب المشيئة والإرادة ، ولاحظ بحار الأنوار كتاب العدل والمعاد ج ٦٢ و ٦٣ مع تعليقة العلّامة الطباطبائي على الأوّل.

٢٤٥

ثانيهما : ما ذكره صدر المتألّهين ، وقال ما هذا حاصله :

إذا أردت التمثيل لتبيين كون الفعل الواحد فعلا لشخصين على الحقيقة ، فلاحظ النفس الإنسانية ، وقواها ، فالله سبحانه خلقها مثالا ، ذاتا وصفة وفعلا ، لذاته وصفاته وأفعاله ، قال سبحانه : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (١) وقد أثر عن النبي والوصي القول بأنّه «من عرف نفسه ، عرف ربه» (٢).

إنّ فعل كل حاسة وقوة من حيث هو فعل تلك القوة ، فعل النفس أيضا. فالباصرة ليس لها شأن إلّا إحضار الصورة المبصرة ، أو انفعال البصر منها ، وكذلك السامعة ، فشأنها إحضار الهيئة المسموعة أو انفعالها بها ، ومع ذلك فكل من الفعلين ، كما هو فعل القوة ، فعل النفس أيضا ، لأنّها السميعة البصيرة في الحقيقة ، وليس شأن النفس استخدام القوى بل هو فوق ذلك. لأنّا إذا راجعنا إلى وجداننا نجد انّ نفوسنا بعينها الشاعرة في كل إدراك جزئي ، وشعور حسي ، كما أنّها المتحركة بكل حركة

__________________

(١). الذاريات : ٢٠ و ٢١.

(٢). غرر الحكم : ٢٦٨ ، طبعة النجف ، وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «أعلمكم بنفسه أعلمكم بربه» أمالي المرتضى : ٢ / ٣٢٩.

٢٤٦

طبيعية أو حيوانية منسوبة إلى قواها. وبهذا يتضح انّ النفس بنفسها في العين قوة باصرة وفي الأذن قوة سامعة ، وفي اليد قوة باطشة ، وفي الرجل قوة ماشية ، وهكذا الأمر في سائر القوى التي في الأعضاء ، فبها تبصر العين وتسمع الأذن وتمشي الرجل. فالنفس مع وحدتها وتجرّدها عن البدن وقواه وأعضائه ، لا يخلو منها عضو من الأعضاء عاليا كان أو سافلا ، ولا تبائنها قوة من القوى مدركة كانت أو محركة ، حيوانية كانت أو طبيعية.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم انّه كما ليس في الوجود شأن إلّا وهو شأنه ، كذلك ليس في الوجود فعل إلّا فعله ، لا بمعنى أن فعل زيد مثلا ليس صادرا عنه ، بل بمعنى انّ فعل زيد مع أنّه فعله بالحقيقة دون المجاز فهو فعل الله بالحقيقة. فكما أنّ وجود زيد بعينه أمر متحقّق في الواقع ، منسوب إلى زيد بالحقيقة لا بالمجاز ، وهو مع ذلك شأن من شئون الحق الأوّل ، فكذلك علمه وإرادته وحركته وسكونه وجميع ما يصدر عنه منسوب إليه بالحقيقة لا بالمجاز والكذب. فالإنسان فاعل لما يصدر عنه ومع ذلك ففعله أحد أفاعيل الحق الأوّل على الوجه اللائق بذاته

٢٤٧

سبحانه. (١)

هذا ما أفاده صدر المتألّهين من التمثيل عند تبيين حقيقة النظرية ، وفي بعض الأحاديث إشارة إليه روى الكليني في «الكافي» ، عن أبان بن تغلب ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «إنّ الله جلّ جلاله قال : «وما يتقرب إليّ عبد من عبادي بشيء أحب إليّ ممّا افترضت عليه ، وانّه ليتقرب إليّ بالنافلة ، حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته» (١).

إلى هنا تم تبيين التمثيل المبيّن لحقيقة النظرية ، فسواء أكان المختار هو البيان الأوّل المشهور بين الإمامية ، أم كان ما ذكره صدر المتألّهين ، فالتحقيق هو أنّ الفعل فعل الله وهو فعلنا ، إمّا بحديث التسبيب والاستخدام ، أو لأجل انّه لا يخلو شيء منه سبحانه ، قال سبحانه : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (٢) وقال سبحانه : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٣).

والله سبحانه من وراء وجود فعل الإنسان ومعه وبعده كالنفس بالنسبة إلى قواها وأفعالها ، وقال سبحانه : (وَلَهُ الْمَثَلُ

__________________

(١). الأسفار : ٦ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨ ، وص ٣٧٤.

(٢). وسائل الشيعة : ٣ / الباب ١٧ ، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، ح ٦.

(٣). الحديد : ٤.

(٤). ق : ١٦.

٢٤٨

الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١).

ثم إنّ القول بأنّ فعل العبد فعل الله سبحانه لا يصحح وصفه سبحانه بما يصدر من العبد كأكله وشربه ونكاحه ، وقد ذكرنا في مسفوراتنا ضابطة قيمة لتمييز ما يصح وصفه سبحانه به عما لا يصح وصفه به مع كون النسبة محفوظة في الجميع ، عند البحث في التوحيد في الخالقية ، فراجع. (٢)

بقي الكلام في الآيات والروايات التي يستنبط منها هذه النظرية بوضوح. وإليك بيانهما.

الأمر بين الأمرين في القرآن الكريم

إذا كان معنى الأمر بين الأمرين هو وجود النسبتين في فعل العبد : نسبة إلى الله سبحانه ، ونسبة إلى العبد من دون أن تزاحم إحدى النسبتين ، النسبة الأخرى ، فقد قرّره الكتاب العزيز ببيانات مختلفة :

١. انّه ربما ينسب الفعل إلى العبد وفي الوقت نفسه يسلبه عنه وينسبه إلى الله سبحانه يقول : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَ

__________________

(١). الروم : ٢٧.

(٢). لاحظ الإلهيات : ١ / ٣٩٩ و ٤٠٠.

٢٤٩

اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١).

ولا يصح هذا الإيجاب في عين السلب إلّا على الوجه الذي ذكرنا ، وهذا يعرب عن أنّ للفعل نسبتين وليست نسبته إلى العبد ، كلّ حقيقته وواقعه ، وإلّا لم تصح نسبته إلى الله كما أنّ نسبته إلى الله ليست خالصة (وإن كان قائما به تماما) بل لوجود العبد وإرادته ، تأثير في طروء عناوين عليه.

٢. نرى أنّ الذكر الحكيم ، ينسب الفعل في آية إلى العبد ، وفي آية أخرى إلى الله سبحانه ولا تصح النسبتان إلّا على ما ذكرنا.

قال سبحانه : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (٢).

وقال سبحانه : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) (٣).

والآيتان نازلتان في حق بني إسرائيل وهما في مقام الذم ، فلو لم يكن لهم دور في عروض القسوة إلى قلوبهم ، لم يصح ذمّهم بقسوتهم ، والآية الثانية يعرف مدى مدخليّتهم في توجه الذم إليهم وهو نقضهم ميثاقهم ، ولأجل ذلك جعل سبحانه

__________________

(١). الأنفال : ١٧.

(٢). البقرة : ٧٤.

(٣). المائدة : ١٣.

٢٥٠

قلوبهم قاسية لا يتأثرون بوعظ الأنبياء وإنذارهم ، ولا يكترثون من تحريف الدين وغيره ، والآيتان تعبّران عن دور العبد في مصيره وأنه سبحانه غبّ فعل العبد ، يعاقبه بلعنهم وجعل قلوبهم قاسية. وله نسبتان إلى العبد وإلى الله.

٣. إنّ هنا مجموعة من الآيات تعرّف الإنسان بأنّه فاعل مختار في مجال أفعاله ، وفي مقابلها مجموعة أخرى تصرّح بأنّ تأثير العلل في الكون كلّها بإذنه ومشيئته. فالمجموعة الأولى تناقض الجبر وتفنّده ، كما أنّ المجموعة الثانية تردّ التفويض وتبطله ، ومقتضى الجمع بين المجموعتين هو الأمر بين الأمرين ، وأنّ للفعل نسبة إلى العبد ، إذ هو باختياره يقوم بما يفعل أو يترك ، وفي الوقت نفسه ، يعمل بإذنه ومشيئته ولا يقع في سلطانه ما لا يريد ، وإن كان ما يريده واقعا عن طريق اختيار العبد.

وأليك نزرا من المجموعة الأولى :

١. قال سبحانه : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١).

__________________

(١). فصلت : ٤٦.

٢٥١

٢. قال سبحانه : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (١).

٣. قال تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) (٢).

٤. وقال سبحانه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٣).

٥. وقال سبحانه : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ)(٤).

٦. وقال تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٥).

إلى غير ذلك من الآيات المصرّحة باختيار الإنسان وحريته في مجال العمل.

وأمّا المجموعة الثانية التي ترى كل ظاهرة كونيّة واقعة بإذنه ومشيئته وانّ الإنسان لا يشاء لنفسه إلّا ما يشاء الله له ، وهي كثيرة نشير إليها :

منها قوله سبحانه : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٦).

ومنها قوله سبحانه : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(٧).

__________________

(١). الطور : ٢١.

(٢). النور : ١١.

(٣). النجم : ٣٩ ـ ٤١.

(٤). الكهف : ٢٩.

(٥). الإنسان : ٣.

(٦). التكوير : ٢٩.

(٧). الإنسان : ٣٠.

٢٥٢

ومنها قوله سبحانه : (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (١).

والجمع بين هذه الآيات ، يتحقّق بالقول بالأمر بين الأمرين ولا نعني بما ذكرناه أنّ بين الآيات تعارضا واختلافا ، كتعارض الروايات غاية الأمر أنّه يجمع بينهما ، بل المقصود انّ العالم الإمكاني وما يحدث فيه من أحداث ، مشتمل على نسبتين : نسبة إلى مؤثراتها ، ونسبة إلى بارئها وخالقها ؛ وكلامه سبحانه تارة ينتهي إلى بيان الأولى ، وأخرى إلى بيان الثانية وثالثة إلى بيان القسمين.

الأمر بين الأمرين في السنّة

ولقد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت ، وقد جمع الصدوق القسم الأوفر من الروايات في «توحيده» ، والعلّامة المجلسي في «بحاره» ونحن نذكر رواية واحدة ذكرها صاحب «تحف العقول» وهي مأخوذة عن رسالة كتبها الإمام الهادي عليه‌السلام في نفي الجبر والتفويض ، وممّا جاء فيها :

«فامّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ ، فهو قول من زعم انّ

__________________

(١). المدثر : ٥٦.

٢٥٣

الله جلّ وعزّ ، أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله في حكمه وكذّبه وردّ عليه قوله : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١) وقوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٢) وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٣) فمن زعم انّه مجبر على المعاصي ، فقد أحال بذنبه على الله ، وقد ظلمه في عقوبته ، ومن ظلم الله فقد كذّب كتابه ، ومن كذّب كتابه فقد لزمه الكفر باجماع الأمّة. ـ إلى أن قال ـ : فمن زعم انّ الله تعالى فوّض أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز ـ إلى أن قال ـ لكن نقول : إنّ الله عزوجل خلق الخلق بقدرته ، وملّكهم استطاعة ، تعبّدهم بها ، فأمرهم ونهاهم بما أراد ـ إلى أن قال ـ : وهذا القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض ، وبذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعي الأسدي حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم ويقعد ويفعل ، فقال له امير المؤمنين : سالت عن الاستطاعة ، تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية ، فقال له أمير المؤمنين : قل يا عباية ، قال: وما أقول؟. قال عليه‌السلام : إن قلت إنّك مع الله قتلتك ، وإن قلت تملكها دون الله قتلتك. قال عباية : فما أقول يا أمير

__________________

(١). الكهف : ٤٩.

(٢). الحج : ١٠.

(٣). يونس : ٤٤.

٢٥٤

المؤمنين؟ قال عليه‌السلام تقول : إنّك تملكها بالله الذي يملكها من دونك. فإن يملّكها إيّاك كان ذلك من عطائه ، وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه ، هو المالك لما ملكك ، والقادر على ما عليه أقدرك. (١)

وحاصل الرواية : أنّ تمليكه سبحانه لا يبطل ملكه فالمولى سبحانه مالك لجميع ما يملّكه في عين كونه ملكا للعبد.

ولقد اكتفينا بهذا المقدار من النصوص ولنعم ما قال الشهيد السعيد زين الدين العاملي :

لقد جاء في القرآن آية حكمة

تدمّر آيات الضلال ومن يجبر

وتخبر أن الاختيار بأيدينا

فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

رجوع الرازي إلى القول بالأمر بين الأمرين

إنّ فخر الدين الرازي (٥٤٣ ـ ٦٠٦ ه‍) ، مع كونه متعصبا في

__________________

(١). المصدر السابق كتاب العدل والمعاد ، الباب الثاني الحديث ١ ، ص ٧١ ـ ٧٥. وهذا الحديث يفسّر ما رواه المجلسي عن أبي إبراهيم موسى الكاظم عليه‌السلام برقم ٦١ ، ص ٣٩ ، من المصدر السابق نفسه.

٢٥٥

الذب عن مذهب الأشعري ، رجع إلى القول بالأمر بين الأمرين وقال :

«هذه المسألة عجيبة ، فإنّ الناس كانوا مختلفين فيها أبدا بسبب انّ ما يمكن الرجوع فيها إليها متعارضة ، فمعوّل الجبرية على أنّه لا بد لترجيح الفعل على الترك من مرجح ليس من العبد ، ومعوّل القدرية على أنّ العبد لو لم يكن قادرا على فعل ، لما حسن المدح والذم والأمر والنهي». ثم ذكر الله الطائفتين إلى أن قال : «الحق ما قال بعض أئمة الدين انّه لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ، وذلك انّ مبنى المبادئ القريبة لأفعال العباد على قدرته واختياره والمبادئ البعيدة على عجزه واضطراره ، فالإنسان مضطر في صوره مختار ، كالقلم في يد الكاتب ، والوتد في شق الحائط ، وفي كلام العقلاء قال الحائط للوتد : لم تشقني؟ فقال : سل من يدقّني. (١)

اعتراف شيخ الأزهر بصحة هذه النظرية

وممّن اعترف بالأمر بين الأمرين شيخ الأزهر في وقته ، الشيخ محمد عبده في رسالته حول التوحيد ، وقد أثّر كلامه في

__________________

(١). بحار الأنوار : ٥ / ٨٢. ولا يخفى انّه مع اعترافه ببطلان الجبر والتفويض في ثنايا كلامه لم يفسر نظرية الأمر بين الأمرين تفسيرا لائقا بها.

٢٥٦

الأجيال المتأخّرة من تلاميذ منهجه ومطالعي كتبه ، قال : «جاءت الشريعة بتقرير أمرين عظيمين ، هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية ، الأوّل : انّ العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته. والثاني : انّ قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات وأنّ من آثارها ما يحول بين العبد وإنفاذ ما يريده ، وان لا شيء سوى الله يمكن له أن يمدّ العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه.

وقد كلّفه سبحانه أن يرفع همته إلى استمداد العون منه وحده ، بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الفكر ، وإجادة العمل ، وهذا الذي قرّرناه قد اهتدى إليه سلف الأمّة فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأمم وعوّل عليه من متأخري أهل النظر إمام الحرمين الجويني رحمه‌الله ، وإن أنكر عليه بعض من لم يفهمه» (١).

وليس الشيخ عبده هو الفريد في الاعتراف بالمذهب الحق بل سبقه إمام الحرمين والشيخ الشعراني مؤلّف «اليواقيت» ، والشيخ عبد العظيم الزرقاني المصري والشيخ شلتوت ، إلى غير هؤلاء ممّن ذكرنا نصوصهم في كتابنا «بحوث في الملل والنحل» (٢).

__________________

(١). رسالة التوحيد : ٥٩ ـ ٦٢ بتلخيص.

(٢). راجع الجزء الثاني : ١٤١ ـ ١٥٢.

٢٥٧

خاتمة المطاف

قد تعرّفت على مناهج الجبر والاختيار ، وأوضحنا لك ما هو مقتضى البرهان ونصوص الكتاب العزيز والسنّة الصحيحة.

غير انّ رفع الشبهات وقلع جذورها ، رهن الإجابة على الأسئلة التالية :

١. إذا كان الإنسان مختارا في أفعاله وفيما يثاب ويعاقب ، فما معنى كون الهداية والضلالة بيد الله فهو يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء حسب ما تواترت به الآيات؟

٢. إذا كان الإنسان مختارا فما معنى انّ الحسنات والسيئات من الله سبحانه كما هو ظاهر قوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١).

٣. إذا كان الإنسان مختارا في مصيره ، فما معنى تقسيم الناس إلى السعداء والأشقياء في بطون أمهاتهم؟

٤. إذا كان الإنسان مختارا ، فما معنى التقدير الذي يفرض الفعل على الإنسان ، ويخطّ طريقه ومثله القضاء؟

٥. إذا كان الإنسان مختارا ، فما معنى أخبار الطينة الّتي جمعها

__________________

(١). النساء : ٧٨.

٢٥٨

السيد عبد الله بشرّ في كتابه «مصابيح الأنوار في مشكلات الأخبار»؟

٦. إذا كان الإنسان رهن عمله وسعيه ، فهل يصح البخت والاتفاق والصدفة الذي يعول عليها الناس في حياتهم؟

٧. إذا كان مصير الإنسان بيده ، فكيف يفسّر الموت الاخترامي ، أيّ الموت بالحوادث. الخارجة عن اختيار الإنسان بالحرق والغرق والهدم والقصف؟

٨. دلّت الآيات القرآنيّة على أنّه سبحانه يختم على القلوب ، ويطبع عليها وبذلك يصدّ باب الهداية ، فكيف يجتمع هذا ، مع اختيار العباد؟

إلى غير ذلك من الأسئلة المطروحة في مجال أفعال الإنسان ، من حيث الجبر والاختيار ، وسوف نجيب على قسم كبير من هذه الأسئلة بفضله وكرمه. ويظهر حال البعض الآخر ممّا ذكر جوابه.

٢٥٩
٢٦٠