لبّ الأثر في الجبر والقدر

الشيخ جعفر السبحاني

لبّ الأثر في الجبر والقدر

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-27-4
الصفحات: ٣١٥

كلامه هو فعله ، واستشهدوا عليه ببعض الآيات والروايات ، قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «يخبر لا بلسان ولهوات ، ويسمع لا بخروق وأدوات ، يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفظ ، ويريد ولا يضمر ، يحب ويرضى من غير رقة ، ويبغض ويغضب من غير مشقة ، يقول لمن أراد كونه كن فيكون ، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع ، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله ، ولم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا» (٢).

وما ورد عنه عليه‌السلام يبيّن نوعا من كلامه والنوع الاخر منه ايجاد الكلام في الشجر والجبل.

وحاصل تلك النظرية أنّ وصفه سبحانه بكونه متكلّما ، بمعنى قيام الكلام به قياما صدوريا لا حلوليا ، كما أنّ إطلاقه علينا كذلك ، إلّا أنّ الفرق أنّ إيجادنا بالآلة دونه تعالى ، فالله سبحانه يخلق الحروف والكلمات في الحجر والشجر أو نفوس الأنبياء بلا آلة فيصحّ وصفه بالتكلّم.

__________________

(١). لقمان / ٢٧.

(٢). نهج البلاغة ، الخطبة ١٨١ ، ج ٢ / ١٤٦ ، ط عبده.

٢١

أقول : الكلام في وصفه سبحانه بفعل يصلح ان يصدر عنه بلا توسّط شيء ، ومن الواضح أنّ العقل دلّ على امتناع وصفه سبحانه بهذا الملاك ، فإنّ الكلام أمر حادث متدرّج متصرّم ، والتصرّم والتجدّد نفس ذاته ، وجلّ جنابه أن يكون مصدرا لهذا النوع من الحدث بلا واسطة ، لأنّ سبب الحادث حادث كما برهن عليه في الفن الأعلى في مسألة ربط الحادث بالقديم ، فكيف تكون ذاته القديمة البسيطة الثابتة مبدأ لموجود حادث متصرّم متجدّد؟!

وبذلك يظهر أنّه لا يصح وصفه بالتكلم بهذا الملاك ، لأنّ الكلام في وصفه سبحانه بما يصحّ صدوره عنه بلا توسيط ، والمتجدّد بما هو متجدّد لا يصحّ صدوره عنه بلا واسطة.

نعم يمكن إيجاد الكلام المتصرّم في الشجر والحجر والنفس النبويّة لكنّه بحاجة إلى توسّط شيء آخر كما هو الحال في صدور كافة الموجودات الطبيعية التي جوهرها التصرّم والتجدّد. (١)

__________________

(١). يلاحظ عليه : أنّه لو تمّ ما ذكره (دام ظله) يلزم عدم صحة وصفه بالخالق والمبدع والمحيي والرزّاق والرحيم والغافر مع أنّها من أسمائه سبحانه وصفاته في الذكر الحكيم والأحاديث والأدعية ، ويمكن دفع الإشكال بأنّ حمل كل صفة منتزعة من فعله عليه سبحانه لأجل خصوصية موجودة في ذاته التي تصحّح صدور هذه (الأفعال عنها ، فالفاعل باشتماله على تلك الخصوصية يصحّ حمل كل ما يصدر عنه ، عليه ووصفه بها سواء كان الصدور بلا واسطة كالعقول ، أو مع الواسطة كخلق السموات والأرض وإبداعها وإنشائها.

ومن هذا القبيل إيجاده الكلام في الجبل والشجر والنفس النبويّة.

٢٢

وأمّا ما هو معنى نزول الوحي وإنزال الكتب على الأنبياء والمرسلين ، فهو من العلوم البرهانية التي قلّما يتّفق لبشر أن يكشف مغزاها؟ فالبحث عنه متروك لأهله ومحلّه.

إذا وقفت على عقيدة المعتزلة في نفي الكلام عنه سبحانه ، فحان حين البحث عمّا عليه الأشاعرة.

٢٣

نظرية الأشاعرة في تكلّمه سبحانه

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ التكلّم من صفات الذات لا من صفات الفعل ، وفسّروا كلامه بالكلام النفسي وبالمعنى القائم بذاته في الأزل.

الكلام النفسي عندهم غير العلم في الأخبار ، وغير الإرادة والكراهة في الإنشاء. ففي الجمل الخبرية مثل قولك : زيد قائم ، أمور ثلاثة :

أ ـ الكلام اللفظي.

٢٤

ب ـ المدلول اللفظي (من التصوّر والتصديق).

ج ـ الكلام النفسي.

وفي مثل الإنشائيات كقولك : كل ، أو لا تشرب الخمر ، أمور ثلاثة :

أ ـ الكلام اللفظي.

ب ـ المدلول اللفظي (الإرادة والكراهة).

ج ـ الكلام النفسي.

والحاصل أنّهم اعتقدوا أنّ في جميع الموارد معنى قائما بالنفس غير المدلول ، من دون فرق بين الجمل الخبرية أو الإنشائية ، وأطلقوا عليه : الكلام النفسي ، بيد أنّهم خصّصوا باب الأوامر باسم خاص وأسموه : الطلب ، فالإرادة مدلول لفظي والطلب كلام نفسي ، وبذلك ذهبوا إلى مغايرة الإرادة والطلب.

ومن هنا ظهر منشأ عنوان هذه المسألة أي وحدة الإرادة والطلب أو مغايرتهما ، فإنّها نتيجة القول بالكلام النفسي المغاير للمدلول اللفظي في الإخبار (التصديق) والإنشاء (الإرادة والكراهة).

ثم إنّهم عجزوا عن تفسير الكلام النفسي على وجه يجعله مغايرا للعلم في الإخبار والإرادة والكراهة في الإنشاء ، ومع ذلك أصرّوا على وجود ذلك الأمر في كل متكلّم من غير فرق بين الواجب والممكن ، إلّا أنّه في الواجب قديم وفي الممكن حادث.

وقد استدلّوا على ذلك بوجوه :

٢٥

أدلّة الأشاعرة على وجود الكلام النفسي :

إنّ الإنسان قد يأمر بما لا يريده كامتحان عبده وإنّه هل يطيعه أو لا؟ فالمقصود هو الاختبار فحسب ، فثمة طلب دون إرادة. (١)

وبعبارة أخرى : إنّ صدور الأوامر الامتحانية يتوقّف على وجود مبدأ في النفس تترشّح منه ، وبما أنّه ليس هناك مبدأ باسم الإرادة ، فلا يصلح له إلّا الطلب القائم بالنفس ، وهو الكلام النفسي في مورد الإنشاء.

والجواب : أنّ البحث عن حقيقة الإرادة ومبدئها موكول إلى الفن الأعلى ، والذي يناسب ذكره في المقام هو ما يلي :

إنّ كل فعل اختياري ، مسبوق بالتصوّر ثم التصديق بفائدة وغاية ، إذ لا يتصوّر صدور الفعل بلا غاية ، كيف ، وهي من العلل

__________________

(١). شرح المواقف : ٢ / ٤٩.

٢٦

الأربعة : وربما يتمسّك في نفيها بالأفعال العبثية ، ولكنّه استدلال باطل ، لأنّ المنتفي فيها هو الغايات العقلائية ، لا الغايات المسانخة للأفعال الجزافية.

فإذا حصل التصديق بفائدة الفعل فتارة تجدها النفس ملائمة لطبعها فتشتاق إليه لأجل الفائدة وكثرة الحاجة ، يعقبها تجمّع (١) وتصميم من قبل النفس فتحرك الأعضاء نحو الفعل.

وأمّا إذا لم تجده النفس ملائما لطبعها فلا تتحرك نحوه ، لكن لو حكم العقل بصلاح الفعل فتعزم بلا اشتياق ، كشرب الدواء المرّ ، أو قطع اليد الفاسدة.

وبهذا يعلم أنّ الشوق ليس من مبادئ الاختيار والإرادة ، على وجه الاطلاق فالأوامر الصوريّة والحقيقية بما أنّها من الأفعال الاختيارية رهن سبق أمور منها :

التصور والتصديق بالفائدة والشوق ، والتصميم والجزم ، فالبعث ، غير أنّهما يختلفان في الغاية.

توضيحه : أنّه لا فرق بين الأوامر الامتحانية في أنّ الهيئة في كلا الموردين مستعملة في البعث نحو الشيء وإنّما الاختلاف

__________________

(١). الجمع بمعنى العزم ، والتجمّع الحالة الخاصة في النفس يستتبعه تحريك العضلات لا محالة.

٢٧

في الغاية ، فهي في الأولى عبارة عن تحصيل ما يترتّب على وجود الفعل من فوائد وعوائد ، ولكنّها في الثانية تحصيل العلم بحال العبد من خير وصلاح أو شرّ وفساد ، والاختلاف في الغاية لا يكون منشأ للاختلاف في استعمال الهيئة ومدلولها.

وأمّا الإرادة فإن أراد الأشعري من انتفائها في الأمر الامتحاني عدم تعلّقها بوقوع الفعل خارجا ، فهو أمر مسلّم ، من غير فرق بين الأوامر الصورية والأوامر الحقيقية ، فإنّه يمتنع تعلّق الإرادة على فعل الغير بما هو خارج عن سلطان المريد.

وإن أراد انتفاء تعلّق الإرادة بالبعث الذي يستفاد من التلفظ بلفظ الأمر ، فلا نسلّم انتفاءها ، وذلك لأنّ البعث فعل اختياري فلا بد أن تسبقه الإرادة بمبادئها.

وحصيلة الكلام أنّه لو أراد من انتفاء الإرادة ، الإرادة المتعلّقة بفعل الغير ، فهي منتفية في كلا القسمين ، لأنّ إرادة الإنسان لا تتعلّق إلّا بفعل نفسه لا بفعل الغير ، لأنّه خارج عن سلطانه.

وإن أراد من انتفائها ، الإرادة المتعلّقة بالبعث والزجر اللّذين يعدّان من فعل الفاعل ، فالإرادة موجودة في كلا المقامين ، كيف! والبعث والزجر فعلان اختياريان يوصفان به ، ولا يصحّ

٢٨

الوصف إلّا بمسبوقيتهما بالإرادة.

ثم إن المحقق الخراساني أجاب عن الإشكال ـ وقسّم الإرادة والطلب ـ بعد الحكم بوحدتهما ـ إلى قسمين : حقيقية وإنشائية ، فقال بوجودهما حقيقة في الأوامر الحقيقية ، وبعد مهما حقيقة في الأوامر الاختبارية ، وبوجودهما فيهما إنشاء.

وقد أشار إلى هذا الجواب بقوله «فإنّه كما لا إرادة حقيقة في الصورتين (صورتي الاختبار والاعتذار) لا طلب كذلك فيهما ، والذي يكون فيهما إنّما هو الطلب الإنشائي الايقاعي الذي هو مدلول الصيغة أو المادة (١).

يلاحظ عليه بأمرين : الأوّل : أنّ الإرادة من الأمور التكوينية الحقيقية ، ولا تقع مثل هذه الأمور في إطار الإنشاء ، وإنّما يتعلّق الإنشاء بالأمور الاعتبارية ، فتقسيم الإرادة إلى حقيقية وإنشائية ليس بتام.

الثاني : قد عرفت وجود الإرادة الحقيقية في الصورتين ، وهو تعلّقها حقيقة بالبعث والطلب ، وإن لم تتعلّق بنفس الفعل الخارجي ، الذي هو خارج عن سلطان الأمر.

__________________

(١). كفاية الأصول ، ١ / ٩٦.

٢٩

إكمال :

ما ذكرنا من أنّ تعلّق الإرادة بشيء فرع وجود الغاية فيه ، لا يهدف إلى لزوم وجود غاية زائدة على الذات مطلقا بل أعم منها ومن غيرها ، فالغاية في المريد الممكن هي التي تناسب مقام الفعل ومرتبته فهي زائدة عليها ، وإنّما ارادته سبحانه تعلّقت بإيجاد الأشياء أو ببعث الناس إلى أفعال خاصة ، فالغاية هي ذاته لا شيء خارج عنها ، لما حقّق في محلّه من أنّ العلّة الغائية ، هي ما تقتضي فاعلية الفاعل ، وتؤثر فيه وتخرجه عن مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل ، على وجه لو لا الغاية لما كانت مصدرا للفعل.

والغاية بهذا المعنى تستحيل على الله سبحانه ، بأن يريد إيجاد شيء أو بعث الناس نحو شيء لغاية خارجة عن ذاته مكمّلة لها في مقام الإيجاد والإنشاء ، لأنّ كل فاعل يفعل لغرض غير ذاته ، فهو فقير مستفيض محتاج إلى ما يستكمل به ، وهو يناسب الفقر والإمكان ، لا الغنى والوجوب.

أضف إليه أنّه لو كان لفعله سبحانه في مجال التكوين والتشريع غاية وراء ذاته لزم تأثيرها فيها ، وهو يلازم كون الذات حاملة للإمكان الاستعدادي ، فيخرج بحصول الغاية عن مرحلة الاستعداد إلى مرحلة الفعلية ، فيكون مركّبا من مادة

٣٠

وصورة ، وهو يلازم التركيب والتجسيم والجهة ، إلى غير ذلك من النواقص.

الدليل الثاني للأشاعرة :

استدلّت الأشاعرة على تغاير الطلب والإرادة ـ لغاية إثبات الكلام النفسي في الإنشاءات ـ بأنّ العصاة كافرين كانوا أم مسلمين ، مكلّفون بما كلّف به أهل الإيمان ، لأنّ استحقاق العقاب فرع وجود التكليف ، ومن المعلوم أنّ التكليف الحقيقي فرع وجود مبدأ مثبت له ، وعندئذ يقع الكلام فيما هو المبدأ للتكليف ، أهي الإرادة أم الطلب.

فإن قيل بالأوّل ، يلزم تفكيك مراده سبحانه عن إرادته ، وهو محال ، وإن قيل بالثاني فهو المطلوب. فثبت أنّ وراء الإنشائيات أمرا نفسانيا باسم الطلب غير الإرادة وهو المصحّح لتكليف العصاة.

وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بالتفريق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية ، بأنّ امتناع التفكيك يختصّ بالأولى دون الثانية.

يلاحظ عليه : بما ذكرنا من أنّ الإرادة من الأمور التكوينية ،

٣١

ولها حكم واحد ، فإن كان التفكيك ممتنعا ، فلا فرق حينئذ بين التكوينية والتشريعية ، وإلّا فيجوز في كلا الموردين.

والجواب : أنّ الإرادة في جميع المصاديق غير منفكّة عن المراد ، غير أنّه يجب تمييز المراد عن غيره ، ففي غير مقام البعث تتعلق إرادته سبحانه بالإيجاد والتكوين فلا شك أنّ تعلّقها به يلازم تحقّق المراد ، قال سبحانه : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

وأمّا في مقام البعث فتتعلّق إرادته بنفس البعث والطلب وهو أمر متحقّق لا ينفك عنه ، وقد تقدم أنّ إرادة الفاعل لا تتعلّق إلّا بفعل نفسه لا بفعل غيره ، لأنّ فعل الغير خارج عن سلطانه فكيف تتعلّق به؟

هذه بعض ما استدلّ به الأشاعرة على مغايرة الطلب والإرادة ، ولهم أدلّة أخرى ، فمن أراد فليرجع إلى كتبهم الكلامية. (٢)

هذا بعض الكلام حول اتّحاد الطلب والإرادة استعرضناه

__________________

(١). يس / ٨٢.

(٢). لاحظ شرح المواقف للسيد الشريف على مواقف العضدي ، شرح القوشجي على تجريد المحقق الطوسي ، وقد أوضحنا حال أدلّتهم في الإلهيات : ١ / ١٩٧ ـ ٢٠٤.

٣٢

ليكون مقدمة لمسألة الجبر والتفويض.

إذا عرفت هذه الامور الاربعة التي ذكرناها تحت عنوان المقدمة ، اعلم ان لكلّ من الجبر والتفويض مباني مختلفة وهذا هو الذي سنتناوله في الفصل اللاحق :

٣٣
٣٤

الفصل الثاني

مباني

الجبر والتفويض

وابطالهما

٣٥
٣٦

ربما يغترّ الإنسان ويزعم أنّ اختلاف المنهجين يختصّ بفعل الإنسان وعمله ، وأنّ الأشعري يسند جميع أفعال الإنسان إلى الله سبحانه دون الفاعل ، والمعتزلي ينسبه إلى نفس الفاعل الاختياري دون الله سبحانه ، ولكن التحقيق أنّ كلا القولين مبنيان على منهجين مختلفين في عامة العلل.

فالأشعري لا يعترف بمؤثر في دار الوجود غيره سبحانه ، ويعتقد بأنّه المؤثّر التام وليس لغيره من العلل أيّ دور فيه ، وعلى ذلك ينسب شروق الشمس ونور القمر وبرودة الماء وإحراق النار إلى الله سبحانه وأنّه جرت عادته على خلق الآثار بعد خلق موضوعاتها ولا صلة بينها وبين آثارها لا استقلالا ولا تبعا.

وعلى ذلك المنهج أنكر قانون العلّية والمعلولية في عالم

٣٧

الإمكان واعترف بعلّة واحدة ، وهو الله سبحانه ، حتى صرّحوا بأنّ استنتاج الأقيسة من باب العادة والاتفاق ، فإذا قال القائل : الإنسان حيوان وكل حيوان جسم ، فلا ينتج قولنا كل إنسان جسم إلّا بسبب جريان عادته سبحانه على حصول النتيجة عند حصول المقدّمات فلولاها لما أنتج.

وفي مقابل هذا المنهج منهج المفوّضة ، الذين هم على جانب النقيض من عقيدة الأشاعرة حيث اعترفوا بقانون العليّة والمعلولية بين الأشياء لكن على نحو التفويض ، بمعنى أنّه سبحانه خلق الأشياء وفوّض تأثيرها إلى نفسها من دون أن يكون له سبحانه دور في تأثير العلل والأسباب.

وبعبارة أخرى : هذه الموضوعات والعلل الظاهرية ، مستقلّات في الايجاد غير مستندات في تأثيرها إلى مبدأ آخر ، والله سبحانه بعد ما خلقها وأفاض الوجود عليها انتهت ربوبيته بالنسبة إلى الأشياء ، فهي بنفسها مديرة مدبرة مؤثّرة.

إنّ الأشعري إنّما ذهب إلى ما ذهب ، لحفظ أصل توحيديّ هو التوحيد في الخالقية ، فبما أنّه لا خالق إلّا الله سبحانه لذا استنتج منه أنّه لا مؤثر اصلّيا ولا ظلّيا ولا تبعيا إلّا هو.

٣٨

ولكن المعتزلي أخذ بمبدإ العدل في الله سبحانه ، وزعم أنّ إسناد أفعال العباد إلى الله سبحانه ينافي عدله وحكمته ، فحكم بانقطاع الصلة وأنّ الموجودات مفوّض إليها في مقام العمل.

فالمنهج الأوّل ينتج الجبر والثاني ينتج التفويض ، والحق بطلان كلا المنهجين. وأليك ابطال منهج التفويض أوّلا ، ثم منهج الجبر ثانيا.

٣٩

إبطال التفويض :

إنّ نظرية التفويض ، عبارة عن أنّ كلّ ظاهرة طبيعية بل كل موجود إمكاني سواء أكان ماديا أم غيره محتاج في وجوده وتحقّقه إلى الواجب دون أفعاله وتأثيره في معاليله ، بل هو في مقام التأثير مستغن عن الواجب ومستقلّ في التأثير.

أقول : هذه هي نظرية التفويض على وجه الإيجاز وهي مردودة لوجهين :

الأوّل : إنّه من المقرر في محلّه «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» والمراد من الوجوب هو انسداد جميع أبواب العدم على وجهه بحيث يكون أحد النقيضين (العدم) ممتنعا والنقيض الآخر واجبا. فما لم يصل المعلول إلى هذا الحدّ ، لا يرى نور الوجود ، كما لو افترضنا أنّ علة الشيء مركبة من أجزاء خمسة ، فوجود المعلول رهن وجود جميع هذه الأجزاء، كما

٤٠