لبّ الأثر في الجبر والقدر

الشيخ جعفر السبحاني

لبّ الأثر في الجبر والقدر

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-27-4
الصفحات: ٣١٥

الثانية : الاستغناء في جانب الفعل مع أنّ الفعل ممكن مثل الذات.

٥. الاستغناء في الفعل مستلزم للاستغناء في الذات

إنّ الإنسان يوم ولد كان إنسانا مجرّدا عن أيّ ملكة صناعية أو علمية أو أخلاقية ، لكنّه في ظل الممارسة والتمرين والتعلّم ، يكتسب ملكات مختلفة ، في مجالات الصنعة والعلم والقيم ، وتكون راسخة في ذاته ، فيكون الإنسان هو الحيوان المفكّر صاحب الملكات المتنوعة والّتي لا تكون خارجة عن ذاته.

فاذا كان الفعل ، غير مستند إلى الواجب ، تكون الذات المتحصل من تكرّر الفعل غير مستند إلى الواجب سبحانه ، ومعنى هذا هو الاستغناء عن الواجب ذاتا وفعلا وهو خلف ، وإليه يشير الحكيم السبزواري في منظومته ويقول :

وكيف فعلنا إلينا فوّضا

وإن ذا تفويض ذاتنا اقتضى

إذ خمّرت طينتنا بالملكة

وتلك فينا حصلت بالحركة

وقال في شرحه : إذ الملكات انّما تحصل من تكرّر الأفعال ، والحركات نفسانية كانت أو بدنية ، والمفروض انّ تلك الأفعال والحركات مفوّضة إلينا وحقائق ذواتنا وهوياتنا ليست إلّا

٢٢١

الملكات العلمية أو العملية ، ولأجل انّه ما لم يستحكم ملكاتنا لم يتم تخمير ذواتنا ... (١)

٦. القول بالتفويض يلازم الشرك

انّ القول بالتفويض يستلزم الشرك ، أيّ الاعتقاد بوجود خالقين مستقلين ، أحدهما : العلّة العليا ، التي أحدثت الموجودات والكائنات والإنسان ؛ والأخرى : الإنسان ، فإنّه يستقل بعد الخلقة والحدوث ، في بقائه أوّلا وتأثيراته ثانيا.

ثم إنّ القوم استدلوا على المسألة العقلية (غناء الممكن في بقائه عن العلّة) بالأمثلة المحسوسة ، منها : بقاء البناء والمصنوعات بعد موت البناء والصانع ، ولكن التمثيل في غير محلّه ، لأنّ البنّاء والصانع فاعلان للحركة ، أيّ ضم بعض الأجزاء إلى بعض ، والحركة تنتهي بانتهاء عملهما فضلا عن موتهما. وأمّا بقاء البناء والمصنوع فهو مرهون للقوى الموجودة فيهما ، فإنّ البناء يبقى بفضل القوى الطبيعية الكامنة فيه ، التي أودعها الله سبحانه في صميم الأشياء فليس للبنّاء والصانع فيها صنع ، وأمّا الهيئة والشكل فهما نتيجة اجتماع أجزاء صغيرة ، فتحصل من

__________________

(١). الحكيم السبزواري : شرح المنظومة : ٢٧٥.

٢٢٢

المجموع هيئة خاصة وليس لهما فيها أيضا صنع.

تمثيلان لإيضاح الحقيقة

الحق انّ قياس المعقول بالمحسوس الذي ارتكبه المفوّضة قياس غير تام ، ولو أراد المحقّق ارتكاب هذا القياس فعليه أن يتمسّك بالمثالين التاليين.

الأوّل : انّ مثل الموجودات الإمكانية بالنسبة إلى الواجب ، كمثل المصباح الكهربائي المضيء ، فالحس الخاطئ يزعم انّ الضوء المنبعث من هذا المصباح هو استمرار للضوء الأوّل ، ويتصوّر انّ المصباح انّما يحتاج إلى المولّد الكهربائي في حدوث الضوء ، دون استمراره.

والحال انّ المصباح فاقد للإضاءة في مقام الذات محتاج في حصولها إلى ذلك المولّد في كل لحظة ، لأنّ الضوء المتلألئ من المصباح انّما هو استضاءة بعد استضاءة ، واستنارة بعد استنارة من المولّد الكهربائي.

أفلا ينطفئ المصباح إذا انقطع الاتصال بينه وبين المولّد؟ فالعالم يشبه هذا المصباح الكهربائي تماما ، فهو لكونه فاقدا للوجود بالذات يحتاج إلى العلّة في حدوثه وبقائه ، لأنّه يأخذ

٢٢٣

الوجود آنا بعد آن ، وزمانا بعد زمان.

الثاني : نفترض منطقة حارة جافّة تطلع عليها الشمس بأشعتها المحرقة الشديدة. فإذا أردنا أن تكون تلك المنطقة رطبة دائما بتقطيره الماء عليها ، وإفاضته بما يشبه الرذاذ (١) ، فانّ هذا الأمر يتوقف على استمرار تقاطر الماء عليها ، ولو انقطع لحظة ، ساد عليها الجفاف وصارت يابسة.

فمثل الممكن الذي يوصف بالوجود باستمرار ، مثل هذه الأرض الموصوفة بالرطوبة دائما ، فكما أنّ الثاني رهن استمرار إفاضة قطرات الماء عليها آنا بعد آن ، فهكذا الأوّل لا يتحقّق إلّا باستمرار إفاضة الوجود عليه آنا بعد آن ، ولو انقطع الفيض والصلة بينه وبين المفيض لانعدم ولم يبق منه أثر.

__________________

(١). الرذاذ : المطر الضعيف.

٢٢٤

مناهج الاختيار

٢

الاختيار لدى الوجوديين

الاختيار على النحو الذي يقول به الوجوديّون في الغرب يقوم مقام تفويض المفوضة في الشرق ، غير انّ الداعي لاختراع المسلكين مختلف ، فذهبت المفوّضة إلى التفويض لكن بصورة ردّ فعل للقول بالجبر الرائج بين أهل الحديث ، الموروث من اليهود ، والغاية هو حفظ عدله سبحانه ؛ ولكنّ الوجوديّين سلكوا ذلك المسلك بصورة رد فعل للجبري المادي الذي يزعم انّ شخصية الإنسان تصاغ في ظل عوامل ثلاثة ، قسم منها يرجع إلى ما قبل ميلاده ، وقسم منها يرجع إلى ما بعد وجوده ، فيفرض أثره عليه ، فهو بالنتيجة مكتوف اليد ، في مقابل تأثيراتها.

وممّن رفع علم الاختيار في الغرب ونفى الجبر الفيلسوف

٢٢٥

الفرنسي جان بول سارتر (١٩٠٥ ـ ١٩٩٠ م) لكن لغايات سياسية ، ومع أنّ أغلب الوجوديّين مادّيون ، لكنهم في نظريتهم هذه في صراع دائم مع طائفتين ، هما :

١. الإلهيون القائلون بالقدر والعلم الأزلي المدّعون أنّ مصير الإنسان في الحياة الدنيوية قد خطّ من قبل ، فلا محيص من المشي عليه ، ولا يسوغ له أنّ يتجاوز عنه قيد أنملة.

٢. نظراؤهم المادّيون الماركسيون الذين يزعمون انّ شخصية الإنسان حصيلة عوامل ثلاثة ، على الوجه الذي عرفته.

لكن صراعهم مع الإلهيّين لا ينحصر في نفي القضاء والقدر ، بل لهم صراع آخر في الأمور الفطرية والميول والغرائز الذاتية العالية ، كالميل إلى ما وراء الطبيعة ، والنزوع إلى الخير والمعروف ، أو الميل إلى الأمور السافلة كحبّ النفس والمال ، من الأمور التي فطر بها الإنسان وعجّنت ذاته بها.

وحاصل مسلكهم :

انّ وجود الإنسان متقدّم على طبيعته وماهيته ، فهو يتكون بلا ماهية ، ويتولّد بلا قيد. ثم إنّه بفعله وعمله في ظل إرادته واختياره ، يصنع لنفسه شخصية. وعلى ذلك فما اشتهر من

٢٢٦

وجود الميول والغرائز في الوجود الإنساني التي تضفي على وجود الإنسان لونا وصبغة ، وتوجد فيه انحيازا إلى نقطة وتمايلا إلى شيء ليس بصحيح ، لأنّ الاعتراف بوجود هذه الغرائز ، سواء أكانت علوية أم سفلية يزاحم اختياره وحريته ، ويسلب منه الحرية التامة والتساوي بالنسبة إلى كل شيء.

فلأجل الحفاظ على حرية الإنسان وكونه موجودا فعالا بالاختيار ، وحرّا في الانتخاب يجب إنكار كل عقيدة مسبقة (يريد نفي القضاء والقدر) ، وكل مصير يجعله مسيّرا. وهذا هو المراد مما اشتهر منهم بأنّ الإنسان يتكون بلا ماهية. (١)

الخلط بين الماهيتين : العامة والخاصة

إنّ وسائل الإعلام تكيل لمدعم هذا المسلك بصاع كبير وتثني عليه وتجعله في القمة من المفكّرين ، لكن يلاحظ على تلك النظرية بأمرين :

الأوّل : انّ هؤلاء لم يقيموا على مدّعاهم أيّ دليل ، وانّما قالوا : إنّ الصيانة على حرية الإنسان في الحياة تتوقف على إنكار أيّ ماهية مسبّقة على عمله ، وهو أشبه بصنع الدليل بعد انتخاب

__________________

(١). عصر التجزئة والتحليل : ١٢٥.

٢٢٧

المدعى ، فالمحقّق يدرس الواقع سواء أو افق حرية الإنسان أم «يخالف» فليس لنا إنكار الحقائق لحفظ العقيدة المتبنّاة ، بل علينا بناء العقيدة على الحقائق الواضحة.

الثاني : انّه خلط في المقام بين الماهية العامة التي تلازم وجود الإنسان منذ يفتح الإنسان عينه على الحياة ، والماهية الخاصة التي يكتسبها طيلة حياته ، في ظل الماهية العامة.

١. الماهية العامة

والمراد من الماهية العامة هو الميول والغرائز التي لم تزل تلازم وجود الإنسان منذ نعومة أظفاره ، ولا تنفك عنه سواء أكانت من الميول العالية التي تسعد بها الإنسان ، كالميل إلى ما وراء الطبيعة وحب الخير والبرّ الذي هو صورة أخرى لأصول الإطلاق ، والميل إلى الاستطلاع الذي هو مبدأ لتكامل العلم واكتشاف الحقائق ، والذي يعبّر عنه بحب العلم إلى غير ذلك من الميول العالية التي ، بها يسعد الإنسان ويتكامل.

أم كانت من الميول السافلة ، كحب الذات ، والشهوات ، وحب المال ، وحب المقام ، إلى غير ذلك من الميول التي هي أعمدة الحياة الإنسانية بشرط أنّ ينتفع بها على وجه الوسيلة

٢٢٨

وليس لأحد أنّ ينكر وجود هذه الميول في الإنسان اليوم أو الأمس أو الغد.

وتوهم انّها أمور وراثيّة يرثها الإنسان عن آبائه وأجداده ، رجم بالغيب ولم يزل تاريخ الإنسان حافلا بأمور وحوادث تكشف عن وجود هذه الميول في طبيعته وذاته منذ وجد على هذه البسيطة ، فمن أين نالت هذه الطبائع العامة؟

ثم إنّ للميول والطبائع العامة علامات وسمات ، نذكرها في المقام.

علائم الأمر الفطري

وتتلخّص علائم الأمر الفطري في أربعة :

١. انّ الأمور الفطرية ذات جذور غريزية في باطن الإنسان وطبيعته البشرية ، ولذلك توصف هي بالشمولية والعمومية ، فليس هناك أحد من أبناء البشر من يفقدها ويخلو منها.

٢. الأمور الفطرية تتحقّق في كيان الإنسان بوحي الفطرة وندائها ولا تحتاج إلى تعليم معلّم وإن كان نموها ورشدها يحتاج إلى ذلك.

٢٢٩

٣. كل فكرة أو عمل تكون ذات جذور فطرية ، فهي لا تخضع لتأثير العوامل السياسية والجغرافية والاقتصادية ، بل هي تعمل وتتحقّق بعيدة عن نطاق وضغط هذه العوامل.

٤. الدعايات المكثّفة والمستمرة ضد الأمور الفطرية يمكن أن يضعفها ويحد من نموّها ، ولكنها لا تتمكن من استئصالها والقضاء عليها بالمرّة.

هذه هي علائم فطرية شيء ، وأمّا الأمور العادية غير الفطرية ، فهي :

أ ـ محلّية ، خاصة بمكان دون مكان.

ب ـ تختفي تحت تأثير للعوامل المحيطة.

ج ـ تنشأ وتخضع لتعليم معلم.

د ـ نزولها نهائيا بسبب الدعايات المضادة.

٢. الماهية الخاصة

نعم في مقابل هذه ، ماهية يكتسبها الإنسان وتنصبغ بها ذاته في ظل إعمال الميول والغرائز ، فتارة يفرّط في حبّ الذات وإعمال الغضب ، فيتجلّى حيوانا ضاريا ، يأكل كل رطب ويابس ولا يشبع ، ويقتل الأبرياء ولا يكترث ، مع أنّه لم يكن ـ يوم ولد

٢٣٠

أو بعده ـ بهذه الطبيعة ، ولكنّه اكتسبها في طول الزمان تحت ظل عمليات تنتهي إلى تلك الماهية الخاصة.

وفي مقابل هذا الفرد ، إنسان مثالي ، يستفيد من حبّ الذات والشهوات ، على وجه يقيم حياته ، ويمدّه في فعل الخير والمعروف ، فيصبح إنسانا زاهدا ، ليس له تعلّق بالدنيا وإن ملك ما ملك ، فهو ينتفع من حب الذات ، على حد يسعده ، ويركز على سائر الميول ، كالراحة والإيثار وغيرها ، فيصبح ـ بعد مزاولات وممارسات ـ ملكا أو موجودا ملكوتيا ، يعد مثلا للحق تعالى وإن جلّ عن المثل والندّ.

والسر في تجهيز الإنسان بالميول والطبائع العامّة ، هو انّها قوام حياته ، فلو لا حبّ الذات ، والغضب لأصبح الإنسان فريسة الضواري ، ولو لا الجنوح إلى العدل والعقاب ، والبر والمعروف ، لأصبح الإنسان إنسانا ضاريا يعبّد جميع الناس ويذلّلهم ، فالإنسان الإلهي ، هو الذي يستخدم الكلّ على نحو ، يسعده لا يشقيه ، فللميول والغرائز دور في صنع الإنسان ، كما أنّ للعمل والسعي في ظل الانتفاع منها دورا في صنعه ، فطبيعته العامّة مصنوعة لخالق الكون الذي خلق كل إنسان بهذه الغرائز ، وجعل مفتاحها بيد الإنسان وأرشده إلى حدّ استخدامها على

٢٣١

وجه يسعده ولا يشقيه.

الماهية العامّة ليست عللا تامّة لتخطيط المصير

إنّ هذه الميول كلّها أرضية صالحة لجلب الخير والشر ، والسعادة والشقاء ، ولا تسلب الاختيار عن الإنسان ولا تزاحم حريته الذاتية ، فالحرية واقعة في هرم وجوده ، وغيرها واقعة تحته إلى أن تنتهي إلى قاعدة وجوده ، لكن سلطان النفس فوقها والانتفاع منها من حيث الكمية والكيفية منوط باختيار الإنسان وسلطانه ، فالقول بها ، لا يزاحم الاختيار ما دام الزمام بيد الإنسان واختياره.

وحصيلة المطلب : انّ الوجوديين اشتبه عليهم الأمر في المواضع التالية :

١. الخلط بين الماهيات العامّة الخارجة عن دائرة السعي والكسب ، والماهية الخاصّة المكتسبة بالعمل في ظل إعمال الميول والغرائز والطبائع العامة.

٢. انّ هذه الميول ، لا تتجاوز عن كونها مقتضيات للخير والشرّ وسوق الإنسان إلى النقاط المناسبة لمقتضياتها. وليست عللا ذاتية ، طرّاحة لمصير الإنسان.

٢٣٢

٣. ان الاختيار وسلطان النفس على مصيرها يحيط الميول ، فلو كانت الغرائز واقعة ، في هرم وجود الإنسان فسلطان النفس فوق الكل ، فهو مختار في إعمال الميول ، والغرائز والانتفاع بها ، فهو يستخدم الكلّ على أيّ نحو شاء.

٢٣٣

مناهج الاختيار

٣

لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين

كان الرأي السائد على المناهج الكلامية منذ أطلّ المفكّرون من المسلمين بنظرهم على هذه المسألة ، أنّه لا مناص من اختيار أحد الرأيين ، وأنّه لا طريق ثالث بينهما لسالك طريق المعرفة ، وبذلك ضلّ القائلون إما في متاه الجبر ، أو وقعوا في حبال الشرك.

غير أنّ أهل البيت عليهم‌السلام ـ أحد الثقلين ـ وقفوا في وجه القائلين بالجبر ، كما وقفوا في وجه القائلين بالتفويض. وقالوا : إنّ موقف الإنسان بالنسبة إلى الله ، غير موقف الجبر المشوّه لسمعة المذهب ، وغير التفويض ، الملحق للإنسان بمتاه الشرك ، بل الموقف واقع بين الأمرين ، وليست صيانة التوحيد منوطا بالقول بالجبر ، ولا صيانة عدله وقسطه ، منحصرا بالقول

٢٣٤

بالتفويض ، بل يمكن الجمع بين الكمالين برأي ثالث ، فالإنسان ذاته وفعله قائمان بذاته سبحانه ، وبذلك لا يصح فصل فعله عنه سبحانه ، كما أنّ مشيئته تعلّقت بنظام قائم على أسباب ومسببات ، فلا يصحّ فصل المسبب عن سببه ، فله صلة بالله وصلة بسببه.

إنّ القول بالتوحيد الافعالي لا يهدف إلى إنكار العلل والأسباب ، والروابط بين الظواهر الكونية ، ولا نفي أيّ سبب ظلي يقوم بعمل بإذنه سبحانه ، فإنّ ذلك مخالف للضرورة والوجدان ، والذكر الحكيم ، بل المقصود أنّ العوالم الحسية والغيبية ، بذاتها وأفعالها قائمة به سبحانه ، وأنّ تأثيرها وسببيّتها بإذنه ومشيئته ، فكل ظاهرة كونية ، لها نسبة إلى أسبابها كما انّ لها نسبة إلى خالق أسبابها ومرتّبها ومنفذها ، فإلغاء كل سبب وعلّة ، ونسبة الظاهرة إلى ذاته سبحانه ، غفلة عن تقديره سبحانه لكل شيء سببا ، كما أنّ نسبة الفعل إلى السبب القريب غفلة عن واقع السبب وأنّه بوجوده وأثره قائم بالله سبحانه ، فكيف يمكن فصل أثره عنه تعالى؟

ثم إنّ السبب بين فاقد للشعور ، وواجد له لكن فاقد للاختيار ، أو واجد له أيضا. وفي كل قسم لا يمكن غضّ النظر

٢٣٥

عن دور السبب بما له من خصوصية ، فالحرارة تصدر من النار بإذنه سبحانه ، بلا شعور ، وحركة يد المرتعش تصدر منه مع العلم بلا اختيار ، كما أنّ الأفعال التي يثاب بها الإنسان أو يعاقب عليها ، تصدر منه عن علم واختيار ، كل ذلك بإذنه ومشيئته النافذة ، فلا القول بالتوحيد الافعالي يصادم الاختيار ، ولا القول به ، يزاحم سلطانه سبحانه وقدرته ، فالفعل فعل الإنسان ، وفي الوقت نفسه فعله سبحانه وعلى حد تعبير الحكيم السبزواري : «والفعل فعل الله وهو فعلنا».

هذا بيان موجز لهذا القول الموروث من أئمة أهل البيت ، واستقبل المفكّرون من أهل السنّة هذه الفكر ، كالشيخ عبده في رسالة التوحيد ، وأتباعه ، وقبله الإمام الرازي ، لما رأوا في القول بالجبر الأشعري ، مضاعفات لا تتحمل. وقد شاع ذلك القول بين المفكرين المصريين لما تأثروا بالأفكار الغربيّة المروّجة للحرية والاختيار.

وتتجلى قيمة هذا المذهب ببيان برهانه العقلي ، وتحليل ما يدل عليه من الذكر الحكيم.

وإليك برهانه في ضمن بيان أمرين :

٢٣٦

١. الإمكان في الوجود غيره في الماهية

إذا وقع الإمكان وصفا للماهية يكون معناه ، تساوي نسبة الوجود والعدم إليها ، فهي في عالم الاعتبار تقع في وسط الدائرة ، وتكون نسبة الوجود والعدم إليها سواسية. ولكنّه إذا وصف به الوجود يمتنع تفسيره بهذا المعنى ، لأنّ نسبة الوجود إلى الوجود ـ المفروض ـ بالضرورة فلا محالة ، يرجع معنى الإمكان ، إلى الفقر الذاتي والقيام به سبحانه.

وليس المراد من فقره ، عروض الفقر عليه بعد ما لم يكن كذلك ، أو عروض القيام به بعد ما لم يكن قائما ، إذ معنى ذلك انقلاب الواجب إلى الممكن ، بل المقصود ، كونه فقيرا بالذات وقائما بالغير ، وما هذا شأنه يبقى على ما كان عليه ، وإلّا يلزم انقلاب الممكن واجبا.

وبالجملة : الوجود على قسمين : غنيّ ، وفقير ؛ مستقل ، وقائم بالغير ؛ وجود قائم بنفسه ، ومتدلّ بالغير ، وكيف كان فلا ينقلب عمّا هو عليه.

إنّ الصادر منه سبحانه ، هو الوجود ، لا الماهية ، ولا الماهية المنصبغة بها ، وانّما الانصباغ لازم كونه واقعا في مرتبة خاصة ،

٢٣٧

وليس الصادر منه هو الوجود المستقل بنفسه ، إذ معنى ذلك ، إيجاد الواجب وهو مع امتناعه ذاتا ، خلف الفرض ، فلا محيص عن كون الصادر منه ، هو الوجود غير المستقل ، والقائم به ، وما هو كذلك لا ينقلب عمّا هو عليه ، ويكون في صلة دائمة بالله وموجده ، وعند ذاك لا يمكن الفصل بين ذاته وفعله ، إذا المتدلّي في ذاته ، كيف يكون مستقلا في فعله؟

ولو أردنا أن نرسم مثالا لكيفية تعلّق الممكن بالواجب ، فعليك التأمّل في كيفية قوام المعنى الحرفي بالاسمي ، فالأوّل مسلوب الاستقلال ، تصوّرا وتحقّقا ، ودلالة ، فالظرف بالمعنى الحرفي ، لا يتصوّر ، بلا مظروف ، كما لا يتحقّق بدونه ، والحرف مثل «في» تفقد الدلالة إلّا بالمدخول.

وهذا التشبيه يرسم لنا ، مكانة المعلول الحقيقي بالنسبة إلى الفاعل الإلهي ، نعم ليست المعاليل المادية بالنسبة إلى عللها كذلك ، إذ لا علية ولا معلولية هناك ، بل غاية الموجود في العلل المادية هو استعداد مادّة للتبدّل إلى مادة أخرى ، بخلع صورة ولبس صورة أخرى ، وليس للمادة دور سوى الاستعداد ، وأمّا الخلع واللبس ، فهو رهن عوامل غير مرثية.

وبما ذكرنا تبطل دعوى التفويض وفصل الفعل عن الله

٢٣٨

سبحانه ، أو فصل الذات والفعل عنه سبحانه ، بزعم أنّ مناط الحاجة هو الحدوث لا الإمكان ، (ومع كونه باطلا كما تقدّم) لا يجعل الممكن غنيا بعد الحدوث ، إذ لازمة انقلاب الممكن واجبا ، وهو أمر محال. وهذه المقدّمة تسوقنا إلى القول بأنّ فعل الإنسان لا يفقد صلته بالله سبحانه في حال من الأحوال. وهذا البرهان يبطل التفويض.

٢. النظام العلّي والمعلولي في الكون

إذا كانت حقيقة الوجود ، حقيقة واحدة ذات مراتب مشككة كما هو الحق ، وكانت الحقيقة في مرتبة من المراتب ، ذات أثر خاص يجب أن يوجد ذلك الأثر في المراتب النازلة أخذا بوحدة الحقيقة ، ولأجل ذلك ذهب المفكّرون إلى سريان العلم والحياة والدرك إلى جميع مراتب الوجود.

ولو قيل إنّ الأثر أثر المرتبة ، فلا معنى لإسرائه إلى سائر المراتب ، فالجواب عنه واضح إذ ليست المرتبة شيئا وراء الوجود ، كما أنّ القوة ترجع إلى شدة الوجود ، لا أنّه وجود وقوة ، كذلك الضعف يرجع إلى نفاد الوجود القوي لا أنّه وجود وضعف.

٢٣٩

نعم كما أنّ للوجود مراتب شديدة وضعيفة ، فهكذا للأثر مراتب حسب مراتب الوجود.

وعلى ضوء ذلك يبطل حصر التأثير على وجه الإطلاق بالمرتبة الشديدة ، وسلب أيّ تأثير عن غيرها ، بل لازم وحدة الحقيقة ، اشتراك المراتب حسب قوتها وضعفها في الآثار.

وهذا البرهان يبطل نظرية الأشاعرة ، حيث أنكروا النظام العلّي في المراتب الإمكانية ، وحصروا العلّية على وجه الإطلاق بالله سبحانه ، وعطّلوا عالم الوجود الإمكاني عن أيّ تأثير ، وقالوا جرت عادة الله على خلق الحرارة عند وجود النار ، من دون أيّ رابطة بين النار وحرارتها ، وهكذا الماء والبرودة ، مع أنّ سنّة الله جرت على إدارة الكون ، في ظل الأسباب والمسبّبات ، فقد جعل لكلّ شيء سببا ، وجعل لكلّ سبب قدرا.

وعلى ضوء هذا لا يصح فصل فعل العبد عنه بتخيّل انّ نسبته إليه ، يزاحم التوحيد الافعالي ، وذلك لأنّ تأثيره في مقام الإيجاد ظلّي تبعيّ ، وتأثيره سبحانه في الكون أصليّ استقلالي ، فلا منافاة بين النسبتين لانهما طوليتان لا عرضيتان ، فالفعل مستند إلى الله من جانب لأنّه مفيض الوجود من البداية إلى النهاية ، والعالم وما فيه قائم بوجوده ، وفي الوقت نفسه مستند

٢٤٠