لبّ الأثر في الجبر والقدر

الشيخ جعفر السبحاني

لبّ الأثر في الجبر والقدر

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-27-4
الصفحات: ٣١٥

٤. ما ذكره في الأمر الرابع : «إذا ثبت انّ الإرادة ليست علّة تامة للفعل ، فبطبيعة الحال يستند وجود الفعل إلى أمر آخر ، وهو إعمال القدرة والسلطنة المعبّر عنه بالاختيار» غير مفهوم جدا إذ لم نجد موردا يعدّ الفعل اختياريا ولم يكن فيه للإرادة دور واضح ، وأمّا استناد الفعل إلى إعمال القدرة والسلطنة المعبّر عنها بالاختيار فليس شيئا وراء أثر الإرادة ، فإنّ الإنسان المريد ، يترتب عليه تحريك العضلات نحوه ، وليس هو إلّا إعمال القدرة والسلطنة ، وأمّا حالة الاختيار ، فهي تلازم الإنسان من لدن تصوّره إلى إنجاز العمل ، غاية الأمر إذا تمّت المبادئ وحصل الجزم نحو العمل يكون مندفعا من جانب نفسه إلى العمل ، اندفاعا بالاختيار ما لم يحصل الجزم والتصميم ، وأمّا معهما فيدخل الفعل في مرحلة الوجوب والإيجاب ، وبما انّهما كانا بالاختيار فلا ينافيان الاختيار كما لا يخفى.

٢٠١

مناهج الجبر

الجبر المادي

الجبر المادي

قد تعرّفت على المنهجين السابقين ، أعني : الجبر الأشعري والجبر الفلسفي ، وأصحاب المنهجين إلهيّون ، غير انّ الأوّل يعتمد على الأصول الغيبية ، والآخر على القواعد الفلسفية ، وأمّا أصحاب المنهج الثالث فهم الماديون غير المؤمنين ، بما وراء الطبيعة ، فلا يستدلّون على الجبر ، بخلق الأعمال وعلم الإله وإرادته الأزليين ، ولا بالأصول الفلسفية التي يعتمد عليها الإلهي ، فلا يستدلون بقاعدة وجود الشيء مساوق مع وجوبه ، ولا بكون الإرادة غير مسبوقة بإرادة اخرى ، بل يحاولون تحليل فعل الإنسان من حيث الجبر والاختيار من خلال علله المادية التي تدفعه إلى العمل على شاكلتها بالبيان التالي :

٢٠٢

إنّ فعل كل إنسان تعبير عن شخصيته المكوّنة بيد أصول ثلاثة يعبّر عنها بمثلث الشخصية وإن كانت الأضلاع في بناء الشخصية ومقدار التأثير غير متساوية ، ولكن كل ضلع مؤثر فيها تأثيرا قطعيّا ، وأمّا أضلاعها ، فهي عبارة عن.

١. ناموس الوراثة.

٢. الثقافة.

٣. البيئة.

وإليك تبيين تأثيرها في تكوين شخصية الإنسان.

١. إنّ ناموس الوراثة ، أمر اعترف به العلم والتجربة ويلمسه كل إنسان واع مفكّر في المقام ، فالولد ، كما يرث الصفات الجسمانية للوالدين ، كذلك يرث روحياتهما وصفاتهما الشريفة والرذيلة وينشأ ويربّى عليها ، يقول الشاعر :

ينشأ الصغير على ما كان والده

انّ الأصول عليها ينبت الشجر

إنّ الوالدين جسما وروحا يعتبران عاملين مؤثرين في مصير الولد ، فهما اللبنة الأولى في بناء الشخصية الصالحة ، كما أنّ سيادة روح التمرّد والطغيان عليهما وسوء الخلق والميل إلى

٢٠٣

ضد العفاف ، ممّا تؤثر في شخصية الإنسان. والجينات الموجودة في الخلية الإنسانية سبب طبيعي وعامل لانتقال هذه الصفات ، إلى الطفل ، على ما هو المقرر في علم الوراثة.

٢. عند ما تتكون أسس الشخصية وقواعدها في نفسية الطفل بالوراثة ، يأتي دور المعلم الذي يمثل المدرسة التربوية الثانية بعد مدرسة الأبوين وعامل الوراثة ، على يدي المعلمين ، ولهذا يكون دور التعليم ـ في مصير الطفل ـ دورا حساسا في قلبه فينبت في قلبه كلّما ألقي ، من البذور الطيبة أو الخبيثة.

٣. فإذا أتمّ دراسته وبدأ ممارسة العمل يتأثر في سلوكه وخلقه ، بالبيئة التي يعيش فيها ، فإذا كانت العوامل الثلاثة متجانسة في الغاية والأثر ، يقع الكل في طريق تكوين الشخصية الواحدة ، فلا صراع بينها ولا نزاع ، وأما إذا كانت بينها نزاع وصراع في الغاية والدعوة ، فتكون النتيجة من حيث السلوك ، تابعة لأقوى العوامل وأرسخها في الروح وهو يختلف حسب اختلاف تأثير الأوفر سهما من هذه العوامل ، ولأجل ذلك يوجد من يختار سلوك الآباء ، كما يوجد من يتركه ويقتفي أثر الثقافة ، أو البيئة وعلى كل تقدير ، فالإنسان مختار صورة ، لكنه مسيّر سيرة ، يخطّ مصيره هذه العوامل ، أو أقواها

٢٠٤

تأثيرا ، وما ربما يقال ، من أنّه يختار مسيرته في الحياة فهو أمر صوري ، وانّما تدبره هذه العوامل المكوّنة.

يلاحظ عليه أوّلا :

أنّ ما ذكره من تأثير العوامل الثلاثة في بناء الشخصية أمر لا غبار عليه ، انّما الكلام في كونها علّة تامة أو معدّات وانّما يوجد أرضية لنمو مقتضاها ، ولا توجد حتمية ، غير قابلة للتغيير ، وإليك البيان :

أمّا العامل الأوّل فلا شك في تأثيره ، وقد قال سبحانه : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) (١) وفي الآيات والروايات تصريحات وإشارات إلى ذلك ، لكن أثرها بين غير قابل للتغيير ، كالبله والحمق والبلادة وقابل له في ظل عوامل تربوية ، ولأجل ذلك ربما يكون الولد المتولّد من أبوين بارّين خائنا وجانيا ، كما ربما يكون الولد المتولّد من أبوين طاغيين ، إنسانا صالحا مطيعا ، والأوّل كولد نوح ، والثاني كعمر بن عبد العزيز.

ومثله العامل الثاني ، فليس عاملا حتميّ الأثر وقطعي

__________________

(١). الأعراف : ٥٨.

٢٠٥

النتيجة ، فربما ، يسعى الولدان ، لتغيير ما أوجده التعلّم من الآثار الطيّبة أو الخبيثة.

ولا يقلّ عنه العامل الثالث ، فقد أثرت البيئة الفاسدة على امرأة نوح وامرأة لوط ، فافسدتهما (١) وفي الوقت نفسه بقيت في بيت نوح عدة على صلاحهم وفلاحهم. فهذه العوامل بأجمعها معدات ، لا علّة تامّة في بناء الشخصية الحتمية غير القابلة للتغيير.

ثانيا : أنّ العوامل المكوّنة للشخصية الإنسانية لا تنحصر في العوامل الثلاثة المذكورة وانّما اختارها المادي ، لأنّها تناسب ما يبتغيه ، كيف وانّ هناك أبعادا روحية للإنسان وأحاسيس خاصة ، توحى إليه خير الحياة وتدفعه إليها ، بحماس ، وان لم يكن علّة تامة أيضا في التخطيط ، وهي عبارة عن الإدراكات النابعة من داخل الإنسان وفطرته من دون أن يتدخل في الإيحاء عامل خارجي ، كمعرفة الإنسان بنفسه وإحساسه بالجوع والعطش ، ورغبته في الزواج في سنين معينة ، والاشتياق إلى المال والمنصب في فترات من حياته. تلك المعارف ـ وإن شئت سمّيتها بالأحاسيس ـ تنبع من ذات الإنسان وأعماق وجوده.

__________________

(١). لاحظ التحريم : ١٠.

٢٠٦

إنّ علماء النفس يعتقدون بأنّ للنفس الإنسانية أبعادا أربعة يكون كلّ بعد منها ، مبدأ لآثار خاصة :

أ : روح الاستطلاع واستكشاف الحقائق ، وهذا البعد من الروح الإنسانية خلّاق للعلوم والمعارف ، ولولاه لما تقدّم الإنسان منذ أن وجد في هذا الكوكب ، شبرا في العلوم واستكشاف الحقائق.

ب : حب الخير ، والنزوع إلى البرّ والمعروف ، ولأجل ذلك يجد الإنسان في نفسه ميلا إلى الخير والصلاح وانزجارا عن الشر والفساد. فالعدل والقسط مطلوب لكل إنسان في عامة الأجواء والظروف ، والظلم والجور منفور له كذلك ، إلى غير ذلك من الأفعال التي يصفها كل إنسان بالخير أو الشر ، ويجد في أعماق ذاته ميلا إلى الأوّل وابتعادا عن الثاني ، وهذا النوع من الإحساس مبدأ للقيم والأخلاق الإنسانية.

ج : عشق الإنسان وعلاقته بالجمال في مجالات الطبيعة والصناعة ، فالمصنوعات الدقيقة والجميلة ، واللوحات الفنّية والتماثيل الرائعة تستمد روعتها وجمالها من هذا البعد.

إنّ كلّ إنسان يجد في نفسه حبا أكيدا للحدائق الغنّاء المكتظّة

٢٠٧

بالأزهار العطرة ، والأشجار الباسقة ، كما يجد في نفسه ميلا إلى الصناعات اليدوية المستظرفة ، وحبّا للإنسان الجميل ، وكلّها تنبع من هذه الروح التي عجن بها الإنسان ، وهي في الوقت نفسه خلّاقة للفنون في مجالات مختلفة.

د : الشعور الديني الذي يتأجّج لدى الشباب في سن البلوغ ، فيدعو الإنسان إلى الاعتقاد بأنّ وراء هذا العالم عالما آخر يستمد هذا العالم وجوده منه ، وانّ الإنسان بكل خصوصياته متعلّق بذلك العالم ويستمد منه.

وهذا البعد الرابع الذي اكتشفه علماء النفس في العصر الأخير ، وأيّدوه بالاختبارات المتنوعة ، ممّا ركّز عليه الذكر الحكيم قبل قرون وأشار إليه في آياته المباركة ، نعرض بعضها :

أ : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (١).

إنّ عبارة (فِطْرَتَ اللهِ) تفسير للفظة الدين الواردة قبلها ، وهي تدل بوضوح على أنّ الدين ـ بمعنى الاعتقاد بخالق العالم والإنسان ، وانّ مصير الإنسان بيده ـ شيء خلق الإنسان عليه ، وفطر به كما خلق وفطر على كثير من الميول والغرائز.

__________________

(١). الروم : ٣٠.

٢٠٨

ب : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١).

أيّ عرّفنا الإنسان طريق الخير وطريق الشر. وليس المراد التعرّف عليهما عن طريق الأنبياء بل تعريفهما من جانب ذاته سبحانه ، وان لم يقع في إطار تعليم الأنبياء ، وذلك لأنّه سبحانه يقول قبل هذه الآية : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ* ... أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٢) فالكل من معطياته سبحانه عند خلق الإنسان وإبداعه.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ النظرية التي اكتشفها علماء معرفة النفس ممّا ركّز عليها الوحي بشكل واضح ، وحاصلها أنّ الدين بصورته الكلية أمر فطري ينمو حسب نموّ الإنسان ورشده ، ويخضع للتربية والتنمية كما يخضع لسائر الميول والغرائز.

وأنت إذا أمعنت في هذه الأحاسيس الداعية إلى الخير والفلاح ، والعوامل الثلاثة المكوّنة للشخصية التي ربّما تجاوبها وتلائمها كما أنّه ربّما تخالفها وتناقضها ، تجد الإنسان تارة يعيش في جو مادي ، وأخرى في جو صراع وتناقض ، ومع ذلك

__________________

(١). البلد : ١٠.

(٢). البلد : ٤ ـ ٩.

٢٠٩

كلّه ، فحرية الإنسان وسيادته على كلّ الأحاسيس والعوامل ، فوق كل شيء ، فله أن يزيل تأثير العوامل ، من أساس ، أو يعدّل أثرها ، أو يربّيها على أشدّ وجه.

والعجب أنّ المادي ضرب على الأبعاد الأربعة التي اكتشفها العلم بقلم عريض وتمسّك بالعوامل الثلاثة المكوّنة للشخصية واستنتج منها الجبر.

وفي نهاية المطاف نقول : إنّ المادّي الذي يتبنّى الجبر ، فإنّه غطاء وواجهة ، للحرية في العمل ، والغور في الشهوات ، والانحلال عن القيود الأخلاقية التي فرضتها عليه بيئته ، فهو يريد الحرية السائدة كالوحوش في الغابات لكن بغطاء الجبر.

وأدلّ دليل على أنّهم يلوكون الجبر في ألسنتهم وليس في قلوبهم ثمت شيء ، انّهم في الحياة الاجتماعية يتعاملون مع الناس ، بالاعتقاد بالاختيار ، فلأجل ذلك يشتكي على من تجاوز حقه ولو ضربه ، ينتقم منه من دون أن يلتفت إلى انّ فعله رهن شخصيته المكونة بأيدي عوامل خارجة عن الاختيار. كل ذلك يرشدنا إلى أنّ الاعتقاد بالحرية عجين روحه ويشكّل السدى واللحمة من ذاته ، وانّ التفوّه بالجبر والتسيير ، أفكار مستوردة لغايات مادية أو سياسية.

٢١٠

الفصل الثاني

في

مناهج الاختيار

٢١١
٢١٢

مناهج الاختيار

١

الاختيار المعتزلي (التفويض)

قد عرفت أنّ للجبر مناهج ، فللقائلين به مسالك مختلفة وإن كانوا متحدين في النتيجة ، وما أشبه الاختيار بالجبر فله أيضا مناهج ، فكلّ طائفة سلكت مسلكا في الوصول إليه ، فنذكر تلك المناهج :

نسبت الأشاعرة إلى المعتزلة بأنّهم يقولون بأنّ أفعال العباد واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار (١) ولبّ مذهبهم انّ الله تعالى أوجد العباد وأقدرهم على أفعالهم وفوّض إليهم الاختيار ، فهم مستقلّون في إيجاد أفعالهم على وفق مشيئتهم ، وطبق قدرتهم ، ويترتّب على ذلك أمور :

١. فائدة التكليف بالأوامر والنواهي.

__________________

(١). لاحظ حاشية شرح المواقف لعبد الحكيم السيالكوتي : ٢ / ١٤٦.

٢١٣

٢. فائدة الوعد والوعيد.

٣. استحقاق الثواب والعقاب.

٤. تنزيه الله سبحانه عن إيجاد القبائح والشرور من أنواع الكفر والمعاصي والمساوئ.

قال الشريف الجرجاني : إنّ المعتزلة استدلّوا بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد ، وهو انّه لو لا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار لبطل التكليف ، وبطل التأديب الذي ورد به الشرع ، وارتفع المدح والذم ، إذ ليس للفعل استناد إلى العبد ، ولم يبق للبعثة فائدة ، لأنّ العباد ليسوا موجدين لأفعالهم ، فمن أين لهم استحقاق الثواب والعقاب؟ (١)

هذا ما تنسبه الأشاعرة إليهم ، وليس فيما وصل إلينا من كتب المعتزلة منه عين ولا أثر ، فإنّ الموجود في كتاب الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار هو نفي الجبر ، فقد استدل بوجوه (٢) كلّها تحكي عن رفض الجبر وإثبات الاختيار ، وأمّا كون العبد مستقلا في فعله ، موجدا بقدرته لا بقدرة الله ، وغير ذلك مما يناسب منهج التفويض ، فلا يتفوّه بذلك أصلا ، هذا من جانب.

__________________

(١). الشريف الجرجاني : شرح المواقف : ٨ / ١٥٤ ، صدر المتألّهين : الأسفار : ٦ / ٣٧٠.

(٢). القاضي عبد الجبار : الأصول الخمسة : ٣٣٢ ، ٣٣٦ ، ٣٤٤ ، ٣٤٥ ، ٣٥٥ ، ٣٧٢.

٢١٤

ومن جانب آخر ، يظهر من روايات أئمة أهل البيت وجود طائفة باسم القدرية في عصرهم ، القائلين بأنّ العبد ، غير مستعين في فعله بالله سبحانه ، كما سيوافيك بعض الروايات ، ويظهر من كتب الشيخ الرئيس وجود طائفة باسم المفوضة القائلين بأنّ حاجة الممكن إلى الواجب في حدوثه ، لا في بقائه كما سيأتي ، هذا وذاك ، يكشفان عن وجود طائفة قائلة باستقلال العبد في فعله ، وأمّا أنّ هؤلاء ، هم المعتزلة ، فلم أتحقّقه إلى الآن ، لقلّة ما وصل إلينا من كتبهم ، وعلى كل تقدير فلنبحث عن التفويض.

إنّ الأصل الذي اعتمد عليه المفوّضة أصل فلسفي ، وهو :

حاجة الممكن إلى العلّة في حدوثه لا في بقائه

قالوا : إنّ سرّ حاجة الممكن إلى الواجب ، هو حدوثه الذي يفسّر بالوجود بعد العدم ، أو انقلاب العدم إلى الوجود ، فإذا حدث ارتفعت الحاجة ، فإذا كان هذا حال الذات ، فكيف حال الأفعال الصادرة عنها؟ فلا يحتاج الممكن في أعماله إلى الواجب أصلا.

قال الشيخ الرئيس : وقد يقولون إنّه إذا وجد ، فقد زالت

٢١٥

الحاجة إلى الفاعل حتى أنّه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجودا ، كما يشاهد من فقدان البنّاء وقوام البناء ، حتى أنّ كثيرا منهم لا يتحاشى أنّ يقول : لو جاز على الباري تعالى العدم لما ضرّ عدمه وجود العالم ، لأنّ العالم عندهم انّما احتاج إلى الباري تعالى في أن أوجده ، اي اخرجه من العدم إلى الوجود حتى كان بذلك فاعلا ، فإذا فعل وحصل له الوجود عن العدم ، فكيف يخرج بعد ذلك إلى الوجود ، عن العدم حتى يحتاج الى الفاعل؟!(١)

يلاحظ على ذلك الاستدلال بوجوه

١. مناط الحاجة إلى الواجب هو الإمكان لا الحدوث

إذا كان المراد من الممكن ، هو الماهية ، فمناط الحاجة ، هو إمكانها ومساواتها بالنسبة إلى طرفي الوجود والعدم ، وأمّا حدوثها ، فهو مرحلة متأخّرة عن الإمكان بمراتب ، ولأجل ذلك يقال : الشيء قرّر ، فامكن فاحتاج ، فاوجد فوجد وحدث ، فإذا كان مناط الحاجة هو ذاك ، فهو محفوظ في حالتي الحدوث والبقاء ، لأنّ ماهيّة الممكن لا تنقلب عمّا هي عليها ، فهي بالنسبة

__________________

(١). الشيخ الرئيس : الإشارات : ٣ / ٦٨ ، العلّامة الحلّي : كشف المراد : الفصل الأوّل ، المسألة ٢٩ والمسألة ٤٤ ، صدر المتألّهين : الأسفار : ج ٢ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٢١٦

إلى الوجود والعدم فاقدة للاقتضاء ، وإلّا لانقلبت إلى واجب الوجود أو ممتنعه ، وعليه كل ممكن ما دام ممكنا ، فالوجود غير نابع من ذاته ، بل من غيره ، فالقول بالاستغناء في غير حال الحدوث تخصيص للقاعدة العقلية ، ونعم ما يقول المحقّق الاصفهاني في منظومته :

والافتقار لازم الإمكان

من دون حاجة إلى البرهان

لا فرق ما بين الحدوث والبقاء

في لازم الذات ولن يفترقا

٢. لا فرق بين البعد المكاني والزماني

إنّ امتداد الجسم في أبعاده الثلاثة يشكّل بعده المكاني ، كما أنّ بقاءه في عمود الزمان يشكّل بعده الزماني ، فالجسم باعتبار أبعاضه ، ذو أبعاد مكانيّة ، وباعتبار استمرار وجوده ذو أبعاد زمانية ، فكما أنّ حاجة الجسم إلى العلّة لا تختص ببعض أجزائه وأبعاضه ، فهكذا لا تختص ببعض أبعاده الزمانية ، فهو محتاج إليه حدوثا وبقاء ،

٢١٧

فالتفريق بين الحدوث والبقاء يشبه القول باستغناء الجسم في بعض أبعاضه عن العلّة دون بعض.

٣. العالم في حدوث بعد حدوث

إنّ الموجود الطبيعي في النظرة الأولى ، له حدوث وبقاء ، ولكنه في النظرة الدقيقة ، كلّه حدوث في حدوث ، لأنّ مقتضى الحركة الجوهرية هو كون العالم في تبدّل مستمرّ وتجدّد دائم ، بأعراضها وجواهرها ، فذوات الأشياء في تجدّد واندثار متواصل ، وما أشبه العالم بالصورة المنعكسة في الماء الجاري ، فهي ثابتة في النظرة الأولى ، ولكنها في النظرة الدقيقة متعدّدة متبدّلة حسب تبدّل الماء ، ولأجل انّ العالم بجميع أجزائه في حال السيلان والجريان ، ينتزع الزمان من هذا الجوهر السيّال ، كما ينتزع من حركة الشمس والقمر والأرض قال سبحانه (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (١).

٤. الوجود الإمكاني وجود رابط

هذا إذا كان الإمكان وصفا للماهية ، وإذا كان وصفا للوجود ، فمعناه ، كون الوجود رابطا لا نفسيا ، قائما بالغير لا موجودا بنفسه ، فإنّ معنى الإمكان إذا وصف به الوجود ، غيره إذا وصفت به الماهية ، فإنّ معناها في الثانية تساوي نسبة الوجود والعدم إليها ، والإمكان بهذا المعنى غير متصوّر في الوجود الإمكاني ، إذ لا ماهية له ، وانّما هو وجود صرف إمكاني ولا معنى لتساوي نسبة الوجود والعدم إلى الوجود ، بل معنى الإمكان في الوجود

__________________

(١). النحل : ٨٨.

٢١٨

كونه قائما بالغير ، كالمعنى الحرفي القائم بالمعنى الاسمي ، فكما أنّه غير مستقل في المراحل الثلاث : التصوّر ، والدلالة ، والتحقّق ؛ فهكذا الوجود الإمكاني ، فإنّه في مقام التحقّق قائم بالغير شأن كل معلول حقيقي بالنسبة إلى العلّة الحقيقية.

وذلك لأنّ المفاض منه سبحانه إمّا وجود مستقل ، أو وجود غير مستقل ، والأوّل خلاف المفروض لاستلزامه أن يكون واجبا وفي الوقت نفسه أن يكون معلولا ومفاضا ومخلوقا ، فتعيّن أن يكون غير مستقل قائما بعلّته. وما كان هذا شأنه ، لا ينقلب عمّا هو عليه ، ولأجل ذلك يكون الربط والتدلّي عين واقعه وذاته ، ومن جوّز انّ الوجود المفاض شيء عرض له الربط والتدلّي ، فقد جوّز انقلاب الواجب إلى الممكن.

ومن هنا يتبيّن مفاد قولهم من أنّ نسبة المعلول إلى العلّة الإلهية نسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي ، فكما أنّ المعنى الحرفي قائم به تصورا ، وتصديقا (دلالة) وتحقّقا ، فهكذا المعلول ، فتصوّره يلازم تصور العلّة ، فتصوّر القائم بالغير ، لا ينفك عن تصوّر الغير ، كما أنّ التصديق بوجود الممكن ، يلازم التصديق بوجود الواجب ، ولأجل ذلك استدل الشيخ الرئيس

٢١٩

في «الإشارات» والمحقّق الطوسي في «تجريد الاعتقاد» بهذا النمط وقالا : «الموجود إن كان واجبا وإلّا استلزمه» (١). ومثله ، التحقق الخارجي فالمعنى الحرفي ، يعانق المعنى الاسمي معانقة غير منفكة والممكن ، لا ينفض غبار العدم عن نفسه إلّا بالارتباط والتدلّي والقوام به.

نعم كل هذا في الفواعل الإلهيّة اي ما يعطي الوجود من كتم العدم ، وأما الفواعل الطبيعية فهي بين ما هو معد وليس بعلّة ، كالدرج بالنسبة إلى الصعود أو مادة قابلة لانسلاخ صورة (كالنار) عنها وعروض صورة أخرى (كالرماد) إليه ، وليس الجسم مع الصورة الأولى ، مفيضا لصورة ثانية.

فقد تبيّن من ذلك انّ القول بالتفويض أي استقلال الفاعل في الفعل يستلزم انقلاب الممكن وصيرورته واجبا في جهتين :

الأولى : الاستغناء في جانب الذات من حيث البقاء.

__________________

(١). المحقّق الطوسي : شرح الإشارات : ٣ / ١٨ والعلّامة الحلّي : كشف المراد : ٢٨٠ ، المقصد الثالث في إثبات الصانع.

٢٢٠