لبّ الأثر في الجبر والقدر

الشيخ جعفر السبحاني

لبّ الأثر في الجبر والقدر

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-27-4
الصفحات: ٣١٥

معنى احتفاف وجود الممكن ، بضرورة سابقة (١).

والمتتبع لمظان القاعدة وما أقاموه برهانا ، على صحتها يقف على أنّ الوجه غير ذلك، حتى أنّ تفسير قولهم : «الممكن محتف بالضروريات» بما ذكره قدس سرّه خاطئ جدا. فلاحظ شرح المنظومة والأسفار.

ولك أن تستوضح الحال من العلّة المركبة ، فإنّ وجود المعلول رهن جميع أجزاء العلّة ، لأنّ فقدان كل جزء من أجزاء العلّة طريق لعدم المعلول ، ويهدّد وجوده فلا يوجد ، إلّا بوجود جميع الأجزاء ، وعند ذاك يسدّ جميع أبواب العدم في وجه المعلول ، ويصير واجب الوجود من جانب العلّة. وإلّا فلو افترضنا عندئذ احتمال تطرق العدم لزم أن لا يكون ما افترضناه علّة تامة ، كذلك ، وهو خلف ، فإذا كانت علّة تامة وكانت أبواب العدم مسدودة ، صار الفعل قطعيّ الوجود وواجبه.

ولأجل ذلك يقال : الشيء ما لم يجب وجوبا مفاضا من جانب العلّة لم يوجد ، ولكن استنتاج الجبر منه غريب جدا ، وذلك إذ لا ملازمة بين وجوب الفعل وكون الفاعل له فاعلا موجبا ، بل النسبة بين الأمرين عموم مطلق ، فإنّ كل فاعل

__________________

(١). المحاضرات : ٢ / ٥٨.

١٨١

موجب ـ بالفتح ـ ففعله واجب أيضا ، ولا عكس ، إذ من الممكن أن يكون الفعل واجبا ، ولكن العلّة لكونه فاعلا مختارا بالذات ، يضفي بالاختيار للفعل وصف الوجوب فيكون الفعل واجبا ، دون أن يكون الفاعل موجبا.

وبعبارة أخرى : العلّة التي توجب الفعل لو كانت فاعلا غير شاعر ولا مختار أو شاعرا غير مختار ، كان لما ذكر مجال ، إذ عندئذ يكون فاعلا موجبا ـ بالفتح ـ وموجبا ـ بالكسر ـ بالاضطرار.

وأمّا إذا كان فاعلا شاعرا مختارا ، فهو باختياره يضفي الوجوب للفعل ، ويسدّ أبواب العدم بحريته ويجعله واجب الوجود ، فلا يدل وجوب الوجود للفعل على كونه فاعلا موجبا. واستنتاج الجبر من القاعدة مغالطة حصلت من خلط الفاعل الموجب بالكسر بالفاعل الموجب.

١٨٢

مناهج الجبر

الجبر الفلسفي

٢

الإرادة ليست أمرا اختياريا

إنّ الميزان في تمييز الفعل الاختياري عن غيره هو سبق الإرادة عليه وعدمه ؛ فما صدر عنها ، فهو فعل إرادي اختياري ؛ وما صدر لا عنها فهو اضطراري غير إرادي. ولكن هذا المقياس لا ينطبق على نفس الإرادة ، إذ لو كانت اختياريتها لأجل صدورها عن إرادة ثانية ينتقل الكلام إليها فإمّا يتسلسل أو يتوقف عند إرادة غير صادرة عن إرادة أخرى ويكون فعلا غير إرادي للنفس.

وكلا الافتراضين باطل ، لأنّ الأوّل يستلزم التسلسل ، واللجوء إلى الافتراض الثاني لغاية الفرار عن اضطرارية الإرادة فإذا لم تحصل بعد فلا ملزم لافتراضه بل يتعيّن الشقّ الثالث

١٨٣

وهو وجود إرادة واحدة قبل الفعل ولما كانت غير اختيارية يكون الفعل الصادر منها أيضا مثلها ، لأنّ المعلول ينصبغ بصبغ العلّة. أو أنّ النتيجة تتبع أخس المقدّمات.

وهذا هو الإشكال المهم الذي جعل العقول حيارى والأفهام صرعى ، وقد نقله صدر المتألّهين عن الفارابي بجعل شقوق للإشكال نأتي بها بعبارة واضحة :

استكشف عن اختيارك هل هو حادث أو قديم؟

١. إن كان قديما لزم أن يصحبك ذلك الاختيار منذ أوّل وجودك ، وهو باطل.

٢. وإن كان حادثا ، ولكلّ حادث محدث ، فما هو المحدث؟

فإن كان نفسه بإيجاده بالاختيار يلزم التسلسل.

٣. إذا كان بإيجاده لكن لا بالاختيار ، فيكون مجبورا على الاختيار.

٤. وإن كان المحدث غيره ، فهو ينتهي إلى الأسباب الخارجة عن الإنسان التي ليست باختيار. (١)

وقد أجيب عن الإشكال بوجوه مختلفة نأتي بأكثرها :

__________________

(١). صدر المتألّهين : الأسفار : ٦ / ٣٩٠ ، ونقله الشيخ في إلهيات الشفاء ، فلاحظ.

١٨٤

الأوّل : ما أفاده صدر المتألّهين وحاصله : المختار ما يكون فعله بإرادته لا ما يكون إرادته بإرادته ، والقادر ما يكون بحيث إن أراد الفعل ، صدر عنه وإلّا فلا. لا ما يكون إن أراد الإرادة للفعل فعل وإلّا لم يفعل (١).

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره انّما يتم في الأفعال الجوارحية ، وأمّا الأفعال الصادرة عن النفس مباشرة من التصوّر والتصديق والإرادة ، فلا يمكن أن يكون الملاك في اختياريته هذا المعنى فيدور امرها إنّها إمّا جبرية ، أو اختيارية لكن بملاك آخر ، وما هو هذا الملاك وهو غير مذكور في كلامه؟

الثاني : ما أجاب به المحقّق الخراساني لا في هذا المقام بل في مبحث التجرّي ، وحاصلة : انّ اختيارية الإرادة وإن لم تكن بها ، إلّا أنّ مبادئها يكون وجودها غالبا بالاختيار للتمكّن من عدمه بالتأمّل فيما يترتب على ما عزم عليه عن اللوم والمذمة أو التبعة أو العقوبة. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ الكلام في مبادئ الإرادة ، فهل هي مسبوقة بالإرادة أولا؟ وعلى الثاني تخرج عن كونها أفعالا إرادية

__________________

(١). صدر المتألّهين : الأسفار : ٦ / ٣٨٨.

(٢). الخراساني : كفاية الأصول : ٢ / ١٤.

١٨٥

للنفس ، بل تكون أفعالا صادرة عنها بلا إرادة ، وعلى الأوّل ينقل الكلام إلى الإرادة السابقة على تلك الأفعال النفسانية (التصوّر والتصديق والتدبّر فيما يترتب على الفعل من التبعات) فهل هي غير مسبوقة بإرادة ثالثة فيلزم الجبر لأنّ إرادة الفعل انتهت إلى إرادة غير اختيارية ، أو مسبوقة بها فعندئذ يلزم التسلسل؟

الثالث : ما أجاب به في الكفاية في هذا المقام وهو انّ الإرادة ناشئة عن مقدّماتها وهي تابعة للشقاء الذاتي أو السعادة الذاتية.

يلاحظ عليه : أنّه دعم للإشكال وليس حلّا له ، وقد زاد في الطين بلّة.

الرابع : ما ذكره شيخ مشايخنا العلّامة الحائري وحاصله : انّ ما اشتهر من أنّ الإرادة لا تتعلّق بها الإرادة ولا تكون مسبوقة بإرادة أخرى غير صحيح ، بل ربما تتعلّق الإرادة بها لمصلحة فيها ، وهذا كما إذا وقف الإنسان على أنّ صحة الصوم والصلاة مترتبة على قصد الإنسان بالبقاء في مكان واحد عشرة أيام ولا يترتب على نفس البقاء فتتعلّق الإرادة عليه ، وتكون النتيجة ، تعلّق الإرادة بالإرادة. (١)

__________________

(١). درر الفوائد : ١٥ ، وقد نقل بالمعنى.

١٨٦

يلاحظ عليه : أنّه لا يدفع الإشكال : إذ غايته : تعلّق الإرادة على الإرادة الأولى ، وأمّا الإرادة الثانية فلا تتعلّق بها الإرادة ، فلا يكون أمرا اختياريا ، لأنّ المعيار في الاختيار كون الشيء مسبوقا بالإرادة وهي ليست كذلك.

الخامس : ما يظهر من العلّامة الطباطبائي عند البحث عن أنّ القضاء والقدر ، لا ينتجان الحتم واللزوم ، وانتهى كلامه إلى ما يفيدنا في المقام ، قال : الفعل الاختياري الصادر عن الإنسان بإرادته ، إذا فرض منسوبا إلى جميع ما يحتاج إليه في وجوده من علم وإرادة وأدوات صحيحة ، ومادة يتعلّق بها الفعل وسائر الشرائط الزمانية والمكانية ، كان ضروريّ الوجود ، وهو الذي تعلّقت به الإرادة الإلهية ، لكن كون الفعل ضروريا بالقياس ، إلى جميع أجزاء علّته التامة ومن جهتها ، لا يوجب كونه ضروريّا إذا قيس إلى بعض أجزاء علّته التامة ، كما إذا قيس الفعل إلى الفاعل أو بقية أجزاء علّته التامة ، فإنّه لا يتجاوز حد الإمكان ولا يبلغ حد الوجوب. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من أنّ المعلول إذا نسب إلى العلّة التامة ، يوصف بالوجوب ، وإذا نسب إلى بعض أجزائها ،

__________________

(١). الميزان : ١ / ٩٩.

١٨٧

يوصف بالإمكان ، وان كان صحيحا لكنه لا يحل العقدة ، لأنّ سائر الأجزاء ـ غير الإرادة ـ كوجود الفاعل وسائر المقدّمات كالدرج للصعود على السطح ، أو السيارة للحركة ، كلّها خارجة عن اختيار الفاعل وكون نسبة الفعل إليها بالإمكان عندئذ غير مفيد ، لأنّ الواقع تحت الاختيار ، عبارة عن إرادة الفاعل واختياره وإذا كانت الإرادة أيضا خارجة عن الاختيار ، وكانت الجزء الأخير للعلّة التامة ، فعندئذ تصبح نسبة الفعل إلى العلّة بالوجوب واللزوم ولو كان الوجوب عندئذ مساويا للجبر ، فلا يفيد كون النسبة في اللحاظ الأوّل ، هو الإمكان.

وبعبارة أخرى : انّ الفعل عند انضمام الإرادة إلى سائر الأجزاء يوصف بالوجوب ، فلو كانت الإرادة غير إرادية أيضا وخارجة عن الاختيار ، يوصف الفعل بالجبر واللزوم.

السادس : ما أفاده المحقّق النائيني وقال ما هذا ملخّصه : «إنّ الموجود في النفس المترتب عليه حركة العضلات ، هل هو أمور ثلاثة : التصوّر ، والتصديق بالفائدة ، والشوق المؤكد المعبّر عنه بالإرادة كما هو المعروف ؛ أو هناك أمر آخر متوسط بين الإرادة والحركة ونسبته إلى النفس ، نسبة الفعل إلى فاعله ، لا نسبة الكيف إلى موضوعه (كما هو الحال في الشوق بالنسبة إلى

١٨٨

النفس)؟ والحق هو الثاني ، أيّ انّ هناك مرتبة أخرى بعد الإرادة تسمّى بالطلب ، وهو نفس الاختيار وتأثير النفس في حركة العضلات. والبرهان عليه انّ الصفات العامة للنفس من التصوّر والتصديق والإرادة كلّها غير اختيارية ، فإن كانت حركة العضلات مترتبة عليها من غير تأثير النفس فيها وبلا اختيارها ، يلزم أن لا تكون العضلات منقادة للنفس وحركاتها ، وهو باطل وجدانا ، فإنّ النفس تامة التأثير في العضلات من دون أن يكون لها مزاحم في سلطانها وملكها.

وما يقال في الجواب عنها بأنّ استحقاق العقاب مترتب على الفعل الاختياريّ ، أيّ الفعل الصادر عن الإرادة ، وإن كانت الإرادة غير اختيارية ، فهو لا يسمن ولا يغني من جوع ، بداهة انّ المعلول لأمر غير اختياري ، غير اختياري ، وبذلك يتضح أنّ علّية الإرادة ، هادم لأساس الاختيار بخلاف ما إذا أنكرنا علّية الصفات النفسانية (الثلاث) للفعل ، وقلنا : إنّ النفس مؤثرة بنفسها في حركات العضلات من غير محرّك خارجي ، وتأثيرها المسمّى بالطلب انّما هو من قبل ذاتها فلا يلزم محذور.

فإن قلت : إنّ الذي جعلته متوسطا بين الإرادة وحركة

١٨٩

العضلات ، ممكن لا واجب ، فهو يحتاج إلى علّة ، فهل علّته التامة اختيارية أو غير اختيارية لا سبيل إلى الأوّل لاستلزامه التسلسل ، وعلى الثاني يلزم الجبر؟

قلت : إنّ المتوسط أمر ممكن ، حادث وهو نفس الاختيار الذي هو فعل النفس ، وهو بذاته يؤثّر في وجوده الاختيار ، فلا يحتاج إلى علّة موجبة لا ينفك أثرها إذ العلّية بنحو الإيجاب انّما هي في غير الأفعال الاختيارية ، نعم لا بد في وجوده من فاعل وهو النفس ، ومرجّح وهو الصفات النفسانية ، والاحتياج إلى المرجّح لأجل خروج الفعل عن العبثية. (١)

يلاحظ عليه : أوّلا : أنّ الإرادة ليست ، نفس الشوق المؤكّد ، ولا الشوق المحرّك للعضلات ، لأنّ الشوق من مقولة الانفعال ، والإرادة من مقولة الفعل ، مضافا إلى أنّه ربّما يريد الإنسان بلا شوق نفساني ، وانّما يفعله لغايات أخرى كشرب الدواء المرّ ، فتفسير الإرادة بالشوق خاطئ من وجهين كما عرفت.

ثانيا : لا شك في وجود المرحلة الرابعة بعد الشوق المؤكد ، وانّما الكلام في تعيّنها والذي يلمسه كل فاعل ، مريد من صميم نفسه ، انّه بعد حصول الشوق النفساني ، أو العقلائي ـ كما في

__________________

(١). أجود التقريرات : ١ / ٩٠ ـ ٩١.

١٩٠

شرب الدواء المرّ ـ يجد في نفسه حالة التصميم والتجزّم ، للفعل أو عدمه ، وفي هذه الحالة يخرج الفعل عن حالة التساوي إلى الفاعل ، ويوصف بالوجوب والامتناع ، فيكون فاعلا أو تاركا بالقطع والجزم.

وأمّا ما أسماه المحقّق النائيني بمرحلة الاختيار ، فإن اراد منه ما ذكرنا فهو ، وان أراد غيره كما هو الظاهر فهو غير متحقّق ، لأنّ مفهوم كلامه انّ النفس بعد المرور بها ، تتساوى أيضا نسبته بالنسبة إلى الفعل والترك ، غاية الأمر لأجل وجود مرجّح ، يقدّم جانب الفعل على الترك ، مع أنّ الفعل في هذه الحالة ، لا يكون متساوي النسبة بل ينقلب إلى حالة القطعية والجزمية ، والفاعل يهاجم الفعل ولا يفكر في الترك. وأين هذا ، من حالة التساوي ، أو مع وجود مرجح لأحد الطرفين؟

وثالثا : أنّ تخصيص القاعدة العقلية ، أي : «الشيء ما لم يجب لم يوجد» بالأفعال غير الاختيارية كالفواعل الطبيعية ، تخصيص بلا ملاك ، فإنّ مقتضى برهانه هو التعميم وعدم الفرق بين الاختيارية وغيرها.

وحاصله : أنّه يجب سدّ جميع أبواب العدم ، ومع انفتاح باب واحد ـ وكيف ازيد منه ـ لا يقطع السؤال لما ذا وجد ، ولم

١٩١

ينعدم؟ وإذا سد جميع أبوابه ، يتحقّق المعلول بصورة ظاهرة قطعية على وجه لا محيص عن الوجود والتحقّق. نعم لو قلنا بأنّ برهان القاعدة عبارة عن وجود المعلول في رتبة العلّة ، يكون المعلول ضروريّ التحقّق ، بضرورة وجود علّته (١) لكان للتخصيص وجه ، وهذا يتمشّى في العلل غير الاختيارية لا فيها ، ولكن ما ذكر أساسا للقاعدة لا أثر منه في الكتب الفلسفية ، فلاحظ.

السابع : ما أفاده سيدنا الأستاذ ـ دام ظله ـ في درسه الشريف ، وحاصل ما أفاده يأتي في ضمن أمور :

١. انّ الأفعال الصادرة عن النفس تنقسم إلى : تكويني ونفسي ، وإن شئت قلت : إلى : تسبيبيّ ومباشري.

فالأوّل منهما ما يصدر عنها بآلة وسبب جرمانيّ كالخياطة والكتابة وإحداث البناء إلى غير ذلك من الأمور الموجودة في خارج لوح النفس ، ففي هذه الموارد كلّ من المقدّمة وذيها ، مسبوق بالتصوّر والتصديق والشوق المؤكد (في أغلب الموارد) فإذا تمّت المقدّمات يجد الإنسان في ذهنه العزم والجزم والتصميم والقاطعية ، وعند ذلك ، تنقاد الأعضاء

__________________

(١). المحقّق الخوئي : المحاضرات : ٢ / ٥٨٠. وقد مرّ اشكاله.

١٩٢

وتتوجه إلى الحجر والخشب والإبرة والخيط.

انّ النفس في مجال هذا النوع من العمل فاعل للحركة ففي ظلّ حركة العضلات تتحقّق الأفعال التكوينية التسبيبية من الخياطة والكتابة.

والثاني منهما ما يصدر عنه بلا آلة ، أو بآلة غير جسمانية ؛ وإن شئت قلت : ما يصدر عنها بخلّاقية النفس وإيجادها في صقعها. وهذا كصاحب ملكة علم الفقه أو النحو ، فإذا سئل عن عدّة مسائل تأتي الأجوبة في الذهن ، واحدا بعد الآخر. ونظيرها خلق الصور البديعة الهندسية المقدارية ، لمن زاول المعمارية وصار ذا ملكة فيها ، فتصدر عنها الصور ، في ظروف خاصة.

وهذا النوع من أفعال النفس ، اختياري لها ، وإن لم يكن هناك تصوّر ولا تصديق ، وشوق ، ولا إرادة ، وسيوافيك وجهه ومثلها الإرادة ، فانّها فعل للنفس ، فعلا مباشريا ، وليست مسبوقة بمقدّمات الإرادة أصلا.

٢. انّ النفس في هذا النوع من الأفعال ، بما انّها فاعلة بالتجلّي جامعة لكمالات فعله في مقام الذات على نحو الإجمال والإيجاز ، فالأجوبة العلمية والصور البديعة ، والاختيار

١٩٣

الملموس لكل إنسان قبل التصميم والجزم ، وحتى نفس الإرادة ونظائرها موجودة في مقام الذات لكن لا على نحو التفصيل بل على سبيل الإجمال ، فتكون النفس في مقابل الذات مريدة ومختارة بالذات بشهادة وجودهما في مقام الفعل ، ويكون هذا هو الملاك في كون القسم الثاني فعلا اختياريا وإراديا ، لا لأجل سبق إرادة تفصيلية ، بل لأجل كون الإنسان في مقام الذات ، مختارا بالذات ، فهو باختيار ذاتي ، ينشأ الإرادة والجزم أو التصميم.

وتعلم حال النفس إذا قيست إلى الواجب عزّ اسمه ، فإنّه سبحانه خلق الكون وما فيه لا بإرادته التفصيلية وإلّا يلزم أن تكون الذات محلا للحوادث ، بل بإرادة إجمالية أو اختيار ذاتي ، هما عين ذاته سبحانه وإن لم ينكشف لنا كنههما ، فكما أنّ الملاك لكون فعله اختياريا هو كونه موجودا مختارا بالذات ، باختيار هو عين ذاته ، فهكذا النفس فهي مختارة في إيجاد القسم الثاني من الأفعال باختيار ذاتي هو عين ذاتها.

والذي يفك العقدة ، ويزيل الشبهة من رأسها نفي انّ يكون الملاك للاختيار شيئا واحدا ، وهو كون الشيء مسبوقا بالإرادة ، بل الملاك أحد الأمرين ، ففي النوع الأوّل ، الملاك مسبوقية

١٩٤

الفعل بالاختيار ؛ وفي الثاني ، كونه صادرا عن فاعل مختار ومريد بالذات ، ولأجل ذلك صارت النفس مثلا لله سبحانه ، وإن كان سبحانه منزها عن المثل والندّ.

إكمال للبحث

إنّ للسيد المحقّق الخوئي قدس سرّه في المقام نظرية قريبة ممّا ذكره سيدنا الأستاذ قدس سرّه ، فكلاهما دقّا بابا واحدا ، وهو كون النفس فاعلا مختارا بالذات ، لكن السيد الخوئي استند في إثبات نظريته إلى أمور قابلة للمناقشة ، وقد كان في غنى من أن يحوم حولها ، لأنّ إثبات الاختيار الذاتي للنفس كاف في دفع شبهة الجبر. ولنذكر خلاصة كلامه ، ثم نذكر بعض المناقشات ، فقد بنى نظريته على أمرين :

الأوّل : انّ الإرادة لا تعقل أن تكون علّة تامة للفعل.

الثاني : الأفعال الاختيارية بكافة أنواعها مسبوقة بإعمال القدرة والسلطنة.

أمّا الأوّل ، فقد أوضحه بأمور :

١. الفرق الواضح بين الحركتين ، حركة يد المرتعش ، وحركة يد غير المرتعش ، حركة النبض وحركة الأصابع ، حركة

١٩٥

الدم وحركة اليد يمنة ويسرة ، ولو كانت الإرادة علّة تامّة وكانت حركة العضلات معلولة لها كانت حالها ، عند وجودها حال حركة يد المرتعش أو حركة النبض والدم. والسبب في ذلك انّ الإرادة مهما بلغت ذروتها لا يترتب عليها الفعل كترتب المعلول على علّته التامة ، بل الفعل على الرغم من وجودها وتحقّقها تحت اختيار النفس وسلطانها ، فلها أن تفعل ولها أن لا تفعل ، ولو كانت الإرادة علّة تامة لحركة العضلات لم يكن للنفس تلك السلطنة ، ولكانت عاجزة عن التأثير مع فرض وجودها.

٢. إنّ الإرادة تشارك الخوف في كونها من الصفات النفسانية ، ويترتب على كل واحد أمور : فإذا خاف ، يرتعش البدن ويصفرّ اللون ، وإذا اراد يترتب عليه المراد ، فلو كانت الإرادة علّة تامة للفعل من دون أن يتوسط بينها وبين المراد سلطان النفس واختياره ، لزم أن يكون ما يترتّب على الخوف والإرادة على وزان واحد ، مع أنّه خلاف الوجدان.

٣. بل ربما يوصف الفعل بالاختياري من دون سبق إرادة عليه ، كما إذا سقط من شاهق فدار أمره بين أن يقع على ولده الأكبر ، أو الأصغر ، فبطبيعة الحال يختار سقوطه على ابنه

١٩٦

الأصغر لشدّة علاقته بالأكبر ، ومن البديهي انّ اختياره السقوط على الأوّل ليس من جهة شوقه إلى هلاكه أو موته وإرادته له ، ولو كانت الإرادة علّة تامة للفعل ، لكان صدوره منه محالا ، لعدم وجود علّته وهي الإرادة ، وانّما الفعل معلول إعمال القدرة وسلطان النفس لا إرادة الفعل.

فاستنتج من هذه الأمور الثلاثة أمرين :

الأوّل : انّ الإرادة لا تكون علّة تامة للفعل ، ولا توجب خروجه عن تحت سلطان النفس واختياره.

الثاني : على فرض التسليم ، انّ العلّة غير منحصرة فيها ، بل هناك علّة أخرى وهي إعمال القدرة والسلطنة للنفس (١).

هذا كلّه حول الامر الأول.

وأمّا الامر الثاني ، أعني : انّ الفعل الاختياري ما أوجده الإنسان باختياره وإعمال قدرته ، وهو بكافة أنواعه مسبوق بإعمال القدرة والسلطنة ، وحاصل ما أفاده هو ما يلي :

انّه إذا ثبت انّ الإرادة ليست علّة تامة للفعل ، فبطبيعة الحال

__________________

(١). انّه ـ قدس سرّه ـ ذيّل كلامه بالبحث عن قاعدة : «الشيء ما لم يجب لم يوجد» وانتهى إلى أنّها مختصة بالأفعال غير الاختيارية ، وقد مرّ الكلام فيه عند البحث عن القاعدة. فلاحظ.

١٩٧

يستند وجود الفعل إلى أمر ، وهذا الأمر هو إعمال القدرة والسلطنة المعبّر عنهما بالاختيار ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى انّ الله عزوجل قد خلق النفس للإنسان واجدة لهذه السلطنة والقدرة وهي ذاتية لها وثابتة في صميم ذاتها ، ولأجل هذه السلطنة تخضع العضلات لها وتنقاد في حركاتها ، فلا تحتاج النفس في إعمالها لتلك السلطنة والقدرة إلى إعمال سلطنة وقدرة أخرى.

ثم استنتج من هذا البيان الضافي أمرين تاليين :

١. انّ الأمر الاختياري انّما يصدر عن الفاعل بإعمال قدرته لا بإرادته. نعم الإرادة تكون مرجّحة لاختياره.

٢. انّ اختيار النفس للفعل وإن كان يفتقر غالبا إلى وجود مرجّح إلّا أنّه ليس من ناحية استحالة صدوره منها بدونه بل من ناحية خروجه عن اللغوية. (١)

يلاحظ عليه :

أوّلا : أنّه ـ قدس سرّه ـ في إثبات مقصوده (انّ النفس فاعلة مختارة بالذات وانّ السلطنة والاختيار ذاتيان للنفس وداخلان في

__________________

(١). المحقّق الخوئي : المحاضرات : ٢ / ٥٣ ـ ٦٠ بتلخيص.

١٩٨

صميم ذاتها) في غنىّ عن الخوض في هذه المباحث وقد عرفت أنّه وصل الى نفس ما وصل إليه السيد الأستاذ ، فحرية النفس الذاتية تكفي في رد الجبر ، وإثبات اختيار الفعل والإرادة ، سواء كانت الإرادة علّة تامة أو لا ، وسواء أصحت قاعدة : «الشيء ما لم يجب لم يوجد» أو لا ، ولكنه خاض غمار هذه المسائل العقلية وخرج بنتائج غير تامة ، وإليك الإشارة إليها :

الأوّل : الفرق بين حركة يد المرتعش وتحريك اليد يمنة ويسرة هو الفرق بين الفعل المفروض على الإنسان من غير طلب واختيار ، والفعل الذي فرضه الإنسان على نفسه ، فكون الإرادة علّة تامة للفعل غير المنفكة عن المراد ، لا ينافي كون الفاعل هو الذي فرض الفعل على نفسه عن اختيار سابق على الإرادة.

ولنا أنّ نستوضح الحال بمثال آخر ، وهو الفرق بين سقوط من ألقى نفسه من شاهق ، ومن دفعه شخص آخر منه ، فإنّ السقوط بما هو هو ـ بعد الاندفاع ـ أمر خارج عن الاختيار ، لكن يعاقب على الأوّل دون الثاني ، وما هذا إلّا لأنّ الفاعل في الأوّل هو الذي فرض الفعل على نفسه عن اختيار ، والثاني هو الذي فرض الغير عليه ، وعلى ضوء ذلك فوضوح الفرق بين

١٩٩

حركة المرتعش وتحريك الإنسان يده ، ليس معلولا لعدم كون الإرادة علّة تامة له ، ولا عدم جريان قاعدة : «الفعل ما لم يجب لم يوجد» بل الفرق رهن ، سبق الاختيار في الأوّل ، قبل الفرض ، دون الثاني.

٢. انّ الإرادة وإن كانت مثل الخوف في كل كون كلّ ، علّة تامة لما يترتب عليهما من الآثار ، لكن تفترق عنه ، بأنّ النفس غير قادرة على الاجتناب عن الخوف وأثره فلأجل ذلك يعدّ المؤثر والأثر أمرا غير اختياريّ ، وهذا بخلاف الإرادة فانّها علّة تامة للأثر ، لكن في وسع النفس الابتعاد عنها بالاختيار الموجود في النفس ، قبل التصميم والجزم.

٣. انّ السقوط على الولد الأصغر فعل إرادي للفاعل وان كان فاقدا للشوق النفسي ، وقد عرفت أنّ الشوق لا يلازم الإرادة ، بل القوّة العاقلة تدفعه إلى اختيار ذاك الجانب ، فأصل السقوط وإن كان غير إرادي لكن اختيار الجانب المعيّن إرادي قطعا ، وأمّا قوله : «.. ولو كانت الإرادة علّة تامة للفعل لكان صدوره منه محالا ، لعدم وجود علّة وهي الإرادة، فهو كلام غريب ، لأنّه خلط بين أصل السقوط ، واختيار جانب خاص ، فالأوّل فاقد للإرادة والثاني واجد لها قطعا.

٢٠٠