لبّ الأثر في الجبر والقدر

الشيخ جعفر السبحاني

لبّ الأثر في الجبر والقدر

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-27-4
الصفحات: ٣١٥

ج : انّ إرادته سبحانه بالمعنى الثالث عين ذاته سبحانه ، فهو علم كلّه ، قدرة كلّه ، وإرادة كلّه.

وإذا كان كل ما في الكون منتهيا إلى ذاته ، فلا محيص من استناد فعل الإنسان إلى ذاته التي هي عبارة عن الإرادة الواجبة والعلم الواجب. هذا حال الدليل العقلي الذي أوردناه على وجه الإيجاز وأمّا النقل ، فالذكر الحكيم يدل على سعة إرادته ، وتكفي في المقام الآيات التالية :

١. يقول سبحانه : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (١).

٢. وقال سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٢).

٣. (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ)(٣).

وقد ذكر الإيمان في الآية الثانية أو قطع اللينة أو تركها قائمة على أصولها من باب المثال لكونهما موردين لنزول الآية والمقصود انّ كلّ ما يجري في الكون فهو بمشيئته وإذنه سبحانه.

وأمّا الاستدلال بالحديث ، فيكفي في ذلك ما رواه الصدوق

__________________

(١). التكوير : ٢٩.

(٢). يونس : ١٠٠.

(٣). الحشر : ٥.

١٦١

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من زعم انّ الله تعالى يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم انّ الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ، ومن زعم انّ المعاصي بغير قوّة الله فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله النار» (١).

فمقتضى البرهان العقلي ، وآيات الذكر الحكيم ، وأحاديث العترة الطاهرة سعة إرادته ، ولكن المهم هو إثبات انّ القول بها لا يستلزم الجبر ، وهذا ما يتكفّله البحث التالي.

٤. سعة إرادته لا تستلزم الجبر

إنّ القول بسعة إرادته لا يستلزم الجبر ، وذلك لأنّ إرادته لم تتعلّق بصدور فعل الإنسان منه سبحانه مباشرة وبلا واسطة ، بل تعلّقت بصدور كل فعل من علّته بالخصوصيات التي اكتنفتها.

مثلا تعلّقت إرادته سبحانه على أن تكون النار مبدأ للحرارة بلا شعور وإرادة ، كما تعلّقت إرادته على صدور الرعشة من المرتعش مع العلم ولكن لا بإرادة واختيار ، وهكذا تعلّقت إرادته في مجال الأفعال الاختيارية للإنسان على صدورها منه

__________________

(١). الصدوق : التوحيد : ٣٥٩ ح ٢ ، باب نفي الجبر والتفويض ؛ ولاحظ بحار الأنوار : ٥ كتاب العدل والمعاد ص ٤١ ح ٦٤.

١٦٢

مع الخصوصيات الموجودة فيه المكتنفة به من العلم والاختيار وسائر الأمور النفسانية.

وصفحة الوجود الإمكاني مليئة بالأسباب والمسبّبات المنتهية إليه سبحانه ، فمثل هذه الإرادة المتعلّقة على صدور فعل الإنسان بقدرته المحدثة واختياره الفطري تؤكد الاختيار ولا تسلبه منه.

ومع ذلك كلّه ليس فعل الإنسان فعلا خارجا عن نطاق قدرته سبحانه غير مربوط به كيف وهو بحوله وقوته يقوم ويقعد ويتحرك ويسكن ففعل الإنسان مع كونه فعله بالحقيقة دون المجاز ، فعل الله أيضا بالحقيقة فكل حول يفعل به الإنسان فهو حوله ، وكل قوة يعمل بها فهي قوته.

قال العلّامة الطباطبائي : إنّ الإرادة الإلهية تعلّقت بالفعل بجميع شئونه وخصوصياته الوجودية ، ومنها ارتباطه بعلله وشرائط وجوده ، وبعبارة أخرى تعلّقت الإرادة الإلهية بالفعل الصادر من زيد مثلا لا مطلقا ، بل من حيث إنّه فعل اختياري صادر من فاعل كذا ، في زمان كذا. فإذن تأثير الإرادة الإلهية في الفعل يوجب كونه اختياريا ، وإلّا تخلّف متعلّق الإرادة عنها.

١٦٣

فالإرادة الإلهية في طول إرادة الإنسان وليست في عرضها حتى تتزاحما ويلزم من تأثير الإرادة الإلهية بطلان تأثير الإرادة الإنسانية. فخطأ المجبّرة في عدم تمييزهم كيفية تعلّق الإرادة الإلهية بالفعل وعدم تفريقهم بين الإرادتين الطوليتين والإرادتين العرضيّتين ، وحكمهم ببطلان تأثير إرادة العبد في الفعل لتعلّق إرادة الله تعالى به. (١)

٥. تفسير قوله سبحانه : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ)

قد وردت في الذكر الحكيم آيات ، ربما يستظهر منها خروج أفعال العباد ، عن مجال إرادته سبحانه ، بشهادة أنّه ينفي إرادة الظلم للعباد عن نفسه ، أو يصرّح بأنّه لا يرضى لعباده الكفر ، وأنّه لا يحب الفساد ، ولا شك انّ فعل العبد ، ربما يتعنون بالظلم والكفر والفساد ، وقد نفى سبحانه عن ذاته إرادتها وحبها والرضاء بها قال سبحانه : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٢) وقال عز من قائل : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٣) وقال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٤) وقد استظهر شيخنا المفيد من هذه الآيات خروج

__________________

(١). الميزان : ١ / ٩٩ ـ ١٠٠ ، طبعة بيروت.

(٢). غافر : ٣١.

(٣). الزمر : ٧.

(٤). البقرة : ٢٠٥.

١٦٤

أفعال العباد عن حريم إرادته سبحانه (١).

يلاحظ عليه : أوّلا : أنّ الاستظهار مبنيّ على تفسير الإرادة بالإرادة التكوينية التي تكون مبدأ للإيجاد والخلق ، لكن لما ذا لا يكون المراد منها الإرادة التشريعية المتجلّية في الأمر بالمصالح والنهي عن المفاسد؟ وقد مضى تفسير الإرادة التشريعية وانّ وزانها وزان الإرادة التكوينية في أنّهما يتعلّقان بفعل المريد ، غاية الأمر لو كانت الإرادة مبدأ للإيجاد والخلقة نسمّيها إرادة تكوينية ، وإن كانت مبدأ لجعل الأحكام والقوانين والسنن تسمّى إرادة تشريعية.

فوزان هذه الآيات ونظائرها وزان قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٢).

وقوله سبحانه : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٣).

نعم لقائل أن يقول : إذا كانت إرادته التشريعية لا تتعلّق بهذه الأمور الثلاثة ، فأولى أن لا تتعلّق بها إرادته التكوينية أيضا ، إذ لا

__________________

(١). المفيد : تصحيح الاعتقاد : ١٦ ـ ١٨.

(٢). النحل : ٩٠.

(٣). الأعراف : ٢٨.

١٦٥

معنى لأن يخبر عن عدم تعلّق إرادته بشيء تشريعا ، ولكن ـ في الوقت نفسه ـ تتعلّق إرادته به تكوينا.

وأمّا توضيح دفعه : فنقول : إنّ تعلّق إرادته التكوينية بشيء على قسمين :

١. أن تتعلّق مشيئته التكوينية بالإيجاد مباشرة ، من دون أن يكون للعبد فيها دور كخلق السماوات والأرض. وفي المقام ، كتعذيب المطيع وإنعام المجرم ، إلى غير ذلك من الأفعال التي يستقل العقل بقبحها وشناعتها ، والله سبحانه أجل وأعلى من أن يريد مثل ذلك.

٢. أن تتعلّق مشيئته التكوينية بالإيجاد من خلال إرادة العبد ومشيئته ، بحيث يكون لإرادة العبد دور في وصف العمل بالظلم والبغي ، وتلوّنه بالفحشاء فليست الآيات ، نافية لها فإنّ فعل العبد ووصفه وإن كانا مرادين لله ، لكن إرادته سبحانه ليست علّة تامة لفعل الإنسان ، وانّما يتخلّل بينهما وبين الفعل إرادة العبد واختياره فيكون هو المسئول عن الفعل وعناوينه المحسّنة والمقبّحة ، لكونها الجزء الأخير لعلّة الفعل وسببه.

وبالجملة : ما يصدر من العبد من حسن وقبح ، يصدر في

١٦٦

سلطانه وملكه ، بإذنه وإرادته ، لكنه لا بمعنى أنّه سبحانه يريد الظلم والبغي للعباد ابتداء ، بل يريده إذا أراد العبد واختاره ، ومعنى إرادته سبحانه الظلم والبغي عندئذ أنّ العبد في اختيار كل من الفعل والترك غير مستغن عن إرادته كعدم استغنائه عن حوله وقوته سبحانه فلو أراد فإنّما أراد بإرادته ، ولئن قام فإنّما قام بحوله ، ولئن ترك فبإرادته ، فإذا كان العبد غير مستغن في إرادته ، عن إرادته سبحانه ، فالله سبحانه : أيضا غير أجنبي عن إرادة العبد وفعله ، لكون الجميع قائما به وبإرادته ، وهذا معنى تعلّق إرادته ، بأفعال العبد خيرها وشرّها ، فتعلّق إرادته بها شيء وكونه الفاعل للخير والشر والحسن والقبيح ومريدهما ابتداء ومباشرة شيء آخر والمنفي هو الثاني دون الأوّل.

وبعبارة أخرى : القبيح أن يجبر العبد على الظلم والبغي والفساد بالإرادة التكوينية مباشرة وابتداء وامّا إذا خلق العبد حرّا ومختارا ، في إرادة أيّ جانب من جوانب الفعل ، ثم هو اختار جانبا حسنا أو قبيحا من جانبي الشيء باستعانة من إرادته سبحانه ، فلا يعدّ مثل هذا التعلّق ، أمرا قبيحا ، فإنّ تعلّق إرادته سبحانه بفعله في هذا الظرف. انّما هو لازم وجوده الإمكاني ، ولا محيص عنه ، ومثل هذا التعلّق ، لا يكون قبيحا.

١٦٧

وبالجملة وزان إرادته سبحانه ، وزان قوته وقدرته ، فكما العبد يقوم بحوله وقوّته ، فهكذا يريد بإرادته ، ويشاء بمشيئته ، فكما لا يصح فصل عمله عن حوله وقوته فكذلك لا يصح فصل مشيئته عن مشيئته ، ولأجل ذلك يقول سبحانه (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١).

__________________

(١). الإنسان : ٣٠.

١٦٨

منهاج الجبر

الجبر الأشعري

٤

قدرة العبد غير مؤثرة في الإيجاد

إنّ كون العبد مختارا فرع كونه قادرا على إيجاد الفعل ، ولكنه غير قادر ، وذلك انّ العبد لو كان موجدا لفعله بقدرته فلا بد من أن يتمكّن من فعله وتركه ، وإلّا لم يكن قادرا عليه ، إذ القادر من يتمكن من كلا الطرفين ، وعلى هذا يتوقف ترجيح فعله على تركه على مرجّح ، وإلّا فلو وقع أحد الطرفين بلا مرجّح يلزم وقوع أحد الجائزين بلا سبب وهو محال ، فإذا توقّف وجود الفعل على المرجّح ، فهذا المرجّح إمّا أن يصدر من العبد باختياره أو من غيره ، فإن كان من العبد يلزم التسلسل ، لأنّا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجّح عن العبد فيتوقف صدوره على مرجّح ، وعلى الثاني أي يكون المرجّح من الله ،

١٦٩

يكون الفعل عنده واجب الصدور ، عن العبد ، بحيث يمتنع تخلّفه عنه وإلّا فلو لم يكن الفعل مع ذلك المرجّح واجب الصدور ، وجاز وقوع الطرف الآخر يلزم أن يكون تخصيص أحد الطرفين بالتحقّق دون الآخر بلا دليل ، فيجب أن يكون أحد الطرفين مع المرجّح واجب الصدور ومعه يكون اضطراريا لا اختياريا.

والظاهر أنّ مراده من المرجّح هو العلّة ، فعندئذ يقال بعبارة موجزة : إنّ صدور الفعل من العبد ، فرع صدور العلّة منه ، فهل صدور العلّة منه ، لمرجح راجع إلى نفس العبد ، أو إلى الله؟ فعلى الأوّل ينتقل الكلام إلى صدور ذلك المرجّح ، فهو أيضا لمرجّح صادر من العبد فيتسلسل ؛ وعلى الثاني ، ينتفي الاختيار ، إذ عند حصول ذلك المرجّح يجب الفعل ، وعند عدمه يمتنع الفعل.

ثم إنّ ما ذكرنا من التقرير موافق لما ذكره الفاضل المقداد في إرشاده (١) ، والشريف الجرجاني في «شرح المواقف» (٢).

وأمّا ما ذكره المحقّق الطوسي بقوله : والوجوب للداعي لا ينافي القدرة كالواجب (٣) فالظاهر أنّه إشارة لدليل آخر سيوافيك

__________________

(١). إرشاد الطالبين : ٥٦٥.

(٢). شرح المواقف : ٨ / ١٤٩ ـ ١٥٠.

(٣). العلّامة الحلّي : كشف المراد : ٣٠٨ ذيل المسألة السادسة : انّا فاعلون.

١٧٠

عند البحث عن الجبر الفلسفي أعني قولهم : «إنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» حيث توهم أنّه يلازم الجبر.

والجواب عن الشبهة واضح جدا ، ونحن نختار الشق الأوّل ، وهو انّ صدور الفعل فرع وجود مرجّح وداع يرتبط بالعبد ، ولا يخرج عن حيطة الفاعل ، وأمّا المرجّح الذي يضفي للفعل وصف الوجوب ، فهو عبارة عن الإرادة ومقدّماتها من التصوّر والتصديق بالملائمة للنفس وقواها ثم الاشتياق ثم التصميم بفعله ، فالإرادة هي المرجّحة الوحيدة ، لوجوب الشيء ، المخرجة للفعل عن حد الإمكان إلى حيّز الوجوب بالغير ، وكونها مرجّحة وداعية ، لا يستلزم التسلسل ، أوّلا ، ولا يستلزم الجبر ثانيا.

أمّا الأوّل فلأنّ المبدأ لظهور الإرادة في لوح النفس ، هو إدراك ملائمة الفعل لها وقواها المختلفة من عقلية أو مثالية أو حسّية ، ومثل هذا الإدراك أمر فطري لها ، يكفي في وجوده التفات النفس إلى الفعل.

وأمّا الثاني ، فلما سيوافيك من أنّ لعدّ الشيء فعلا اختياريّا ملاكين :

الأوّل : أن يكون مسبوقا بالإرادة ، كالافعال الجوارحية من

١٧١

الأكل والشرب.

الثاني : أن يكون فعلا لفاعل مختار بالذات ، كنفس الإرادة الصادرة عن النفس فإنّها بما أنّها فعل فاعل مختار بالذات تكون ، فعلا اختياريا لها لا اضطراريا.

وبالجملة : انّ الملاك لوصف فعل جوارحي كالمشي بكونه اختياريا كونه مسبوقا بالإرادة وكونه صادرا عنه بها ، وأمّا الملاك لوصف فعل جوانحيّ كالإرادة فإنّما هو لأجل كونها فعلا مباشريا لفاعل مختار بالذات ، له أن يشاء وله أن لا يشاء ، فإذا شاء فإنّما شاء باختيار ذاتي وحرية فطرية ، وسيوافيك توضيحه عند البحث عن الجبر الفلسفي.

استدلّوا على عدم صلاحية قدرة العبد للتأثير في الفعل بوجهين آخرين :

١. إذا كانت القدرتان مختلفتين في الجهة

لو كانت قدرة العبد صالحة للإيجاد ، فلو اختلفت القدرتان في المتعلّق ، مثلا إذا أراد تعالى تسكين جسم وأراد العبد تحويله ، فإمّا أن يقع المرادان وهو محال ؛ أو لا يقع واحد منهما وهو أيضا محال ، لاستلزامه ارتفاع النقيضين ، لكونها من قبيل

١٧٢

الضدين اللّذين لا ثالث لهما ؛ أو يقع أحدهما دون الآخر وهو أيضا محال ، لأنّ وقوع أحدهما ليس أولى من الآخر ، لأنّ الله تعالى وإن كان قادرا على ما لا نهاية له ، والعبد ليس كذلك ، إلّا أنّ ذلك لا يوجب التفاوت بين قدرة الله وقدرة العبد (١) ، فلا محيص عن سلب الصلاحية عن قدرة العبد مطلقا ، فيتعيّن وقوع ما أراده الله سبحانه.

يلاحظ عليه : أنّه يقع مراد الله دون مراد العبد ، وذلك لا لعدم صلاحية قدرته ، بل مع الاعتراف بصلاحية قدرته للتأثير في الفعل ، لكن في المقام خصوصية تمنع عن تأثير قدرته ، وهو أنّ قدرته قدرة تامة ، دون قدرة العبد ، لأنّ من شرائط فعلية قدرته ، أن لا تكون ممنوعة من ناحية قدرة بالغة كاملة ، فتعلّق قدرته سبحانه بالحركة تكون مانعة عن وصول قدرة العبد ، إلى درجة التأثير والإيجاد ، فإحداهما مطلقة والأخرى مشروطة ، ولأجل ذلك لو لم تكن ممنوعة ، وقع مراد العبد قطعا.

والحاصل : انّ عدم تأثيرها ، ليس لعدم صلاحيتها للتأثير مطلقا ، بل لأجل كونها مقرونة بالمانع ، فكيف يستدل بمورد له

__________________

(١). الرازي : الأربعون : ٢٣٢.

١٧٣

خصوصية على عدم صلاحيتها مطلقا؟

٢. إذا كانت القدرتان متوافقتي الجهة

إنّ نسبة ذاته إلى جميع الممكنات على السوية ، فيلزم أن يكون قادرا على جميع الممكنات وعلى جميع مقدورات العباد ، وعلى هذا ففعل العبد إمّا أن يقع بمجموع القدرتين، أعني : قدرة الله وقدرة العبد ، وإمّا أن لا يقع بواحدة منهما ، وإمّا أن يقع بإحدى القدرتين دون الأخرى ، والأقسام باطلة ، فوجب أن لا يكون العبد قادرا على الإيجاد والتكوين. (١)

وقام المتكلّمون في مقابل تحليل الدليل واختار كلّ مسلكا :

١. فجمهور الأشاعرة ذهبوا إلى أنّه يقع بقدرة الله سبحانه.

٢. وقالت المعتزلة : إنّه يقع بقدرة العبد وحده.

٣. وفصّل الباقلاني من الأشاعرة بأنّ قدرة الله تتعلّق بأصل الفعل ، وقدرة العبد تتعلّق بالعناوين الطارئة عليه ، كالطاعة والعصيان لأجل التأديب والإيذاء في لطم اليتيم ، فأصل اللطم واقع بقدرة الله ، وكونه طاعة لأجل التأديب ومعصية لأجل الإيذاء ، بقدرة العبد.

__________________

(١). الرازي : الأربعون : ٢٣٢.

١٧٤

٤. ونقل الإيجي من الأشاعرة عن أستاذه انّه يقع بمجموع القدرتين العرضيتين حيث جوّزوا اجتماع المؤثرين على أثر واحد.

٥. وقال إمام الحرمين الجويني بأنّ قدرة الله تتعلّق بقدرة العبد ، وقدرة العبد تتعلّق بالفعل ، فتكون القدرتان طوليتين.

٦. وكأنّ إمام الحرمين يصوّر القدرتين ، قدرتين مستقلتين ، غاية الأمر إحداهما في طول الآخر ، ولكن الحق ، انه يقع بقدرة واحدة وهي قدرة العبد ، وفي الوقت نفسه هي من مظاهر قدرته سبحانه لما ثبت من أنّ العبد وقدرته قائمان بالله فقدرته مظهر من مظاهر قدرته سبحانه في عالم الإمكان.

ثم إنّ الأشاعرة ومن لفّ لفّهم تمسّكوا في سلب تأثير قدرة الإنسان ، بأمور تالية :

١. الهداية والضلالة بيد الله سبحانه ، وليس للعبد دور فيهما حسب تضافر الآيات.

٢. انّ الإيمان والكفر من الأمور المقدّرة والمقضيّة ، والقضاء والقدر سالبان للاختيار.

١٧٥

٣. انّه سبحانه ربّما يختم على قلب الكافر والمنافق فلا يدخل فيه نور الإيمان ، كالآيات الواردة فيها لفظ : «الختم والطبع» إلى غير ذلك.

٤. ما دلّ على أنّ السعادة والشقاء من الأمور الذاتية.

ونحن نرجئ البحث عن هذه الدلائل النقلية إلى زمان الفراغ من بيان المناهج في تفسير أفعال الإنسان ، فتبصر.

١٧٦

مناهج الجبر

الجبر الفلسفي

١

الوجود يلازم الوجوب

قد عرفت أنّ للجبر مناهج مختلفة ، فالجبر الأشعري يعتمد على أسباب غيبيّة من كون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ، أو انّ تعلّق علمه وإرادته الأزليّين ، يضيفان على الفعل وصف الوجوب ، أو انّه لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد الفعل فيكون الإنسان في أفعاله مسيّرا ، لا مخيّرا.

وأمّا الفلاسفة (١) فالإلهي منهم يعتمد في القول بالجبر على أصلين :

١. الوجود ، يلازم الوجوب ، وانّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

__________________

(١). المراد قسم منهم ، لا كلّهم ، ولا عامّة أصحاب الفلسفة المتعالية.

١٧٧

٢. إنّ سمة الفعل الاختياري ، هو كونه مسبوقا بالإرادة ، ولكن الإرادة ليست أمرا إراديا ، وإلا لتسلسل ، فيكون أمرا اضطراريا ، فيصير الفعل مثلها ، لأنّ معلول الأمر الاضطراري اضطراريّ مثله وليس باختياري ، فيلزم علينا دارسة الأصلين مادة واستنتاجا فنقول :

لا غبار على القاعدة ، وانّ وجود الشيء ملازم لوجوبه ، وهو مفاد القاعدة الفلسفية المعروفة من : «انّ الشيء ، ما لم يجب لم يوجد». وهي قاعدة محقّقة مبرهنة ، ولكن استنتاج الجبر منها فكرة خاطئة ، ومغالطة واضحة ، حصلت من خلط الفاعل الموجب ، بالفعل الموجب بالفتح ، وسيتضح الخطأ في الاستنتاج.

أمّا برهان القاعدة : بإجماله : فهو انّ وجود الشيء رهن سدّ باب العدم على وجهه بالقطع والبت ، حتى يكون وجوده على وجه الوجوب ولكي ينقطع السؤال بأنّه لما ذا وجد ، ولم ينعدم؟

توضيح البرهان :

إنّ نسبة الممكن سواء كان جوهرا أو عرضا ، إلى الوجود والعدم متساوية ، فليس في ذاته اقتضاء

١٧٨

الوجود ولا اقتضاء العدم ، وإلّا صار إمّا واجب الوجود أو ممتنعه. مع أنّ المفروض انّه ممكن الوجود ، فلخروجه عن حدّ الاستواء ، يحتاج إلى عامل خارج عن ذاته يسوقه إلى أحد الجانبين ، لكن عدم العلّة ، كاف في السوق إلى جانب العدم ولا يتوقف على علّة العدم حتى يضفي عليه وصف العدم ، إذ العدم بطلان محض ، وظلمة بحتة ، فعدم الوجود لعامل الوجود والنور كاف في بقاء النهي على بطلانه ، وظلمته. وأمّا جانب الوجود ، فهو يتوقف على سبب وجوديّ ، يخرجه من البطلان إلى الحق ، ومن الظلمة إلى النور وهذا هو الأصل المسلّم بين جميع الفرق ، من حاجة الممكن إلى العلّة ، وانّ الترجّح بلا مرجّح أمر باطل مخالف للفطرة ، وهو من القضايا البديهية عند العقل ، لا من الأمور التجريبية كما أوضحناها في بحوثنا الفلسفية ، لأنّ التجربة ومشاهدة انّ كلّ حادث لا يتحقّق إلّا بعد تحقّق شيء آخر قبله ، لا تثبت إلّا تقارن الأمرين واتفاقهما معا ؛ وأمّا أنّ الثاني ناشئ من الأوّل ، ومفاض منه ، فهذا ما لا تعطيه التجربة ، ولأجل ذلك عجز من اعتمد على التجربة في إثبات المفاهيم الكلّية الفلسفية ، عن إثبات قانون العليّة فأنكره أو شكّ فيه ، وأمّا نحن فنراه من الأمور البديهيّة الواضحة لدى العقل ، وانّه يحكم بالبداهة انّ الفقدان لا يكون منشأ للوجدان ، وانّ فاقد الشيء

١٧٩

لا يكون معطيه.

وبعد الاتفاق على هذا الأصل من عامّة الطوائف ، هناك اختلاف بين المتكلّمين والفلاسفة ، وهو أنّه هل يكفي مجرّد ترجيح جانب الوجود ، أو يجب أن يصل الترجيح إلى مرحلة الوجوب ، بحيث يمتنع جانب العدم ولو امتناعا بالغير؟ فغالب المتكلّمين على الأوّل ، والفلاسفة على الثاني ، وهو الحق ، لأنّ المعلول ما لم يصل إلى حد الوجوب يكون باب العدم مفتوحا عليه كباب الوجود ، فيطرح السؤال لما ذا وجد مع انفتاح باب كل من الوجود والعدم إذ المفروض انّ المرجّح ، لم يسدّ باب العدم على وجه القطع بل كان باب كلّ منهما بعد مفتوحا على الشيء ، وان ترجّح جانب الوجود ، ولكن الأولوية العارضة على جانب الوجود لم تسدّ باب العدم؟

هذا هو برهان القاعدة ، لا ما ذكره المحقّق الخوئي قدس سرّه من أنّ هذه القاعدة ترتكز على مسألة التناسب والسنخية بين العلّة والمعلول ، فإنّ وجود المعلول ـ كما تقدم ـ مرتبة نازلة من وجود العلّة وليس شيئا اجنبيا عنه ، وعلى هذا فطبيعة الحال : انّ وجود المعلول قد أصبح ضروريا في مرتبة وجود العلّة لفرض انّه متولّد منها ، ومستخرج من صميم ذاتها وواقع مغزها وهذا

١٨٠