لبّ الأثر في الجبر والقدر

الشيخ جعفر السبحاني

لبّ الأثر في الجبر والقدر

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-27-4
الصفحات: ٣١٥

مختلفة متفضّلة بعضها على بعض في الأكل ، ولو لم يكن وراء الجهاز المادي ، قدرة غيبية مؤثرة ، لما اختلفت الأشجار ولما تنوّعت فواكهها ، مع وحدة الأسباب المادية.

فالآية في ضمن الاعتراف بتأثير العلل المادية تقودنا إلى عدم الاعتراف بكفايتها في التحوّل ، وغنائها عن سبب غيبي في تدبيرها.

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على تأثير العلل والأسباب ، لكن كلّها بإذن ربّها ، لأنّها جنوده في عالم المادة : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (١).

تحليل ما استدلّ به الأشعري من الآيتين

استدل الأشعري في ثنايا كلامه بآيتين.

إحداهما : قوله سبحانه : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٢).

إلّا أنّ الكلام في تفسير (ما) في (ما تَعْمَلُونَ) فهل هي مصدرية أو موصولة؟

والاستدلال مبني على كونها مصدرية ، بمعنى انّ الله خلقكم وعملكم ، ولكن مقتضى السياق انّها موصولة ، بقرينة ما قبله :

__________________

(١). المدثر : ٣١.

(٢). الصافات : ٩٦.

١٤١

(أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) وحيث إنّ المراد من الموصول في الآية الأولى ، هو الأوثان والأصنام ، يكون المراد منها في الآية الثانية هو ذلك أيضا ، ويريد الخليل عليه‌السلام بكلامه هذا تنبيه الوثني الجاهل بأنّه وما يعبده كلاهما مخلوق لله سبحانه ، فلما ذا تركتم الأصل والمبدأ وأخذتم بالفرع؟ لما ذا تعبدون الفقير المتدلّي القائم بالله ، وتتركون عبادة الخالق الكبير المتعال؟ وعندئذ لا صلة للآية بما يرتئيه الأشعري.

ثانيتهما : قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (١).

يلاحظ عليه : أنّ الآيات الدالّة على حصر الخالقية بالله سبحانه كثيرة (٢).

لكن المهم هو الوقوف على ما تهدف إليه الآيات ، فإنّ لهذا القسم منها احتمالين ، لا يتعين أيّ منهما إلّا باعتضاده بالآيات الأخر ، ودونك الاحتمالين :

__________________

(١). فاطر : ٣.

(٢). لاحظ الأنعام : الآيتان ١٠١ و ١٠٢ ، والحشر : ٢٤ ، والأعراف : ٥٤.

١٤٢

أ : حصر الخلق والإيجاد على وجه الإطلاق بالله سبحانه ونفيه عن غيره بتاتا على وجه الاستقلال والتبعية ، وهذا ما تتبناه الأشاعرة.

وترده الآيات الدالة على أنّ للعلل الطبيعية دورا في عالم الوجود بإذن الله سبحانه.

كقوله سبحانه : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) (١).

وقوله سبحانه : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢) وغير ذلك من الآيات الدالة على تأثير العوامل الطبيعية بإذنه (٣).

ب : انّ الخالقية المستقلة النابعة من الذات غير المعتمدة على شيء ، منحصرة بالله سبحانه ، ولكن غيره يقوم بأمر الخلق والإيجاد بمشيئته وإرادته ، والكل جنود الله سبحانه. ويدلّ على هذه النظرية الآيات التي تثبت للموجودات تأثيرا وللإنسان دورا في أفعاله.

ونزيد بيانا : انّ الآيات الواردة حول أفعال الإنسان على قسمين ، قسم يعد الإنسان عاملا فاعلا لأفعاله ، وقسم ينسب

__________________

(١). آل عمران : ٤٩.

(٢). المؤمنون : ١٤.

(٣). السجدة : ٢٧ ، النور : ٣٤.

١٤٣

قسما من الأفعال إلى الإنسان.

فمن القسم الأوّل قوله سبحانه : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (١).

وقوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (٢).

وقوله سبحانه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) (٣).

وأمّا القسم الثاني : فحدّث عنه ولا حرج ، فقد نسب في الذكر الحكيم كثيرا من الأفعال إلى الإنسان ، كالجهاد ، والإنفاق ، والإحسان ، والسرقة ، والتطفيف ، والكذب ، وغير ذلك من صالح الأعمال وطالحها.

فعل واحد ينسب إلى الله وإلى العبد معا

هناك قسم ثالث من الآيات ينسب فيها الله سبحانه وتعالى الفعل الواحد إلى نفسه ، وإلى عبده ، وذلك في ضمن آيتين أو آية واحدة.

__________________

(١). التوبة : ١٠٥.

(٢). محمد : ٣٣.

(٣). النجم : ٣٩ ـ ٤٠.

١٤٤

١. يقول سبحانه : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (١) فيخص الرازقية بنفسه بشهادة تقدم الضمير المنفصل (هُوَ). وفي الوقت نفسه يأمر الإنسان بالقيام بالرزق بالنسبة إلى من تحت يده ويقول : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٢).

٢. يقول سبحانه : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٣).

فيخص الزارعية بنفسه وذلك معلوم من سياق الآيات. وفي الوقت نفسه يعد الإنسان زارعا ويقول : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) (٤). فكيف تجتمع هذه النظرة الوسيعة مع الحصر السابق؟

٣. يقول سبحانه : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (٥).

فينسب الفعل الواحد وهو الغلبة في وقت واحد إلى نفسه ورسله.

٤. يقول سبحانه : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) (٦)

__________________

(١). الذاريات : ٥٨.

(٢). النساء : ٥.

(٣). الواقعة : ٦٣ ـ ٦٤.

(٤). الفتح : ٢٩.

(٥). المجادلة : ٢١.

(٦). محمد : ٧.

١٤٥

فيعد نفسه ناصرا ، وفي الوقت نفسه يعدّ المؤمنين ناصرين أيضا.

٥. يقول سبحانه : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) (١) ترى أنّه سبحانه ينسب أمر الخلق إلى رسوله بصراحة ، حتى أنّ الرسول يصف نفسه به ويقول : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (٢) ومع ذلك انّ القرآن الكريم يخصّ الخالقيّة بالله سبحانه في كثير من الآيات التي تعرّفت عليها ، ولا يحصل الجمع بين هذه الآيات إلّا بالقول بأنّ الخالقية النابعة من الذات غير المعتمدة على شيء تختص به سبحانه ، ومثله سائر الأفعال من الرزق والزرع والغلبة والنصرة ، فالكل بالمعنى السابق مختص به سبحانه لا يعدوه ، لأنّها من خصائص الواجب ولا يوصف بها الممكن.

وأمّا الفعل المعتمد على الواجب ، المستمد منه فهو من شأن العبد يقوم به بإقدار منه سبحانه وإذنه. ولأجل ذلك يكرّر سبحانه لفظة : (بِإِذْنِي) أو : (بِإِذْنِ اللهِ) في الآيات المتقدّمة ، وهذا واضح لمن عرف ألفباء القرآن. والأشعري ومن تبعه قصّروا

__________________

(١). المائدة : ١١.

(٢). آل عمران : ٤٩.

١٤٦

النظر على قسم واحد ، وغفلوا عن القسم الآخر ، ولا يقف على ذلك إلّا من فسّر الآيات تفسيرا موضوعيا.

أضف إلى ذلك انّه لم ترد في اللغة العربية نسبة الخلق الى الفعل فلا يقال خلق الأكل والشرب ، والضرب ، وانما يستخدم في تلك الموارد نفس الفعل : أكل ، أو شرب ، أو لفظ الفعل فيقال «فعل الأكل» فأعمال الإنسان خارجة عن حريم الآيات الحاصرة فلاحظ.

القول بالكسب غير ناجح

لمّا رأى الإمام الأشعري وأتباعه ، انّ ما اختاره من خلق الأعمال يؤدّي إلى الجبر ، وان يكون الإنسان مسيّرا لا مخيّرا ، عاد إلى القول بأنّ الله خالق والإنسان كاسب ، والثواب والعقاب للكسب.

ونظرية الكسب في عقيدة الأشعري من اللغز ، وهذه النظرية. كالقول بالأحوال لأبي هاشم ، والطفرة للنظام من اللغز الّذي لا يقف على مرماه أحد ، وقال الشاعر :

مما يقال ولا حقيقة عنده

معقولة تدلو إلى الافهام

١٤٧

الكسب عند الأشعري والحال

عند البهشمي وطفرة النظام(١)

وأوضح تفسير له ما ذكره الفاضل القوشجي وقال : المراد بكسبه إيّاه مقارنة الفعل لقدرة الإنسان من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له. (٢)

يلاحظ عليه : إذا كان دور العبد ، هو دور المقارنة بلا تأثير لقدرته وإرادته ، فلما ذا كان هو المسئول عن فعل الغير؟

وأخيرا نسأل عن الفرق بين تلك الحركة والحركة الاضطرارية مع انّا نجد الفرق الواضح بين الحركتين.

ولأجل ذلك ذهب المحقّقون من الأشاعرة في العصر الحاضر إلى إنكار الكسب ، ومالوا إلى القول بتأثير إرادة العبد وقدرته ، وقد ذكرنا كلماتهم في الإلهيات فراجع. (٣)

وقال الإمام الرضا عليه‌السلام فيما كتبه إلى المأمون من محض الإسلام : «إنّ أفعال العباد مخلوقة لله خلق تقدير ، لا خلق تكوين ، والله خالق كل شيء ولا نقول بالجبر والتفويض ...» (٤).

__________________

(١). الخطيب عبد الكريم المصري : القضاء والقدر : ١٨٥.

(٢). شرح التجريد : ٤٤٥.

(٣). الإلهيات : ٢ / ٢٨١ ـ ٢٨٢.

(٤). الصدوق : عيون أخبار الرضا : ٢ / ١٢١ ، لاحظ البحار ج ٦٨ / ٢٦٢.

١٤٨

مناهج الجبر

الجبر الأشعري

٢

تعلّق علمه الأزلي بأفعال العباد

هذا هو الأصل الثاني الذي اعتمد عليه أتباع الشيخ الأشعري.

بيانه : أنّ ما علم الله سبحانه وجوده من أفعال العباد ، فهو واجب الصدور ، وما علم عدمه فهو ممتنع الصدور منه ، وإلّا انقلب علمه جهلا ، وليس فعل العبد خارجا عن كلا القسمين ، فيكون إمّا ضروريّ الوجود أو ضروريّ العدم ، ومعه لا مفهوم للاختيار ، إذ هو عبارة عمّا يجوز فعله وتركه ، مع أنّ الأوّل لا يجوز تركه ، والثاني لا يجوز فعله.

وقد وقع هذا الدليل عند الرازي موقع القبول ، وقال : ولو

١٤٩

اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفا إلّا بالتزام مذهب هشام : وهو أنّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها. (١)

يلاحظ عليه أوّلا : أنّ ما نسبه إلى هشام بن الحكم فرية عليه ، ولو صحّت نسبته إليه فيرجع إلى عصر شبابه عند ما كان جهميّا قبل أن يلتحق بالإمام الصادق عليه‌السلام ، وإلّا فبعد استبصاره وتعلّمه على يدي الإمام يرى ما يراه الإمامية ، من علمه سبحانه بالأشياء قبل الخلقة تفصيلا : وهذا الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يصفه سبحانه بقوله : «كل عالم فمن بعد جهل يعلم ، والله لم يجهل ولم يتعلّم ، أحاط بالأشياء علما قبل كونها ، فلم يزدد بكونها علما ، علمه بها قبل أن يكوّنها ، كعلمه بها بعد تكوينها» (٢).

وثانيا : أنّ الإجابة عن الاستدلال ليست على النحو الذي زعمه الرازي وتخيّل انّ الثقلين لو اتفقوا لا يقدرون على نقده ، وأليك بيانه :

انّ علمه

__________________

(١). الشريف الجرجاني : شرح المواقف : ٨ / ١٥٥.

(٢). الصدوق : التوحيد : ٤٣.

١٥٠

الأزلي لم يتعلّق بصدور كل فعل عن فاعله على وجه الإطلاق ، بل تعلّق علمه بصدور كل فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه. وعلى ضوء ذلك تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر ، بلا شعور ، كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش ، عالما بلا اختيار ، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية. فتعلّق علمه بوجود الإنسان وكونه فاعلا مختارا ، وصدور فعله عنه اختيارا ـ فمثل هذا العلم ـ يؤكد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.

وإن شئت قلت : إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة ، ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية. فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية لكان علمه مطابقا للواقع غير متخلّف عنه ؛ وأمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار بلا علم وشعور ، أو بلا اختيار وإرادة ، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.

ونقول توضيحا لذلك : إنّ الأعمال الصادرة من الإنسان على قسمين : قسم يصدر منه بلا شعور ولا إرادة ، كأعمال الجهاز الدمويّ ، والجهاز المعويّ ، وجهاز القلب ، والأحشاء ، التي تتسم في أفعال الإنسان بسمة الأعمال الاضطرارية ، غير الاختيارية.

١٥١

وقسم آخر يصدر منه عن إرادة واختيار. ويتّسم بسمة الأعمال الاختيارية غير الاضطرارية ، كدراسته ، وكتابته ، وتجارته ، وزراعته.

وعلى ما سبق من أنّ علم الله تعالى تعبير عن الواقع بما لا يتخلّف عنه قيد شعرة ، فيتعلّق علم الله بها على ما هي عليه من الخصائص والألوان. فتكون النتيجة أنّه سبحانه يعلم من الأزل بصدور فعل معين في لحظة معينة من إنسان معين إمّا بالاضطرار ، أو الإكراه ، أو بالاختيار والحرية ، وتعلّق مثل هذا العلم لا ينتج الجبر ، بل يلازم الاختيار. ولو صدر كل قسم على خلاف ما اتّسم به لكان ذلك تخلّفا عن الواقع.

انّ ما ذكرناه من الجواب هو المفهوم من كلمات المحقّقين من علمائنا :

١. قال صدر المتألّهين : إنّ علمه وإن كان سببا مقتضيا لوجود الفعل من العبد ، لكنه انّما اقتضى وجوده وصدوره المسبوق بقدرة العبد واختياره وإرادته ، لكونها من أسباب الفعل وعلله ، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار بل يحقّقه.

١٥٢

والعجب انّ الرازي قد تنبّه لما ذكرناه في بعض كتبه حيث يقول في «المباحث المشرقية» : من قضاء الله وقدره ، وقوع بعض الأفعال تابعا لاختيار فاعله ، ولا يندفع هذا إلّا بإقامة البرهان على ان لا مؤثر في الوجود إلّا هو (١).

وما زعمه الرازي دافعا لما ذكره أوّلا ناشئ عن حصر التأثير الاستقلالي والتبعيّ بالله سبحانه ، وقد عرفت خلافه وانّ الوجود بعامّة مراتبه ليس منفكا عن التأثير غاية الأمر ، لكلّ مرتبة تأثير ، حسب مراتبه ودرجاته ، ونحن في الوقت الذي نؤمن بأنّه لا مؤثر في الوجود إلا الله ، نؤمن بتأثير عامة الفواعل في الوجود بإذن الله سبحانه.

٢. قال العلّامة الطباطبائي : إنّ العلم الأزلي متعلّق بكل شيء على ما هو عليه ، فهو متعلّق بالأفعال الاختيارية بما هي اختيارية ، فيستحيل أن تنقلب غير اختيارية ، وبعبارة أخرى : المقضيّ ، هو ان يصدر الفعل عن الفاعل الفلاني اختيارا ، فلو

__________________

(١). لاحظ : الأسفار : ٦ / ٣٨٥ ـ ٣٨٧.

١٥٣

انقلب الفعل من جهة تعلّق القضاء به ، غير اختياريّ ناقض القضاء نفسه. (١)

إجابة أخرى عن الاستدلال بأنّ العلم تابع

إنّ المحقّق الطوسي أجاب عن الاستدلال بوجه آخر ، قال في «التجريد» : والعلم تابع. وقال العلامة في شرحه على التجريد : إنّ العلم تابع لا يؤثر في إمكان الفعل. (٢)

وأوضحه الشريف الجرجاني وقال : إنّ العلم تابع للمعلوم على معنى انّهما يتطابقان والأصل في هذه المطابقة هو المعلوم. ألا ترى أنّ صورة الفرس مثلا على الجدار إنّما كانت على هذه الهيئة المخصوصة ، لأنّ الفرس في حد نفسه هكذا ،

__________________

(١). العلّامة الطباطبائي : تعليقة الأسفار : ٦ / ٣١٨ ، ومعنى كلامه انّ القضاء لا يمكن أن يكون معارضا للمقضيّ ، والمقضي هو صدوره عن اختيار ، ومعه كيف يمكن أن يعارضه القضاء ويخالفه؟

(٢). العلّامة الحلّي : كشف المراد : ٣٠٨ ؛ ولاحظ أيضا الفصل الخامس في الاعراض ، المسألة الرابعة عشرة في أقسام العلم / ٢٣٠ ، وقد فسّره العلّامة الحلّي عند البحث عن الاعراض بكون العلم والمعلوم متطابقين بحيث إذا تصورها العقل ، حكم بأصالة المعلوم في هيئة التطابق وانّ العلم تابع له وحكاية عنه ... وهذا التفسير يتفق مع ما فسّره الشريف الجرجاني ، ومع الاعتراف بصحة التفسير ، لكنّه لا يدفع الإشكال كما ذكرنا.

١٥٤

ولا يتصوّر العكس ، كما أنّ العلم بأنّ زيدا سيقوم غدا مثلا انّما يتحقّق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه دون العكس ، فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل وامتناعه وسلب القدرة والاختيار ، وإلّا لزم أن لا يكون تعالى فاعلا مختارا لكونه عالما بأفعاله وجودا وعدما. (١)

يلاحظ عليه : أنّه خلط بين العلم الانفعالي الذي يكون المعلوم سببا لحدوثه ، كالعلم الحاصل من الأشياء في النفس ، والعلم الفعلي الذي هو سبب لوجود المعلوم ، إمّا سببا ناقصا كعلم المهندس المقدّر لبناء البيت ، أو سببا تاما كتصوّر السقوط ممّن قام على شاهق.

وعلمه سبحانه ليس علما انفعاليا من الخارج ، وإلّا يلزم عدم علمه ما لم يتحقّق المعلوم في الخارج ، وانّما هو علم فعلي ، وهو في سلسلة العلل وان لم يكن علّة تامة في مجال الأفعال الاختيارية للإنسان ضرورة أنّ للإنسان دورا في تحقّقها ، فتكون المقايسة باطلة.

وبذلك يعلم ضعف قياس علمه سبحانه ، بعلم المعلّم

__________________

(١). الشريف الجرجاني : شرح المواقف : ٨ / ١٥٦.

١٥٥

بنجاح تلميذه في الأفعال أو رسوبه بصورة قاطعة ، فكما لا يكون علمه بمصير تلميذه سالبا للاختيار عنه ، فهكذا علمه سبحانه.

وجه الضعف وجود الفرق الواضح بين العلمين ، إذ ليس علم المعلم في سلسلة العلل لنجاحه أو رسوبه وانّما هو يتكهّن بالعلم بمواهب التلميذ ومدى مثابرته في طريق التعلّم. وهذا بخلاف علمه سبحانه إذ هو عين ذاته ، وذاته هو المصدر للعالم وما فيه ، ولا يمكن فصل علمه عن سلسلة العلل ، لأنّ ذاته وعلمه واحد.

١٥٦

مناهج الجبر

الجبر الأشعري

٣

تعلّق إرادته بأفعال العباد

هذا هو الدليل الثالث الذي اعتمدت عليه الأشاعرة قالوا : ما أراد الله وجوده من أفعال العباد وقع قطعا ، وما أراد عدمه منها ، لم يقع قطعا ، فلا قدرة للإنسان على شيء منهما. (١)

يلاحظ عليه : أنّ هذا ليس استدلالا جديدا ، بل هو تعبير آخر عن الدليل السابق ، غير انّ السابق كان يركّز على تعلّق علمه الأزلي بأفعال العباد ، وهذا يركّز على تعلّق إرادته بها فيجاب عنه بما أجيب عن الأوّل.

ولكن بما انّه كثر النقاش في وقوع أفعال العباد ، متعلّقة لإرادته وعدمه ، فنبحث في المقام حسب ما يسعه المجال في

__________________

(١). الشريف الجرجاني : شرح المواقف : ٨ / ١٥٦.

١٥٧

ضمن أمور :

١. الشعار المائز بين الأشاعرة والمعتزلة

إنّ الأشاعرة ، جعلوا أفعال العباد متعلّقة بإرادته سبحانه حفظا لأصل التوحيد ، وأخرجتها المعتزلة عن كونها متعلّقة بها فرارا عن الجبر وحفظا لأصل العدل ، ولأجل ذلك صار كلّ من التعلّق وعدمه ، شعارا مائزا بين الطائفتين :

روي أنّ القاضي عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى ٤١٥ ه‍) لمّا دخل دار الصاحب بن عبّاد ، ورأى فيها أبا إسحاق الأسفرائيني الأشعري (المتوفّى ٤١٣ ه‍) رفع صوته بشعار منهجه ، وقال :سبحان الذي تنزّه عن الفحشاء ، معلنا بذلك انّ الأشاعرة ـ ومنهم الأستاذ أبو إسحاق ، لأجل قولهم بسعة إرادته لأفعال العباد ـ يتهمونه سبحانه بالفحشاء لتعلّق إرادته بمعاصي العباد في منهجهم ، فما قدروا الله

١٥٨

حق قدره ، فوصفوه بالظلم مكان وصفه بالعدل.

وأجاب أبو إسحاق بقوله : الحمد لله الذي لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء ، معلنا بأنّ القول بخروج أفعال العباد عن مشيئته ، يستلزم وقوع أشياء في ملكه خارجة عن مشيئته، فما قدروا الله حق قدره ، فأنكروا توحيده بإنكار سعة إرادته ، لصيانة عدله. (١)

والحق انّ كلتا الطائفتين ما قدروا الله حق قدره ، فركّزت المعتزلة على تنزيهه سبحانه فلم تر بدّا عن القول بعدم سعة إرادته لأفعال عباده ، كما ركّزت الأشاعرة على توحيده وتنزيهه عن الشرك والثنوية فلم تر بدّا من القول بسعة إرادته ، وإن استلزم الجبر.

وكلتا الفكرتين خاطئتان ، والحق إمكان الجمع بين التوحيد والتنزيه ، بين تعلّق إرادته بأفعال العباد وعدم لزوم الجبر ، بالبيان الآتي.

٢. ما هو المقصود من إرادته سبحانه؟

إذا أريد من إرادته سبحانه ، علمه بالأصلح ، فتختص إرادته سبحانه بأفعاله ، الموصوفة بالصلاح ويخرج أفعال العباد عن تحتها ، لعدم اقتران أفعالهم بالصلاح مطلقا ، إذ هم بين مطيع وعاص ، ويمنع أن يوصف العصيان بالصلاح.

وإن أريدت منها ، الإرادة المتجدّدة المتدرّجة الوجود ، فيمتنع وصفه بها ، لاستلزامه كون الذات معرضا للحدوث.

__________________

(١). الشريف الجرجاني : شرح المواقف : ٨ / ١٥٦.

١٥٩

وإن أريدت الإرادة الإجماليّة القديمة وإن لم يعلم كنهها ، فكل ما في الكون من جليل ودقيق يمتنع أن يتحقّق في سلطانه ، ويكون خارجا عن مجال إرادته ومشيئته ، لكن تعلّقها بها ، غير القول بالجبر كما سيوافيك.

٣. سعة إرادته سبحانه عقلا ونقلا

اتّفق العقل والنقل على سعة إرادته سبحانه لكل شيء ومنه أفعال العباد ، ويعلم ذلك من خلال أمور :

ألف : سعة قدرته وخالقيته وانّ كل ما في الكون من جليل ودقيق ، من ذات وفعل ، مخلوق لله على النحو الذي تقدّم.

ب : انّ الوجود الإمكاني وجود فقير قائم بالواجب غير مستغن عنه في شأن من شئونه لا في ذاته ، ولا في فعله ، وانّ غناء فعل الإنسان عنه سبحانه ، يستلزم غناء ذاته عنه سبحانه أوّلا ، لأنّ الفعل معلول لذات الممكن ، فغناء المعلول عن الله فرع غناء علته (ذات الممكن) عنه وهذا هو المراد من قولنا : إنّ الغناء في مقام الفعل مستلزم الغناء في مقام الذات ؛ وانقلاب الفعل عن كونه فعلا إمكانيا إلى كونه فعلا واجبا ثانيا ، وكلاهما ممنوعان.

١٦٠