لبّ الأثر في الجبر والقدر

الشيخ جعفر السبحاني

لبّ الأثر في الجبر والقدر

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-27-4
الصفحات: ٣١٥

٢. عدم حاجته في مجال التحقق إلى سبب وراء السبب الذي أوجد الموضوع ، فالسبب الموجد له كاف في انتزاع جميع الذاتيات بلا فرق بين الذاتي في البرهان أو باب الايساغوجي.

الثالث : الفرق بين الجهة التعليلية والتقييدية.

قد اشتهر في كلماتهم تقسيم الجهة الى تعليلية وتقييدية ، والمراد من الأولى هو حاجة الشيء في خروجه عن حد الاستواء إلى علة وجودية تضفي عليه الوجود والتحقّق ، والممكن بعامة أقسامه لا يستغني عن حيثية تعليلية.

وأمّا الحيثية التقييدية ، فالمراد ضم حيثية وجودية إلى الموضوع تصحّح حمل المحمول عليه وراء حاجته إلى علة موجدة للموضوع ، وهذا يتجلّى في المثال التالي :

إذا قلنا البياض أبيض.

أو قلنا الجسم أبيض.

فالأوّل رهن حيثية تعليليّة تخرج البياض من حد الاستواء إلى جانب الوجود ، وهذه الحيثية كافية في حمل المحمول على الموضوع ، ولا يتوقف الحمل الى ضم حيثية تقييديّة الى البياض بل وضعه يصحّح حمل الأبيض ، وهذا بخلاف الثاني

١٠١

فإنّ حمل الأبيض على الجسم رهن حيثيتين : حيثيّة تعليلية تخرج الجسم عن الاستواء إلى جانب الوجود ، وحيثية تقييدية كالبياض منضمة إلى جانب الجسم حتى تكون مصححا لحمل الأبيض عليه.

هذا هو حال الممكنات ، فلا يستغني أيّ ممكن في حمل محمول عليه من حيثية تعليلية في عامة الأقسام وتقييدية في بعضها.

وأمّا الواجب جل ذكره فبما انّه واجب الوجود ولازم الثبوت ، فهو في غنى عن الحيثية التعليليّة.

كما أنّه في غنى عن الحيثية التقييدية ، لأنّ الذات عين الوجود والكمال ، فلا حاجة في حمل أي كمال عليها لشيء وراء الذات.

فتبيّن بذلك انّ الواجب لا يحتاج إلى الجهات التعليلية والتقييدية ، كما انّ الماهيات الممكنة بالنسبة إلى أعراضها كالجسم بالنسبة إلى البياض رهن كلتا الحيثيتين.

وأمّا الوجود المنبسط الذي بسطه الله سبحانه على هياكل الماهيات فبما انّه صرف الوجود عين التعلّق والفقر ، فهو

١٠٢

محتاج الى حيثية تعليلية حتى يحقّقه ولا يحتاج في حمل الوجود عليه إلى حيثية تقييدية.

وإن شئت قلت : ليس في نظام الوجود شيء يوصف بالوجود بلا جهات تعليلية وتقييدية سوى الواجب فهو غير مفتقر ولا معلّل ، وأمّا الموجودات الإمكانية فهي بين ما يتوقّف على كلتا الحيثيتين ، كقولنا : الجسم أبيض ؛ وأخرى على حيثية واحدة ، كقولنا : الوجود موجود ، أو البياض موجود. فلوازم الوجود والماهية معلّلة في التحقّق والثبوت غير معلّلة في اللزوم والإيجاب.

الثالث :

[الرابع] الوجود هو أصل الكمال ومبدؤه

الماهيات بما أنّها أمور انتزاعية من حدود الموجود فلا أثر لها ولا اقتضاء وإنّما الأثر والشرف والكمال كلّه للوجود ، وهو الأصيل في عالم التحقّق ، إذ العلم بوجوده يكشف عن المعلوم لا بماهيته ، وهو بوجوده أيضا كمال وجمال لا بمفهومه ، ومثله القدرة والحياة والإرادة فكلّها شرف بالوجود لا بمفاهيمها ، ولذلك كلّما اشتدّ الموجود ، وقلّت حدوده الوجودية اشتدّ كماله ، وكلّما ضعف الوجود وكثرت حدوده الوجودية ضعف كماله إلى أن يصل إلى حدّ ليس له حظّ من الوجود سوى كونه

١٠٣

أمرا بالقوة تسمّى بالهيولى.

وعلى ضوء ذلك فصرف الوجود ، مبدأ كل كمال وجمال ، والموجودات الإمكانية لها حظّ من الآثار حسب حظّها من الوجود المنبسط ، ولماهياتها خواص بالعرض تبع وجوداتها.

فتلخّص من ذلك أنّ الماهيّة مع قطع النظر عن تنوّرها بنور الوجود ، منعزلة عن الآثار منخلعة عن الخواص ، وما ربما ينسب إلى الماهية من الآثار فإنّما هي للوجود أوّلا وبالذات وللماهية ثانيا وبالعرض.

فإن قلت : كيف لا أثر للماهية مع أنّ اللوازم تنقسم إلى لوازم الماهية ، ولوازم الوجود؟ فالحرارة من لوازم وجود النار ولكن الزوجية من لوازم الماهية ، فماهية الأربعة مع قطع النظر عن الوجود الذهني والوجود الخارجي تلازم الزوجيّة ، فهي ثابتة لها في وعاء الماهيات.

قلت : إنّ هذا التفسير للازم الماهية تفسير خاطئ ، إذ ليست الزوجية ثابتة للأربعة في حال عدمها وإنّما تثبت لها في ظرف وجود الأربعة في أحد الموطنين : إمّا الذهن أو الخارج ، ومع ذلك فليست الزوجية من لوازم الوجودين : الذهني أو

١٠٤

الخارجي ، بل من لوازم الماهية ومعنى كونه من لوازم الماهية لا من لوازم الوجود ، أنّ الإنسان يدرك الأربعة مع الزوجية حتى مع غفلته عن تحصّلها بالوجود الذهني ، وهذا دليل على أنّ للوجود الذهني تأثيرا في ظهور الملازمة لا في نفس الملازمة ، وإلّا فلو كان الوجود الذهني مؤثّرا في الملازمة لامتنع تلازمهما مع الغفلة عن الوجود المقترن بهما والمحصل لهما ، وهذا هو الفرق بين لازم الماهية ولازم الوجود ، فالوجود في الأوّل سبب لظهور الملازمة بخلاف الثاني فهو سبب لها.

إذا عرفت ما ذكرنا من المقدّمات ، فاعلم أنّ للسعادة والشقاء إطلاقات ثلاثة :

الأوّل : ما اصطلح عليه أهل المعرفة والكمال من أنّ السعادة هي الكمال المطلق والخير المحض ، وهو مساوق للوجود الذي إليه مرجع الكمالات فالوجود الأتمّ المطلق خير وسعيد مطلق. وكلّما تنزّل عن إطلاقه وشدّته وقوته ، اختلفت سعادته وخيريّته. والشقاء في مقابلها وهو الشرّ المحض والعدم المطلق ظلمات بعضها فوق بعض ولها عرض عريض.

الثاني : ما هو المعروف لدى العرف وأبناء الدنيا أنّ من توفّرت له في هذه الدنيا الدنيّة وسائل اللذّة والشهوة فهو سعيد ،

١٠٥

ومن أدبرت عنه وتركته في نكبة ومحنة ولا يجد ما يسدّ به رمقه فهو شقي.

الثالث : ما عليه الملّيّون ، أعني : الذين لهم عقيدة راسخة بالمبدإ والمعاد ، والجنة ودرجاتها والنار ودركاتها ، فمن نال الجنة ونعيمها فهو من السعداء ، ومن دخل النار وجحيمها فهو من الأشقياء ، وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه :

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١).

فمن دخل الجنّة ، فهو السعيد ، وإن كان في الدنيا رهين الفقر والفاقة ؛ ومن دخل الجحيم ، فهو شقيّ ، وإن كان في الدنيا حليف العيش الرغيد.

إذا وقفت على هذه المعاني الثلاثة للسعادة والشقاء ، فاعلم أنّ المراد منهما في هذا المقام هو المعنى الثالث لخروج الأوّلين عمّا يرتئيه الحكيم أو المتكلّم في ذلك المقام ، ولا وجه لجعل السعادة والشقاء بالمعنى الثالث من الذاتيات غير المعلّلة كما

__________________

(١). هود / ١٠٦ ـ ١٠٨.

١٠٦

عليه المحقّق الخراساني وتبعه بعضهم ، إذا ليستا جنس الإنسان ولا فصله ولا من اللوازم المنتزعة من حاق الذات ، بل ينتزعان من الحيثيات الوجودية التي يكتسبها العبد باختياره ، والمراد من الحيثيات الوجودية هي العقائد الحقة والأعمال الصالحة أو نقيضها من العقائد الفاسدة والأعمال القبيحة ، إلى غير ذلك مما يعدّ مبدأ لانتهاء مسير الإنسان إلى الجنة أو النار.

ولو قلنا بأنّ الثواب والعقاب يرجع إلى الإنسان حسب ما اكتسب من ملكات الخير والشرّ ، فهو يخلق صورا بهيّة وروضة غنّاء ، يلتذ بها ، أو يخلق صورا قاتمة وحفرة من النيران يعذّب بها ـ ولو قلنا بذلك ـ فليست السعادة والشقاء من الأمور الذاتية وإنّما هي من لوازم الملكات التي يكتسبها العبد في طول حياته تحت ظلّ ممارسة الفكر والعمل.

إلى هنا تمّت الشبهات المطروحة حول اختيارية الإنسان المتجلّي عندنا في المذهب الحق أي الأمر بين الأمرين.

١٠٧
١٠٨

الفصل الخامس

أخبار

الطينة وتفسيرها

١٠٩
١١٠

إنّ من الأسئلة المثارة حول اختياريّة الإنسان مسألة خلقة الإنسان من طينات مختلفة، فطينتهم إمّا من عليين أو من سجّين ، ومن الواضح أنّ لكلّ أثرا خاصا في مصير الإنسان ، ومعه كيف يمكن أن يكون الإنسان فاعلا مخيّرا وإنّما يكون فاعلا مسيّرا؟

أقول : إنّ تحقيق الحق يتوقّف على بيان أمرين :

الأوّل : إنّ ملاك المثوبة والعقوبة هو مخالفة البالغ العاقل التكليف الواصل إليه ، فبالعقل يميّز بين الحسن والقبيح ، وبين إطاعة المولى ومخالفته ، كما أنّه بالوقوف على التكليف يقف على مراد المولى ممّا يرضيه أو يسخطه ، فإذا خالف باختياره وإرادته من دون ضرورة يكون هو تمام الموضوع عند العقلاء لصحة مؤاخذته وعقوبته بألوان العقوبات ، فهذا هو ملاك

١١١

العقوبات عند العقلاء.

الثاني : يمتنع عليه سبحانه إمساك الفيض وقبض الإحسان ، لأنّه الفيّاض المطلق الذي لا يتصوّر فيه شائبة البخل وعلى ضوء ذلك ، فإذا كان الفاعل فياضا والموضوع قابلا للأخذ والموانع منتفية ، فما هو الوجه عن منع الإفاضة؟

وإن شئت قلت : إنّ واجب الوجوب بالذات واجب من جميع الجهات والحيثيات ، فلا يتصوّر فيه إمكان أن يفعل أو يترك ، بل إمّا يجب فعله أو يلزم تركه حتى لا يتطرّق إليه الإمكان المستلزم للمادة المنزّه عنها ، والقول باللزوم في الفعل والترك لا ينافي كونه مختارا ، نظير لزوم ترك الظلم وعدم صدور القبيح الذي لا ينافي كونه مريدا قادرا مختارا في ترك الظلم والقبح.

نعم يفاض الجود حسب قبول القابل ، وعلى وفق قابلية السائل ، فإذا تمّ الاستعداد في القوابل تفاض عليها الصور من المبادئ العالية ، ويكون ما يفاض عليها أكملها وأفضلها.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ منشأ اختلاف النفوس من بدء نشوئها إلى ارتقائها ، رهن عوامل عديدة نشير إليها ، ولأجل ذلك نرى أنّ بعض النفوس تسارع إلى الخيرات والأعمال

١١٢

الصالحة وبعضها تميل إلى الشرور والاعمال الطالحة ، فكأنّ في جوهر الأولى حبّ الصلاح والفلاح ، وفي جوهر الثانية حبّ الدنيا وزخارفها ، وإليك بيان تلك العوامل :

الأوّل : اختلاف الناس في النفس المفاضة ، واختلافها ناشئ عن اختلاف النطف المستعدّة لقبول الصور الإنسانية ، وإليك توضيحه :

إنّ من القوى الكامنة في الإنسان : القوة المولّدة وهي عبارة عن تهيئة المواد اللّازمة من جسم الإنسان وجعله مبدأ لإنسان آخر أودعت فيه لحفظ نوعه.

وثمة قوة ثانية باسم القوة المغيّرة وشأنها تهيئة كلّ جزء من المنيّ في الرحم ليختصّ بإيجاد أعضاء خاصة بأن يجعل بعضه مستعدّا للعظميّة وبعضها الآخر للعصبية ، إلى غير ذلك.

ثم إنّ مادة المنيّ الذي هو أثر القوة المولّدة عبارة عن الأغذية ، بعد عمل القوى أعمالها وعبورها عن الهضم الرابع ، ولكن الأغذية مختلفة غاية الاختلاف في الصفاء والكدر واللّطافة والكثافة وبتبعه يختلف المنيّ ، ويعبّر العلماء عن اختلاف الأغذية باختلافها من حيث الحرارة والبرودة

١١٣

واليبوسة والرطوبة ، ويعبّر عنها اليوم باشتمالها على فيتامينات وبروتينات مختلفة وغيرها.

وعلى أيّة حال فلو كانت النطفة حصيلة الأغذية اللطيفة ، يكون استعدادها لقبول الصور مغايرا لاستعداد النطف الحاصلة من الأغذية الكثيفة ، ومهما تصاعد اختلاف الأغذية تصاعد الاختلاف في المنيّ صفاء وكدرا أيضا ، وقد مضى أنّ الإفاضة حسب قابلية المواد ، فكما لا يمكن منع المواد من نور الوجود ، كذلك يمتنع إفاضة صور قوية على المادة الضعيفة.

الثاني : إنّ لشموخ الأصلاب وعلوّها ونورانيتها وكذا مقابلاتها ، مدخلية تامّة في اختلاف الفيض المفاض واستعداد المواد للنفوس الطاهرة وخلافها ولذلك وردت في زيارة الإمام الحسين بن علي عليه‌السلام : «أشهد أنّك كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة» فسمّيت النطفة لكمال لطافتها نورا وإنّها لم تختلط بقذارة الأرحام ونجاستها بل أودعت في الأرحام الطيبة.

الثالث : إنّ لمراعاة آداب النكاح والجماع والحمل ورعاية شرائط الرضاع وسلامة مزاج الزوج والزوجة وصفاء روحهما ، تأثيرا خاصا في صفاء النفس وكدرها ، وقد ورد في هذا الصدد

١١٤

روايات.

يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنظر في أيّ شيء تضع ولدك فإن العرق دسّاس» (١).

والمراد من الدسّاس أنّ أخلاق الآباء تصل إلى الأبناء.

ويقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إيّاكم وخضراء الدمن ، قيل : يا رسول الله وما خضراء الدّمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت سوء» (٢).

يقول الإمام عليّ عليه‌السلام : «حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق» (٣).

الرابع : إنّ عنصر التربية من العوامل المؤثرة في تكوين شخصية الإنسان وتكامله فهو يلازمه منذ نعومة أظفاره إلى بلوغه ، فإنّ دور الوالدين في تلقين الخير والشرّ لطفلهما أمر غير خفي على أحد ، ويليه في الأهميّة عنصر التعليم الذي يتلقاه الإنسان في المدارس والمعاهد ، إلى غير ذلك من العوامل المؤثّرة في النفس الإنسانية.

الخامس : نشوؤها في البيئات الصالحة البعيدة عن المعاصي وفساد الأخلاق التي تترك بصمات واضحة على خلق الإنسان وأخلاقياته ، وهذا أمر واضح لا يشوبه شك.

__________________

(١). المستطرف : ٢ / ٢١٨.

(٢). غرر الحكم : ٣٧٩.

(٣). البحار ٢٣ / ٥٤.

١١٥

وحصيلة البحث : أنّ ثمة عوامل كثيرة مؤثّرة في تكوين شخصية الإنسان منذ تكوّن نطفته في الأرحام إلى أن يصبح إنسانا كاملا ، ولكن هذه الأسباب خيرها وشرّها ليست على حدّ يسلب الاختيار عن الإنسان ويجعله مكتوف اليد أمامها ، بل كلّها مقرّبات ومعدّات لهما وفي مقابلها اختيار الإنسان وانتخابه وحرّيته في العمل.

نعم من اجتمع له صفاء المراد وشموخ الأصلاب وعلوّها وطهارة الأرحام والبيئات يجد في نفسه ميلا نحو العمل الصالح ، كما أنّ من اجتمع فيه خلافها ومقابلاتها يجد في نفسه ميلا نحو العمل الطالح ، ومع ذلك كلّه فليس كلّ إنسان ملجئا إلى ما يميل إليه ، فالعبد بعد باسط اليدين وهو مختار في فعله لدى العقلاء وإن اختلفت طينته.

هذه هي العوامل التي تختلف بها الطينة تباعا ، فما ورد في المأثورات حول الطينة وخلقة الإنسان فما كان موافقا لما ذكرنا فيؤخذ به ، وأمّا المخالف لما ذكرنا الدالة على الجبر فلا بدّ من تأويله وتفسيره أو حمله على التقية ، فإنّ الأمر بين الأمرين من ضروريات مذهب الإمامية فلا يقدّم عليه الخبر الواحد.

إنّ ثمة مأثورات وروايات ربّما تقع ذريعة للقول بالجبر مع

١١٦

أنّها لا صلة لها به وإنّما تشير إلى المعدات التي أشرنا إليها في الدراسة السابقة ، وإليك بعض هذه المأثورات :

١. «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة» (١).

والحديث بصدد بيان اختلاف جوهر النفوس في الصفاء والكدر كاختلاف المعادن في الصور النوعية والآثار والخواص ، والجميع من نوع واحد لكن اختلافها حسب اختلاف الأمكنة وحرارة الأرض وجفافها وإشراق الشمس وعدمها ، ممّا لها مدخلية في تكون المعادن وصلابتها وخلوصها عن الشوائب.

وهكذا المواد المكوّنة للنطفة والظروف المحيطة بها لها تأثير في صفاء نفس الإنسان ، ومع ذلك لا تسلب الاختيار عنه.

٢. ما أثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الشقيّ من شقى في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه» (٢). وفي رواية أخرى : «الشقي شقي في بطن أمه ، والسعيد سعيد في بطن أمه» (٣).

ولا دلالة للحديث على ما يرتئيه الجبري ، وذلك لأنّ النفس

__________________

(١). لعلّ في الحديث إشارة إلى أنّ جوهر عامة الناس ثمين إلّا أنّه يختلف بعضه عن بعض بالخلوص والشوائب كما في الذهب والفضة.

(٢). بحار الأنوار : ٣ / ٤٤.

(٣). تفسير روح البيان : ١ / ١٠٤.

١١٧

المفاضة على المادة المستعدّة النورانيّة ، طاهرة وسعيدة منذ أوّل أمرها لعدم تدنّسها من ناحية العوامل المدنّسة كالآباء والأجداد وغير هما ، ولكن النفس المفاضة على المواد الكثيفة دنسة ونجسة وشقية منذ بدوها وأوّل نشوئها لكن لا طهارة النطفة موجبة إلى الخيرات والسعادات ، ولا قذارة المادة وكثافتها موجبة لاختيار الشرور والشقاء ، بل كل يحنّ إلى ما يناسبه من الخيرات والشرور ولكن الميل شيء والإلجاء شيء آخر.

ويمكن أن يكون الحكم بالسعادة أو الشقاء باعتبار ما يؤول إليه أمر الشخص فمن ينتهي مآل أمره إلى الجنة ، فهو محكوم بالسعادة منذ أوان حياته ، فكنّي عن أوان الحياة ببطن الأم ، ولعلّه إلى ذلك يشير الحديث الشريف الذي رواه الصدوق بإسناده عن محمد بن أبي عمر ، قال : سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام عن معنى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الشقيّ من شقي في بطن أمّه والسعيد من سعد في بطن أمّه» فقال : الشقيّ من علم الله وهو في بطن أمه أنّه سيعمل أعمال الأشقياء ، والسعيد من علم الله وهو في بطن أمه أنّه سيعمل أعمال السعداء ، قلت له : وما معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له»؟

١١٨

فقال : «إنّ الله عزوجل خلق الجنّ والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قوله عزوجل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فيسّر كلا لما خلق له ، فالويل لمن استحبّ العمى على الهدى». (١)

فترى أنّه سلام الله عليه دفع الشبهة كلّها بأنّ العباد مختارون وأنّ ما خلقوا لأجله من العبادة ميسور لهم ، وأنّ علمه تعالى بعمل السعداء والأشقياء أو اتخاذ النطف من الأمور الصفوة والكدرة لا تسلب الاختيار.

هذا بعض ما يمكن أن يقال في أخبار الطينة وما يشبهها.

خاتمة المطاف :

إنّ للعلماء الربّانيّين والعرفاء الشامخين من أهل الكشف واليقين هنا كلمة قيّمة هي عصارة الكتب المنزلة ، والمأثورات الشرعية ، مدعمة بالبرهان ألا وهو البحث عن أحكام الفطرة ، فطرة الله التي فطر الناس عليها ووصفها وبيان حقيقتها وما يدور حولها من بحوث ، ونحن نشير إلى بعضها بنحو الإجمال والاختصار.

إن الله جلّت عظمته خلق العباد بقدرته ، وأفاض عليهم من

__________________

(١). التوحيد / ٣٥٦.

١١٩

نور وجوده وفيض علمه وسائر كمالاته ما هو اللائق بحالهم وحسب قابلية المواد القابلة من غير ضنّة وبخل ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، وفطر النفس على اختلافها في القبول والاستعداد بفطرتين طيّبتين لتكونا جناحيها نحو معراجها إلى فاطرها ، لتطير إلى وكرها وتصل إلى ربّها حسب معرفتها وعرفانها.

الفطرة الأولى : هي العشق للكمال المطلق والجمال المحض ، أعني : النور الذي ليس فيه ظلمة ، والعلم الذي لا يدانيه جهل وريب ، والقدرة التي لا يشوبها عجز ، ومن هو صرف كل جمال وكمال ، فنوّر قلب عبده بجمال معرفته ، وهو توحيده وكمال تنزيهه حتى يتوجه إلى بارئه القدير ، وخالقه العزيز ، ويصل إلى فنائه ويستشعر بعلوّ جبروته وملكوته في جميع الآنات والأوقات قام في محراب عبادته ، او غاروا في عباب عصيانه فهو في جميع الحالات ، شاهد لربه بفطرته ، عارف خالقه بخميرته ، ناظر إلى كبريائه وجلاله بعين ذاته ونور حقيقته ، ولا يتطرّق الزوال إلى هذه المعرفة الذاتية الحاصلة له من صقع فيض خالقه.

نعم ربّما تقع تحت حجاب المعاصي وظلمة الكفر والشرك ، ويسدل عليها بأسدال الإلحاد والخروج عليها ، لكنّها

١٢٠