مفاهيم القرآن

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الدَّارِ ) (١) وقال عزّ من قائل : ( سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ). (٢)

فإذا كان المعاد عودَ الإنسان بالبدن العنصري فيكون عوداً إلى النشأة الأُولى لا النشأة الأُخرى ، وعوداً إلى الدار الأُولى لا إلىٰ عقبى الدار.

والجواب : انّ صدق العناوين المتقدّمة ليس رهن أنّ المعاد مثالي أو روحي ، بل تصدق وإن كان المعاد عنصريّاً وماديّاً ، ويكفي في تسمية أحدهما بالأُولىٰ والآخر بالأُخرىٰ ، انّ الأُولىٰ دار العمل والسعي ، والثانية دار الحصاد ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « وانّ اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل ». (٣)

أضف إلى ذلك انّ تسمية أحدهما بالأُولىٰ والآخر بالأُخرىٰ لأجل أنّ الإنسان في الدار الآخرة أكمل ممّا عليه في دار الدنيا ، لأنّ تعلّق النفس بالبدن في النشأة الأُولىٰ تعلّق تدبيري فيكون ارتباطها بالبدن ارتباطاً وثيقاً إذ لولاها لفسد البدن ، وهذا بخلاف دار الآخرة فانّ تعلّقها بالبدن بغية نيل الجزاء المادي ، أو نيل الثواب والعقاب ، ولذلك تختلف الحياة في النشأة الأُخرى عن الحياة في النشأة الدنيا من حيث الكمال.

والحاصل : انّ الدنيا والآخرة موطنان للإنسان غير أنّ أحدهما أكمل وألطف من الآخر.

الشبهة الخامسة : لزوم التناسخ

إنّ للتناسخ أقساماً ، والمراد هنا تعلّق نفسين ببدن واحد ، لأنّ إعادة الإنسان

__________________

١. الرعد : ٢٢.

٢. الرعد : ٢٤.

٣. نهج البلاغة : الخطبة ٤٢.

١٢١

بعينه وجمع أشلائه وأعضائه وصيرورته إنساناً سويّاً من حيث الظاهر استعد لأن يفاض عليه من الله سبحانه نفس ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر تتعلّق به نفسه المستنسخة لأجل نيل الثواب أو العقاب ، فيلزم تعلّق نفسين ببدن واحد.

يقول صدر المتألّهين : إنّ مفسدة التناسخ بحسب المعنىٰ ـ كما ذكره ـ واردة هاهنا بلا مرية ، وهي لزوم كون بدن واحد ذا نفسين ، فانّ تلك الأجزاء لو كانت قابليتها لتعلّق النفس حين التفرّق باقية ، لم تفارق عنها النفس ، فكان زيد حال الموت حياً وقد فرض ميتاً ، وإن لم تكن باقية فاحتاجت في قبولها للنفس إلى انضمام أمر إليها به يستعد للقبول فإذا انضم إليها ذلك الأمر وصارت مستعدة باستعداد آخر جديد لابدّ أن يفاض عليها من المبدأ الجواد فيض جديد وروح مستأنف ، فإذا تعلّق بها الروح المعاد أيضاً كان لبدن واحد روحان وهو ممتنع. (١)

يلاحظ عليه : أنّ هذه الشبهة إنّما تتم بناء علىٰ خلق الأرواح قبل الأبدان ، ، فلو قلنا بهذا الأصل لكان للشبهة مجال ، لأنّ إحياء الإنسان وجمع أشلائه وأعضائه يستدعي تعلّق الروح به من العالم العلوي فلو تعلّقت به النفس المستنسخة لكان تناسخاً.

وأمّا لو قلنا بأنّ الروح هي نتيجة الحركة الجوهرية للمادة ، وأنّ الجنين في مدارج تكامله وحركته يصل إلى مرتبة يتبدل إلىٰ أمر مجرّد ، دون أن ينقص من المادة شيء ، فليست الروح شيئاً مخلوقاً من ذي قبل ، وإنّما هي نتيجة تكامل المادة وتحولها إلىٰ أمر مجرد له صلة بالمادة ، ويتكامل حسب تكامل الجنين في رحم أُمّه ، كما يتكامل بعد خروجه منه.

وهذا هو الذي ارتضاه صدر المتألّهين وهو صدر الآراء ، وعلىٰ ضوء هذا فالشبهة لا تصمد أمام النقاش ، لأنّه لو كان المعاد أمراً تدريجياً وعود الإنسان إلىٰ

__________________

١. الأسفار : ٩ / ١٧٠.

١٢٢

عالم الحياة نظير نشأته في هذه الدنيا يلزم هنا التناسخ وتعلّق نفسين ، إحداهما نتيجة الحركة الجوهرية الثانية والتكامل التدريجي للمادة ، والأُخرى نفسه المستنسخة المتكونة من الحركة الجوهرية الأُولىٰ للمادة.

وأمّا إذا كان المعاد أمراً دفعياً كما هو الظاهر من الآيات الكريمة ، فليس هناك إلاّ نفس واحدة وهي نفسه المستنسخة ، وأمّا النفس الأُخرى فهي وليدة الحركة والتكامل التدريجي ، والمفروض انّه لم يكن هناك أي حركة وتدريج وتكامل ، بل كان إنشاءً ثانياً للبدن السوي بحيث يصلح لتعلّق النفس به.

ويدل علىٰ أنّ المعاد ، دفعي لا تدريجي آيات الذكر الحكيم :

قال سبحانه : ( فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ). (١)

وقال تعالى : ( خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ). (٢)

وقال عزّ من قائل : ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ). (٣)

وقال سبحانه : ( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ). (٤)

وقال : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ). (٥)

إلى غير ذلك من الآيات.

نعم لو قلنا بما ذهب إليه المشّاء من خلق الأرواح قبل الأبدان ، فإذا صارت

__________________

١. يس : ٥١.

٢. القمر : ٧.

٣. المعارج : ٤٣.

٤. الزمر : ٦٨.

٥. الزخرف : ٦٦.

١٢٣

النطفة بدناً سوياً تتعلّق بها الروح من العالم العلوي ، وعند ذلك يلزم تعلّق نفسين إحداهما النفس المستنسخة ، والثانية النفس التي استعدت لهبوطها إلى البدن.

ولكن الشبهة طبقاً لهذا الأصل أيضاً غير صحيحة ، إذ لا صلة بين الروح الثانية وهذا البدن ، مع وجود الصلة بين البدن السوي والروح المستنسخة.

وعلى كلّ حال ، فلنعطف أنظار القارئ إلىٰ هذه النكتة وهي انّ المعاد العنصري خالٍ عن المفاسد المترتبة على القول بالتناسخ.

لأنّ القول بالتناسخ منطق المنكرين للمعاد ، فعود الإنسان إلىٰ هذه الدار مرّة تلو أُخرى سيَخْلِفُ القول بالمعاد ويغني عن الإيمان به ، ولا أثر لهذا المنطق في القول بالمعاد في النشأة الأُخرى.

كما أن القول بالتناسخ يستلزم تعلّق نفسين ببدن واحد ، لأنّ التناسخ هو عود الإنسان عن طريق تعلّق الروح بالنطفة وتكاملها وحركتها وبلوغها إلىٰ أن تتبدل إلى روح مجرّدة فهذا يستلزم تعلّق نفسين ببدن واحد ، إحداهما النفس المستنسخة ، والأُخرى النفس المتولّدة من الحركة الجوهرية الثانية. وهو محال ، لأنّ النفس المستنسخة حينما تركت البدن كانت نفساً كاملة مدركة للكليات ، فكيف يمكن أن تتعلّق تلك النفس مع ما لها من المنزلة ، بخلية في الرحم أي بالعلقة والمضغة حتى تمرّ على هذه المراحل ويكون البدن سوياً قابلاً لتعلّق المستنسخة به ؟!

والعجب انّه قدس‌سره قد تنبه إلى بعض ما ذكرنا ، حيث قال : إنّ منشأ حدوث النفس وما يجري مجراها هو الحركة الجوهرية الذاتية الاستكمالية لمادة ما في الصور الجوهرية علىٰ سبيل الترقي من الأدنىٰ إلى الأعلىٰ حتىٰ يقع انتهاء الأكوان الصورية إلى النفس وما بعدها. (١)

__________________

١. الأسفار : ٩ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

١٢٤

الشبهة السادسة : المعاد العنصري وظواهر الآيات

إنّ ظواهر بعض الآيات وإن كانت تنسجم مع المعاد الجسماني ، غير أنّ ثمة آيات أُخرى لا تنسجم مع كون المعاد هو البدن العنصري السابق ، وذلك لأنّه سبحانه يستخدم لفظة « انشأ » و « مثل » ، ومن الواضح أنّ الإنشاء عبارة عن الإيجاد بلا مثال سابق ، كما أنّ لفظة « مثل » تحكي عن كون المعاد ليس نفس المنشأ أوّلاً ، بل مثله ، قال سبحانه : ( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ ) (١) ، وقال عزّمن قائل : ( نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ). (٢)

قال صدر المتألّهين بعد تفسير الآيات : ولا يخفى علىٰ ذي بصيرة أنّ النشأة الثانية طور آخر من الوجود يباين هذا الطور المخلوق من التراب والماء والطين ، وانّ الموت والبعث ابتداء حركة الرجوع إلى الله أو القرب منه لا العود إلى الخلقة المادية والبدن الترابي الكثيف الظلماني. (٣)

والجواب : انّ مادة الإنشاء كما تستعمل في الإيجاد بلا مثال تستعمل في مطلق الإيجاد أيضاً ، وإن كان له مثال سابق ، قال سبحانه :

( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ) (٤) فإنّ إنشاء السحاب بمعنى إيجاد فهو بالنسبة إلى شخصها إيجاد ، وبالنسبة إلى نظائرها إيجاد مع سبق مثال له ، وعلى ذلك فإطلاق الإنشاء علىٰ إعادة الإنسان بملاك الإيجاد وانّه خلق ثان وإيجاد بعد الإيجاد.

__________________

١. الواقعة : ٦١.

٢. الإنسان : ٢٨.

٣. الأسفار : ٩ / ١٥٣.

٤. الرعد : ١٢.

١٢٥

وأمّا لفظ « مثل » فلا يدل إلاّ علىٰ وجود التغاير بين المثلين ، وإلاّ انتفت الاثنينية ، وأمّا تفسير التفاوت بالقول بانّ الإيجاد الأوّل عنصريّ ، والثاني غير عنصري فهذا مما لا يدل عليه استعمال المثل في الآية ، بل غاية ما يستفاد منها هو وجود التغاير والاثنينية ، وأمّا ما هو ملاك التفاوت والاثنينية فلا تدل الآية عليه.

الشبهة السابعة : المعاد العنصري عود إلى الدنيا

إذا كان المعاد عنصرياً ، وعاد الإنسان إلى الحشر بنفس البدن الدنيوي فهذا يكون عوداً إلى الدنيا بعد خروجه عنها ، ولا يكون رجوعاً إلى الله وقرباً منه ، وكيف يعد ذلك المعاد غاية للخلقة ؟ وهذا ما أشار إليه صدر المتألّهين ، بقوله : ولم يتفطنوا بأنّ هذا حشر في الدنيا لا في النشأة الأُخرىٰ وعود إلى الدار الأُولى ، دار العمل والتحصيل لا إلى الدار العقبىٰ ودار الجزاء والتكميل. (١)

إنّ كون المعاد رجوعاً إلى الله أو اقتراباً منه وغاية للخلقة يعود إلىٰ نفسه لا إلىٰ بدنه ، فهي التي تتحمل هذه الصفات لا بدنه ، فسواء تعلّقت بالبدن العنصري أو البدن المثالي ، فرجوعها إلى الله رهن تكاملها لا خروجها من البدن العنصري وتعلّقها بالبدن المثالي ، وإن استغربت من هذا الكلام فلاحظ النفس في هذه الدار فالنفس موجود طبيعي لها أصل في الطبيعة ، كما انّ إدراكها الصورة الجسمية المجرّدة يجعلها موجوداً مثالياً لها أصل في عالم المثال ، كما أنّ إدراكها للكليات والحقائق المرسلة موجود عقلائي لها أصل في عالم العقول.

وبالجملة كون الحياة الأُخروية غاية ورجوعاً إلى الله يتبلور في أمرين متحققين في الحياة الأُخروية.

أ. تجسم أعماله وتبلور أفعاله وما تواجه من جزاء الخير والشر.

__________________

١. الأسفار : ٩ / ١٥٣.

١٢٦

ب. انتهاء القوىٰ والاستعدادات إلى الكمال ، ووقوف الحركة الاستكمالية للإنسان.

وهذان الأمران غير متحققين في الدنيا وإنّما يتحققان في الآخرة ، كما أنّهما ينسجمان مع حشر البدن العنصري ، أمّا تجسّم الأعمال وتبلورها فهو ينسجم مع الحشر المثالي أو البرزخي ، وأمّا توقّف الحركة عن الاستكمال ، فلما عرفت من أنّ تعلّق النفس بالبدن في اليوم الآخر لأجل نيل الثواب والعقاب لا للتدبير ، وبذلك يختلف تعلّقها بالبدن في الآخرة عن تعلّقها به في الدنيا ، وبالتالي لا ينفك ذلك التعلّق عن الحركة الاستكمالية في النشأة الأُولى ولكن تنتهي الحركة الاستكمالية في النشأة الأُخرى ، وما ذلك إلاّ لتغاير التعلّقين.

الشبهة الثامنة : النفس يوم القيامة قائمة بذاتها

إنّما سمّي يوم الآخرة بيوم القيامة ، لأنّ الروح فيه تنسلخ عن هذا البدن الطبيعي مستغنياً عنه في وجوده قائماً بذاته ، والبدن الأُخروي قائم بالروح في تلك النشأة والروح قائمة بالبدن الطبيعي هاهنا لضعف وجودها الدنيوي وقوة وجودها الأُخروي ، وعلىٰ ذلك فلا يمكن أن يكون البدن الأُخروي مثل البدن الدنيوي لما عرفت انّ الروح لأجل ضعف وجودها الدنيوي قائمة بالبدن الطبيعي بخلاف الروح بوجودها الأُخروي فانّها لقوة وجودها قائمة بنفسها ، والبدن قائم بالروح.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من أنّ النفس في يوم القيامة قائمة بذاتها لا بالبدن علىٰ خلاف ما في الدنيا ، أمر لم يقم عليه برهان ، وإنّما اتخذه المستدل أصلاً موضوعياً وبنىٰ عليه الدليل ، من خلال إطلاق لفظة « القيامة » والتي توحي إلى قيام النفس بذاتها ، مع أنّه لا دليل عليه بل إطلاق القيامة علىٰ ذلك اليوم لأجل

١٢٧

قيام الحساب والاشهاد والروح ( الروح الأمين ) والناس ، قال سبحانه :

١. ( يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ ). (١)

٢. ( يَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ). (٢)

٣. ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلائِكَةُ صَفًّا ). (٣)

٤. ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ). (٤)

وهذه الآيات تفسر وجه تسمية ذلك اليوم ، بيوم القيامة وانّ التسمية جاءت لأجل قيام الحساب وغيره.

الشبهة التاسعة : استغراب الحياة المثالية

لما كان إثبات نحو آخر من الوجود يخالف هذا الوجود الطبيعي الوضعي ، وإثبات نشأة أُخرى باطنة تباين هذه النشأة الظاهرة ، أمراً صعب الإدراك مستعصياً علىٰ أذهان أكثر الناس جحدوه وأنكروه ، وأيضاً لألفهم بهذه الأجساد وشهواتها ولذّاتها يصعب عليهم تركها وطلب نشأة تضاد هذه النشأة ، ولذلك لم يتدبروا في تحقيقها وكيفيتها بل أعرضوا عنها وعن آياتها ، كما قال تعالى : ( وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ) (٥) ، ورضوا بالحياة الدُّنيا واطمأنّوا بها وأخلدوا إلى الأَرض كما قال تعالى : ( وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) (٦).

__________________

١. إبراهيم : ٤١.

٢. غافر : ٥١.

٣. النبأ : ٣٨.

٤. المطففين : ٦.

٥. يوسف : ١٠٥.

٦. الأعراف : ١٧٦.

١٢٨

ونحن رأينا كثيراً من المنتسبين إلى العلم والشريعة انقبضوا عن إثبات عالم التجرّد واشمأزّت قلوبهم عن ذكر العقل والنفس والروح ، ومدح ذلك العالم وخدمة الأجساد وشهواتها المحسوسة ودثورها وانقطاعها وأكثرهم توهموا الآخرة كالدنيا ونعيمها كنعيم الآخرة إلاّ أنّها أوفر وأدوم وأبقى. (١)

وحاصل هذه الشبهة يرجع إلى أمرين :

أ. انّ إنكار المشركين المعاد لأجل كون الحياة الأُخروية فوق الحس ، وهذا لا ينسجم مع كون المعاد عنصرياً.

ب. هؤلاء المنكرون لفرط حبهم بالبدن وآثاره كان من الصعب عليهم تركها وطلب نشأة تضاد هذه النشأة.

يلاحظ على الأمر الأوّل : أنّ المشركين كانوا يستوحشون من إحياء البدن العنصري تارة أُخرى ، ولأجل ذلك كانوا ينسبون القائل بذلك إلىٰ الجنون و الخلط.

إنّ إحياء الأموات ليس أمراً سهلاً حتى يصدقه كلّ من خوطب به ، بل أمر يصعب فهمه على السذج من العقول يقول سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ) (٢) فالذي كانت تستغربه الأفهام الساذجة هو إحياء البدن البالي ، وهذا ينسجم مع المعاد العنصري.

ولأجل رفع تعجبهم وتقريب المطلب إلى أفهامهم يضرب القرآن بكلّ مثل في هذا الباب كما سبق ذكره.

__________________

١. الأسفار : ٩ / ١٥٧ ـ ١٥٨.

٢. سبأ : ٧ ـ ٨.

١٢٩

وأمّا الأمر الثاني ، فلأنّ إنكارهم لم يكن مبنياً علىٰ أنّ المعاد الذي يدعو إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعد مغايراً لهذه الحياة الدنيا ، بل كان إنكارهم لأجل خوفهم من سوء الحساب والجزاء لا من تغاير الحياتين واختلافهما ، يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) (١) وقال سبحانه : ( إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا ). (٢)

والحاصل أنّ التغاير بين الحياتين لا يكون داعياً إلى الإنكار خصوصاً إذا كانت الحياة الثانية أكمل من الأُولى وانّ الذي يجر المنكر إلى إنكار المعاد هو خوفه من نصب الموازين بالقسط والجزاء بما عمل ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

الشبهة العاشرة : تعلّق النفس بالبدن العنصري رهن مرجّح

إنّ تعلّق النفس بالبدن أمر طبيعي منشأه الملازمة التامة والاستعداد الكامل للمادة المخصِّص لها بهذه النفس دون غيرها ، ولابدّ أن يكون هذا التخصص والاستعداد ممّا لم يوجد إلاّ لهذه المادة الواحدة بالقياس إلى النفس المعينة الواحدة لئلا يلزم التخصص بلا مخصص ، أو تعلّق نفس واحدة ببدنين ، على أنّ منشأ حدوث النفس وما يجري مجراها هو الحركة الذاتية الاستكمالية لمادة ما في الصور الجوهرية على سبيل الترقي من الأدنىٰ إلى الأعلىٰ حتى يقع انتهاء الأكوان الصورية إلى النفس وما بعدها ، فعلىٰ هذا لا معنى لبقاء المناسبة الذاتية للأجزاء الترابية إليها. (٣)

والجواب : أنّ المناسبة بين النفس والأجزاء الترابية وإن كانت منتفية إلاّ أنّها

__________________

١. ص : ٢٦.

٢. النبأ : ٢٧.

٣. الأسفار : ٩ / ٢٠٦.

١٣٠

موجودة بين النفس والبدن المُعاد. وبما أنّ المُعاد في دار العقبىٰ هو نفس البدن الدنيوي الذي تعلّقت به النفس في هذه النشأة ، فتتعلّق به النفس في النشأة الآخرة.

نعم البدن المعاد وإن لم يكن عين البدن الدنيوي إلاّ أنّه مثله ، فيشتمل علىٰ كافة الخصوصيات الموجودة في البدن الدنيوي ، وهذه الخصوصيات كافية في إيجاد المرجح لتعلّق النفس بذلك البدن دون الآخر.

فاللّه سبحانه عندما يُعيد البدن الدنيوي فإنّما يعيده بكافة الخصوصيات المتحقّقة في هذه النشأة غير النفس ، وهذا المقدار يكفي في المرجحية وإخراج التعلّق عن كونه تعلّقاً بلا مرجح.

الشبهة الحادية عشرة : رجوع الفعلية إلى القوة

إنّ النفس الإنسانية تتكامل شيئاً فشيئاً في الحياة الدنيا تحت ظل الحركة الجوهرية فتصل من الأدنى إلى الأعلى حتى تقع انتهاء الأكوان الصورية من النفس وعند ذلك تتبدل قواها إلى الفعلية وطاقاتها إلى الوجود الواقعي ، فلو أُعيد إلى الدنيا يلزم رجوع الفعلية إلى القوة وهو أمر علىٰ خلاف الحكمة.

يقول صدر المتألّهين : إنّ النشأة الثانية طور آخر من الوجود يباين هذا الطور المخلوق من التراب والماء والطين ، وانّ الموت والبعث ابتداء حركة الرجوع إلى الله أو القرب منه لا العود إلى الخلقة المادية والبدن الترابي الكثيف الظلماني. (١)

إنّ هذا الإشكال أي استلزام المعاد العنصري رجوع الفعليات إلى القوى لا يختص بالمعاد ، بل يعم الخلقة الابتدائية عند من يقول بخلق الأرواح قبل الأبدان ، فانّ الروح المجرّد موجود متكامل نفذ طاقاته وانقلب قواه إلى الفعلية ، فلو تعلّق

__________________

١. الأسفار : ٩ / ١٥٣.

١٣١

بالجنين السويّ يلزم تنزله من المقام الأعلىٰ إلى المقام الأدنى حتى ينسجم مع البدن ، وإلاّ لكان التعلّق أمراً محالاً لعدم الإنسجام بين البدن والروح. وهذا الإشكال هو الذي حاول الشيخ الرئيس أن يجيب عنه بعدما طرح الإشكال مبسطاً ، وقال في قصيدته المعروفة بالعينيّة :

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تعزِّز وتمنِّع

محجوبة عن كلّ مقلة عارف

وهي التي سفرت ولم تتبرقع

وصلت على كره إليك وربما

كرهت فراقك وهي ذات تفجع

انفت وما ألفت فلمّا واصلت

ألفت مجاورة الخراب البلقع

واظنها نسيت عهوداً بالحمى

ومنازلاً بفراقها لم تقنع (١)

إلى آخر ما قال ...

إنّ الإشكال مبني علىٰ أنّ الروح بخروجها عن البدن موجود متكامل ومجرّد محض ، ليس فيها أيّة قوة وطاقة فلذلك تفقد ملاك تعلّقها بالبدن ، وأمّا إذا قلنا بانّ النفس في هذه الدنيا مجرّد ممزوج مع القوة ، فهي بما انّها تتأثر باللذائذ والآلام المادية ، موجود طبيعي ، وبما أنّها تخلق صوراً بلا مادة كالصورة الذهنية موجود مثالي ، وبما انّها تدرك المفاهيم الكلية والحقائق المرسلة موجود عقلاني.

فعلىٰ ذلك فإنّ النفس لها أُصول في العوالم الثلاثة ، فلا مانع من أن تتعلّق بالبدن المادي والهوية الطبيعية.

لا شكّ انّ الحياة الأُخروية أكمل من الحياة الدنيوية ، لكن مدار الكمال ليس كون إحداهما مادية والأُخرى مجرّدة كاملة ، وإنّما يتحقّق التفاوت بأُمور أُخرى

__________________

١. الكنى والألقاب : ١ / ٣٢١.

١٣٢

نظير ما يلي :

١. انّ الخمر في هذه الحياة مسكر ومطفئ لمصباح العقل بخلافه في الدار الآخرة.

قال سبحانه : ( يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ). (١)

٢. انّ الفواكه واللبن وما أشبهها يتسارع إليها الفساد في هذه الدنيا بخلافه في الدار الآخرة ، قال سبحانه : ( مَّثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ). (٢)

٣. انّ الحياة في النشأة الأُولى منقطعة ، بخلاف الآخرة فانّ الحياة فيها خالدة ، قال سبحانه : ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلاَّ المَوْتَةَ الأُولَىٰ ). (٣)

وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ). (٤)

٤. انّ الإنسان في هذه النشأة يمتلك الحواس التي يستعين بها للارتباط بمحيطه كالإحساس بالحرارة والبرودة مثلاً مع أنّها في الآخرة ليست كذلك ، قال سبحانه : ( لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ). (٥)

وعلى ضوء ذلك فالاختلاف بين الحياتين ليس رهن كون إحداهما مادية

__________________

١. الصافات : ٤٥ ـ ٤٧.

٢. محمد : ١٥.

٣. الدخان : ٥٦.

٤. فاطر : ٣٦.

٥. الدهر : ١٣.

١٣٣

والأُخرى مجردة مثالية ، بل يكفي كونها من سنخ واحد ولكن على نحو أكمل ممّا نشاهده في هذه الدنيا.

كيف يمكن أن يقال إنّ خروج النفس عن البدن آية تكاملها ونفاد قواها واستعدادها مع أنّ أكثر أنواع الموت انتشاراً هو الموت الاخترامي لا الطبيعي ؟

وللسيد العلاّمة الطباطبائي كلام مفصل في نقد هذه الشبهة ، إذ يقول :

إنّ عود الميت إلىٰ حياته الدنيا ثانياً في الجملة وكذا المسخ ليسا من مصاديقه ، بيان ذلك : أنّ المحصل من الحس والبرهان أنّ الجوهر النباتي المادي إذا وقعت في صراط الاستكمال الحيواني فانّه يتحرك إلى الحيوانية ، فيتصور بالصورة الحيوانية ، وهي صورة مجرّدة بالتجرّد البرزخي ، وحقيقتها إدراك الشيء نفسه بإدراك جزئي خيالي وهذه الصورة وجود كامل للجوهر النباتي وفعلية لهذه القوّة تلبس بها بالحركة الجوهرية ومن المحال أن ترجع يوماً إلى الجوهر المادي فتصير إيّاه إلاّ أن تفارق مادتها فتبقى المادة مع صورة مادية كالحيوان تموت فيصير جسداً لاحراك به.

ثمّ إنّ الصورة الحيوانية مبدأ لأفعال إدراكية تصدر عنها ، وأحوال علمية تترتب عليها ، تنتقش النفس بكلّ واحد من تلك الأحوال بصدورها منها ، ولا يزال نقش عن نقش ، وإذا تراكمت من هذه النقوش ماهي متشاكلة متشابهة تحصل نقش واحد وصار صورة ثابتة غير قابلة للزوال ، وملكة راسخة ، وهذه صورة نفسانية جديدة يمكن أن يتنوع بها نفس حيواني فتصير حيواناً خاصاً ذا صورة خاصة منوعة كصورة المكر والحقد والشهوة والوفاء والافتراس وغير ذلك وإذا لم تحصل ملكة بقي النفس على مرتبتها الساذجة السابقة ، كالنبات إذا وقفت عن حركتها الجوهرية بقي نباتاً ولم يخرج إلى الفعلية الحيوانية ، ولو أنّ النفس البرزخية تتكامل من جهة أحوالها وأفعالها بحصول الصورة دفعة لانقطعت علقتها مع البدن في أوّل وجودها لكنّها تتكامل بواسطة أفعالها الإدراكية المتعلّقة

١٣٤

بالمادة شيئاً فشيئاً حتى تصير حيواناً خاصاً إن عمّر العمر الطبيعي أو قدراً معتداً به ، وإن حال بينه وبين استتمام العمر الطبيعي أو القدر المعتد به مانع كالموت الاخترامي بقي على ما كان عليه من سذاجة الحيوانية ، ثمّ إنّ الحيوانية إذا وقعت في صراط الإنسانية وهي الوجود الذي يعقل ذاته تعقلاً كلياً مجرداً عن المادة ولوازمها من المقادير والألوان وغيرهما خرج بالحركة الجوهرية من فعلية المثال التي هي قوة العقل إلى فعلية التجرّد العقلي ، وتحققت له صورة الإنسان بالفعل ، ومن المحال أن تعود هذه الفعلية إلى قوتها التي هي التجرد المثالي على حدّ ما ذكر في الحيوان.

ثمّ إنّ لهذه الصورة أيضاً أفعالاً وأحوالاً تحصل بتراكمها التدريجي صورة خاصة جديدة توجب تنوع النوعية الإنسانية إلى حدّ ما ذكر نظيره في النوعية الحيوانية.

إذا عرفت ما ذكرناه ظهر لك أنّا لو فرضنا إنساناً رجع بعد موته إلى الدنيا وتجدد لنفسه التعلق بالمادة وخاصة المادة التي كانت متعلّقة نفسه من قبل لم يبطل بذلك أصل تجرد نفسه فقد كانت مجرّدة قبل انقطاع العلقة ومعها أيضاً وهي مع التعلّق ثانياً حافظة لتجرّدها ، والذي كان لها بالموت أنّ الأداة التي كانت رابطة فعلها بالمادة صارت مفقودة لها فلا تقدر على فعل مادي كالصانع إذا فقد آلات صنعته والأدوات اللازمة لها ، فإذا عادت النفس إلىٰ تعلّقها الفعلي بالمادة أخذت في استعمال قواها وأدواتها البدنية ووضعت ما اكتسبتها من الأحوال والملكات بواسطة الأفعال فوق ما كانت حاضرة وحاصلة لها من قبل واستكملت بها استكمالاً جديداً من غير أن يكون ذلك منها رجوعاً قهقري وسيراً نزولياً من الكمال إلى النقص ، ومن الفعل إلى القوة. (١)

ولأجل إيضاح الموضوع نقول :

__________________

١. الميزان : ١ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

١٣٥

إنّ هناك فرقاً بين النفس المجرّدة التي كانت كذلك منذ بدء أمرها وبين النفس المجرّدة التي يكون تجردها حصيلة تكامل البدن ووقوعه في السير التكاملي للحركة الجوهرية ، فالنفس على النحو الأوّل أي المخلوق مجرّداً من بدء خلقها لا يمكن تعلّقها بالبدن ، لأنّها تفقد الانسجام المطلوب بينها وبين البدن ، بخلاف النفس الثانية التي يكون تجردها حصيلة الحركة الجوهرية.

فانّها تحتفظ بشيء من استعداداتها وقابلياتها عند مفارقتها للبدن ، وبذلك تحافظ على انسجامها عند تعلقها بالبدن.

أضف إلى ذلك أنّ تعلّق المجرّد بالمادي إنّما يعد نقصاً إذا صار سبباً لنزوله من الدرجة العالية إلى الدرجة السافلة ، وأمّا إذا كان الشيء الواحد ذا درجات ومراتب فلا مانع من أن يتعلق بالمادة بمالها من الدرجة الدانية ، وقد عرفت أنّ النفس في وحدتها موجود طبيعي مثالي عقلاني.

بل يمكن أن يقال : إنّ تعلّق النفس بالبدن العنصري يوم القيامة كتعلّق عالم الشهادة بعالم الغيب وعالم الطبيعة بعالم النفوس والعقول ، فكما أنّ العالمين مدبرتان لعالم الطبيعة ومع ذلك لا يلزم وقوعهما في قوس النزول ، فهكذا الحال عند تعلّق النفس بالبدن يوم القيامة لا يستلزم وقوعها في القوس النزولي.

على أنّ ثمّة احتمالاً آخر وهو انّ تعلّق النفس بالبدن يوم القيامة لأجل إمكان درك الثواب والعقاب الماديين ، إذ ثمة نوع من الثواب والعقاب لا يمكن أن تدركها النفس إلاّ أن تكون متعلقة بالبدن وتكون كاللباس حين الخلع.

إلى هنا تمّ ما نرمي إليه من استعراض الشبهات المطروحة علىٰ هذا الصعيد مع نقدها ومناقشتها.

١٣٦

الفصل العاشر :

المعاد الروحاني من منظار الحكماء

قد مرّ آنفاً على أنّ ثمة محاور عديدة للبحث ، وهي كالتالي :

١. أقوال الحكماء والمتكلّمين في المعاد.

٢. ما هو الملاك لوصف المعاد بالجسمانية والروحانية ؟

٣. المعاد من حيث الكيفية من منظار القرآن الكريم.

٤. آراء الحكماء والمتكلّمين في المعاد الجسماني.

٥. المعاد الروحاني من منظار الحكماء.

٦. المعاد الجسماني والتناسخ.

وقد استوفينا الكلام في المحاور الأربعة الماضية ، وبقي الكلام في المحورين الأخيرين اللّذين سنعقد لهما الفصلين التاليين.

قد تقدّم انّ للمعاد الروحاني ملاكين :

أحدهما : حشر الأرواح مجرّدة عن الأبدان.

والآخر : حشر الإنسان بغية إدراك اللذائذ العقلية.

وقد عرفت أنّ المعاد الروحاني بالمعنى الأوّل وإن كان ممكناً ولكنّه غير

١٣٧

واقع ، لأنّ حشر الأرواح إنّما يتمُّ مع الأبدان. وأمّا المعاد الروحاني بالمعنى الثاني فملاك وصفه بالروحانية ليس هو حشر الروح مجرّدة عن البدن ، بل الملاك دركه اللذائذ العقلية التي لا تدرك بالحواس سواء أكان المحشور هو الروح أو الروح والبدن ، وهذا النوع من المعاد ممكن وواقع.

توضيحه : انّ مقتضى الحكمة الإلهية والرحمة الواسعة إيصال كلّ ممكن إلىٰ كماله المطلوب ، فثمة فئة من الناس لا همَّ لها سوى نيل اللذائذ المادية وتتلخص السعادة عندها فيها ، فليس لها معاد سوى الجسماني لا تتجاوز عنه ، ولكن ثمة فئة أُخرى لها همة قعساء لكسب الكمالات المعنوية بغية التقرّب إلى الحقّ فمقتضى رحمته الواسعة إيصال هذه الفئة أيضاً إلىٰ كمالها المطلوب.

وبعبارة أُخرى : انّ السعداء والكُمّل في العلم والعمل يكتسبون حياة معنوية حسب ما يقومون به من صالح الأعمال ، ولكن صلة الإنسان بالمادة تحول دون ظهور تلك الكمالات المعنوية ، لكنّها تتجسد يوم القيامة عند رفع الحجب ، فعندئذٍ يطلب القربة إلى الحقّ والاتصال بالموجودات النورانية في النشأة الآخرة.

وهذا النوع من الحياة المعنوية المنتهية إلى المشاهدات القلبية هو حصيلة المعرفة الدنيوية ، ولذلك قيل : المعرفة بذر المشاهدة ، وقد أشار إلى ما ذكرنا الحكيم السبزواري في كلامه هذا : انّ الخلق طبقات ، فالمجازاة متفاوتة ، فلكل منها محبوب ومرغوب وجزاء يليق بحالها ، واللذائذ الحسية والمبتهجات الصورية للكُمّل في العلم والعمل كالظل غير الملتفت إليه بالذات والتفاتهم بباطن ذواتهم وما فوقهم. (١)

نعم هذا النوع من المعاد لا يعم جميع الناس لما عرفت من انقسام الناس إلى

__________________

١. شرح المنظومة ، بحث المعاد ، الفريدة الثانية.

١٣٨

قسمين بين من أخلد إلى الأرض ولا يبغي سوى نيل اللذات الحسية ، وبين من لا يهمه إلاّ اللذات العقلية وما يناسب تلك القوّة من الكمال.

ذهب المحقّقون من الحكماء إلى أنّ حقيقة اللذة هي الإدراك أي إدراك الشيء الملائم للمدرك ، فلو كان المدرِك أمراً حسياً فكماله إدراك الأُمور الحسية ، وإن كان المدرِك قوة عقلية ونفساً مجردة فكماله هو دركه الصور والمعاني الكلية وقربه من الحقّ ولقائه ومشاهدة الجواهر النورية.

يقول صدر المتألّهين : إنّ نفوسنا إذا استكملت وقويت وبطلت علاقتها بالبدن ورجعت إلى ذاتها الحقيقية وذات مبدعها ، تكون لها من البهجة والسعادة ما لا يمكن أن يوصف أو يقاس به اللذات الحسية ، وذلك لأنّ أسباب هذه اللذة أقوى وأتم وأكثر وألزم للّذات المبتهجة.

امّا أنّها أقوى فلأنّ أسباب اللّذة هي الإدراك والمدرِك والمدرَك ، وقوة الإدراك بقوة المدرِك ، والقوة العقلية أقوى من القوة الحسية ومدركاتها أقوى. (١)

ويقول أيضاً : فانّ الصور العقلية إذا عقلها العقل يستكمل بها ويصير ذاتها كما علمت ، بل كان بعضها قبل أن يقع الشعور به مقدماً لذات العقل وكان غافلاً عنه لاشتغاله بغيره فإذا استشعر وتنبّه يرى ذلك البهاء والجمال في ذاته فصار مبتهجاً بذاته غاية البهجة.

وهذه اللذة شبيهة بالبهجة التي للمبدأ الأوّل بذاته ، وبلذات المقربين بذواتهم وذات مبدئهم ... ونحن لا نشتهي تلك اللذات مادمنا متعلّقين بهذه الأبدان. (٢)

إلى أن قال : إذا انقطعت العلاقة بين النفس والبدن وزال هذا الشوب

__________________

١. الأسفار : ٩ / ١٢٢.

٢. الأسفار : ٩ / ١٢٣.

١٣٩

صارت المعقولات مشاهدة ، والشعور بها حضوراً ، والعلم عيناً ، والإدراك رؤية عقلية ، فكان الالتذاذ بحياتنا العقلية أتم وأفضل من كلّ خير وسعادة ، وقد عرفت أنّ اللذيذ بالحقيقة هو الوجود وخصوصاً الوجود العقلي لخلوصه عن شوب العدم ، وخصوصاً المعشوق الحقيقي والكمال الأتم الواجبي لأنّه حقيقة الوجود المتضمنة لجميع الجهات الوجودية ، فالالتذاذ به هو أفضل اللذات وأفضل الراحات بل هي راحة التي لا ألم معها. (١)

وقد تحصل من كل ذلك أنّ المانع من المشاهدات واللّذات العقلية هو تعلّق الإنسان بالبدن والخلود إلى الأرض ، فإذا تخلّص منه حينها يفسح له المجال لدرك هذا النوع من الجزاء.

ويمكن أن يقال : إذا كان المانع من نيل هذه الدرجات هو تعلّق النفس بالبدن فهذا النوع من التعلّق موجود في النشأة الآخرة لما عرفت من أنّ المعاد عنصري لا مثالي ؟

والإجابة عن هذا السؤال واضحة ، لأنّ البدن المحشور وإن كان عنصرياً ولكنّه أكمل وألطف من البدن الدنيوي فلا يكون مانعاً عن نيل ذلك النوع من الجزاء.

على أنّك وقفت على اختلاف التعلّقين ، فتعلق النفس بالبدن في هذه النشأة لغاية التدبير ولكن تعلّقه في النشأة الأُخرىٰ استخدامه لأجل نيل الجزاء الحسي.

وهناك احتمال ثالث يذكره المتكلّم الطائر الصيت الفاضل المقداد ( المتوفّى عام ٨٢٨ ه‍ ) وهو أنّ النفس بعد انفكاكها عن البدن تتقوىٰ في عالم البرزخ في الفترة بين الموت والحشر ، فبعد التعلّق بالبدن يكون استعدادها أقوى لتقبل

__________________

١. الأسفار : ٩ / ١٢٥.

١٤٠