الشيعة في الإسلام

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الشيعة في الإسلام

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: بيت الكاتب للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٠

أن إشهاد الإمام السادس على وفاة ولده كان على علم وعمد ، وذلك خوفا من المنصور الخليفة العباسي. واعتقدت جماعة أن الإمامة الحقّة هي لاسماعيل ، ومع موته ، انتقلت إلى محمد ، واعتقد آخرون أن إسماعيل وإن أدركه الموت في زمن أبيه ، إلا أنه إمام ، ومحمد بن اسماعيل ومن جاء بعده من هذه السلالة أئمة أيضا.

انقرضت الفرقتان الأولتان بعد زمن وجيز ، وبقيت الفرقة الثالثة حتى وقتنا الحاضر ، وقد تفرعت لفرق عديدة.

لدى «الإسماعيلية» فلسفة تشبه فلسفة عبدة النجوم ، وفيها شيء من التصوّف الهندي ، ويذهبون إلى أن المعارف والأحكام الإسلامية ، لها ظاهر وباطن ، فلكل ظاهر باطن ولكل تنزيل تأويل ، وتعتقد أن الأرض لا تخلو من حجة ، وحجة الله عندهم على نوعين : ناطق وصامت فالناطق هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والصامت هو الولي أو الإمام ، وهو وصيّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وعلى أيّة حال ، فإن الحجّة هي المظهر الكامل للربوبيّة.

أساس الحجة عندهم يدور دائما على العدد (٧) ، وبهذا الترتيب ، أن كل نبي عند ما يبعث يختصّ بالنبوّة ـ أي الشريعة ـ والولاية ، ويأتي بعده سبعة أوصياء ، لكل منهم الوصاية ، وكلهم يعتبرون في نفس المنزلة والشأن ، سوى الوصي السابع الذي يختص بالنبوّة أيضا ، ويتصف بثلاثة مناصب ، النبوّة والوصاية والولاية ، وبعده سبعة أوصياء ، وللسابع منهم ثلاثة مناصب وهكذا.

فهم يقولون ، أن آدم عليه‌السلام بعث بالنبوّة والولاية ، وكان له سبعة أوصياء ، وسابعهم نوح النبي ، وكان يختصّ بالنبوة الوصاية

٦١

والولاية ، والنبي إبراهيم هو الوصيّ السابع لنوح ، والنبي موسى سابع الأوصياء لإبراهيم ، والنبي عيسى سابع الأوصياء لموسى ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سابع الأوصياء لعيسى ، ومحمد بن اسماعيل الوصي السابع لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بهذا الترتيب : محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي والحسين وعلي بن الحسين والسجاد ومحمد الباقر وجعفر الصادق واسماعيل ومحمد بن اسماعيل (الإمام الثاني الحسن بن علي لا يعدونه من الأئمة) ، وبعد محمد بن اسماعيل سبعة من نسله وولده ، أسماؤهم مخفيّة مستورة وبعدهم سبعة من ملوك الفاطميين لمصر ، أولهم عبيد الله المهدي مؤسس حكومة الفاطميين بمصر.

تعتقد الإسماعيليّة ، بأن هناك اثني عشر نقيبا موجودين دائما على الأرض ، فضلا عن وجود حجة الله ، فهم حواريو الحجة وخاصته ، ولكن البعض منهم وهي فرقة الدروز الباطنية ، تعتبر ستة من الأئمة نقباء ، والستة الآخرين من غيرهم.

وقد ظهر شخص مجهول الهوية سنة ٢٧٨ ه‍ ، في مدينة الكوفة ، (قبل ظهور عبيد الله المهدي بسنوات) خوزستاني الأصل ، وكان يقضي نهاره صائما ، وليله قائما عابدا ، ويسدّ رمقه من كسبه وعمله ، كان يدعو لمذهب «الإسماعيلية». فاستطاع أن يكسب جماعة ، ليكونوا له أنصارا وأعوانا ، فانتخب منهم اثني عشر شخصا ، على أنهم النقباء ، ثم خرج من الكوفة متجها إلى الشام ، وما عرف عنه شيء بعدها.

استخلف هذا الرجل المجهول في العراق ، رجلا كان يدعى أحمد ويعرف ب «القرمط» ، فبثّ تعاليم الباطنيّة ، وكما يشير

٦٢

المؤرخون بأنه ابتدع صلاة جديدة ، بدلا من الصلوات الخمس في الإسلام ، وألغى غسل الجنابة ، وأباح شرب الخمر. وفي نفس العصر ، ظهر زعماء آخرون يدعون إلى الباطنية ، جذبوا جماعة من الناس من حولهم.

كان هؤلاء يتعرضون لأنفس وأموال من لا يعتنق مذهب الباطنية ، واستمروا في حركتهم هذه في العراق والبحرين واليمن والشام ، قتلوا الأبرياء ، ونهبوا الأموال ، وسلبوا قوافل الحجيج ، سفكوا دماء الآلاف منهم ، ونهبوا أمتعتهم وراحلتهم.

استولى «أبو طاهر القرمطي» أحد زعماء الباطنية على البصرة سنة ٣٣١ ه‍ فقتل الناس ، ونهب الأموال ، ثم اتجه إلى مكة مع جمع من الباطنية سنة ٣١٧ ه‍ ، وبعد صراع مع أفراد الشرطة ، دخل مكة ، فقتل أهلها ، والحجاج الواردين إليها ، فسالت الدماء في بيت الله الحرام والكعبة ، فقسّم ستار الكعبة بين أنصاره ، وقلع باب الكعبة ، واقتلع الحجر الأسود من مكانه ، ثم نقله إلى اليمن وبقي عندهم مدة اثنين وعشرين عاما.

على أثر هذه الأعمال ، أبدى عامة المسلمين تذمرهم وتنفرهم من «الباطنية» ، واعتبروهم خارجين عن دين الإسلام ، حتى أن «عبيد الله المهدي» وهو أحد ملوك الفاطميين ، الذي ظهر في إفريقيّة ، وادّعى لنفسه المهدويّة ، وأنه المهدي الموعود ، وإمام الإسماعيلية ، قد تبرأ أيضا من القرامطة آنذاك.

وحسب ما يقرّه المؤرخون أن المعيار الديني للباطنية هو تأويل الأحكام الظاهرة للإسلام إلى مراحل باطنية صوفية ، ويعتبرون

٦٣

ظاهر الشريعة خاصا للأميين من الناس ، الذين لم يتدرجوا في طريق الكمال ، ومع هذا كله ، فقد كانت تصدر قوانين وأحكام معيّنة من أئمتهم وزعمائهم بين حين وآخر.

النزارية والمستعلية والدروزية والمقنعة

ظهر «عبيد الله المهدي» سنة ٢٩٦ للهجرة في إفريقيا ، وادّعى الإمامة على طريقة الإسماعيلية ، وأسس الدولة الفاطمية ، واختار خلفاؤه مصر دار خلافتهم ، فحكم سبعة منهم على التوالي طبق مذهب «الإسماعيلية» دون أن يحدث خلاف أو انقسام بينهم.

وبعد الخليفة السابع وهو (المستنصر بالله سعد بن علي) تنازع ولداه «نزار» و «المستعلي» على الخلافة والإمامة ، وبعد صراع وحروب دامية ، كانت الغلبة للمستعلي ، فألقى القبض على أخيه نزار ، وسجنه وبقي في السجن حتى توفي فيه.

وعلى أثر هذه المنازعة ، انقسم اتباع الفاطميين إلى قسمين : نزارية ومستعلية.

النزاريّة : هم من أتباع الحسن بن الصبّاح ، وكان من المقربين للمستنصر ، وبعد المستنصر ، أخرج من مصر بأمر من المستعلي ، بسبب دفاعه عن نزار ، فجاء إلى إيران وبعد فترة ظهر في قلعة الموت من نواحي قزوين. فاستولى على هذه القلعة وقلاع أخرى مجاورة ، فصار سلطانا عليها ، ودعا إلى نزار في البداية ، وبعد وفاة «حسن» سنة ٥١٨ ه‍. جاء «بزرك أميد رودباري» ، وبعده ابنه «كيا محمد» حكما على طريقة «الحسن الصبّاح» ، وجاء بعده ابنه

٦٤

«حسن على ذكره السلام» رابع ملوك قلعة الموت ، فغيّر طريقة الحسن الصبّاح وكانت نزاريّة ، وانتمى إلى الباطنية.

فتح هولاكو خان بعد حملته على إيران قلاع الإسماعيلية وقتل جميع الإسماعيليين ، وهدم قلاعهم ، وبعد سنة ١٢٥٥ ه‍. ثار آقا خان المحلاتي وكان من النزاريّة على محمد شاه القاجار ، وفشل في نهضته التي قام بها في مدينة كرمان وهرب إلى بمبئي ، فنشر الدعوة الباطنية النزارية بإمامته وزعامته هناك ، ولا تزال دعوتهم باقية حتى الآن ، وتدعى النزارية الآن بال (آقاخانية).

المستعلية : استقرت الإمامة لأتباع المستعلي الفاطمي من خلفاء الفاطميين بمصر إلى أن انقرضت سنة ٥٥٧ ه‍. وظهرت بعد فترة فرقة (البهرة) في الهند على الطريقة نفسها ، ولا تزال موجودة.

الدروزية : الطائفة الدروزية التي تقطن الآن جبل الدروز في الشام ، كانت في بداية الأمر تابعة للخلفاء الفاطميين ، حتى أيام الخليفة السادس الفاطمي ، بدأت تدعو إلى «نشتجين الدروزي» والتحقت بالباطنية.

تقف الدروزية عند الخليفة «الحاكم بالله» وتدّعي أنه غاب عن الأنظار ، وعرج إلى السماء ، وسوف يعود ثانية بين الناس.

المقنّعة : كانت من أتباع «عطاء المروي» المعروف بالمقنّع في بادئ الأمر ، وحسب ما يذكر المؤرخون أنه كان من أتباع أبي مسلم الخراساني ، وبعد وفاة أبي مسلم ، ادّعى أن روح أبي مسلم قد حلّت فيه ، وادّعى النبوّة بعد ذلك ، وبعدها ادّعى الألوهية ، وحوصر سنة ١٦٢ في قلعة كيش في بلاد ما وراء النهر ، وعند ما تيقّن أنه

٦٥

مقتول لا محالة ، أشعل نارا ، ورمى بنفسه فيها مع عدة من أصحابه واحترق ، بعد فترة اختار أصحاب عطاء مذهب الإسماعيلية ، والتحقوا بالفرقة الباطنية.

الشيعة الاثنا عشرية واختلافها مع الزيدية والإسماعيلية

إن الأقلية الشيعية التي مرّ ذكرها تنشعب عن الأكثريّة الشيعية الإمامية ، وتسمى بالاثنى عشرية أيضا ، وكما ذكرنا آنفا ، كان بداية نشوئهم هو الاعتراض والانتقاد لمسألتين أساسيتين من المسائل الإسلامية ، علما بأنهم لم يعارضوا القوانين التي كانت موجودة وفقا لتعاليم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنتشرة بين المسلمين. والمسألتان هما : «الحكومة الإسلامية والمرجعية العلميّة». وتعتقد الشيعة بأن تلك المسألتين من حق أهل البيت عليهم‌السلام خاصة.

تؤمن الشيعة الاثنا عشرية ، إن الخلافة الإسلامية بما فيها من ولاية باطنية وقيادة معنوية ـ وهما جزءان لا ينفكان عنها ـ من حقّ عليّ وأولاده عليهم‌السلام ، بموجب تصريح النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وهم اثنا عشر إماما ، وتؤمن أيضا أن التعاليم الظاهرية للقرآن والتي تعتبر من أحكام الشريعة ، تشتمل على الحياة المعنوية الكاملة ولها أصالتها واعتبارها ، ولا يعتريها أيّ نسخ حتى قيام الساعة ويجب أن تؤخذ هذه الأحكام والقوانين عن طريق أهل البيت ، لا غير ، ومن هنا يتضح :

إن الاختلاف الأصلي بين الشيعة الإمامية والشيعة الزيدية ، هو أن الشيعة الزيدية لا تحصر الإمامة في أهل البيت عليهم‌السلام ، ولا

٦٦

تقتصر في عدد الأئمة على الاثني عشر ، ولا تتبع فقه أهل البيت ، على خلاف الشيعة الإمامية. والفارق الأساسي بين الشيعة الإمامية والشيعة الإسماعيلية هو أن الإسماعيلية تعتقد بأن الإمامة تدور على (سبع) ولم تختم النبوة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا مانع لديهم من تبديل أحكام الشريعة ، وحتى ارتفاع أصل التكليف عنهم ، خاصة على قول الباطنية. على خلاف مذهب الشيعة الإماميّة الذي يعتقد بخاتمية النبوة في محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنه خاتم الأنبياء ، وله اثنا عشر وصيا ، وتعتبر ظاهر الشريعة غير قابل للنسخ ، ويثبتون للقرآن ظاهرا وباطنا.

أما طائفتا الشيخية والكريمخانية ، اللتان ظهرتا بين الشيعة الإمامية في القرنين الأخيرين ، فلم نعدهما انشعابا ، لأن اختلافهما معا يدور حول توجيه وتفسير بعض المسائل النظرية ، وليس في إثبات أو نفي أصل المسائل.

وكذا فرقة «علي اللهيّة» بالنسبة للشيعة الإمامية ، ويسمّون ب «الغلاة» أيضا ، فهم يعتقدون بالباطن فقط مثل الباطنية للشيعة الإسماعيلية ، وبما أنهم يفتقرون إلى منطق دقيق ، فلم نحسبهم من عداد الشيعة.

موجز عن تاريخ الشيعة الاثني عشرية

كما أشرنا في الفصول المتقدمة ، أن أكثرية الشيعة هم الاثنا عشرية ، وهم أصحاب علي وأنصاره ، الذين رفعوا راية المعارضة والانتقاد في ما يخص الخلافة والمرجعية العلمية بعد وفاة

٦٧

الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك لإحياء حقوق أهل البيت عليهم‌السلام ، وبهذا انفصلوا عن أكثرية الناس.

كانت الشيعة مضطهدة في زمن الخلفاء الراشدين (سنة ١١. ٣٥ ه‍) ، ولم يكن عندهم احترام أو حماية لأنفسهم وأموالهم طوال حكومة بني أمية وخلافتهم (٤٠ ـ ١٣٢ ه‍) ، وكلما كان يزداد عليهم الضغط والاضطهاد ، كانوا يشتدون عزما ، ورسوخا في عقيدتهم ، وكانوا يستفيدون من مظلوميتهم في سبيل المحافظة على عقيدتهم وتقدمها ونشرها.

وفي الفترة ما بين الدولتين الأموية والعباسية ، حيث تسلّم خلفاء بني العباس الحكم ، والتي كانت فترة ضعف وانهيار ، استطاع الشيعة أن يتنفسوا الصعداء ، وذلك في أواسط القرن الثاني للهجرة ، ولكن سرعان ما عاد التضييق والاضطهاد عليهم ، وازداد شيئا فشيئا حتى أواخر القرن الثالث الهجري.

وفي أوائل القرن الرابع الهجري ، استعاد الشيعة قوّتهم بمجيء سلاطين آل بويه ، وكانوا من الشيعة ، فحصلوا على حريّة فكريّة ، وشرعوا بنضالهم ، واستمرت حتى نهاية القرن الخامس الهجري ، وفي أوائل القرن السادس الهجري ، الذي يقترن مع حملة المغول ، وعلى أثر المشاكل العامة ، واستمرار الحروب الصليبية ، رفعت الحكومات الإسلامية الاضطهاد والضغوط عن الشيعة ، وخاصة بعد اعتناق بعض سلاطين المغول في إيران دين الإسلام ، وساهمت حكومة سلاطين مرعش في مازندران في دعم الشيعة وتقويتهم ، مما جعل عددهم يزداد في كل بقعة من بقاع الممالك الإسلامية

٦٨

وخاصة في إيران ، حيث كان الشيعة بالملايين. واستمرت هذه الحالة حتى أواخر القرن التاسع الهجري ، وفي بداية القرن العاشر الهجري ، إثر ظهور الدولة الصفوية في إيران المتسعة الأرجاء آنذاك ، اعترف رسميا بمذهب الشيعة ، ولا يزال حتى الآن ، يعتبر مذهبا رسميا للبلاد وفضلا عن هذا كله فإن عشرات الملايين من الشيعة تعيش حاليا في جميع بقاع العالم.

٦٩

الفصل الثاني :

الفكر الديني

لدى الشيعة

٧٠
٧١

معنى الفكر الديني

يطلق هذا الاصطلاح على التحقيق والبحث في موضوع من المواضيع الدينية للحصول على نتيجة معينة.

كما أن المراد من الفكر الرياضي مثلا ، هو الفكر الذي يعطي النتيجة لنظرية رياضية معينة ، أو يحلّ مسألة رياضية.

المصادر الرئيسية للفكر الديني في الإسلام

من الطبيعي أن الفكر الديني كسائر الأفكار ، يعتمد على مصادر ، كي يستلهم منها مواده وأسسه ، كما هو الحال في الفكر الرياضي لحل مسألة ما ، فإنه لا بدّ من الاستعانة بمجموعة من النظريات والفرضيات ، وبالنتيجة ينتهي إلى المعلومات الخاصة به ، والمصدر الوحيد الذي يعتمد عليه الإسلام ، (من جهة ارتباطه بالوحي السماوي) هو القرآن الكريم ، فهو المصدر الرئيسي للنبوة الشاملة للنبي الأكرم ، وما يحتويه من الدعوة إلى الإسلام ،

٧٢

والقرآن لا ينفي المصادر الأخرى للفكر الصحيح والحجج الواضحة كما سنبين.

الطرق التي يعرضها الإسلام للفكر الديني

يضع القرآن الكريم ثلاثة طرق أمام أتباعه للوصول إلى المفاهيم الدينيّة والمعارف الإسلامية ، ويوضّح لهم ، أن الظواهر الدينية والحجج العقلية ، والإدراك المعنوي لا يتأتّى إلّا من الخلوص في العبادة.

إن الله سبحانه يخاطب الناس عامة في القرآن ، ويعرض أمورا دون إقامة حجة أو دليل ، انطلاقا من قدرة هيمنته كخالق ، ويطالب بقبول الأصول والأسس الاعتقادية ، كالتوحيد والنبوة والمعاد ، والأحكام العملية ، كالصلاة والصوم وغيرها ، كما يأمر بالنهي والامتناع أحيانا. وإذا لم تكن الآيات لتعطي الحجيّة ، لم يكن ليطالب الناس بقبولها واتّباعها ، إذن لا بدّ من القول بأن هذه الآيات الواضحة الدلالة طريق لفهم المفاهيم الدينية والمعارف الإسلامية وإدراكها ، ونسمي هذا البيان اللفظي بالظواهر الدينية مثل «آمنوا بالله ورسوله» و «وأقيموا الصلاة» ...

ونرى القرآن من جهة أخرى في كثير من الآيات يدعو إلى الحجيّة العقلية ، وذلك بدعوة الناس إلى التفكر والتدبّر في الآفاق والأنفس ، وهو يسلك الاستدلال العقلي في بيان الحقائق.

وحقا أن القرآن هو الوحيد من بين الكتب السماوية الذي يعرّف للإنسان العلم والمعرفة بطريقة استدلالية. ويعتبر أن الحجة العقلية

٧٣

والاستدلال المنطقي من الأمور المسلّمة. فهو يطالب أولا بتقبل المعارف الإسلامية ثم الانتقال إلى الاحتجاج العقلي ، واستنتاج المعارف الإسلامية منها ، انطلاقا من الاعتماد الكامل على واقعيته بل يقول ، محصوا في الاحتجاج العقلي ، واستنبطوا منه صحة المعارف ، ومن ثم يكون القبول والرضا.

وما يسمع من كلام عن الدعوة الإسلامية ، يمكن التأمل فيه ، والاستفسار عنه ، والإصغاء إلى قول الخالق. وبالتالي ، فإن التصديق والإيمان يجب أن يحصل عليه الإنسان بدليل أو حجة ، لا أن يكون الإيمان مسبقا ، ثم إقامة الأدلّة وفقا له. فالفكر الفلسفي طريق يدعمه القرآن الكريم ويصادق عليه ، ومن جهة أخرى نرى القرآن الكريم وبأسلوبه الرائع ، يوضّح لنا أن جميع المعارف الحقيقة تنبع من التوحيد ومعرفة الله حقيقة ، وما كمال معرفة الله جلّ وعلا ، إلّا لأولئك الذين جعلهم الله من خيرة عباده ، وخصصهم لنفسه ، وهم الذين قد قطعوا تعلقهم القلبي بهذه الدنيا ، وإثر الإخلاص والعبوديّة ، وجّهوا قواهم إلى العالم العلوي ، ونوّروا قلوبهم بنور الله سبحانه ، ونظروا ببصيرتهم إلى حقائق الأشياء ، وملكوت السماوات والأرض ، وهم قد وصلوا إلى مرحلة اليقين ، إثر إخلاصهم وعبوديتهم ، وبوصولهم هذه المنزلة (اليقين) انكشف لهم ملكوت السماوات والأرض ، والحياة الخالدة في العالم الخالد.

٧٤

ويتضح هذا الادعاء مع الالتفات إلى الآيات الكريمة التالية :

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (١).

وقوله تعالى : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٢).

ويقول الله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (٣).

ويقول سبحانه : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٤).

وقوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٥).

وقوله : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (٦).

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٢٥. ويفهم من الآية أن العبادة في الدين ، فرح للتوحيد ، وعليه يبنى.

(٢) سورة الصافات الآيتان (١٥٩ ـ ١٦٠) إن الوصف فرع من المعرفة والإدراك ، ويفهم من الآية أن المخلصين فحسب يعرفون الله حق معرفته ، والله منزه عن وصف الآخرين له.

(٣) سورة الكهف الآية ١١٠. يستنبط من الآية أن الطريق للقاء الله هو التوحيد والعمل الصالح ، ولا طريق سواه.

(٤) سورة الحجر الآية ٩٩. ويستفاد من الآية أن عبادة الله تؤدي إلى اليقين.

(٥) سورة الأنعام الآية ٧٥. يفهم من الآية إن إحدى لوازم اليقين مشاهدة ملكوت السماوات والأرض.

(٦) سورة المطففين الآيات (١٨ ـ ٢١). يستفاد من الآيات أن عاقبة (الأبرار) في كتاب يدعى (علّيين) المرتفع جدا ، ويشاهده المقربون لله تعالى ، علما أن لفظ (يشهده) صريح بأن المراد ليس الكتاب المخطوط ، بل عالم تقرب وارتقاء.

٧٥

وقوله تعالى أيضا : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (١).

إذا إحدى طرق استيعاب المعارف الإلهية وإدراكها هي تهذيب النفس والإخلاص في العبودية.

الاختلاف بين هذه الطرق الثلاثة

اتّضح مما سبق ، إن القرآن الكريم يعرض ثلاثة طرق لفهم المعارف الدينيّة : الظواهر الدينية والعقل. والإخلاص في العبودية ، والذي مؤدّاه انكشاف الحقائق. والمشاهدة الباطنية لها ، ولكن يجب أن نعلم أن هذه الطرق الثلاثة ، تتفاوت فيما بينها من جهات عدة :

الأولى : إن الظواهر الدينية بيانات لفظية ، تستفاد من أبسط الألفاظ ، وهي في متناول أيدي الناس ، وكلّ يستفيد (٢) منها حسب قدرته وفهمه واستيعابه ، على خلاف الطريقين الآخرين ، إذ يختصان بجماعة خاصة ، ولم يكونا لعامة الناس.

الثانية : إن العقل هو الطريق الموصل إلى أصول المعارف الإسلامية وفروعها ، ومنه يمكن الحصول على المسائل الاعتقادية والأخلاقية ، وكذا الكليّات للمسائل العملية (فروع الدين) ، ولكن جزئيات الأحكام ومصالحها الخاصة بها لم تكن في متناول

__________________

(١) سورة التكاثر الآيتان (٥ ـ ٦) يستفاد من الآية أن علم اليقين موروث لمشاهدة عاقبة حالة الأشقياء وهو الجحيم (جهنم).

(٢) ومن هنا يتضح لنا قول النبي الأكرم (ص) في رواية ينقلها العامة والخاصة : «إنّا معاشر الأنبياء نكلّم الناس على قدر عقولهم» البحار ج ١ : ٣٦.

٧٦

العقل ، وخارجة عن نطاقه ، وهكذا طريق تهذيب النفس ، لأن نتيجتها انكشاف الحقائق ، وهو علم لدني (من قبل الله تعالى) ، ولا يسعنا هنا أن نحدّد نتائجها والحقائق التي تنكشف عن هذه الموهبة والعطية الإلهية ، وهؤلاء لما انفصلوا عن كل شيء سوى الله تعالى وأعرضوا عنه ، كانوا تحت رعاية الله بصورة مباشرة ، فانكشف لهم كل ما يريده الله تعالى لا كل ما يريدونه.

الطريق الأول :

الظواهر الدينية وأقسامها

وكما سبقت الإشارة ، فإن القرآن الكريم والذي يعتبر مصدرا أساسيا للفكر الديني الإسلامي ، قد أعطى للسامعين حجية واعتبار ظواهر الألفاظ ، وهذه الظواهر للآيات قد جعلت أقوال النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرحلة الثانية بعد القرآن مباشرة ، وتعتبر حجة كالآيات القرآنية ، ويؤيده قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١).

وقوله جلّ شأنه : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢).

__________________

(١) سورة النحل ، الآية ٤٤.

(٢) سورة الجمعة الآية ٢.

٧٧

وقوله تعالى أيضا : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (١).

فإذا لم تكن أقوال النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفعاله وحتى صمته وإقراره ، حجة كالقرآن الكريم ، لم نجد مفهوما صحيحا للآيات المذكورة ، لذا فإن أقواله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجة لازمة الاتّباع ، للذين قد سمعوه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو قد نقل إليهم عن طريق رواة ثقات ، وكذلك ينقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طرق متواترة قطعية أن أقوال أهل بيته عليهم‌السلام كأقواله ، وبموجب هذا الحديث والأحاديث النبوية القطعية الأخرى ، تصبح أقوال أهل البيت تالية لأقوال النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وواجبة الاتّباع ، وأن أهل البيت لهم المرجعية العلمية في الإسلام ولم يخطئوا في تبيان المعارف والأحكام الإسلامية فأقوالهم حجة يعتمد عليها سواء كان مشافهة أو نقلا.

يتضح من هذا التفصيل أن الظواهر الدينيّة والتي تعتبر مصدرا من مصادر الفكر الإسلامي على قسمين : الكتاب والسنّة ، والمراد بالكتاب ، ظواهر الآيات القرآنية الكريمة ، والمقصود بالسنة ، الأحاديث المرويّة عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت عليهم‌السلام.

حديث الصحابة

أما الأحاديث التي تنقل عن الصحابة ، فإذا كانت متضمنة أقوال الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أفعاله ، ولم تخالف أحاديث أهل البيت ، تؤخذ بنظر الاعتبار ، وإذا كانت متضمنة لرأي الصحابي

__________________

(١) سورة الأحزاب الآية ٢١.

٧٨

فحسب فليست لها حجيّة ، ويعتبر الصحابي كسائر المسلمين ، علما بأن الصحابة أنفسهم كانوا يعتبرون الصحابي كبقية المسلمين ، ويعاملونه معاملتهم.

بحث آخر في الكتاب والسنة

يعتبر كتاب الله (القرآن الكريم) هو المصدر الأساسي للفكر الإسلامي ، وهو الذي يعطي الاعتبار والحجيّة للمصادر الدينية الأخرى ، لذا يجب أن يكون قابلا للفهم لعامة الناس.

وفضلا عن هذا فإن القرآن الكريم يعلن أنه نور موضّح لكل شيء ، وفي مقام التحدي ، يطالب بتدبّر آياته ، إذ ليس فيه أي اختلاف أو تناقض ، وإذا كان بامكانهم معارضته ، والإتيان بمثله فليفعلوا ذلك إن استطاعوا.

ومن الواضح أن القرآن لو لم يكن مفهوما لدى العامة فإن مثل هذه الآيات لا اعتبار لها.

وليس هناك مجال للظن في أن هذا الموضوع (القرآن يفهمه عامة الناس) يتنافى مع الموضوع السابق (إن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته ، هم مراجع علمية للمعارف الإسلامية ، والتي هي حقيقة يدل عليها القرآن الكريم).

يشير القرآن الكريم إلى كليات بعض المعارف الإسلامية وهي الأحكام والقوانين التشريعية ، كالصلاة والصوم والمعاملات وسائر العبادات ، ويتوقّف تفصيلها بالرجوع إلى السنة (حديث الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت عليهم‌السلام).

٧٩

والبعض الآخر كالاعتقادات والأخلاق ، وإن كانت مضامينها وتفاصيلها يفهمها العامة ، لكن إدراك وفهم معانيها ، يستلزم اتخاذ نهج أهل البيت عليهم‌السلام مع الاستعانة بالآيات ، فإنها تفسّر بعضها بعضا ، ولا يمكن الاستعانة برأي خاص ، والذي أصبح من العادات والتقاليد ، وباتت النفس تستأنس به.

يقول الإمام علي عليه‌السلام : «كتاب الله تبصرون به ، وتنطقون به ، وتسمعون به وينطق بعضه ببعضه ، ويشهد بعضه على بعض» (١).

يقول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «القرآن يصدق بعضه بعضا» (٢) وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (٣).

هناك أمثلة بسيطة لتفسير القرآن بعضه ببعض ، وذلك في قوله تعالى في قصة لوط (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (٤).

وفي آية أخرى جاءت كلمة «ساء» بكلمة «حجارة» كما في الآية الكريمة (... وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (٥).

يتّضح من الآية الثانية أن المراد من الآية الأولى «فساء مطر» هو «حجارة سجّيل» ، والذي يتابع أحاديث أهل البيت بدقة وكذا الروايات المنقولة عن مفسّري الصحابة والتابعين ، لا يتردّد بأن طريقة تفسير القرآن بالقرآن تنحصر في طريقة أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

__________________

(١) نهج البلاغة خطبة رقم ١٣٣.

(٢) الدرّ المنثور : ج ٢ : ٦.

(٣) تفسير الصافي ص ٨ / البحار ج ١٩ : ٢٨.

(٤) سورة الشعراء الآية ١٧٣.

(٥) سورة الحجر الآية ٧٤.

٨٠