الشيعة في الإسلام

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الشيعة في الإسلام

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: بيت الكاتب للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٠

بداية نشوء الشيعة

يجب أن نعلم أن بداية نشوء الشيعة ، والتي سميت لأول مرة بشيعة علي «أول إمام من أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام)» وعرفت بهذا الاسم ، كان في زمن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فظهور الدعوة الإسلامية وتقدمها وانتشارها خلال ثلاث وعشرين سنة ، زمن البعثة النبويّة ، أدت إلى ظهور مثل هذه الطائفة بين صحابة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) :

أ ـ في الأيام الأولى من بعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الرسول بنص من القرآن الكريم ، (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢) ، وصرّح في جمعهم أن أوّل من يبايعني على هذا الأمر سيكون خليفتي ووصيي من بعدي ، فكان علي عليه‌السلام أول من تقدم ، وقبل الإسلام ، والنبي قبل إيمانه ،

__________________

(١) أول اسم ظهر في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اسم الشيعة ، واشتهر كل من سلمان وأبو ذر والمقداد وعمّار بهذا اللقب. حاضر العالم الإسلامي ١ : ١٨٨.

(٢) سورة الشعراء الآية ٢١٤.

٢١

وتعهّد بكلّ ما وعده به (١) ، ويستحيل عادة على قائد نهضة ، وفي أيامها الأولى أن يعيّن أحد أصحابه وزيرا وخليفة له على الآخرين ، ولا يعرّفه للخلّص من أصحابه وأعوانه ، أو أن يكتفي بهذا الامتياز ليعرفه وليعرّفه ، ولا يطلعه على مهمته طوال حياته ودعوته أو أن يجعله بعيدا عن مسئوليات الوزارة والخلافة ـ بغضّ النظر عن مقام الخلافة ـ وما يجب أن يبدي لها من احترام وتقدير ، ولا يفرّق بينه وبين الآخرين.

ب ـ إن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفقا للروايات المستفيضة والمتواترة عن طريق أهل السنة والشيعة ، والتي يصرّح فيها أن عليا عليه‌السلام مصون من الخطأ والمعصية في أقواله وأفعاله (٢) ، وكل ما يقوم به فهو مطابق للدعوة وللرسالة ، وهو أعلم الناس بالعلوم الإسلامية وشريعة السماء (٣).

__________________

(١) جاء في الحديث عن علي عليه‌السلام : وقلت : ولأني لأحدثهم سنا ، أنا يا نبي الله ، أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ، ثم قال : إن هذا أخي ووصيّ وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ، قال فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع. تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ٦٣ ـ تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٦٦ ـ البداية والنهاية ج ٣ : ٣٩ ـ غاية المرام ٣٢٠.

(٢) عن أم سلمة قالت : لقد سمعت رسول الله (ص) يقول : عليّ مع الحق والقرآن ، والحق والقرآن مع عليّ ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. ونقل هذا الحديث ، عن ١٥ طريقا من العامة و ١١ طريقا من الخاصة ورواته أم سلمة ، وابن عباس ، وأبو بكر ، وعائشة ، وعليّ ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو ليلى ، وأبو أيوب الأنصاري. غاية المرام ٥٣٩ ـ ٥٤٠. قال رسول الله (ص) : رحم الله عليا دار الحق معه حيث دار. البداية والنهاية ج ٧ : ٣٦٠.

(٣) عن علقمة قال : كنت عند رسول الله (ص) ، فسئل عن عليّ فقال : قسمت الجنة عشرة أجزاء ، أعطى عليّ تسعة والناس جزءا واحدا.

٢٢

ج ـ قام الإمام علي عليه‌السلام بخدمات جمة للرسالة وتضحيات مدهشة (١) ، كمنامه في فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الهجرة. فلو لم يكن الإمام علي عليه‌السلام مشاركا في إحدى غزوات بدر وأحد والخندق وخيبر ، لما حقق الإسلام ولا المسلمون انتصاراتهم المظفرة. ولكان القتل والفشل حليفهم (٢).

د ـ موضوع غدير خم ، والذي أعلن فيه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية العامة لعلي عليه‌السلام فجعل لعلي على المسلمين ما كان له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم (٣).

من الطبيعي ، أن هذه الخصائص والفضائل التي انفرد بها الإمام علي عليه‌السلام ، والتي هي مورد اتفاق الجميع (٤). والمودّة الخاصة (٥) ، التي كان يبديها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. جعلت له مؤيدين ومحبّين مخلصين ، من صحابة النبي وأنصاره ، كما أثارت لدى البعض الآخر الحقد والحسد.

__________________

(١) عند ما قرر كفار مكة قتل محمد (ص) وحاصروا بيته ، صمّم النبي (ص) أن يهاجر إلى المدينة ، فقال لعلي : هل أنت مستعد أن تبيت في فراشي حتى يظنوا بأنني نائم ، فأكن في مأمن منهم ، وافق علي (ع) على الاقتراح بكل سرور.

(٢) راجع كتب التاريخ والحديث.

(٣) حديث الغدير من الأحاديث المتفق عليه سنة وشيعة ، وقد نقل هذا الحديث أكثر من مائة صحابي بأسانيد وعبارات مختلفة ، وهي مدونة في كتب العامة والخاصة ، لمزيد من التفصيل يراجع كتاب غاية المرام صفحة ٧٩ وكتاب العبقات مجلد الغدير. وكذا كتاب الغدير.

(٤) تاريخ اليعقوبي طبع النجف الأشرف ، المجلد الثاني صفحة ١٣٧ ـ ١٤٠ / تاريخ أبي الفداء المجلد الأول ص ١٥٦ / صحيح البخاري ج ٤ : ١٠٧ / مروج المذهب ج ٢ : ٤٣٧ ابن أبي الحديد ج ١ : ١٢٧ و ١٦١.

(٥) صحيح مسلم ج ٥ : ١٧٦ / صحيح البخاري ج ٤ : ٢٠٧ / مروج الذهب ج ٢ : ٤٣٧ / تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٢٧ و ١٨١.

٢٣

وفضلا عن هذا كلّه ، فإن كلمة «شيعة علي» و «شيعة أهل البيت» قد جاءت في كثير من أقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌(١).

سبب انفصال الأقليّة الشيعية عن أكثرية السّنة ، وظهور الاختلافات

كان شيعة علي عليه‌السلام وأصحابه يعتقدون اعتقادا راسخا أن الخلافة ستكون لعلي عليه‌السلام بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك لما كان يتسم به عليه‌السلام من مقام ومنزلة لدى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة والمسلمين ، وظواهر الأمور والحوادث تؤيد ذلك ، باستثناء ما حدث في أيام مرضه الأخير صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

__________________

(١) عن جابر بن عبد الله قال ، كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأقبل علي بن أبي طالب ، فقال النبي قد أتاكم أخي ، ثم التفت إلى الكعبة فضربها بيده ثم قال والذي نفسي بيده ، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة. عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال النبي : هم أنت وشيعتك تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين. وقد ورد هذان الحديثان وأحاديث أخرى في كتاب الدرّ المنثور ج ١ : ٣٧٩ وغاية المرام صفحة ٣٢٦.

(٢) لما مرض رسول الله (ص ؛ مرض الموت ، دعا أسامة بن زيد بن حارثة ، فقال : سر إلى مقتل أبيك فأوطئهم الخيل ، فقد وليتك على هذا الجيش وإن ظفرك الله بالعدوّ ، فاقلل اللبث ، وبثّ العيون وقدم الطلائع ، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلّا كان في ذلك الجيش ، منهم أبو بكر وعمر ، فتكلم قوم وقالوا : يستعمل هذا الغلام على جلّة المهاجرين والأنصار ، فغضب رسول الله (ص) لما سمع ذلك وخرج عاصبا رأسه ، فصعد المنبر وعليه قطيفة ، فقال : أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة ، لئن طعنتم في تأميري أسامة ، فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله ، وايم الله إن كان لخليفا بالإمارة ، وابنه من بعده لخليق بها وإنهما لمن أحبّ الناس إليّ ، فاستوصوا خيرا ... شرح ابن أبي الحديد ج ١ : ١٥٩.

قال رسول الله (ص) لما حضرته الوفاة : «ائتوني باللوح والدواة ، أو بالكتف والدواة ، أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده» فقالوا : «إن رسول الله ليهجر». ـ

٢٤

ولكن الذي حدث هو غير ما كانوا يتوقعونه ، ففي الوقت الذي التحق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرفيق الأعلى ، ولم يغسل جسده الطاهر ، ولم يدفن بعد ، وحينما كان أهل البيت وعدد من الصحابة منصرفين إلى العزاء ، وإجراء المقدمات اللازمة له ، إذ وصلهم نبأ انصراف جماعة قليلة لتعيين الخليفة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه القلة التي غلبت الكثرة ، قد بادرت بهذا الأمر عجالة ، دون استشارة أهل البيت ، وأقرباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعشيرته وصحابته الذين وجدوا أنفسهم أمام أمر واقع (١) ، وبعد أن فرغ الإمام علي عليه‌السلام ، ومن معه من الصحابة (كابن عباس والزبير وسلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار) من دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلموا بالذي حدث ، فرفعوا علم المعارضة ، وانتقدوا القائمين بهذا الأمر ، وأبدوا اعتراضهم للخلافة الانتخابية ، بإقامتهم جلسات متعددة ، والجواب الذي سمعوه هو أن صلاح المسلمين كان في الذي حدث (٢).

فهذا الانتقاد والاعتراض أدّى إلى انفصال الأقلية عن الأكثريّة ، واشتهر أصحاب الإمام علي عليه‌السلام باسم «شيعة علي»! فالقائمون

__________________

ـ تاريخ الطبري ج ٢ : ٤٣٦ / صحيح البخاري ج ٣ / صحيح مسلم ج ٥.

البداية والنهاية ج ٥ : ٢٢٧ / ابن أبي الحديد ج ١ : ١٣٣.

وقد تكررت مثل هذه الحادثة في مرض موت الخليفة الأول ، وقد أوصى بخلافة عمر ، وأغمي عليه في أثناء وصيته ، فلم يعترض عمر على الأمر ، وثم ينسب إليه الهذيان ، في حين أنه أغمي عليه في أثناء الوصية ، علما بأن النبي (ص) معصوم ، ولم يفقد وعيه حتى آخر لحظة من لحظات حياته. روضة الصفا ج ٢ : ٢٦٠.

(١) شرح ابن أبي الحديد ج ١ : ٥٨ و ١٢٣ ـ ١٣٥ ـ تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٠٢ ـ تاريخ الطبري ج ٢ : ٤٤٥ ـ ٤٦٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٠ ـ ١٠٦ / تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٥٦ و ١٦٦.

مروج الذهب ج ٢ : ٣٠٧ و ٣٥٢ / ابن أبي الحديد ج ١ : ١٧ و ١٣٤.

٢٥

بأمور الخلافة ، كانوا يسعون ـ وفقا للسياسة آنذاك ـ ألّا يشتهر هؤلاء الأقلية بهذا الاسم ، وألّا ينقسم المجتمع إلى أقلية وأكثرية ، فكانوا يعتبرون الخلافة إجماعا ، ويطلق على المعارض لها ، متخلفا عن البيعة ، ومتخلفا عن جماعة المسلمين ، وأحيانا كان يوصف بصفات بذيئة أخرى (١).

وفي الحقيقة ، أن الشيعة قد حكم عليها بالتخلف عن الجماعة منذ الأيام الأولى ، ولم تستطع أن تكسب شيئا منذ أن أبدت معارضتها ، والإمام علي عليه‌السلام لم يعلنها ثورة وحربا ، رعاية لمصلحة الإسلام والمسلمين ، ولفقدانه للأنصار بالقدر المطلوب ، إلا أن هؤلاء المعارضين لم يستسلموا للأكثرية من حيث العقيدة ، وكانوا يرون أن الخلافة والمرجعية العلمية هي حق مطلق للإمام علي عليه‌السلام (٢) فكان رجوعهم في القضايا العلمية والمعنوية إليه وحده ، وكانوا يدعون إلى هذا الأمر (٣).

__________________

(١) قال عمر بن حريث لسعد بن زيد ... قال : فخالف عليه أحد؟ قال : لا ، إلّا مرتد أو من قد كاد أن يرتدّ. تاريخ الطبري ج ٢ : ٤٤٧.

(٢) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني قد تركت فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، إلا أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. وقد روى هذا الحديث أكثر من ١٠٠ طريق عن ٣٥ شخصا من صحابة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. يراجع العبقات مجلد الثقلين ـ غاية المرام صفحة ٢١١.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد العلم فليأتها من قبل بابها. البداية والنهاية ج ٧ : ٣٥٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٠٥ ـ ١٥٠.

٢٦

موضوعا الخلافة والمرجعيّة العلميّة

كان الشيعة يعتقدون أن ما يهمّ المجتمع أولا وقبل كل شيء هو تبيان وتوضيح التعاليم الإسلامية (١). ومن ثم نشرها في المجتمع ، وبعبارة أخرى هي نظرة المجتمع إلى العالم والإنسان نظرة واقعية ، والوقوف على الواجبات والوظائف الإنسانية (بالشكل الذي يكون فيه الصلاح الحقيقي) والقيام بها ، وإن كانت مخالفة لإهوائهم وميولهم.

هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن قيام حكومة دينية ليس إلا لتنفيذ الأحكام الإسلامية في المجتمع ، والحفاظ عليها ، بحيث لا يعبد الناس إلا الله جلّ وعلا. وأن يحظوا بحرّية تامة وعدالة فردية واجتماعية ، وهاتان المهمتان يجب أن تناطا إلى شخص يتسم بالعصمة والرعاية الإلهية ، إذ من المحتمل أن يتعهد هذه المسئولية أناس لم يسلموا من الانحراف الفكري والعقائدي ، ولم ينزّهوا من الخيانة. وتتحول العدالة التي تمنح الحرية الإسلامية إلى ملوكية موروثة مستبدة ، كملوكية كسرى وقيصر ، وتتعرض التعاليم الإسلامية المنزهة إلى تحريف ، كتعاليم الأديان السماوية الأخرى ، ولا تكون بمأمن من العلماء الذين قد ركبوا أهواءهم. فالشخص الوحيد الذي قد نهج نهج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أعماله

__________________

(١) كتاب الله والسنة النبوية وأئمة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ خير دليل على تحريضهم لاكتساب العلم وقول النبي (ص) خير شاهد إذ يقول : «طلب العلم فريضة على كل مسلم) البحار ج ١ : ٥٥.

٢٧

وأفعاله ، وكان سديدا في سيرته ، متبعا لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتباعا كاملا هو الإمام علي عليه‌السلام (١).

وإذا كانوا يحتجون بأن قريشا كانت تعارض حكومة علي عليه‌السلام الحقة وخلافته ، كان لزاما عليهم أن يوجّهوا المخالفين التوجيه الحسن ، وأن يرشدوهم إلى طريق الحقّ والصواب ، كما فعلوا مع ممتنعي الزكاة ، فحاربوهم ، ولم يتوانوا عن أخذ الزكاة منهم ، لا أن يدحضوا الحقّ خوفا من مخالفة قريش.

نعم ، ان السبب الذي دفع الشيعة لمعارضة الخلافة الانتخابية ، هو الخوف من عواقبها الوخيمة ألا وهي فساد وسقم الطريقة التي ستتخذها الحكومة الإسلامية ، وما يلازمها من انهدام الأسس العالية للدين. وقد أوضحت الحوادث المتتالية صحة هذه العقيدة بمرور الزمان والأيام ، أكثر فأكثر ، مما أدّى بالشيعة إلى أن تكون ثابتة في عقيدتها ، مؤمنة بأهدافها. علما بأنها كانت أقلية. إلا أن هذه الأقلية قد ذابت في الأكثرية ظاهرا ، ولكنها بقيت تستلهم التعاليم الإسلامية من أهل البيت باطنا ، وكانت متفانية في نهجها وطريقها. وفي الوقت ذاته كانت تسعى في التقدم والرقيّ ، والحفاظ على قدرة الإسلام وعظمته ، فلم تبد مخالفتها علنا وجهارا. وكانت الشيعة تذهب إلى الجهاد سيرا مع الأكثرية ، ولا تتدخل في الأمور العامة ، وكان الإمام علي عليه‌السلام يرشد الأكثرية لما فيه نفع الإسلام (٢) ، ومصلحة المسلمين.

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٧ : ٣٦٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي صفحة ١١١ و ١٢٦ و ١٢٩.

٢٨

الطريقة السياسية للخلافة الانتخابية ، ومخالفتها للفكر الشيعي

كان الشيعة يعتقدون أن شريعة الإسلام السماوية التي تعيّنت مضامينها في كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستبقى خالدة إلى يوم القيامة دون أن يصيبها تغيير أو تحريف (١).

والحكومة الإسلامية لا يحقّ لها بأيّ عذر أن تتهاون في إجراء الأحكام إجراء كاملا. فواجب الحكومة الإسلامية هو أن تتخذ الشورى في نطاق الشريعة ووفقا للمصلحة ، ولكن ما حدث من واقعة البيعة السياسية ، وكذا حادثة الدواة والقرطاس ، والذي حدث في أخريات أيام مرض النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدليل واضح على أن المدافعين عن الخلافة الانتخابية كانوا يعتقدون أن كتاب الله وحده يجب أن يحفظ ويحتفظ به كقانون. أما السنة وأقوال النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليس لها ذلك الاعتبار ، وهم على اعتقاد أن الحكومة الإسلامية تستطيع أن تضع السنة جانبا إذا اقتضت المصلحة ذلك.

وهذه العقيدة تؤيدها روايات نقلت في خصوص الصحابة تقول بأن (الصحابة ذوو اجتهاد ، فإذا ما أصابوا في اجتهادهم فإنهم مأجورون وإذا ما أخطئوا فهم معذورون) ، وخير دليل على ذلك ، ما حدث لخالد بن الوليد ، وهو أحد القادة عند الخليفة ، إذ دخل

__________________

(١) قوله تعالى في كتابه العزيز : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) ، (سورة فصلت الآية ٤١ ، ٤٢).

ويقول في سورة يوسف (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي أن الشريعة هي شريعة الله والتي تصل إلى الناس عن طريق النبوة ، إذ يقول (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) الأحزاب الآية ٤٠. وهو القائل أيضا (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) سورة المائدة الآية ٤٤.

٢٩

ضيفا على أحد مشاهير المسلمين (مالك بن نويرة) ليلا. وتربّص له فقتله ، ووضع رأسه في التنور وأحرقه ، وفي الليلة ذاتها واقع زوجة مالك ، وبعد هذه الجناية التي يندى لها الجبين ، لم يجر الخليفة الحدّ عليه ، متذرعا بعذر : ألا وهو أن حكومته بحاجة إليه (١).

وكذا الامتناع من إعطاء الخمس لأهل البيت وأقرباء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ومنع كتابة أحاديث النبي الكريم منعا باتا ، وإذا ما عثر على حديث مكتوب عند شخص كان يحرق (٣) وكانت هذه السنة قائمة طوال خلافة الخلفاء الراشدين ، وحتى زمن خلافة عمر بن عبد العزيز (٤) الخليفة الأموي (٩٩ ـ ١٠٢) وقد تجلت هذه السياسة في خلافة الخليفة الثاني (١٣ ـ ٢٥) للهجرة.

إذ ألغى بعض أحكام الشريعة مثل : حج التمتع ونكاح المتعة ،

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١١٠ ـ تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٥٨.

(٢) الدرّ المنثور ج ٣ : ١٨٦ / تاريخ اليعقوبي ج ٣ : ٤٨ وفضلا عن هذا كله فإن وجوب الخمس صريح في القرآن الكريم (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) سورة الأنفال ، الآية ٤١.

(٣) جمع أبو بكر في زمن خلافته خمسمائة حديثا ، تقول عائشة وجدت أبي مضطربا ذات ليلة حتى الصباح فقال لي في الصباح آتيني الأحاديث ، فأحرقها جميعا.

كنز العمال ج ٥ : ٢٣٧ كتب عمر إلى البلدان.

كنز العمال ج ٥ : ٢٣٧. يقول محمد بن أبي بكر : إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بها أمر بحرقها. طبقات ابن سعد ج ٥ : ١٤٠.

(٤) تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٥١ وغيره.

٣٠

وذكر (حيّ على خير العمل) (١) في الأذان ، وجعل الطلاق ثلاثا نافذ الحكم ، وغيرها (٢) ، وفي زمن خلافته كان بيت المال يوزع بين الناس مع تباين (٣) والذي أدّى إلى ظهور طبقات مختلفة بين المسلمين ، تثير الدهشة والقلق ، وكان من نتائجها وقوع حوادث دامية مفزعة ، وفي زمنه كان معاوية في الشام يتمتع بسلطان لا يختلف عن سلطنة كسرى وقيصر ، وقد سماه الخليفة بكسرى العرب ، ولم يتعرض له بقول ، ولم يردعه عن أعماله.

وبعد أن قتل الخليفة الثاني على يد غلام فارسي ، ووفقا لأكثرية آراء الشورى البالغ عددهم ستة أعضاء والذي تم تشكيله بأمر من الخليفة عيّن الخليفة الثالث ، فعيّن أقرباءه الأمويين ولاة وأمراء ، فجعل منهم الولاة في كلّ من الحجاز والعراق ومصر وسائر البلدان الإسلامية ، فكانوا جائرين في حكمهم ، عرفوا بشقاوتهم وظلمهم وفسقهم وفجورهم ، نقضوا القوانين الإسلامية الجارية. فالشكاوى كانت تنهال على دار الخلافة ، ولكن الخليفة

__________________

(١) شرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع فعمل الحج للحجاج القادمين من مكان بعيد وفقا للآية (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ ...) بشكل خاص ، فمنع ذلك عمر في زمن خلافته ، وكذلك المتعة كانت قائمة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمنعها عمر في أيام خلافته ، وأمر بإقامة الحدّ على المخالفين ، وأما ذكر (حيّ على خير العمل) فكان يذكر في عهد الرسول العظيم ، في أذان الصلاة ، ولكن عمر في خلافته قال إن هذه العبارة تقعد الناس عن الجهاد ، فأبدلها بأخرى ، وكذا موضوع الطلاق فما كان على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الطلاق إذا تعدد في مجلس واحد ، فليس له اعتبار ، ويعد طلاقا واحدا. ولكن عمر أجاز الطلاق الثلاث في مجلس واحد. فالمسائل هذه ونظائرها قد وردت في كتب الحديث والفقه والكلام لدى الفريقين السنة والشيعة.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٣١ / تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٦٠.

(٣) أسد الغابة ج ٤ : ٣٨٦ / الإصابة ، المجلد الثالث. ـ

٣١

الثالث كان متأثرا لما تربطه بهم من صلة القربى ، وخاصة مروان بن الحكم (٣) ولم يهتم بشكاوى الناس ، وكان أحيانا يعاقب الشكاة (٤) فثار الناس عليه سنة ٣٥ للهجرة ، وبعد محاصرة منزله ، وصراع شديد قتلوه.

كان الخليفة الثالث يؤيد وإليه على الشام تأييدا مطلقا وهو أحد أقاربه الأمويين (معاوية) وكان يدعم موقفه بتأييده المستمر

__________________

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٥٠ / تاريخ الطبري ج ٣ : ١٩٧ / تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٦٨.

(٤) ثار جماعة من أهل مصر على عثمان ، فأحس عثمان بالخطر ، فندم ، وطلب من علي بن أبي طالب العون والمساعدة. فقال عليّ : لأهل مصر أن معارضتكم هذه لم تكن إلا لإحياء الحق ، وقد ندم عثمان وتاب وهو القائل إنني تائب مما مضى ، وسأنجز لهم ما طلبوه خلال مدة أقصاها ثلاثة أيام ، من عزل الولاة الجائرين ، فكتب الإمام علي عليه‌السلام معاهدة من جانب عثمان ، فعاد الجمع إلى بلادهم. وفي أثناء الطريق ، شاهدوا غلام عثمان ، وهو راكب جمل عثمان متجها إلى مصر فأساءوا الظنّ به ، ففتشوه ، فوجدوا لديه رسالة من عثمان لواليه على مصر ، وقد حررت فيها ما مضمونه : عند وصول عبد الرحمن بن عديس إليك. وهو أحد المعارضين لعثمان ـ اجلده مائة جلدة ، واحلق شعر رأسه ولحيته ، واحكم عليه بالسجن لمدة مديدة ، واعمل مثل هذا مع كل من عمرو بن حمق وسودان بن حمران وعروة بن نباع.

أخذوا الرسالة من الغلام ، وعادوا إلى عثمان ساخطين ، فقالوا له : أنت أبطنت لنا الخيانة ، فعرضت عليه الرسالة ، فأنكرها عثمان ، قالوا له : إن غلامك كان يحملها ، أجاب ، قد قام بهذا العمل دون إذن مني ، قالوا له : كان راكبا جملك ، قال عثمان : قد سرق جملي. قالوا له : الرسالة بخط كاتبك ، أجاب ، كتبت دون علمي ، قالوا ، فعلى أية حال ، الخلافة لا تليق بك : ويجب أن تستقيل من مقامك ، لأن الأمر هذا لو كان على علم منك ، فإنك خائن ، وإن لم يكن على علم منك ، فلست جديرا بالخلافة وبهذا يثبت عدم صلاحيتك لهذه المهمة ، فإما أن تتخلى عن الخلافة وتستقيل ، وإما أن تعزل الولاة الظالمين ، فأجاب عثمان : لو أردتم أن أكون كما تريدون ، إذن فمن الخليفة وصاحب الأمر؟! أنا أم أنتم؟! فنهضوا من مجلسه ساخطين عليه.

جاءت هذه الواقعة في كتاب تاريخ الطبري المجلد الثالث في صفحة ٤٠٢ وحتى ٤٠٩ ، ووردت ملخصة هنا من قبل المؤلف. كلمة المترجم.

٣٢

له. وفي الحقيقة كان ثقل الخلافة في الشام ، ولم تكن المدينة (مركز الخلافة) إلا شكلا ظاهرا (١).

فخلافة الخليفة الأول قد استقرت بعد بيعة أكثرية الصحابة له ، والخليفة الثاني عيّن من قبل الخليفة الأول ، والخليفة الثالث انتخب من الأعضاء الستة للشورى الذين عيّنهم الخليفة الثاني.

فكانت سياسة هؤلاء الخلفاء الثلاثة في الأمور وشئون الناس أن ينفذوا القوانين الإسلامية في المجتمع وفقا للاجتهاد والمصلحة آنذاك ، ووفقا لما يرتئيه مقام الخلافة ، فالقرآن يقرأ دون تفسير أو تدبّر وأقوال الرسول الأكرم العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الحديث) تروى دون أن تكتب على قرطاس ، ولا تتجاوز حدّ الأذن واللسان فكانت الكتابة مختصة بالقرآن الكريم ، والحديث لا يكتب على الإطلاق (٢).

وبعد معركة اليمامة والتي انتهت في سنة ١٢ للهجرة بمقتل جمع من الصحابة كانوا من حفظة القرآن ، اقترح عمر بن الخطاب على الخليفة الأول أن يجمع القرآن في مصحف ، ويبين الهدف والغرض من اقتراحه بقوله : إذا ما حدثت معركة أخرى ، واشترك فيها بقية حملة القرآن وحفظته ، فسوف يذهب القرآن من بين أظهرنا ، إذن ينبغي جمع آيات القرآن في مصحف ، تكتب آياته (٣) ، فنفذوا هذا الاقتراح بالنسبة للقرآن الكريم.

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ : ٣٧٧.

(٢) صحيح البخاري ج ٦ : ٩٨ / تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١١٣.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١١١ / الطبري ج ٣ : ١٢٩ ـ ١٣٢.

٣٣

ومع أن الأحاديث النبوية هي التالية للقرآن ، وكانت تواجه نفس الخطر ، ولم تكن بمأمن من خطر نقل معنى الحديث ، دون الالتفات إلى النص ، وكذا الزيادة والنقصان ، والتحريف والنسيان ، وما إلى ذلك من الأخطار التي كان يواجهها الحديث ، فلم توجه عناية أو رعاية لحفظه وصيانته ، بل كانت كتابة الحديث ممنوعة ، وإذا ما حصلوا على شيء منه فكان يلقى في النار.

ولم تمض فترة من الزمن حتى ظهر الاختلاف في المسائل الإسلامية الضرورية كالصلاة ، ولم يطرأ تقدم في بقية الفروع العلمية في هذه الفترة ، في حين نرى القرآن الكريم يشجع المشتغلين بالعلم ، وأحاديث النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تؤيد ذلك ، فلم ير لتلك الآيات والأحاديث مصداقا في الخارج ، وانصرف أكثر الناس إلى الفتوحات المتعاقبة ، وفرحوا بالغنائم المتزايدة ، والتي كانت تتدفق إلى الجزيرة العربية من كل حدب وصوب ، ولم يكن هناك اهتمام بعلوم سلالة الرسالة ومعدن الوحي ، وفي مقدمتهم علي عليه‌السلام. والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد صرح معلنا أن عليا أعرف الناس بالعلوم الإسلامية ، والمفاهيم القرآنية ، ولم يسمحوا له بالمشاركة في جمع القرآن (وهم على علم من أن عليا بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جليس داره يجمع القرآن) ولم يذكر اسمه في أنديتهم واجتماعاتهم (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ابن أبي الحديد ج ١ : ٩.

وقد ورد في روايات كثيرة أنه أرسل على عليّ عليه‌السلام بعد انعقاد البيعة لأبي بكر ، وطلب منه البيعة ، فأجابه بأنني عاهدت نفسي ألا أخرج من داري سوى وقت الصلاة حتى أكمل جمع القرآن ، ويروى أيضا ، أن عليا بايع أبا بكر بعد ستة أشهر ، وهذا دليل على ـ

٣٤

إن هذه الأمور ونظائرها ، أدّت بشيعة عليّ إلى أن يقفوا موقفا أكثر وعيا وأرسخ عقيدة ، وأشد نشاطا ، ولما كان علي عليه‌السلام بعيدا عن ذلك المقام الذي يجعله مشرفا على التربية العامة للناس ، انصرف إلى تربية الخاصة من شيعته وأنصاره.

انتهاء الخلافة إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وسيرته

بدأت خلافة علي عليه‌السلام في أواخر سنة خمس وثلاثين للهجرة ، واستمرت حوالى أربع سنوات وتسعة أشهر ، وكان في سيرته مماثلا لسيرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ، أعاد معظم المسائل التي حدثت في زمن الخلفاء السابقين إلى حالتها الأولى ، وعزل الولاة غير الكفوءين (٢). وفي الحقيقة ، أحدث انتفاضة ثورية ، كانت تنطوي على مشاكل متعددة.

والإمام علي عليه‌السلام في الأيام الأولى من خلافته وقف مخاطبا الناس قائلا : «ألا وإنّ بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة ، ولتغربلنّ غربلة ولتساطنّ سوط القدر ، حتى يعود أسفلكم أعلاكم ، وليسبقنّ سابقون كانوا قصروا ، وليقصرنّ سبّاقون كانوا سبقوا» (٣).

__________________

ـ جمعه للقرآن ، ويروى أيضا أن عليا بعد انتهائه من جمع القرآن ، حمل القرآن على ناقة وجاء به إلى الناس ويروى أيضا ، أن معركة اليمامة كانت في السنة الثانية من خلافة أبي بكر ، وبعد انتهاء المعركة جمع القرآن ، كل هذه تشير إليها كتب التاريخ والحديث التي تعرضت لموضوع جمع القرآن.

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٥٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٥٥ / مروج الذهب ج ٢ : ٣٦٤.

(٣) نهج البلاغة خطبة رقم ١٥.

٣٥

استمر الإمام علي عليه‌السلام في حكومته الثورية ، فرفعت أعلام المعارضة من قبل المخالفين ، كما هي طبيعة الحال في كل ثورة ، إذ لا بدّ من مناوئين ، يرون مصالحهم في خطر ، فأحدثوا حربا داخلية دامية ، بحجة الأخذ بثأر دم عثمان والتي استمرت طوال خلافة الإمام علي عليه‌السلام تقريبا. ويعتقد الشيعة أن المسببين لهذه الحروب لم يريدوا سوى منافعهم الخاصة ، ولم يكن الثأر بدم عثمان إلا ذريعة يتمسكون بها ، ليحرّضوا عوام الناس للمعارضة والنهوض ضد إمام الأمة وخليفتها ، إذ أن هذه المعارضة لم تحدث عن سوء تفاهم (١).

وما الأسباب والدوافع التي خلقت معركة الجمل إلّا غائلة الاختلاف الطبقي ، والتي وجدت في زمن الخليفة الثاني أثر توزيع الأموال من بيت المال بطرق متباينة ، وبعد خلافة علي عليه‌السلام كانت

__________________

(١) بعد وفاة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امتنع جمع قليل من شيعة علي من البيعة وكان في مقدمتهم من الصحابة سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار ، وفي أوائل خلافة علي عليه‌السلام امتنع من البيعة جماعة ، مثل سعيد بن العاص والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص وبسر بن أرطاة وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة وغيرهم.

وعند دراسة حياة هذين الفريقين ، والتأمل في أعمالهم طوال حياتهم ، وما احتفظ به التاريخ من قصص ، يتضح جليا كنه شخصيتهم وأهدافهم ، فالفريق الأول كان من أصحاب النبي الأكرم (CS (المقربين ، واشتهروا بزهدهم وعبادتهم وتضحيتهم للإسلام ، قال رسول الله (ص) : إن الله أمرني بحبّ أربعة وأخبرني أنه يحبّهم ، قيل يا رسول الله من هم ، قال : عليّ منهم (قال ذلك ثلاثا) وأبو ذر وسلمان والمقداد.

سنن ابن ماجه ج ١ : ٥٣.

عن عائشة قالت : قال رسول الله (ص) : ما عرض على عمار أمران إلا اختار الأرشد منهما. سنن ابن ماجة ج ١ : ٥٢.

٣٦

الأموال توزع بين الناس بالسويّة (١) ، كما كان يفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته ، والطريقة هذه أثارت غضب «الزبير» و «طلحة» فتمردا ، وخرجا من المدينة إلى مكة بحجّة الحجّ ، فاتفقا مع أمّ المؤمنين (عائشة) التي كانت في مكة ، ولم يكن بينها وبين عليّ صفاء ومودة ، أن يطالبوا بدم عثمان ، فأضرموا نار الحرب (٢).

علما بأن «طلحة» و «الزبير» كانا في المدينة عند ما حوصرت دار الخليفة الثالث ، فلم يدافعا عنه ، ولم ينصراه (٣) ، وبعد مقتله ، كانا من الأوائل الذين بايعوا عليا أصالة عن أنفسهم ونيابة عن المهاجرين (٤).

وأما أمّ المؤمنين «عائشة» فقد كانت ممن حرّضوا الناس على قتل الخليفة الثالث (٥) ، وعند ما سمعت نبأ مقتله لأول مرة ، قالت : بعدا وسحقا ، وفي الحقيقة أن المسببين الأصليين لمقتل الخليفة كانوا من الصحابة ، وذلك بإرسال الرسائل إلى البلدان لغرض إثارة الناس على الخليفة.

وأما السبب الذي أحدث حرب صفين ، والتي استمرت سنة ونصف السنة ، فهو طمع معاوية في الخلافة ، فأجّج نارها متذرعا بدم عثمان ، فأريقت الدماء ، وقتل ما يقارب من مائة ألف ، وكان موقف معاوية من هذه الحرب موقف المهاجم ، وليس موقف المدافع ، لأن الثأر لا يكون دفاعا.

__________________

(١) مروج الذهب ج ٢ : ٣٦٢ / نهج البلاغة ، خطبة رقم ١٢٢ / اليعقوبي ٢ : ١٦٠. ابن أبي الحديد ج ١ : ١٨٠.

(٢) اليعقوبي ج ٢ / أبي الفداء ج ١ : ١٧٢ / مروج الذهب ج ٢ : ٣٦٦.

(٣) اليعقوبي ج ٢ : ١٥٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٥٤ / تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٧١.

(٥) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٥٢.

٣٧

وكان شعار هذه الحرب ، المطالبة بدم عثمان ، علما بأن الخليفة الثالث قد طلب المساعدة والعون من معاوية لردّ الهجوم ، وتحرك جيش معاوية من الشام متجها إلى المدينة ، ولكنه تباطأ في سيره حتى قتل عثمان ، وعندئذ رجع إلى الشام يطالب بدم عثمان (١).

وبعد أن استشهد الإمام علي عليه‌السلام ، تناسى معاوية قتلة الخليفة ؛ ولم يعاقبهم. وبعد حرب «صفين» اندلعت نار حرب «النهروان» فثار جمع من الناس وفيهم بعض الصحابة بإيعاز من معاوية فثاروا على عليّ عليه‌السلام ، فرحلوا إلى البلدان الإسلامية ، وقتلوا كل من كان يدافع عن علي عليه‌السلام ففتكوا بالنساء الحوامل ، مثلوا بهنّ وبأجنتهن (٢).

والإمام علي عليه‌السلام قد أخمد هذه الغائلة ، ولكن بعد فترة استشهد في مسجد الكوفة أثناء الصلاة ، على يد الخوارج.

ما حصل عليه الشيعة طوال خلافة الإمام عليّ عليه‌السلام

الإمام علي عليه‌السلام طوال خلافته لأربع سنوات وتسعة أشهر ، وإن

__________________

(١) ... فكتب إلى معاوية يسأل تعجيل القدوم عليه ، فتوجه إليه في اثني عشر ألفا ، ثم قال : كونوا بمكانكم في أوائل الشام ، حتى آتي أمير المؤمنين لأعرف صحة أمره ، فآتى عثمان ، فسأله عن المدة فقال : قد قدمت لأعرف رأيك وأعود إليهم فأجيئك بهم. وقال : لا والله ، ولكنك أردت أن أقتل فتقول : أنا وليّ الثأر ، ارجع ، فجئني بالناس! فرجع ، فلم يعد إليه حتى قتل. تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٥٢ / مروج الذهب ج ٣ : ٢٥ / الطبري ص ٤٠٢.

(٢) مروج الذهب ج ٢ : ٤١٥.

٣٨

لم يوفق لإعادة الأوضاع المضطربة إلى حالتها الطبيعية ، إلا أنه قد وفق في ثلاث مسائل أساسية :

أ ـ استطاع أن يظهر شخصية النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المضيئة بسيرته العادلة للناس ، وخاصة الشباب ، فقد كان يواسي أفقر الناس في عيشه ، أمام تلك الأبهة التي كان يتصف بها معاوية ، إذ كان لا يقل عن كسرى وقيصر ، فالإمام علي عليه‌السلام لم يقدّم أحدا من أصدقائه وأقربائه وعشيرته على الآخرين ، ولم يرجع الغني على الفقير ، ولا القوي على الضعيف.

ب ـ مع كثرة المشاكل المنهكة للقوى ، فقد استطاع أن يضع في متناول أيدي المسلمين الذخائر القيّمة من المعارف الإلهية والعلوم الإسلامية الحقّة.

وأما ما يقوله المخالفون لعلي عليه‌السلام : إنه كان رجلا شجاعا ، ولكن ليس له علم بالسياسة ، إذ كان يستطيع في بداية خلافته أن يرضي مخالفيه مؤقتا عن طريق المداهنة ، وبعد أن يستتب له الأمر كان باستطاعته أن يحاربهم ويقضي عليهم :

فهؤلاء قد غفلوا عن ملاحظة هامة وهي أن خلافة عليّ كانت نهضة ثورية ، وجدير بالنهضات ، الثورية ، أن تكون بعيدة كل البعد عن المداهنة والرياء ، وقد حدث مثيلها في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوائل بعثته ، فطلب الكفار والمشركون منه الصلح عدة مرات وطلبوا منه ألا يتعرض لآلهتهم ، وهم ملزمون بعدم التعرض لدعوته أيضا ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفض هذا الاقتراح ، في حين أنه كان يستطيع أن يقيم معهم الصلح ، ويحكم موقفه ، ثم ينهض بوجه

٣٩

أعدائه ، وفي الحقيقة أن الدعوة الإسلامية لن تسمح بإضاعة حق لإقامة حق آخر ، أو أن تزيل باطلا بباطل آخر. وفي القرآن آيات كثيرة في هذا الخصوص (١).

علما بأن أعداء علي عليه‌السلام ومخالفيه ، لم يرتدعوا عن القيام بأيّ جرم وجناية ونقض للقوانين الإسلامية الصريحة (دون استثناء) بغية الوصول إلى أهدافهم ، فكانوا يبررون مواقفهم وأعمالهم بأنهم من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن مجتهدي الأمة ، ولكن الإمام علي عليه‌السلام كان ملتزما بالأحكام الإسلامية.

ويروى عن عليّ عليه‌السلام ما يقارب من إحدى عشرة ألف كلمة قصيرة في المسائل العقلية والاجتماعية والدينية (٢) وخطبه وكلماته البليغة (٣) مليئة بالمعارف الإسلامية (٤) ، وهو الذي أسس قواعد اللغة العربية ، ووضع الأسس والمقومات للأدب العربي ، وهو أول من تبحّر في الفلسفة الإلهية (٥) ، وتكلّم وفقا لطريقة الاستدلال الحرّ والبرهان المنطقي ، وتعرّض لمسائل فلسفية لم يتعرض لها فلاسفة

__________________

(١) شأن نزول الآية (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) سورة ص الآية ٦. والآية (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) سورة الإسرار الآية ٧٤. والآية (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) سورة القلم الآية التاسعة ، ويراجع المباحث الروائية في التفاسير.

(٢) كتاب الغرر والدرر للآمدي ، وكتب الحديث.

(٣) مروج الذهب ج ٢ : ٤٣١ ابن أبي الحديد ج ١ : ١٨١.

(٤) الأشباه والنظائر للسيوطي في النحو ج ٢ : ابن أبي الحديد ج ١ : ٦.

(٥) يراجع نهج البلاغة.

٤٠