الشيعة في الإسلام

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الشيعة في الإسلام

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: بيت الكاتب للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٠

يشغل الحكومة آنذاك ، فكانت نتيجتها أن يخفّ من التعرض لأهل البيت ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى ، ما حدث من واقعة كربلاء ، وما أبرزت من مظلومية أهل البيت ، متمثلة في الإمام الباقر عليه‌السلام ، جعل المسلمين يتجهون إلى أهل البيت ، ويبدون حبّهم لهم ، وإخلاصهم وتعاطفهم معهم.

وهذه العوامل مجتمعة ساعدت على أن ينصرف ذهن العامّة نحو أهل البيت ، فصاروا يتجهون إلى المدينة حيث الإمام الخامس ، وكانت العوامل مساعدة في انتشار الحقائق الإسلامية ، علوم أهل البيت على يد الإمام الباقر ، إذ لم يتحقق هذا لأحد من أجداده ، ومما يؤيد هذا الادعاء هو كثرة الأحاديث التي نقلت عن الإمام الخامس ، وكذا رجال الشيعة الذين تخصصوا في شتّى العلوم الإسلامية على يد إمامهم ، ولا تزال أسماؤهم في كتب الرجال مدرجة (١).

__________________

(١) إرشاد المفيد ص ٢٤٥ ـ ٢٥٣ / يراجع كتاب رجال الكشي ، تأليف محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي ، وكتاب رجال الطوسي ، تأليف محمد بن حسن الطوسي ، وكتاب الفهرست للطوسي وسائر كتب الرجال.

٢٠١

الإمام السادس :

هو الإمام جعفر بن محمد (الصادق عليه‌السلام) ابن الإمام الخامس ، ولد سنة ٨٣ للهجرة ، واستشهد بعد أن دسّ إليه السمّ ، سنة ١٤٨ للهجرة ، وذلك بتحريض من المنصور الخليفة العباسي (وفق الروايات الشيعية) (١).

وفي عهد الإمام السادس ، وعلى اثر الانتفاضات التي حدثت في الدول الإسلامية ، وخاصة قيام «ثورة العباسيين» ضد دولة بني أمية للإطاحة بها ، والحروب المدمرة التي أدّت إلى سقوط الدولة الأموية وانقراضها ، وعلى اثر كل هذا كانت الظروف مؤاتية ومساعدة لنشر حقائق الإسلام وعلوم أهل البيت التي طالما ساهم في نشرها الإمام الخامس طوال عشرين سنة من زمن إمامته ، وقد تابع الإمام السادس عمله في ظروف أكثر ملاءمة ، وتفهما.

فاستطاع الإمام الصادق حتى أواخر زمن إمامته ، والتي كانت معاصرة لآخر زمن خلافة بني أمية وأوائل خلافة بني العباس ، أن ينتهز هذه الفرصة ، لنشر التعاليم الدينية وتربية العديد من الشخصيات العلمية الفذّة في مختلف العلوم والفنون سواء في العلوم العقلية أو العلوم النقلية.

ومن أشهر أولئك الذين تتلمذوا عند الإمام : زرارة ، ومحمد بن مسلم ، ومؤمن الطّاق ، وهشام بن الحكم ، وأبان بن تغلب ، وهشام بن سالم ، وحريز ، وهشاك الكلبي النسابة ، وجابر بن حيان

__________________

(١) الأصول الكافي ١ : ٤٧٢ / دلائل الإمامة ١١١ / إرشاد المفيد ص ٢٥٤ ، تاريخ اليعقوبي ج ٣ : ١١٩ / الفصول المهمة ٢١٢ / تذكرة الخواص ٣٤٦ مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٢٨٠.

٢٠٢

الصوفي ، الكيميائي وغيرهم. وقد حضر درسه رجال من علماء إخواننا السنة ، مثل سفيان الثوري وأبو حنيفة ، مؤسس المذهب الحنفي ، والقاضي المسكوني والقاضي أبو البختري وغيرهم.

والمعروف أن عدد الذين حضروا مجلس الإمام وانتفعوا بما كان يمليه عليهم الإمام أربعة آلاف محدث وعالم (١).

وتعتبر الأحاديث المتواترة عن الإمامين الباقر والصادق ، أكثر مما روي عن النبي الأكرم والعشرة من الأئمة الهداة.

لكن الأمر قد تغير في أخريات حياته ، حيث بدأ الضغط والتشديد من قبل المنصور الخليفة العباسي ، فقد قام بإيذاء السادة العلويين وعرّضهم لأعنف أنواع التعذيب وأقساها وقتل بعضهم ، مما لم يشاهد نظيره في زمن الأمويين مع ما كانوا يتصفون به من قساوة وتهوّر. مارس العباسيون القتل الجماعي للعلويين وذلك بسجنهم في سجون مظلمة ، وتعذيبهم حتى الموت.

كما أنهم قاموا بدفنهم وهم أحياء ، في أسس الأبنية والجدران (٢).

أصدر المنصور أمرا طلب فيه إحضار الإمام الصادق من المدينة (وكان الإمام قد أحضر إلى العراق مرة بأمر من السفاح الخليفة العباسي ، وقبل ذلك قد أحضر إلى دمشق بأمر من هشام الخليفة الأموي ، مع أبيه الإمام الباقر عليه‌السلام).

بقي الإمام مدة من الزمن تحت المراقبة ، وقد عزموا على قتله عدة مرات ، وعذبوه ، وفي نهاية الأمر سمحوا له بالعودة إلى

__________________

(١) إرشاد المفيد ص ٢٥٤ / الفصول المهمة ص ٢٠٤. مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٢٤٧.

(٢) الفصول المهمة ص ٢١٢ / دلائل الإمامة ص ١١١ / إثبات الوصية ص ١٤٢.

٢٠٣

المدينة ، فرجع ، وقضى بقية عمره هناك ، مراعيا التقية ، منعزلا في داره ، حتى استشهد على يد المنصور الذي دسّ السلم إليه.

وبعد وصول نبأ استشهاد الإمام إلى المنصور ، أمر وإليه في المدينة أن يذهب إلى دار الإمام بحجّة تفقده لأهل بيته ، طالبا وصية الإمام ليطلع على ما وصى الإمام ومن هو خليفته من بعده ، ليقضي عليه ويقتله في الحال أيضا.

وكان المنصور يهدف من وراء ذلك القضاء تماما على موضوع ومسألة الإمامة والتشيع معا.

ولكن الأمر كان خلافا لتآمر المنصور ، وعند ما حضر الوالي وفقا للأوامر المرسلة إليه ، قرأ الوصية ، رأى أن الإمام قد أوصى لخمس ، الخليفة نفسه ، ووالي المدينة وعبد الله الأفطح ابن الإمام الأكبر وموسى ولده الأصغر وحميدة ابنته ، وبهذا باءت مؤامرة المنصور بالفشل (١).

الإمام السابع :

هو الإمام موسى بن جعفر (الكاظم) ابن الإمام الصادق عليهم‌السلام ولد سنة ١٢٨ للهجرة ، وتوفي سنة ١٨٣ اثر تسميمه في السجن (٢) ، تولّى منصب الإمامة بعد أبيه بأمر من الله ووصية أجداده.

عاصر الإمام الكاظم عليه‌السلام من الخلفاء العباسيين المنصور

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ : ٣٢٠.

(٢) أصول الكافي ج ١ : ٤٧٦ / إرشاد المفيد ٢٧٠. الفصول المهمة ٢١٤ ـ ٢٢٣ / دلائل الإمامة ١٤٦ ـ ١٤٨. تذكرة الخواص ٣٤٨ ـ ٣٥٠ / مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٣٢٤. تاريخ اليعقوبي ج ٣ : ١٥٠.

٢٠٤

والهادي والمهدي وهارون ، عاش عليه‌السلام في عهد مظلم مقرون بالصعوبات ، التي كان يواجهها بالتقية ، وحين سافر هارون إلى الحج ، وتوجه إلى المدينة ، فألقي القبض على الإمام في الوقت الذي كان مشغولا بالصلاة في مسجد جدّه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقل إلى السجن بعد أن قيّد بالأغلال ، ثم نقل إلى البصرة ومنها إلى بغداد وظل ينقل به من سجن إلى سجن لعدة سنوات ، وفي نهاية الأمر قضي عليه بالسم في سجن سندي بن شاهك (١) ، ودفن في مقابر قريش ، والتي تسمى اليوم بمدينة الكاظمية.

الإمام الثامن :

هو الإمام علي بن موسى (الرضا) ابن الإمام الكاظم عليهم‌السلام ولد سنة ١٤٨ للهجرة (على أشهر التواريخ) وتوفي سنة ٢٠٣ ه‍.

نال منصب الإمامة بعد أبيه الإمام الكاظم بأمر من الله ونص أجداده ، وقد عاصر هارون الرشيد الخليفة العباسي وبعده ابنه الأمين ثم المأمون.

بعد وفاة هارون الرشيد ، حدث خلاف بين المأمون والأمين ، أدّى إلى حروب بينهما ، وكان نتيجتها مقتل الأمين واستيلاء المأمون على عرش الخلافة (٢).

__________________

(١) إرشاد المفيد ٢٧٩ ـ ٢٨٣ / دلائل الإمامة ١٤٨ ـ ١٥٤. الفصول المهمة ٢٢٢ / مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٣٢٣ ـ ٣٢٧ / تاريخ اليعقوبي ج ٣ : ١٥٠.

(٢) أصول الكافي ج ١ : ٤٨٦ / إرشاد المفيد ٢٨٤ ـ ٢٩٦. دلائل الإمامة ١٧٥ ـ ١٧٧ / الفصول المهمة ٢٢٥ ـ ٢٤٦. تاريخ اليعقوبي ج ٣ : ١٨٨.

٢٠٥

وحتى ذلك الوقت كانت سياسة بني العباس بالنسبة إلى السادة العلويين سياسة قاسية ، يلازمها القتل والإبادة ، وكانت تزداد شدة وعنفا ، وبين فترة وأخرى كان يثور ثائر من العلويين ، ويقوم بالحروب الدامية ، وهذا ما كان يحدث اضطرابا ومشاكل للدولة والخلافة آنذاك.

ومع أن أئمة الشيعة من أهل البيت ، لم يكونوا على اتصال بالثائرين ، لكن الشيعة مع قلة عددهم في ذلك اليوم كانوا يعتبرون الأئمة هم الهداة إلى الدّين ومفترضي الطاعة والخلفاء الحقيقيين للنبي الأكرم عليه‌السلام ، وكانوا ينظرون إلى الدولة والخلافة العباسية أنها تمتاز بما كان يمتاز به كسرى وقيصر وأنها تساس بيد فئة لا صلة لها بالإسلام. وأن هذه الأجهزة التي تسوس البلاد بعيدة كل البعد عما يتصف به زعماؤهم الدينيون ، هذا ما كان يشكل خطرا على الخلافة ، ويهدّدها بالسقوط والزوال.

فكر المأمون في هذه المشاكل والفتن ، ورأى أن يبدي سياسة جديدة ، بعد أن كانت سياسة أسلافه طوال سبعين سنة سياسة عقيمة لا جدوى منها. فأظهر سياسته الخادعة بأن يجعل الإمام الثامن ولي عهد له ، وبهذه الطريقة سوف يقضي على كل فتنة ومشكلة ، والسادة من العلويين إذا وجدوا أن لهم مقاما في الدولة فإنهم لن يحاولوا الثورة أو القيام ضدّه ، والشيعة أيضا عند ما يشاهدون تقرّب إمامهم من الخلافة التي طالما كانوا يعتبرونها رجسا ويعتبرون القائمين بأمور الخلافة فاسقين ، عندئذ سيتركون ذلك التقدير والاحترام المعنوي لأئمتهم الذين هم من

٢٠٦

أهل البيت ، وسرعان ما يسقط حزبهم الديني ، ولا يواجه الخلفاء خطرا من هذه الجهة (١).

ومن البديهي بعد أن يحصل المأمون على ما كان يهدف إليه ، فإن قتل الإمام لم يكن بالأمر الصعب. ولغرض تحقق هذه المؤامرة أحضر الإمام من المدينة إلى مرو ، اقترح عليه الخلافة أولا ثم ولاية العهد ثانيا ، فاعتذر الإمام ، ولكنه استخدم شتّى الوسائل لإقناع الإمام ، وافق الإمام بشرط ألا يتدخل في شئون الدولة وكذا في عزل أو نصب أحد من المسئولين (٢).

هذا ما حدث سنة ٢٠٠ للهجرة. ولم تمض فترة حتى شاهد المأمون التقدم السريع للشيعة ، وتزايد ارتباطهم وعلاقتهم بالنسبة للإمام ، وحتى العامة من الناس ، والجيش ومسئولي شئون الدولة. عندئذ التفت المأمون إلى خطورة اشتباهه ، وحاول أن يقف أمام هذا التيار ، فقتل الإمام بعد أن دسّ إليه السم.

دفن الإمام الثامن بعد استشهاده في مدينة (طوس) في إيران ، وتعرف اليوم بمدينة مشهد.

كان المأمون يبدي عنايته ورعايته لترجمة العلوم العقلية إلى اللغة العربية ، وكان يقيم المجالس العلمية ، التي يحضرها علماء الأديان والمذاهب ، وتجري فيها المناظرات العلمية ، وكان الإمام

__________________

(١) دلائل الإمامة ١٩٧ / مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٣٦٣.

(٢) أصول الكافي ج ١ : ٤٨٩ / إرشاد المفيد ٢٩٠ / الفصول المهمة ٢٣٧. تذكرة الخواص ٣٥٢ / مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٣٦٣.

٢٠٧

أيضا يشارك في هذه المجالس ويشترك في مناظرة علماء الأديان والمذاهب ، وقد دون العديد منها في كتب أحاديث الشيعة (١).

الإمام التاسع :

هو الإمام محمد بن علي (التقي ، ويلقّب بالإمام الجواد أو ابن الرضا أحيانا) ابن الإمام الرضا عليهم‌السلام ، ولد في المدينة سنة ١٩٥ ه‍. واستشهد (سنة ٢٢٠) بتحريض من المعتصم الخليفة العباسي على يد زوجته بنت المأمون ، ودفن إلى جوار جده الإمام السابع في مدينة الكاظمية.

حاز درجة الإمامة الرفيعة بأمر من الله ووصية أجداده ، وكان الإمام في المدينة عند ما توفي أبوه الإمام الرضا ، أحضره المأمون إلى بغداد عاصمة خلافته آنذاك ، والظاهر أن المأمون أبدى احترامه وعطفه للجواد ، وزوجه ابنته ، وأبقاه عنده في بغداد ، وفي الحقيقة أراد أن يراقب الإمام من الخارج والداخل مراقبة كاملة.

مكث الإمام التاسع زمنا في بغداد ، ثم طلب من المأمون الرحيل إلى المدينة ، وبقي فيها (المدينة) حتى أواخر عهد المأمون ، وفي زمن المعتصم الذي استخلف المأمون ، أحضر الإمام الجواد إلى بغداد مرتين ، وكان تحت المراقبة الشديدة ، وفي النهاية ـ كما ذكر ـ استشهد بدس السمّ إليه بتحريض من المعتصم على يد زوجة الإمام (٢).

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٣٥١ / كتاب الاحتجاج لأحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي طبع النجف سنة ١٣٨٥ ه‍. ج ٢ : ١٧٠ ـ ٢٣٠.

(٢) إرشاد المفيد ٢٩٧ / أصل الكافي ج ١ : ٤٩٢ ـ ٤٩٧ / دلائل الإمامة ٢٠١ ـ ٢٠٩. مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٣٧٧ ـ ٣٩٩ / الفصول المهمة ٢٤٧ ـ ٢٥٨ تذكرة الخواص ٣٥٨.

٢٠٨

الإمام العاشر :

هو الإمام علي بن محمد (النقي ويلقّب بالهادي أيضا) ابن الإمام الجواد عليهم‌السلام ، ولد سنة ٢١٢ ه‍. في المدينة ، واستشهد سنة ٢٥٤ ه‍. (وفقا للروايات الشيعية) بأمر المعتزّ الخليفة العباسي (١).

عاصر الإمام سبعا من خلفاء بني العباس : المأمون والمعتصم والواثق والمتوكّل والمنتصر والمستعين والمعتزّ.

وفي عهد المعتصم سنة ٢٢٠ ه‍. عند ما استشهد أبوه في بغداد بالسم الذي دسّ إليه ، كان الإمام الهادي في المدينة ، نال منصب الإمامة بأمر من الله تعالى ووصية أجداده ، فقام بنشر التعاليم الإسلامية حتى زمن المتوكّل.

أرسل المتوكل أحد الأمراء إلى المدينة لإحضار الإمام من هناك إلى سامراء حاضرة حكومته وذلك سنة ٢٤٣ اثر وشاية بعض الأعداء. وكتب إلى الإمام رسالة يظهر فيها احترامه وتقديره له ، مطالبا إياه فيها بالتوجه إلى العاصمة (٢).

وبعد وصول الإمام إلى سامراء لم يكن هناك ما يلفت النظر من تضييق على الإمام في بداية الأمر. إلا أن الخليفة سعى في

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ : ٤٩٧ ـ ٥٠٢ / إرشاد المفيد ٣٠٧ / دلائل الإمامة ٢١٦ ـ ٢٢٢ / الفصول المهمة ٢٥٩ ـ ٢٦٥ / تذكرة الخواص ٣٦٢ مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٤٠١. ٤٢٠.

(٢) إرشاد المفيد ٣٠٧ ـ ٣١٣ / أصول الكافي ج ١ : ٥٠١ / الفصول المهمة ٣٦١ / تذكرة الخواص ٣٥٩ / مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٤١٧ / إثبات الوصية ص ١٧٦ / تاريخ اليعقوبي ج ٣ : ٢١٧.

٢٠٩

اتخاذ شتى الطرق والوسائل لإيذاء الإمام ، وهتك حرمته ، فقام رجال الشرطة بتفتيش دار الإمام بأمر من الخليفة.

كان المتوكل أشدّ عداء لأهل البيت من سائر خلفاء بني العباس ، وخاصة بالنسبة للإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكان يعلن عداءه وتنفره منه ، فضلا عن الكلام البذيء الذي كان يتفوه به أحيانا وكان قد عين شخصا يقلد أعمال الإمام علي عليه‌السلام في مجالسه ومحافله ، ويستهزىء وينال من تلك الشخصية العظيمة.

وأمر بتخريب قبة الإمام الحسين وضريحه والكثير من الدور المجاورة له ، وأمر بفتح المياه على حرم الإمام وقبره ، وأبدلت أرضها إلى أرض زراعية كي يقضوا على جميع معالم هذا المرقد الشريف (١).

وفي زمن المتوكل أصبحت حالة السادة العلويين في الحجاز متدهورة ويرثى لها ، حتى أن نساؤهم كانت تفتقر إلى ما يسترها ، والأغلبية منهن كانت تحتفظ بعباءة بالية ، يتبادلنها في أوقات الصلاة لأجل إقامتها (٢) وكان الوضع لا يقلّ عن هذا في مصر بالنسبة إلى السادة العلويين.

كان الإمام الهادي صابرا متحملا لكل أنواع هذا الاضطهاد والأذى وبعد وفاة المتوكل جاء كل من المنتصر والمستعين والمعتزّ إلى منصة الخلافة ، وقتل الإمام بأمر من المعتزّ الخليفة العباسي.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين ٣٩٥.

(٢) مقاتل الطالبيين ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

٢١٠

الإمام الحادي عشر :

هو الإمام الحسن بن علي (العسكري) ابن الإمام الهادي ولد سنة ٢٣٢ ه‍. وفي سنة ٢٦٠ ه‍. (وفقا لبعض الروايات الشيعية) دسّ إليه السم بإيعاز من المعتمد الخليفة العباسي ، وقضى نحبه مسموما (١).

الإمام العسكري جاء إلى مقام الإمامة بعد أبيه بأمر من الله تعالى وحسب ما أوصى به أجداده الكرام. وطوال مدة خلافته التي لا تتجاوز السبع سنين كان ملتزما بالتقية ، ومنعزلا عن الناس حتى الشيعة ، ولم يسمح إلا للخواص من أصحابه بالاتصال به ، ومع كل هذا فقد قضى زمنا طويلا في السجون (٢).

والسبب في كل هذا الاضطهاد :

أولا : كان قد وصل عدد الشيعة إلى حدّ يلفت الأنظار ، وصار هذا الأمر واضحا جليا للعيان ، وأيضا صار أئمة الشيعة معروفين أكثر ، فعلى هذا كانت الحكومة آنذاك تتعرض للأئمة أكثر من ذي قبل وتراقبهم ، وكانت تسعى للإطاحة بهم وإبادتهم بكل الوسائل الخفية.

ثانيا : قد اطلعت الدولة العباسية أن الخواص من الشيعة تعتقد أن هناك ولد للإمام الحادي عشر ، وطبقا للروايات التي تنقل عن

__________________

(١) إرشاد المفيد ٣١٥ / دلائل الإمامة ٢٢٣ / الفصول المهمة ٢٦٦ ـ ٢٧٢. مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٤٢٢ / أصول الكافي ج ١ : ٥٠٣.

(٢) إرشاد المفيد ٣٢٤ / أصول الكافي ج ١ : ٥١٢ / مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٤٢٩ و ٤٣٠.

٢١١

الإمام الهادي ، وكذا من أجداده ، يعرفوه ب (المهدي الموعود) وقد أخبر عنه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) بموجب الروايات المتواترة عن الطريقين عند العامة والخاصة ، ويعتبرونه الإمام الثاني عشر لهم.

ولهذا السبب كان الإمام الحادي عشر أكثر مراقبة من سائر الأئمة ، فصمّم خليفة ذلك الزمان أن يقضي على موضوع الإمامة عند الشيعة بكل وسيلة تقتضي بها الضرورة ، وبهذا يغلق هذا البحث الذي طالما كان مثارا لإزعاجهم.

ولما سمع المعتمد الخليفة العباسي بمرض الإمام العسكري أرسل إليه الأطباء مع عدد من القضاة ومن يعتمد عليهم كي يراقبوا الإمام عن كثب وما يجري في داره ، وبعد استشهاد الإمام ووفاته ، فتشوا البيت بدقة ، وفحصوا الجاريات اللواتي كن يخدمن في بيت الإمام بواسطة الممرضات (القابلات) ، وبقوا يبحثون عن خلف للإمام لمدة سنتين حتى استولى عليهم اليأس (٢).

__________________

(١) يراجع صحيح الترمذي ج ٩ باب ما جاء في المهدي / صحيح أبي داود ج ٢ كتاب المهدي / صحيح ابن ماجه ج ٢ باب خروج المهدي. كتاب ينابيع المودة / كتاب البيان في أخبار صاحب الزمان لمؤلفه محمد بن يوسف الشافعي / كتاب نور الأبصار لمؤلفه الشبلنجي / كتاب مشكاة المصابيح لمؤلفه محمد بن عبد الله الخطيب / كتاب الصواعق المحرقة تأليف ابن حجر / كتاب إسعاف الراغبين لمؤلفه محمد الصبان / كتاب الفصول المهمة / صحيح مسلم / كتاب الغيبة تأليف محمد بن إبراهيم النعماني / كمال الدين تأليف الشيخ الصدوق / إثبات الهداة لمؤلفه محمد بن حسن الحرّ العاملي / بحار الأنوار لمؤلفه العلامة المجلسي ج ٥١ ، ٥٢.

(٢) أصول الكافي ج ١ : ٥٠٥ / إرشاد المفيد ٣١٩.

٢١٢

دفن الإمام الحادي عشر بعد وفاته في داره في مدينة سامراء بجوار مدفن أبيه.

ولا يخفى أن أئمة أهل البيت طوال حياتهم علّموا وربّوا العديد من العلماء والمحدثين ، إذ يصل عددهم المئات ، ومراعاة للاختصار لم نستعرض فهرست أسماء هؤلاء ومؤلفاتهم والآثار العلمية التي تركوها ، وشرحا لأحوالهم (١).

الإمام الثاني عشر :

هو الإمام المهدي الموعود (ويذكر بإمام العصر والزّمان غالبا) ابن الإمام الحادي عشر العسكري ، اسمه يطابق اسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولد في سامراء سنة ٢٥٥ أو ٢٥٦ ه‍.

وكان يعيش تحت رعاية والده حتى سنة ٢٦٠ ه‍. حين استشهاد والده ، وكان مختفيا عن أنظار العامة ، ولم ينجح أحد بلقائه والاتصال به إلا الخواصّ من الشيعة.

وبعد استشهاد والده ، أنيطت به مهمة الإمامة ، وبأمر من الله تعالى ، اختار الغيبة ، ولم يظهر للعيان إلّا لنوابه الخواص وفي موارد استثنائية (٢).

__________________

(١) يراجع كتاب رجال الكشي ورجال الطوسي وفهرست الطوسي وسائر كتب الرجال.

(٢) بحار الأنوار ج ٥١ صفحة ٢ ـ ٣٤ ـ ٣٣٦. كتاب الغيبة تأليف محمد بن حسن الطوسي الطبعة الثانية صفحة ٢١٤ ـ ٢٤٣. كتاب إثبات الهداة ج ٦ و ٧.

٢١٣

السفراء

عيّن الإمام المهدي عليه‌السلام عثمان بن سعيد العمري نائبا خاصا له والذي كان من أصحاب جدّه وأبيه وكان ثقة أمينا ، وكان الإمام يجيب على أسئلة الشيعة عن طريق هذا النائب الخاص.

وبعد عثمان بن سعيد استخلف ابنه محمد بن عثمان ، وبعد وفاة محمد بن عثمان العمري ، استناب أبو القاسم حسين بن روح النوبختي.

وبعد وفاة حسين بن روح النوبختي أصبح علي بن محمد السمري نائبا خاصا للإمام المهدي عليه‌السلام. وفي أواخر حياة علي بن محمد السمري إذ لم يبق من حياته سوى أيام قلائل (سنة ٣٢٩ ه‍) صدر توقيع من الناحية المقدسة ، فيه إبلاغ لعلي بن محمد السمري بأنه سيموت ويودّع هذه الحياة بعد ستة أيام ، وبعدها تنتهي النيابة الخاصة ، وتقع الغيبة الكبرى ، وستستمر حتى يأذن الله تعالى بالظهور (١) وحسب هذا التوقيع تنقسم غيبة الإمام إلى قسمين : الأول : الغيبة الصغرى ، بدأت سنة ٢٦٠ ه‍. وانتهت في سنة ٣٢٩ ، واستمرت حوالى سبعين عاما. الثاني : الغيبة الكبرى ، والتي بدأت سنة ٣٢٩ ، وستستمر حتى يأذن الله تعالى. ويروى عن النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث متفق عليه (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا من أمتي ومن أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما) (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥١ ص ٣٦٠ ـ ٣٦١ / الغيبة تأليف الشيخ الطوسي ص ٢٤٢.

(٢) الفصول المهمة صفحة ٢٧١.

٢١٤

بحث في ظهور المهدي (عج) من وجهة نظر العامة

وكما أشرنا في بحث النبوة والإمامة ، وفقا لقانون الهداية العامة الجارية في جميع أنواع الكائنات ، فالنوع الإنساني مجهّز بحكم الضرورة بقوة (قوة الوحي والنبوة) ترشده إلى الكمال الإنساني والسعادة النوعية ، وبديهي أن الكمال والسعادة لو لم يكونا أمرين ممكنين للإنسان الذي تعتبر حياته حياة اجتماعية ، لكان أصل التجهيز لغوا وباطلا ، ولا يوجد لغو في الخلقة مطلقا.

وبعبارة أخرى ، أن الإنسان منذ أن وجد على ظهر البسيطة كان يهدف إلى حياة اجتماعية مقرونة بالسعادة وكان يعيش لغرض الوصول إلى هذه المرحلة ، ولو لم تتحقق هذه الأمنية في الخارج ، لما وعد الإنسان نفسه بهذه الأمنية. فلو لم يكن هناك غذاء لم يكن هناك جوع ، ولو لم يكن هناك ماء ، لم يكن عطش وإذا لم يكن تناسل ، لم تكن علاقة جنسية.

فعلى هذا وبحكم الضرورة فإن مستقبل العالم سيكشف عن يوم ، يهيمن فيه العدل والقسط على المجتمع البشري ، ويتعايش أبناء العالم في صلح وصفاء ومودّة ومحبّة ، تسودهم الفضيلة والكمال.

وطبيعي أن استقرار مثل هذه الحالة بيد الإنسان نفسه ، والقائد لمثل هذا المجتمع سيكون منجي العالم البشري ، وعلى حد تعبير الروايات سيكون (المهدي).

ونجد الأديان والمذاهب المختلفة القائمة في العالم مثل الوثنية ، واليهودية والمسيحية والمجوسية ، والإسلام تبشّر بمصلح ومنج

٢١٥

للبشرية ، وإن اختلفت في تصوره. وما حديث النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، المتفق عليه (المهدي من ولدي) إلّا إشارة إلى هذا المعنى.

بحث في ظهور المهدي (عج) من وجهة نظر الخاصة

فضلا عن الروايات المتزايدة عن الطريق العامة والخاصة ، والتي تروى عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمة أهل البيت عليه‌السلام في ظهور المهدي عليه‌السلام وأنه من سلالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع ظهوره ، سيؤدّي بالمجتمع البشري إلى كماله الواقعي والحقيقي ، وسيمنحها الحياة المعنوية (١) ، فإن هناك روايات متضافرة أخرى تشير إلى أن المهدي هو ابن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام (الإمام الحادي عشر) بلا فصل (٢) وبعد الغيبة الكبرى سيظهر ، ويملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا.

__________________

(١) وعلى سبيل المثال قال أبو جعفر (ع) : إذا قام قائمنا ، وضع الله يده على رءوس العباد فجمع به عقولهم وكملت به أحلامهم ، بحار الأنوار ج ٥٢ صفحة ٣٢٨ و ٣٢٦. قال أبو عبد الله (ع) : «العلم سبعة وعشرون حرفا فجميع ما جاءت به الرسل حرفان فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين ، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفا فبثّها في الناس ، وضمّ إليها الحرفين حتى يبثّها سبعة وعشرين حرفا» بحار الأنوار ج ٥٢ صفحة ٣٣٦.

(٢) وعلى سبيل المثال أيضا : قال علي بن موسى الرضا (ع) في حديث : إلى أن قال ، الإمام بعدي محمد ابني وبعد محمد ابنه علي وبعد علي ابنه الحسن وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره ، لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا ، وأما متى فقد حدثني أبي عن أبيه عن آبائه عن علي أنه قيل يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك فقال : مثله مثل الساعة لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا يأتيكم إلّا بغتة. بحار الأنوار ج ٥١ صفحة ١٥٤. صفر بن أبي دلف قال سمعت أبا جعفر محمد بن الرضا (ع) يقول (الإمام بعدي ابني علي ، أمره أمري وقوله قولي ـ

٢١٦

ردّ على الشبهات

يعترض مخالفو الشيعة بأنه وفقا لاعتقاد هذه الطائفة ، يجب أن يكون عمر الإمام الغائب ما يقرب من اثني عشر قرنا ، في حين أن الإنسان لا يستطيع أن يعمّر هكذا عمر.

الجواب : الاعتراض هذا مبني على الاستبعاد ، وأن العمر الطويل كهذا يستبعد ، لكن الذي يطالع الأخبار الواردة عن الرسول الأعظم في خصوص الإمام الغائب ، وكذا عن سائر أئمة أهل البيت (ع) سيلاحظ أن نوع الحياة للإمام الغائب تتصف بالمعجزة خرقا للعادة ، وطبيعي أن خرق العادة ليس بالأمر المستحيل ولا يمكن نفي خرق العادة عن طريق العلم مطلقا.

لذا لا تنحصر العوامل والأسباب التي تعمل في الكون في حدود مشاهدتنا والتي تعرّفنا عليها ، ولا نستطيع نفي عوامل أخرى وهي بعيدة كل البعد عنا ولا علم لنا بها ، أو أننا لا نرى آثارها وأعمالها ، أو نجهلها. من هذا يتضح إمكان إيجاد عوامل

__________________

ـ وطاعته طاعتي ، والإمام بعده ابنه الحسن ، أمره أمر أبيه وقوله قول أبيه وطاعته طاعة أبيه ، ثم سكت ، فقلت له يا ابن رسول الله فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكى بكاء شديدا ثم قال : إن من بعد الحسن ابنه القائم بالحقّ المنتظر ـ بحار الأنوار ج ٥١ صفحة ١٥٨.

قال موسى بن جعفر البغدادي سمعت أبا محمد الحسن بن علي يقول : كأنّي بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف مني أما أن المقرّ بالأئمة بعد رسول الله والمنكر لولدي كمن أقر بجميع أنبياء الله ورسله ثم أنكر نبوّة محمد رسول الله والمنكر لرسول الله كمن أنكر جميع الأنبياء لأن طاعة آخرنا كطاعة أولنا والمنكر لآخرنا كالمنكر لأولنا أما أن لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلا من عصمة الله ـ بحار الأنوار ج ٥١ صفحة ١٦٠.

٢١٧

في فرد أو أفراد من البشر بحيث تستطيع تلك العوامل أن تجعل الإنسان يتمتع بعمر طويل جدا قد يصل إلى الألف أو آلاف من السنوات ، فعلى هذا فإن عالم الطب لم ييأس حتى الآن من كشف طرق لإطالة عمر الإنسان.

وهذا الاعتراض ، من الذين يعتقدون بالكتب السماوية كاليهودية والمسيحية والإسلام وفقا لكتبهم السماوية. ويقرّون المعجزات وخرق العادات التي كانت تتحقق بواسطة أنبياء الله تعالى ، يثير الإعجاب والاستغراب.

ويعترض مخالفو الشيعة من أن الشيعة تعتبر لزوم وجود الإمام لبيان أحكام الدين وحقائقه ، وإرشاد الناس وهدايتهم ، فإن غيبة الإمام تناقض هذا الغرض ، لأن الإمام الذي قد غاب عن الأنظار ولا توجد أية وسيلة للوصول إليه ، لا يترتب على وجوده أي نفع أو فائدة ، وإذا كان الله سبحانه يريد إصلاح البشرية بواسطة شخص ، فإنه قادر على خلقه عند اقتضاء الضرورة لذلك ، ولا حاجة إلى خلقه قبل وقته وقبل الاحتياج إليه بآلاف السنوات.

الجواب : إن مثل هؤلاء لم يدركوا حقيقة معنى الإمامة ، واتضح في مبحث الإمامة ، أن وظيفة الإمام ومسئوليته لم تنحصر في بيان المعارف الإلهية بشكلها الصوري ، ولم يقتصر على إرشاد الناس من الناحية الظاهرية ، فالإمام فضلا عن توليه إرشاد الناس الظاهري ، يتّصف بالولاية والإرشاد الباطني للأعمال أيضا وهو الذي ينظّم الحياة المعنوية للناس ، ويتقدّم بحقائق الأعمال إلى الله جلّ شأنه.

٢١٨

بديهي أن حضور أو غيبة الإمام الجسمانية في هذا المضمار ليس له أي تأثير ، والإمام عن طريق الباطن يتصل بالنفوس ويشرف عليها ، وإن بعد عن الأنظار وخفي عن الأبصار ، فإن وجوده لازم دائما ، وإن تأخر وقت ظهوره وإصلاحه للعالم.

الخاتمة :

البلاغ المعنوي للشيعة

البلاغ المعنوي للشيعة الموجه للناس كافة ، يتلخص عن كلمة واحدة وهي «اعرفوا الله» وبتعبير آخر ، اسلكوا طريق معرفة الله كي تسعدوا وتفلحوا ، وهذه هي العبارة التي قالها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بداية دعوته : «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا».

كي يتضح هذا البلاغ نقول مجملا :

نحن البشر بحسب الطبع ، نهوى الكثير من شئون الحياة ، ولذائذها المادية ، كالأكل والشرب والألبسة الفاخرة ، والصور والمناظر الخلابة والزوجات الحسناوات والأصدقاء المخلصين ، والثروات الطائلة ، أما عن طريق القدرة والسياسة ، والمقام واتساع السلطة والحكومة ، أو القضاء على كل ما يخالف مأربنا.

ولكننا ندرك جيدا مع ما أوتينا من فطرة إلهية ، إن هذه الأمور واللذائذ كلها خلقت لأجل الإنسان ، لا أن الإنسان خلق لها ، ويجب أن تكون هذه في طلب الإنسان ، لا الإنسان يسعى في طلبها ، وإذا ما كان الهدف الغائي والنهائي هو الغريزة والشهوات فهذا هو منطق الحيوانات والأنعام ، وما القتل والفتك والإطاحة بسعادة

٢١٩

الآخرين إلا منطق الذئاب ، وأما منطق الإنسان فيبتني على العقل والعلم فحسب.

إن منطق العقل ، والالتفات إلى حقيقتنا ، يدعونا إلى اتّباع الحق ، لا اتباع هوى النفس ، إن أنواع الشهوات وحبّ الذات والأنانية ، تعتبر حسب منطق العقل الإنساني جزء من عالم الطبيعة وليس لها أيّ استقلال ، وعلى خلاف ما يتصوره الإنسان من أنه هو الحاكم للطبيعة والكون ، ويظن أن الطبيعة الطاغية يجب أن تكون أداه طيّعة له.

إن منطق العقل يدعو الإنسان إلى التفكر والتعلق في هذه الحياة الغابرة كي يتضح أن الوجود وما فيه لم يكن ليوجد من تلقاء نفسه ، بل أن الكون وما فيه يستلهم وجوده من منبع ومصدر غير متناه.

ولكي يظهر جليا فإن الجمال والقبح والكائنات الأرضية والسماوية والتي تظهر بصورها الواقعية المستقلة في نظر الإنسان ، ما هي إلا حقائق ظهرت تلك إلى الوجود بوجود حقائق أخري ، وما ظهورها إلا ظهور تلك الحقائق وليست حقائقها من أنفسها ، وكما أن الواقعيات والقدرات العظيمة التي كانت تتمتع بالوجود أمس لم تصبح إلا أسطورة ، فكذلك الواقعيات اليوم أيضا ، والنتيجة أن كل شيء في حدوده وعند نفسه لا يتجاوز الأسطورة؟

إن الله جلّ وعلا هو الحقيقة التي لا تزول ، وكل ما في الوجود يستمد وجوده منه ، ولو لا وجود الله لما ظهر إلى الوجود.

٢٢٠