الشيعة في الإسلام

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الشيعة في الإسلام

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: بيت الكاتب للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٠

قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (١).

ويقول تعالى :

(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢).

ويقول تعالى شأنه :

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٣).

ويقول تعالى ذكره :

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) (٤).

ويقول تعالى اسمه :

(فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ. فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (٥).

ويقول سبحانه :

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٦).

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٥٣.

(٢) سورة النور الآية ٢٥.

(٣) سورة الانشقاق الآية ٦.

(٤) سورة العنكبوت الآية ٥.

(٥) سورة الكهف الآية ١١٠.

(٦) سورة الفجر الآية ٢٧ ـ ٣٠.

١٦١

ويقول سبحانه وتعالى :

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى * فَأَمَّا مَنْ طَغى * وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى * وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (١).

ويتعرض القرآن الكريم لحقيقة جزاء الأعمال قائلا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢).

استمرار الخلقة وتعاقبها

إن عالم الخلقة الذي نشاهده ، له عمر محدود ، وسيأتي اليوم الذي يفنى فيه ويزول ، كما يؤيد القرآن الكريم هذا المعنى بقوله تعالى : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) (٣).

وهل خلق عالم ، وهل كان هناك إنسان ، قبل ظهور عالمنا هذا والبشر الذي يعيش فيه حاليا؟ وهل بعد زوال وفناء هذا العالم بما فيه ، والذي يخبر به القرآن الكريم سينشأ عالم آخر وسيخلق بشر ، فهذه أسئلة لا نجد جوابها في القرآن الكريم إلّا تلميحا ، لكن الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، تجيب بإيجاب عن هذه الأسئلة (٤).

__________________

(١) سورة النازعات الآية ٣٤ ـ ٤١.

(٢) سورة التحريم الآية ٧.

(٣) سورة الأحقاف الآية ٣.

(٤) البحار ج ١٤ : ٧٩.

١٦٢

معرفة الإمام

معنى الإمام

تطلق كلمة الإمام أو القائد على شخص يقود جماعة أو فئة ، ويتحمل عبء هذه المسئولية ، في المسائل الاجتماعية أو السياسية أو الدينية ، ويرتبط عمله بالمحيط الذي يعيش فيه ، ومدى سعة المجال للعمل فيه أو ضيقه.

إن الشريعة الإسلامية المقدسة (كما اتضح في الفصول السابقة) تنظر إلى الحياة العامة للبشر من كل الجهات ، فهي تصدّر أوامرها لإرشاد الإنسان في الحياة المعنوية ، وكذا في الحياة الصوريّة من الناحية الفردية ، وتتدخل في إدارة شئونه ، كما تتدخل في حياته الاجتماعية والقيادية (الحكومة) أيضا.

وعلى ما مرّ ذكره ، فإن الإمام أو القائد الديني في الإسلام ، يمكن أن يكون مورد نظر من جهات ثلاث :

الأولى : من جهة الحكومة الإسلامية.

الثانية : من جهة بيان المعارف والأحكام الإسلامية المعنويّة.

تعتقد الشيعة بأن المجتمع الإسلامي يحتاج إلى الجهات الثلاث التي سبق ذكرها ، احتياجا مبرما ، والشخص الذي يتصدّى لقيادة الجهات الثلاث ، بما فيها قيادة المجتمع ، يجب أن يعيّن من قبل الله والرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، علما بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا يعيّن الإمام بأمر من الله تعالى.

١٦٣

الإمامة وخلافة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحكومة الإسلامية

إن الإنسان بما يمتاز به من مواهب إلهية ، يدرك جيدا ومن دون تردّد ، إن أي مجتمع متآلف ، في أيّة بقعة أو مملكة أو مدينة أو قرية أو قبيلة ، وحتى في بيت واحد يتألف من عدة أفراد ، لن يستطيع أن يعيش ويستمرّ في حياته دون قائد أو ناظر عليه ، فهو الذي يجعل الحياة نابضة ، يحرّك عجلات اقتصادها ، يحفّز كل فرد من أفراد المجتمع لإنجاز وظيفته الاجتماعية. فالمجتمع الفاقد لقائد ، لا يستطيع أن يستمر في حياته ، وفي أقل فترة ينهار قوامه ، ويسير نحو الهمجية والتحلل الخلقي.

فعلى هذا ، الشخص الذي يتولى قيادة مجتمع (سواء أكان كبيرا أم صغيرا) ويعير اهتماما لمنصبه ومقامه ، ويبدي عنايته لبقاء ذلك المجتمع ، نجده يعيّن خلفا له فيما لو أراد أن يغيب عن محل عمله (سواء أكانت الغيبة مؤقتة أم دائمة) ولا يتخلى عن مقامه ما لم يعين أحدا ، ولا يترك بلاده ، أو بقعته دون ناظر أو حارس عليها أو قائد لها ، لأنه يعلم جيدا ، أنّ غضّ النظر عن هذه المهمة وعدم استخلاف أحد ، يؤدّي بمجتمعه إلى الزوال والاضمحلال ، كما لو أراد ربّ البيت أن يسافر عدة أيام أو أشهر ، فإنه يختار أحد أفراد أسرته (أو غيرهم) مكانه ، ويلقي إليه مقاليد الإدارة في البيت ، وهكذا الرئيس لمؤسسة أو المدير لمدرسة ، أو التاجر لمحله ، وهو يشرف على موظفين أو صنّاع يعملون تحت أمرته ، فلو قدر أن يترك محل عمله لساعات قليلة فإنه يختار أحدهم ويعيّنه مكانه ، كي يتسنّى للآخرين الرجوع إليه ، في المشكلات أو المعضلات ، وقس على هذا ...

١٦٤

الإسلام دين قوامه الفطرة ، وذلك بنصّ القرآن الحكيم والسنة النبويّة ، وهو نظام اجتماعي ، يدركه كل من له إلمام بهذا الدين ، ومن ليس له صلة به. والعناية الخاصة التي قد بذلها الله جلّ وعلا ، ونبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذا الدين الجامع ، لا ينكرها أحد ، ولا يسعنا مقارنتها مع أي أمر آخر.

فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يترك المجتمع الذي يدخل في الإسلام ، أو المجتمع الذي قد سيطر عليه الإسلام ، وكذا كل بلدة أو قرية كانت تقع تحت أمرة المسلمين ، دون أن يرسل إليها واليا أو عاملا ، مباشرة ، كي يدير شئون تلك المجتمعات أو البقاع ، وكان هذا دأب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في الجهاد ، فعند ما كان يرسل كتيبة إلى مكان ما ، كان يعين قائدا لها ، وكان يعين أكثر من قائد أحيانا ، كما حدث ذلك في حرب (مؤتة) إذ عيّن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعة ، فإذا ما قتل الأول ، خلفه الثاني من بعده ، وإذا ما قتل الثاني ، خلفه الثالث ... وهكذا.

وقد أبدى الإسلام بموضوع الخلافة والاستخلاف عناية تامة ، فلم يتغافل عن هذا الموضوع ، ومتى ما أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أن يترك المدينة ، كان يستخلف أحدا. وفي الوقت الذي أراد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهجرة من مكة إلى المدينة ، عيّن عليا خليفة له في مكة ، للقيام بالأعمال الخاصة به لفترة قصيرة ، كأداء الأمانات إلى أهلها ، وقد أوصى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام أن يقوم بأداء الديون وما يتعلق بشئونه الخاصة ، بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ووفقا لهذه القاعدة ، فإن الشيعة تدّعي أنه لا يتصوّر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبيل وفاته لم يوص لأحد يستخلفه في شئون الأمة من

١٦٥

بعده ، أو أنه لم يعين شخصا يقوم بإدارة الدولة الإسلامية.

وليس هناك من شك ، والفطرة الإنسانية تقرّ ، بأن نشوء مجتمع ما يرتبط بمجموعة من عادات وتقاليد مشتركة تقرّها أكثرية ساحقة لذلك المجتمع ، وكذا يرتبط بقاؤها ودوامها بحكومة عادلة تتبنّى إجراء تلك العادات والتقاليد إجراء كاملا ، وهذا الأمر لا يخفى على الشخص اللبيب أو يغفل عنه ، في حين أنه ليس هناك مجال للشك في الشريعة الإسلامية ، بما فيها من دقة ونظام ، ولما كان يبديه النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من احترام وتقدير لتلك الشريعة ، إذ كان يضحّي بما في وسعه في سبيلها ، أن يهمل الموضوع أو يتركه. علما بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان نابغة زمانه ، في قوة تفكره ، وفراسته وتدبيره ، (فضلا عن مستلزمات الوحي والنبوة وما تتبعها من تأييدات).

وكما نجد في الأخبار المتواترة عن طريق العامة والخاصة ، في كتب الأحاديث والروايات (باب الفتن وغيرها) ، إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ينبئ بالفتن والمحن التي ستلاقيها الأمة الإسلامية بعده ، وما يشوب الإسلام من فساد ، كحكومة آل مروان وغيرهم ، الذين غيّروا وحرّفوا الشريعة السمحاء ، فكيف يعقل أن من يهتم بأمور تحدث بعد سنوات عديدة متأخرة عن وفاته ، وما تنطوي عليها من فتن ومصائب ، أن يتغافل عن موضوع يحدث بعيد وفاته ، وفي الأيام الأوّل بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! ولا يبدي اهتماما لموضوع خطير من جهة ، وبسيط من جهة أخرى ، في حين كان يبدي اهتمامه لأبسط الأمور الاعتيادية ، كالأكل والشرب والنوم وما شاكل ، فنجده يصدّر

١٦٦

الأوامر اللازمة لهذه المسائل الطبيعية ، فكيف لا يبدي اهتماما لمسائل أساسية هامة أو أن يختار الصمت إزاءها ، ولا يعيّن أحدا مكانه؟

وعلى فرض المحال ، لو كان تعيين القائد لمجتمع إسلامي في الشريعة الإسلامية ، منوطا بالمجتمع نفسه ، لكان لزاما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أن يصرّح في هذا الخصوص ويشير إليه إشارة وافية ، ويعطي الأمّة الإرشادات اللازمة ، كي تصبح واعية أمام موضوع يضمن لها تقدمها وتكاملها ، وتتوقف عليه شعائر دينها.

في حين أننا لم نجد مثل هذا التصريح ، ولو كان هناك نصّ صريح لما خالفه من جاء من بعده ، وذلك ما حدث من الخليفة الأوّل ، وانتقال الخلافة إلى الثاني بوصية منه ، والرابع أوصى لابنه ، أما الخليفة الثاني فقد دفع الثالث إلى منصة الخلافة بحجّة أنه أحال الأمر من بعده إلى شورى تتضمن ستة أعضاء ، وقد عين هؤلاء الأعضاء ، وكذا كيفية انتخابهم.

أما معاوية فقد استعمل الشدّة حتى صالح الإمام الحسن عليه‌السلام ، واستتب له الأمر ، وبعدها صارت الخلافة وراثية ، وتغيّرت الشعائر الدينية ، من جهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وإقامة الحدود وغيرها. كل هذه قد زالت عن المجتمع الإسلامي ، فاضحت جهود الشارع هباء (١).

__________________

(١) فيما يتعلق بموضوع الإمامة وخلافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحكومة الإسلامية ، تراجع المصادر التالية : تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ٢٦ ـ ٦١ ـ السيرة لابن هشام ج ٢ : ٢٢٣ ـ ٢٧١.

تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٢٦ / غاية المرام صفحة ٦٦٤ نقلا عن مسند أحمد وغيره.

١٦٧

أما الشيعة فقد حصلت على هذه النتيجة خلال البحث والدراسة في الوعي الفطري للإنسان ، والسيرة المستمرة للعقلاء ، وبالتعمّق والفحص في الأسس الأساسية للشريعة الإسلامية والتي تهدف إلى إحياء هذه الفطرة الإنسانية ، وبالتأمل في الحياة الاجتماعية التي كان ينهجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذا بدراسة الحوادث المؤسفة التي حدثت بعد فاته ، والتي عانت الأمة الإسلامية منها عناء بالغا ، ودراسة وضع الحكومات الإسلامية في القرن الأول ، وما لازمها من قصور عن أداء وظائفها ، فإننا نصل إلى هذه النتيجة.

ثم إن هناك نصوصا كافية قد صرّحت من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خصوص تعيين إمام وخليفة من بعده ، وأن الآيات والأخبار المتواترة القطعية تشير إلى هذا المعنى ، كآية الولاية وحديث غدير خم (١) وحديث السفينة وحديث الثقلين ، وحديث الحقّ وحديث

__________________

(١) ويستدل آيات من الذكر الحكيم لإثبات خلافة علي بن أبي طالب (ع) منها الآية : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) الآية ٥٥ من سورة المائدة.

اتفق المفسرون شيعة وسنة ، إن الآية المذكورة ، نزلت في شأن علي بن أبي طالب (ع) ، وتؤيد ذلك المزيد من الروايات عن طريق العامة والخاصة.

ومما ينقل عن أبي ذر الغفاري أنه قال : «صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما من الأيام صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم اشهد إني سألت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يعطني أحد شيئا ، وكان علي راكعا وأومى إليه بخنصره اليمنى ، وكان يتختم فيها ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما فرغ من صلاته ، رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم ، سألك موسى ، فقال : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي). فانزلت عليه قرآنا ناطقا : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ، وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) ـ

١٦٨

المنزلة وحديث دعوة العشيرة الأقربين وغيرها ، ولكن المراد من الآيات والأحاديث الآنفة الذكر قد أوّل وحرّف لأسباب ودواع.

__________________

ـ اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك ، اللهم واشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا ، اشدد به ظهري.

قال أبو ذر : فما أنهى الكلمة ، حتى نزل عليه جبرئيل (ع) من عند الله تعالى ، فقال : يا محمد اقرأ ، قال النبي (ص) : وما اقرأ؟ قال جبرئيل (ع) : اقرأ : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ).

ومن الآيات التي يستدل بها على خلافة علي بن أبي طالب (ع) هي الآية : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً). المائدة الآية (٣).

فظاهر الآية يدل على أن الكفار كانوا يأملون في انتهاء الدعوة الإسلامية وزوال معالمها ، ولكن الله سبحانه وتعالى قد أبدل أمنياتهم إلى يأس بالآية المذكورة ، لقد أكمل دينه وقوّم بنيانه ، وربما لم يكن الأمر هذا من الأحكام الجزئية في الإسلام ، بل أمر ينطوي على أهمية خاصة ، يعتمد عليه بقاء الإسلام واستمراره. لعلّ ظاهر الآية هذه يرتبط بالآية الأخيرة من السورة ذاتها ، (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) الآية ٦٧ من سورة المائدة.

تدل هذه الآية على أن هناك أمرا خطيرا ، انذر به الرسول الأعظم (ص) لا بد من تحققه ، فإذا ما أهمل فيه ، فإن رسالة الإسلام وأهدافه ستتعرض للخطر ، والأمر بما ينطوي عليه من أهمية خاصة ، فإن الرسول (ص) كان يخشى المعارضة من قبل المخالفين ، وكان ينتظر الفرصة المناسبة لبيانه وإظهاره ، لذا كان يؤجل إعلان الأمر للأمة الإسلامية ، حتى نزل الوحي من السماء ، يطلب فيها ربّ العالمين من الرسول الكريم (ص) أن يبادر في إعلانه دون تأمل وتهاون ، وألا يخشى أحدا سوى الله جلّ وعلا.

فالموضوع هذا لم يكن من نسخ الأحكام ، لأن عدم تبليغ الأحكام الإسلامية أو إعلان بعضها منه ، لا يعني تزلزل الكيان الإسلامي بأسره ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن النبي الأكرم (ص) كان يخشى من تبيان الأحكام الإسلامية للأمة الإسلامية.

فهذه الشواهد والقرائن ، تؤيد الأخبار أن الآيات التي ذكرت ، قد نزلت في غدير خم ، في شأن علي بن أبي طالب (ع) وأيّده الكثير من المفسرين من إخواننا أهل السنة.

ومما يروى عن أبي سعيد الخدري أنه قال : إن رسول الله (ص) دعا الناس إلى علي (ع) في غدير خم ، فأخذ بضبعيه فرفعهما ، حتى نظر الناس إلى بياض ابطي رسول ـ

١٦٩

__________________

ـ الله (ص) ثم لم يفترقوا حتى نزلت هذه الآية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً). فقال رسول الله (ص) : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي ، والولاية لعلي من بعدي ، ثم قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله) غاية المرام البحراني صفحة ٣٣٦.

وقد ذكرت ستة أحاديث عن طرق العامة ، وخمسة عشر حديثا عن طرق الخاصة في شأن نزول الآية المذكورة. وصفوة القول ، أن أعداء الإسلام الذين طالما حاولوا الإطاحة بالإسلام وقيمة ، وتناولوا شتى الوسائل لهذا الغرض ، باءت محاولاتهم هذه بالفشل ، وقد خيّم اليأس عليهم ، فأصبحوا متربصين للأمر ، وبعد وفاة الرسول (ص) الذي كان يعتبر حافظا للإسلام وحارسا له ، وبوفاته يتزلزل قوام الإسلام ، وتنهدم أركانه. إلا أن هذه الأمنيات ، فندت في يوم غدير خم ، إذ أعلن نبيّ الإسلام أن عليا خليفته ووصيه الذي سيستخلفه للحفاظ على كيان الإسلام فعرّفه للأمة ، وبعد علي ، أنيطت هذه المسئولية الخطيرة لآل علي. ولمزيد من الاطلاع يراجع تفسير الميزان ، الجزء الخامس صفحة ١٧٧ ـ ٢١٤ والجزء السادس صفحة ٥٠ ـ ٦٤ ، من مصنفات مؤلف هذا الكتاب.

حديث الغدير : عند عودة الرسول (ص) من حجّة الوداع ، مكث في مكان يدعى (غدير خم) ، فأمر أن يجمع المسلمون العائدون من الحجّ ، فاجتمعوا ، فخطب فيهم ، ونصب عليا قائدا للأمة الإسلامية من بعده ، فأعطاه الولاية ، وجعله خليفة للمسلمين من بعده.

عن البراء ، قال : كنّا مع رسوله الله (ص) في حجة الوداع ، فلما أتينا على غدير خم ، كشح لرسول الله (ص) تحت شجرتين ونودي في الناس ، الصلاة جامعة ، ودعا رسول الله (ص) عليا ، وأخذ بيده فأقامه عن يمينه ، فقال : ألست أولى بكل امرئ من نفسه ، قالوا : بلى ، قال : «فإن هذا مولى من أنا مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه» ، فلقيه عمر بن الخطاب ، فقال : «هنيئا لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة». البداية والنهاية ج ٥ : ٢٠٨ وج ٧ : ٣٤٦ ـ ذخائر العقبي للطبري طبع القاهرة ١٣٥٦ صفحة ٦٧ ـ الفصول المهمة لابن الصباغ ج ٢ : ٢٣ وقد جاء هذا الحديث في كل من الخصائص للنسائي طبع النجف ١٣٦٩ صفحة ٣١ ـ وغاية المرام للبحراني صفحة ٧٩ ، عن ٨٩ طريقا من العامة ، و ٤٣ طريقا من الخاصة.

حديث السفينة : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله (ص) «مثل أهل بيتي كسفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تعلق بها فاز ، ومن تخلّف عنها غرق». ذخائر العقبى صفحة ٢٠ ـ الصواعق المحرقة لابن حجر طبع القاهرة صفحة ٨٤ و ١٥٠ ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي صفحة ٣٠٧ ـ كتاب نور الأبصار للشبلنجي طبع مصر صفحة ١١٤ ـ غاية المرام للبحراني صفحة ٢٣٧ ـ وقد جاء الحديث المذكور في هذه الكتب ، ـ

١٧٠

تأييد للأقوال السابقة

في أواخر أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي قد مرض فيها ، بحضور جمع من الصحابة عنده ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا».

__________________

ـ بأحد عشر طريقا من العامة ، وسبعة طرق من الخاصة.

حديث الثقلين : عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله (ص) : «كأنّي قد دعيت فأجبت ، إنّي قد تركت فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». البداية والنهاية ج ٥ : ٢٠٩ ـ ذخائر العقبى صفحة ١٦ ـ الفصول المهمة صفحة ٢٢ ـ الخصائص صفحة ٣٠ ـ الصواعق المحرقة صفحة ١٤٧ ـ وقد نقل هذا الحديث في غاية المرام عن العامة والخاصة ، ٣٩ طريقا عن العامة ، و ٨٢ طريقا عن الخاصة.

وحديث الثقلين هذا يعتبر من الأحاديث القطعية ، وروي بأسانيد كثيرة وبعبارات مختلفة وأنه متّفق على صحته ، سنة وشيعة ، ويستفاد من الحديث المذكور ونظائره ، أمور منها :

١ ـ لو بقي القرآن بين الناس حتى قيام الساعة ، فالعترة باقية أيضا ، أي لا يخلو زمن من وجود إمام وقائد حقيقي للأمة.

٢ ـ لقد قدّم النبي (ص) عن طريق هاتين الأمانتين كل ما يحتاج إليه المسلمون من الناحية العلمية والدينية ، وعرّف أهل بيته مرجعا علميا ودينيا للأمة الإسلامية ، وأيّد أقوالهم وأعمالهم تأييدا مطلقا.

٣ ـ لا يفترق القرآن عن أهل البيت ، ولا يحق لمسلم أن يبتعد عنهم ، تاركا نهجهم وإرشادهم.

٤ ـ لو أطاع الناس أهل البيت ، وتمسّكوا بأقوالهم ، لن يضلّوا ، وسوف يكون الحقّ حليفا لهم.

٥ ـ كل ما يحتاج إليه الناس من علوم ومسائل دينية ، فهي موجودة لدى أهل البيت ، وكل من يتابع طريقهم ، لن يضل ولن يهلك ، وينال السعادة الحقيقة ، أي أن أهل البيت مصونون من الاشتباه والخطأ ، وبهذه القرينة ، يتّضح أن المراد من أهل البيت والعترة ، ليس كل أقرباء النبي (ص) وأولاده ، بل المراد عدة معدودة منهم ، وهم الذين قد نالوا المقام الاسمي من العلوم الدينيّة ، ولم يعتريهم الخطأ والنسيان ، كي تتوفر لديهم صلاحية القيادة للأمة ، وهم علي بن أبي طالب والأحد عشر من ولده ، فإن مقام الإمامة لهم ، الواحد بعد الآخر ، كما تشير الروايات إلى هذا المعنى.

١٧١

قال بعضهم ، إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف الحضور بالبيت واختصموا ، فمنهم من يقول ، قرّبوا يكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول غير ذلك ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قوموا (١).

مع ما تقدم من البحث ، ومع الالتفات إلى أنّ الذين مانعوا أمر تدوين كلمة الرسول العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هم أنفسهم قد حظوا في اليوم التالي بالخلافة الانتخابية ، وكان الانتخاب دون علم علي عليه‌السلام وأصحابه ، فجعلوهم أمام أمر واقع ، فهل هناك من شك في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يريد تعيين علي ، ليجعله خليفة له من بعده.

وما كان الهدف من المعارضة (لتدوين أمر الرسول) إلّا جعل الجو مضطربا. كي ينصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأمر ، ولم يكن الغرض وصف النبي بالهذيان ، وغلبة المرض عليه ، وذلك لأسباب :

أولا : فضلا من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طوال فترة مرضه ، لم يسمع منه كلام لا يليق بمقامه ، ولم ينقل أحد هذا المعنى ، فإنه لا يحقّ لمسلم وفقا للموازين الدينية أن ينسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهذيان والكلام العبث ، علما بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصون ومعصوم من قبل الله تعالى.

ثانيا : لو كان المراد من الكلام ، المعنى الحقيقي له ، فلا حاجة إلى ذكر العبارة التي تلتها ، «كفانا كتاب الله» إذ لو كان المراد نسبة الهذيان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكفى ذكر مرضه ، لا أن يؤيد القرآن ، وينفي قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا الأمر لا يخفى على صحابي ، من

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٥ : ٢٢٧ ـ شرح ابن أبي الحديد ج ١ : ١٣٣ ـ الكامل في التاريخ ج ٢ : ٢١٧ ـ تاريخ الرسل والملوك للطبري ج ٢ : ٤٣٦.

١٧٢

أن القرآن الكريم قد فرض على الأمة الإسلامية اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه مفروض الطاعة ، وكلامه عدل للقرآن. والناس ليس لهم أيّ اجتهاد أو اختيار أمام حكم الله ورسول.

ثالثا : إن ما حدث في مرض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قد حدث أيضا في مرض الخليفة الأول ، عند ما كان يوصي إلى الخليفة الثاني من بعده ، وعثمان حاضر يحرّر ما يملي عليه الخليفة الأول ، إذ أغمي على الخليفة ، والخليفة الثاني لم يعترض عليه كما اعترض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وفضلا عن هذا كله ، فإن الخليفة الثاني قد اعترف في حديث له لابن عباس قائلا (٢). إنني أدركت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد أن يوصي لعلي ، إلا أن مصلحة المسلمين كانت تستدعي ذلك ، ويقول أيضا ، أن الخلافة كانت لعلي (٣) ، فإذا ما كانت الخلافة صائرة إليه ، لفرض على الناس اتّباع الحق ، ولم ترضخ قريش لهذا الأمر ، فرأيت من المصلحة ألا ينالها ، ونحيّته عنها.

علما بأن الموازين الدينيّة تصرّح أن المتخلف عن الحقّ يجب أن يعود إليه ، لا أن يترك الحق لصالح المتخلف.

ومما تتناقله كتب التاريخ ، إن الخليفة الأول أمر بمحاربة القبائل المسلمة التي امتنعت عن إعطاء الزكاة ، قال : «والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدّونه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأقاتلنهم على منعه» (٤).

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٢ : ٢٩٢.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ج ٢ : ١٣٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٣٧.

(٤) البداية والنهاية ج ٦ : ٣١١.

١٧٣

والمراد من هذا القول ، هو أن إقامة الحقّ وإحيائه واجب مهما بلغ الثمن ، وبديهي أن موضوع الخلافة حقّ أيضا إلا أنه أغلى من العقال وأثمن.

الإمامة في العلوم التشريعية

أشرنا في الفصول المتقدمة ، في معرفة النبي «الرّسول» وقلنا ، وفقا للقانون الثابت والضروري للهداية العامة ، إن أيّ نوع من أنواع الكائنات يسير نحو الكمال والسعادة المناسبة له وذلك عن طريق الفطرة والتكوين.

والإنسان أيضا أحد أنواع هذه الكائنات لا يستثنى من القانون العام. ويجب أن يرشد إلى طريق خاص في حياته ، تضمن له سعادته في الدنيا والآخرة ، وذلك عن طريق الغريزة المتّصفة بالنظرة الواقعية للحياة ، والتأمل في حياته الاجتماعية ، وبعبارة أخرى ، يجب أن يدرك مجموعة من المعتقدات والوظائف العملية ، كي يجعلها أساسا له في حياته ليصل بها إلى السعادة والكمال المنشود ، وقلنا أن المنهاج للحياة وهو ما يسمى بالدين لا يتأتّى عن طريق العقل ، بل هو طريق آخر ويدعى الوحي والنبوّة ، والتي تظهر في بعض من أولياء الله الصالحين وهم الأنبياء ، ورسل السماء.

فالأنبياء قد أنيطت بهم مسئولية هداية النّاس عن طريق الوحي من الله تعالى فإذا ما التزموا بتلك الأوامر والنواهي ، ضمنوا السعادة لهم.

يتّضح إن هذا الدليل ، فضلا عن أنه يثبت لزوم مثل هذا

١٧٤

الإدراك بين أبناء البشر ، يثبت أيضا ، لزوم وضرورة وجود أفراد حفظة على هذا البرنامج ، وإيصاله إلى الناس إذا اقتضت الضرورة ذلك.

وكذا يستلزم وجود أشخاص قد أدركوا الواجبات الإنسانية ، وذلك عن طريق الوحي ، وهم بدورهم ينهضون لتعليم المجتمع ، كما يجب أن تبقى هذه الواجبات السماوية ، ما دام الإنسان حيا ، وتعرض عليه عند الضرورة.

فالذي يتحمل عبء هذه المسئولية ، يعتبر حاميا للدين الإلهي ، ويعيّن من قبل الله تعالى ، وهو من يسمّى ب «الإمام» كما يدعى حامل الوحي الإلهي والشرائع السماويّة ب «النبي» وهو من قبل الله تعالى أيضا.

يتفق أن تكون النبوة والإمامة في شخص واحد ، وقد لا يتحقق ذلك ، فكما أن الدليل المتقدم يثبت عصمة الأنبياء ، فإنه يثبت عصمة الأئمة أيضا.

إذ تقتضي رحمة الله وعطفه أن يضع الدين الحقيقي وغير المحرّف في متناول أيدي البشر دوما. ولا يتحقق هذا الأمر دون أن تكون هناك عصمة.

الفرق بين النّبي والإمام

إن تسلم الأحكام والشرائع السماوية ، والتي تتم بواسطة الأنبياء ، إنما يثبت لنا موضوع «الوحي» وهذا ما مرّ علينا في الفصل المتقدم. وليس فيه ما يؤيد استمراره وبقاءه على خلاف

١٧٥

الحافظ والحامي الذي يعتبر أمرا مستمرا ، ومن هنا نصل إلى نتيجة أن ليس هناك ضرورة أن يكون نبي بين الناس بصورة مستمرة ، لكن يستلزم أن يكون إمام بينهم ، ويستحيل على مجتمع بشري أن يخلو من وجود إمام سواء عرفوه أم لم يعرفوه ، وقد أشار الله سبحانه وتعالى في كتابه : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) (١).

فكما أشرنا ، يتفق أن تجتمع النبوّة والإمامة في شخص واحد ، فيمتاز بالمقامين النبوة والإمامة ، (تسلم الشريعة والحفاظ عليها والسعي في نشرها) وقد لا تجتمع في واحد ، وهناك أدوار من الزمن خلت من وجود الأنبياء ، إلا أن هناك إمام حق في كل عصر ، ومن البديهي أن عدد الأنبياء محدود ، ولم يظهروا في جميع الأدوار التي مرّت بها البشرية.

يشير الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين إلى بعض الأنبياء الذين امتازوا بصفة الإمامة أيضا ، كما في ابراهيم عليه‌السلام إذ يقول : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢).

وكذا قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (٣).

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ٨٩.

(٢) سورة البقرة الآية ١٢٤.

(٣) سورة الأنبياء الآية ٧٣.

١٧٦

الإمامة في باطن الأعمال

كما أن الإمام قائد وزعيم للأمة بالنسبة للظاهر من الأعمال ، فهو قائد وزعيم بالنسبة للباطن من الاعتقادات والأعمال أيضا ، فهو الهادي والقائد للإنسانية من الناحية المعنويّة نحو خالق الكون وموجده.

لكي تتضح هذه الحقيقة لا بدّ من مراعاة المقدمتين التاليتين :

أولا : ليس هناك من شك أو تردد في أن الإسلام وسائر الأديان السماوية ، تصرّح بأن الطريق الوحيد لسعادة الإنسان أو شقائه هو ما يقوم به من أعمال حسنة أو سيئة ، فالدّين يرشده ، كما أن فطرته وهي الفطرة الإلهية تهديه إلى إدراك الحسن والقبيح.

فالله سبحانه يبيّن هذه الأعمال عن طريق الوحي والنبوة ، ووفقا لسعة فكرنا نحن البشر ، وبلغة نفهمها ونعيها ، بصورة الأمر والنهي والتحسين والتقبيح في قبال الطاعة أو التمرد والعصيان ، يبشر الصالحين والمطيعين بحياة سعيدة خالدة ، وقد احتوت على كل ما تصبو إليه البشرية من حيث الكمال والسعادة ، وينذر المسيئين والظالمين بحياة شقيّة خالدة ، وقد انطوت على البؤس والحرمان.

وليس هناك أدنى شكّ من أن الله تعالى يفوق تصورنا وما يجول في أذهاننا ولكنه لا يتصف بصفة البشر من حيث التفكير.

وليس لهذه الاتفاقية أن يكون هناك سيّد ومسود وقائد ومقود ، وأمر ونهي وثواب وعقاب واقع خارجي سوى في حياتنا

١٧٧

الاجتماعية. أما الجهاز الإلهي فهو الجهاز الكوني الذي يربط حياة كل مخلوق وكائن بالله الخالق ربطا وثيقا.

ومما يستفاد من القرآن الكريم (١) وأقوال النبي العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الدين يشتمل على حقائق ومعارف تفوق فهمنا وإدراكنا الاعتيادي ، وأن الله جلّ شأنه قد أنزلها إلينا بتعبير بسيط يلائم تفكيرنا ، كي يتسنى لنا فهمها وإدراكها.

يستنتج مما تقدم أن هناك ارتباطا بين الأعمال الحسنة والسيئة من جهة ، والحياة الأخرى بما تمتاز به من خصائص وصفات من جهة أخرى ارتباطا واقعيا ، تكشف عن سعادة أو شقاء.

وبعبارة أوضح ، أن كل عمل من الأعمال الحسنة والسيئة تولد في الإنسان حقيقة ، والحياة الأخروية ترتبط بهذه الحقيقة ارتباطا وثيقا.

إن الإنسان في حياته يشبه الطفل ، سواء أشعر بهذا الأمر أم لم يشعر ، حيث تلازمه شئون تربويّة ، فهو يدرك ما يملي عليه مربيّه بألفاظ الأمر والنهي ، لكنه كلما تقدم في العمر استطاع أن يدرك ما قاله مربيه ، فينال بذلك الحياة السعيدة ، وما ذلك إلا بما اتّصف به من ملكات ، وإذا ما رفض وعصى معلمه الذي كان يسعى له بالصلاح ، نجد حياته مليئة بالمآسي والآلام.

فالإنسان يشبه المريض الذي دأب على تطبيق أوامر الطبيب في الدواء والغذاء ، أو رياضة خاصة ، فهو إذا لم يبال إلّا بما أملاه

__________________

(١) (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) سورة الزخرف الآية ٢ ـ ٤.

١٧٨

عليه طبيبه ، فعندئذ يجد الراحة والصحة ، ويشعر بتحسن صحته.

وخلاصة القول ، إن الإنسان يتصف بحياة باطنية غير الحياة الظاهرية التي يعيشها ، والتي تنبع من أعماله ، وترتبط حياته الأخروية بهذه الأعمال والأفعال التي يمارسها في حياته هنا.

إن القرآن الكريم يثبت هذا البيان العقلي ، ويثبت في الكثير من آياته (١) بأن هناك حياة أسمى وروحا أرفع من هذه الحياة للصالحين والمؤمنين ، ويؤكد على أن نتائج الأعمال الباطنية تلازم الإنسان دوما ، والنبي العظيم قد أشار إلى هذا المعنى أيضا في الكثير من أقواله (٢).

__________________

(١) مثل هذه الآية : («وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ* لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) سورة ق الآية ٢١ ـ ٢٢.

والآية : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) (سورة النحل الآية ٩٧).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) سورة الأنفال ، الآية ٢٤.

وفي سورة آل عمران الآية ٣٠ : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ...).

والآية : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) سورة يس الآية ١٢.

(٢) على سبيل المثال : يقول تعالى في حديث المعراج لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فمن عمل برضائي أمنحه ثلاث خصال : اعرضه شكرا لا يخالطه الجهل وذكرا لا يخالطه النسيان ومحبّة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين ، فإذا أحبّني ، أحببته وافتح عين قلبه إلى جلالي ولا أخفي عليه خاصة خلقي وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم واسمعه كلامي وكلام ملائكتي وأعرّفه السرّ الذي سترته عن خلقي وألبسه الحياء حتى يستحي منه الخلق ويمشي على الأرض مغفورا له واجعل قلبه واعيا وبصيرا ولا أخفي عليه شيئا من جنة ولا نار وأعرّفه ما يمرّ على الناس في القيامة من الهول والشدة. بحار الأنوار ج ١٧ : ٩.

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : استقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك؟ فقال : يا رسول الله مؤمن حقا. فقال ـ

١٧٩

ثانيا : كثيرا ما يحدث أن يرشد شخص أحدا بعمل حسن دون أن يلتزم هو بذلك العمل ، في حين أن الأنبياء والأئمة الأطهار ترتبط هدايتهم للبشر بالله جلّ وعلا ، ويستحيل أن يشاهد عندهم هذه الحالة ، وهو عدم الالتزام بالقول أو العمل به ، فهم العاملون بمبادىء الدين الذي هم قادته وأئمته وهم متّصفون بروح معنوية سامية ، يرشدون بها النّاس ، ويهدونهم إلى الطريق القويم.

فإذا أراد الله سبحانه أن يجعل هداية أمّة على يد فرد من أفرادها ، يربّي ذلك الفرد تربية صالحة تؤهّله للقيادة والإمامة ، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

مما تقدم نستطيع أن نحصل على النتائج التالية :

١ ـ إن النبي أو الإمام لكل أمّة ، يمتاز بسموّ روحي وحياة معنويّة رفيعة ، وهو يريد هداية الناس إلى هذه الحياة.

٢ ـ بما أنهم قادة وأئمة لجميع أفراد ذلك المجتمع ، فهم أفضل من سواهم.

٣ ـ إن الذي يصبح قائدا للأمة بأمر من الله تعالى ، فهو قائد للحياة الظاهرية والحياة المعنوية معا ، وما يتعلّق بهما من أعمال ، تسير مع سيره ونهجه (١).

__________________

ـ له رسول الله ، لكل شيء حقيقة فما حقيقة قولك؟ فقال يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري فكأني أنظر إلى عرش ربّي وقد وضع للحساب وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة وكأني أسمع عواء أهل النار في النار ، فقال رسول الله عبد نوّر الله قلبه الوافي الجزء الثالث صفحة ٣٣.

(١) (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ ...) سورة الأنبياء الآية ٧٣.

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) سورة السجدة الآية ٢٤.

ويستفاد من الآيات المتقدمة وما شابهها ، أن الإمام فضلا عن الإرشاد والهداية ـ

١٨٠