الشيعة في الإسلام

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الشيعة في الإسلام

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: بيت الكاتب للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٠

للعبادة في غار «حراء» (١) وأمر أن يبلّغ ، ونزلت عليه أول سورة من سور القرآن (٢) ، ورجع إلى بيته في اليوم نفسه ، فرأى ابن عمه «عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام» في الطريق ، فعرض عليه الإسلام فآمن به ، وبعد دخوله البيت ، أسلمت زوجته خديجة.

والنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند بدء دعوته ، واجه من الناس مواجهة عنيفة مؤلمة ، حتى اضطر إلى كتمان دعوته وجعلها سرية ، ثم أمر ثانية أن يبلّغ دعوته إلى عشيرته الأقربين ، ولكنها لم تجد ، إذ لم يؤمن به سوى «عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام» (٣).

وبعد ذلك ، أعلن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعوته بأمر من الله تعالى ، وما إن أعلن النبي الدعوة حتى شاهد ردود الفعل من أهل مكة مقرونة بالأذى والتعذيب بالنسبة له وللمسلمين الذين أسلموا حديثا ، مما اضطر بعض المسلمين ترك ديارهم اثر حملات الاضطهاد التي كانت تقوم بها قريش ، فهاجروا إلى الحبشة ، وتحصّن النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عمه «أبو طالب» وأفراد من قبيلته بني هاشم في «شعب أبي طالب» (٤) لمدة ثلاث سنين ، في غاية من الضغط والشدّة ، فلم يتعامل معهم ، ولم يعاشرهم أحد ، ولم يستطيعوا في تلك الفترة الخروج من الشعب.

__________________

(١) غار في جبال (تهامة) على مقربة من مكة.

(٢) سورة العلق.

(٣) وفقا لروايات أهل البيت عليه‌السلام ولأشعار قالها أبو طالب ، تعتقد الشيعة أن أبا طالب أسلم ، وبما أنه كان المدافع الوحيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكتم إسلامه ، كي يحتفظ بقدرته الظاهرية أمام قريش.

(٤) حصار كان في إحدى وديان «مكة».

١٤١

ولم يكتف كفار مكة وعبدة أصنامها ، بالإيذاء والإهانة والاستهزاء بل كانوا يلجئون أحيانا إلى الاستمالة ، والوعد بالأموال الطائلة كي يصرفوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن دعوته ، فقد اقترحوا عليه الرئاسة والسلطان ، ولكن وعدهم ووعيدهم كان سيّان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان مما يزيد في عزمه وإرادته.

وقد اقترحوا عليه مرة المال الكثير والرئاسة ، فأجابهم النبي قائلا : «والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه».

خرج النبي من «شعب أبي طالب» حوالى السنة العاشرة من بعثته ولم يمض زمن حتى توفي عمه أبو طالب ، وتوفيت زوجته الوفية أيضا.

فلم يكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملجأ ، مما دعا كفار مكة إلى أن يخططوا لقتله ، فحاصروا داره من كل جانب ، كي يحملوا عليه في آخر الليل ، ويقطّعوه إربا إربا في مضجعه.

ولكن الله جلّ شأنه أطلعه بالأمر ، وأمره بالهجرة إلى «يثرب» (١) فاستخلف عليا عليه‌السلام في فراشه ، وخرج ليلا برعاية الله وعنايته من داره واجتاز الأعداء ، واختفى في غار يبعد عدة فراسخ عن مكة المكرمة ، وخرج من الغار بعد ثلاثة أيام ، بعد أن يئس الأعداء من الوصول إليه ، عادوا أدراجهم ، إلى مكة ، وعندها أكمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طريقه إلى يثرب.

__________________

(١) منطقة تقرب من «المدينة».

١٤٢

أما أهل «يثرب» فقد آمنوا به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كبارهم وأسيادهم ، فبايعوه ، واستقبلوه بحفاوة بالغة ، وقدموا له أموالهم وأنفسهم.

فأسس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأوّل مرة ؛ أول مجتمع إسلامي صغير ، في مدينة (يثرب) وعقد مع الطوائف اليهودية التي كانت تستقر في المدينة وأطرافها معاهدات ، وكذا مع القبائل العربيّة القويّة المتواجدة في تلك المنطقة ، وقام بنشر دعوته الإسلامية ، وعرفت مدينة «يثرب» ب «مدينة الرسول».

وعلى مرّ الأيام ، قويت شوكة الإسلام ، واستطاع المسلمون الذين عانوا من اضطهاد القرشيين أن يتركوا دورهم ومساكنهم في مكة ، فبدءوا بالهجرة إلى المدينة شيئا فشيئا ، والتفوا حول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمّوا ب «المهاجرين» كما اشتهر أصحابه وأعوانه في يثرب ب «الأنصار».

نال الإسلام تقدما سريعا ، لكن عبدة الأصنام من قريش ، والطوائف اليهودية المستقرة في الحجاز ، كانت ما تزال حجرة عثرة أمام هذه الحركة ، فحاولوا القيام بأعمال تخريبية لصدّ النبي والمسلمين ، بمساعدة المنافقين ، الذين كانوا في صفوف المسلمين ، ولم يعرفوا بأيّ شكل من الأشكال ، فكانوا يخلقون المشاكل ، ويسبّبون المصائب ، والحوادث المستحدثة ، حتى آل الأمر إلى الحرب ، فنشبت الحروب المتعددة بين الإسلام وعبدة الأصنام واليهود ، فكانت الغلبة غالبا لجيش الإسلام ، ويقرب إحصاء تلك الحروب من ثمانين ونيف معركة بما فيها المعارك الدامية الكبرى ، والصغيرة منها ، وفي كل هذه المعارك ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشارك المسلمين في قتالهم ، كمعركة

١٤٣

بدر وأحد والخندق وخيبر وغيرها ، وكانت الغلبة في معظمها تتم على يد «علي عليه‌السلام». فهو الوحيد الذي ما تراجع ولا فشل في أي معركة ، وطوال هذه المعارك التي دامت عشر سنوات بعد الهجرة النبوية ، قتل من المسلمين أقلّ من مائتين ، ومن الكفار ما يقرب الألف. ونتيجة المثابرة والتضحية والفداء الذي عرف به المهاجرون والأنصار خلال السنوات العشر بعد الهجرة ، عمّ الإسلام (شبه الجزيرة العربية) وبعثت الرسائل إلى ملوك الدول الأخرى مثل (إيران) و (الروم) و (مصر) و (الحبشة) تدعوهم إلى الإسلام.

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يواسي الفقراء في معيشتهم ، فلا تختلف حياته عن حياتهم ، وكان يفتخر بالفقر (١) ، وكان يستغلّ أوقاته ، فلا تمر عليه لحظة إلا وهو دائب في عمل ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسّم أوقاته إلى ثلاثة أقسام : الأول للعبادة وذكر الله تعالى ، الثاني : له ولعياله وبيته ، الثالث : للناس ، فكان يسعى في نشر المعارف الإسلامية وتعليمها ، وتصحيح الأهداف والسبل التي تؤدي إلى إصلاح المجتمع الإسلامي ، وكذا السعي في رفع حوائج المسلمين ، وتحكيم العلاقات الداخلية والخارجية ، وسائر الأمور المرتبطة بها.

وبعد إقامته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر سنوات في المدينة ، فارق الدنيا على اثر سم دسّ في طعامه على يد امرأة يهودية ، طرحه في الفراش أياما ، ومما جاء في الروايات أن آخر ما تكلم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصيته في العبيد والنساء.

__________________

(١) وفي رواية مشهورة يقول (ص) «الفقر فخري». ولمزيد الاطلاع في هذا الفصل يراجع كتاب سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية وكتاب البحار ج ٦ وغيرها.

١٤٤

النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن

كان الناس يطالبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعجزة ، كما كانوا يطالبون سائر الأنبياء فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤيد المعاجز التي كانت لدى الأنبياء ، والقرآن الكريم يصرح بذلك.

وتذكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاجز كثيرة ، إلّا أن البعض منها لا تتصف بالقطعية في روايتها ، ولم تكن مورد قبول واعتماد ، ولكن المعجزة الباقية له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي لا تزال حيّة هي «القرآن الكريم» كتابه السماوي. فالقرآن الكريم كتاب سماوي يشتمل على ستة آلاف ونيف آية ، وينقسم إلى مائة وأربع عشرة سورة بما فيها الطويلة والقصيرة.

نزلت الآيات القرآنية الكريمة بصورة تدريجية خلال أيام بعثته ودعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طوال ثلاث وعشرين سنة ، وكانت (توحى) إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصور مختلفة ، من سورة أو آية أو أقل من آية ، وفي أوقات متفاوتة ، في ليل أو نهار ، في سفر أو حضر ، في الحرب أو السلم ، وفي أيام الشدّة أو الرخاء.

والقرآن الكريم بنفسه ، يصرّح أنه معجزة وقد تحدّى العرب في ذلك اليوم ، فكان في القمة من الفصاحة والبلاغة ، هذا ما يشهد به التأريخ ، وكان في المقدمة من حيث البيان والتعبير ، يقول تعالى في كتابه العزيز :

(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (١).

__________________

(١) سورة الطور الآية ٣٤.

١٤٥

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١).

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢).

فتحداهم القرآن بهذه الآيات ، قائلا إذا كنتم تظنون أنه من كلام البشر ، أو من عند محمد ، أو أنه قد أخذه من أحد ، فأتوا بمثله. أو بعشر سور منه أو بسورة واحدة من سوره ، واستعينوا بأيّة وسيلة شئتم لتحقيق هذا الأمر ، وما كان جواب الفصحاء والبلغاء من العرب إلا أن قالوا إنه لسحر ويعجز من مثلنا أن يأتي به (٣).

إن القرآن الكريم لم يتحدّ العلماء من جهة الفصاحة والبلاغة فحسب ، بل تحداهم من جهة المعنى أيضا ، وتحدّى الجن والإنس بما يمتلكون من قدرات فكريّة خلّاقة ، لأنه يشتمل على البرنامج الكامل للحياة الإنسانية ، ولو محص تمحيصا دقيقا ، لوجد أنه الأساس والأصل في مجالات الحياة الإنسانية كلها ، بما فيها الاعتقادات والأخلاق والأعمال التي ترتبط بالإنسان فإنه يعالج كل جانب من جوانبها بدقة تامة ، فهو من الله الحقّ ، ودينه دين الحق أيضا.

الإسلام دين يستلهم أحكامه ومواده من الله الحقّ وليس من رغبة أكثرية الناس أو من فكر شخص حاكم قدير.

__________________

(١) سورة هود الآية ١٣.

(٢) سورة يونس الآية ٣٨.

(٣) ومما نقل عن أشهر مشاهير العرب في القرآن في قوله تعالى (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ* إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ). سورة المدثر الآية ٢٤ ـ ٢٥.

١٤٦

إن الركن الأساسي لهذا القانون الشامل هو الكلمة الحقة وهو الإيمان بالله الأحد ، وأن جميع العلوم تنبثق من التوحيد ، ومن ثمّ تستنبط الأخلاق الإنسانية المثلى من هذه الأصول ، وتصبح جزء من هذا القانون ، ثمّ تنظّم وتنسّق الكليات والجزئيات والتي هي خارجة عن نطاق إحصاء البشر ، وتدرس الوظائف التي ترتبط بها ، والتي تنبع من التوحيد ، وتصدر منه.

في الدين الإسلامي ارتباط وثيق بين الأصول والفروع على نحو يرجع كل حكم فرعي من أيّ باب ـ إذا ما محص ـ إلى كلمة التوحيد وينتهي إليه.

وطبيعي أن التنظيم والتنسيق النهائي لمثل هذا القانون الواسع الشامل ، مع ما يمتاز به من وحدة وارتباط ، خارج عن قدرة شخص ضليع في علم الحقوق والقانون ، وإن كان من أشهر مشاهيرهم ، فضلا من أن الفهرست الابتدائي له ليس بالأمر اليسير ، فكيف برجل يعيش في زمن يتصف بالحياة البدائية ، في خضم الآلاف من المشاكل والمصائب التي تهدّد الأموال والأرواح والفتن الداخلية والخارجية ، وفي النهاية يبقى منفردا أمام العالم أجمع.

هذا فضلا من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يتعلّم القراءة والكتابة عند معلم ، لقد قضى ثلثي عمره وحياته قبل دعوته (١) في بيئة تفتقر

__________________

(١) وفي القرآن الكريم عن النبي (ص) (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). سورة يونس الآية ١٦ ، ويقول أيضا : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) سورة العنكبوت الآية ٤٨.

ويقول أيضا : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ). سورة البقرة الآية ٢٣.

١٤٧

إلى حضارة ، ولم تسمع بمدنية أو حضارة ، كانوا يعيشون في أرض صحراء قاحلة ، وجو مهلك ، مع أتعس الظروف الحياتية ، علما بأنها كانت تستعمر من قبل الدول المجاورة بين آونة وأخرى ، ومع كل هذه الظروف والأحوال نجد القرآن الكريم يتحدّى من طريق آخر ، وهو أنه أنزل بصورة تدريجية مع ظروف متفاوتة مختلفة ، في أيام الفتن والأيام الاعتيادية ، في الحرب والصلح ، وفي أيام القدرة وأيام الضعف وغيرها ، خلال ثلاث وعشرين سنة.

ولو لم يكن من كلام الله تعالى ، وكان من صنع البشر ، لوجد فيه تناقضا وتضادا كثيرا ، فلا بدّ أن يأتي آخره أجود وأحسن من أوله ، وأكثر تطورا ، وهذا مما يؤيده التكامل التدريجي للبشر ، في حين نرى أن الآيات المكيّة والمدنية على نمط واحد ، لم يختلف آخرها عن أوّلها ، كتاب متشابه الأجزاء ، يحيّر العقول في قدرة بيانه ووحدة تنسيقه (١).

__________________

(١) في قوله تعالى شأنه : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) سورة النساء الآية ٨٢.

١٤٨

معرفة المعاد

الإنسان روح وجسم

إن كلمة الروح والجسم والنفس قد كثر استعمالها في القرآن والسنة ، علما بأن تصوّر الجسم والبدن الذي يتم عن طريق الحس قد يكون أمرا بسيطا ، إلّا أن تصور الروح والنفس لا يخلو من إبهام وغموض.

إن الباحثين والمتكلمين والفلاسفة سواء من الشيعة أو من السنة ، لهم نظريات متفاوتة في حقيقة الروح ، ولكن الروح والبدن من وجهة نظر الإسلام هما حقيقتان متضادتان ، فالبدن يفقد خواصه الحياتية بالموت ، ويضمحل بصورة تدريجية ، ولكن الروح ليست هكذا ، فإن الحياة أصالة للروح ، وما دامت الروح في الجسم ، فإن الجسم يستمد حياته منها ، وعند ما تفارق الروح البدن ، وتقطع علاقتها به ، لا يقوى البدن على القيام بأي عمل ، إلا أن الروح تستمر في حياتها.

ومما يستنبط من تدبر الآيات القرآنية ، وكلام أهل بيت العصمة عليه‌السلام أن الروح الإنسانية غير مادية ، ولكنها تؤلف نوعا من العلاقة والوحدة مع الجسم ، إذ يقول الله تعالى في كتابه المبين :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً

١٤٩

فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١).

ويتّضح من سياق الآيات ، أن أوائلها تصف الخلقة المادية بشكلها التدريجي ، وأواخرها تشير إلى خلقة الروح أو الشعور والإرادة ؛ وتصفها بأنها خلقة أخرى ، تختلف عن خلقتها الأولى.

وفي آية أخرى في الردّ على من يستبعد «المعاد» أو ينكره يشرح القرآن الكريم كيف أن الإنسان تستعاد خلقته بعد موته وتفتت أجزائه ، وتمازجها مع أجزاء التربة ، ويرجع كما كان إنسانا كاملا ، يقول الله سبحانه وتعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٢). أي أن الأرواح تقبض على يد ملك الموت من أبدانكم ، وتحفظ عندنا.

ويعرّف القرآن الكريم الروح بصورتها المطلقة غير المادية ، بقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٣). وفي آية أخرى من الذكر الحكيم ، يتطرق إلى موضوع الأمر بقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤). وبمقتضى هذه الآيات أن أمر الله تعالى في خلقته للأشياء لم يكن تدريجا ، ولم يكن محددا بزمان أو مكان ، ولما كانت الروح أمرا من الله إذن فهي ليست بمادة ، ولم يكن في كنهها خاصة المادة التي تتصف بالتدرّج والزمان والمكان.

__________________

(١) سورة المؤمنون الآية ١٢ ـ ١٤.

(٢) سورة السجدة الآية ١١.

(٣) سورة الإسراء الآية ٨٥.

(٤) سورة يس الآية ٨٢.

١٥٠

مبحث في حقيقة الروح من منظار آخر

إن الاستدلالات العقليّة تؤيد القرآن الكريم أيضا في موضوع الروح. كلّ واحد منا يدرك حقيقة من وجوده ، والتي نعبّر عنها بال «أنا» وهذا الإدراك موجود في الإنسان بصورة مستمرة ، وأحيانا ينسى بعض أعضاء جسمه من رأس أو يد أو سائر الأعضاء ، وحتى جسمه كليا ، ولكن يدرك ال «أنا» عند ما يكون هو موجودا. وهذا «المشهود» كما هو مشهود ، غير قابل للانقسام والتجزئة ، مع أن جسم الإنسان في تغيّر وتحوّل دائم ، ويتخذ أمكنة مختلفة ، وتمرّ عليه أزمنة مختلفة إلّا أنّ الحقيقة المذكورة وهي ال (أنا) ثابتة في حقيقتها لا تقبل التغيير أو التبديل ، وواضح بأنها لو كانت مادة ، لتقبلت المادة ، بما فيها الانقسام وتغيّر الزمان والمكان.

نعم إن الجسم يتقبل كل هذه الخواص ، وبما أن هذه الخواص لها ارتباط روحي ، فتنسب إلى الروح. ولكن مع تأمل وتدبر يتجلى للإنسان ، إن هذا المكان وذلك المكان ، وهذا الشكل وذلك الشكل ، وكلها من خواص البدن ، والروح منزهة عنها ، وكل من هذه الصفات إنما تنتقل إلى الروح عن طريق البدن.

يسري هذا البيان في خاصية الإدراك والشعور على (العلم) والذي هو من مميزات الروح. وبديهي أن العلم إذا كان يتصف بما تتصف به المادة ، لكان تباعا يتقبل الانقسام والتجزئة والزمان والمكان.

إن هذا البحث العقلي واسع مطوّل ، تتبعه أسئلة وأجوبة ، ولا يسعه كتابنا هذا ، وهذا المقدار من البحث إنما أدرج هنا على

١٥١

سبيل الإشارة ، ولغرض استقصائه واستقرائه يستلزم الرجوع إلى الكتب الفلسفية الإسلامية.

الموت من وجهة نظر الإسلام

إن النظرة العابرة تفترض أن موت الإنسان فناؤه وعدمه ، وتحديد حياة الإنسان بالأيام التي يعيشها فيما بين ولادته ووفاته ، في حين نرى أن الإسلام يعتبر الموت انتقالا من مرحلة حياتية إلى مرحلة حياتية أخرى ، فللإنسان حياة أبديّة لا نهاية لها ، وما الموت الذي يفصل بين الروح والجسم إلا ليورده المرحلة الأخرى من حياته ، وأن السعادة والشقاء فيها يعتمدان على الأعمال الحسنة أو السيئة في مرحلة حياته قبل الموت ، ويروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما مضمونه ، تظنون أنكم تفنون بالموت ، ولكنكم تنتقلون من بيت لآخر (١).

عالم البرزخ

ومما يستفاد من القرآن الكريم والسنة ، إن الإنسان يتمتع بحياة مؤقتة ومحدودة في الحدّ الفاصل بين الموت ويوم القيامة ، والتي تعتبر رابطة بين الحياة الدنيا والحياة الأخرى (٢).

والإنسان بعد موته ، يحاسب محاسبة خاصة من حيث الاعتقاد ، والأعمال الحسنة والسيئة التي كان عليها في الدنيا ،

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣ : ١٦١. الاعتقادات للصدوق.

(٢) البحار ج ٢ باب عالم البرزخ.

١٥٢

وبعد هذه المحاسبة المختصرة ، ووفقا للنتيجة التي يحصل عليها ، يحكم عليه بحياة سعيدة أو شقيّة ، ويكون عليها إلى يوم القيامة (١).

وحالة الإنسان في عالم البرزخ تشابه كثيرا حالة الشخص الذي يراد التحقيق معه لما قام به من أعمال ، فيجلب إلى دائرة قضائية كي تتم مراحل الاستجواب والاستنطاق منه ، لغرض تنظيم ملفّ له وبعدها يقضي فترة ينتظر خلالها وقت محاكمته.

روح الإنسان في عالم البرزخ ، تعيش بالشكل الذي كانت عليه في الدنيا ، فإذا كانت صالحة ، تتمتع بالسعادة والنعمة وجوار الصلحاء والمقرّبين لله تعالى ، وإذا كانت شقية ، فإنها تقضي هذه الفترة في النقمة والعذاب ، ومصاحبة الأشرار ، وأهل الضلال.

فالله جلّ شأنه يصف حالة بعض السعداء بقوله :

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢).

وفي وصف حالة مجموعة أخرى ، من الذين كانوا ينفقون أموالهم وثرواتهم في مشاريع غير مشروعة في الحياة الدنيا ، يصفهم بقوله تعالى :

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ)

__________________

(١) البحار ج ٢ باب عالم البرزخ.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٦٩ ـ ١٧١.

١٥٣

(صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١).

يوم القيامة. المعاد

ينفرد القرآن الكريم بين الكتب السماوية ، بالتحدث عن المعاد والحشر تفصيلا ، في حين أن «التوراة» لم يشر إلى هذا اليوم وهذا الموقف ، وكتاب «الإنجيل» يشير إليه إشارة مختصرة ، فإن القرآن يذكره ويذكّر به في مئات الموارد ، وبأسماء شتّى ، ويشرح العاقبة التي تنتظر العالم والبشرية ، تارة باختصار وأخرى بإسهاب.

ويذكّر مرارا أنّ الاعتقاد بيوم الجزاء (يوم القيامة) يعادل الاعتقاد بالله تعالى ، ويعتبر أحد الأصول الثلاثة للإسلام ومنكره (منكر المعاد) ، خارج عن شريعة الإسلام وما عاقبته إلّا الهلاك والخسران.

وحقيقة الأمر هكذا ، بأنه إذا لم تكن هناك محاسبة وجزاء وعقاب ، فإن الدعوة الدينية بما تحتوي من أوامر الله ونواهيه ، لم يكن لها أدنى فائدة أو أثر ، وأن وجود النبوة والإبلاغ وعدمه سواء ، بل يرجّح عدمه على وجوده ، لأن تقبل الدين واتباع موازين الشرع ، لا يخلو من تكلّف وسلب للحريّة ، وإذا لم يكن اتباع الدين له أثر أو نتيجة ، لن يتحمّل الناس هذا العبء وهذه المسئولية ، ولن يتخلوا عن الحرية الطبيعيّة.

__________________

(١) سورة المؤمنون الآية ٩٩ ـ ١٠٠.

١٥٤

ومن هنا يتّضح أن أهميّة ذكر يوم الحشر وتذكّره يعادل أهمية أصل الدعوة الدينية.

ويتضح أيضا أن الاعتقاد بيوم الجزاء من أهم العوامل التي تجبر الإنسان على أن ينتهج الورع والتقوى ، وأن يتجنب الأخلاق الرذيلة ، والمعاصي والذنوب ، كما أن نسيانه ، أو عدم الاعتقاد به ، سوف يكون أساسا وأصلا لكل معصية أو ذنب ، ويقول جلّ من قائل :

(إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (١).

ومما يلاحظ في الآية ، أن منشأ كل ضلال هو نسيان يوم الحساب.

وبالتدبّر في خلقة الإنسان والعالم ، وكذا في الهدف من الشرائع السماوية ، يتّضح الغرض من اليوم الذي سيلاقيه الإنسان «يوم الجزاء».

ونحن عند ما نتدبر الأعمال والأفعال في الطبيعة ، نرى أن كل عمل (والذي يحتوي على نوع من الحركة بالضرورة) لا يتم إلّا لغاية وهدف ، وليس العمل نفسه بالأصالة هو المقصود ، بل أنه مقدمة لهدف وغاية فيكون مطلوبا لذلك الهدف أو لتلك الغاية ، حتى في الأعمال التي تعتبر سطحيّة مثل الأفعال الطبيعية والأعمال الصبيانية ونظائرها ، لو دققنا فيها لوجدنا فيها غايات

__________________

(١) سورة ص الآية ٢٦.

١٥٥

وأغراضا تناسب نوع الفعل ، كما في الأعمال الطبيعية التي تتصف بالحركة غالبا ، فإن الغاية التي تسعى إليها هذه الحركة تعتبر الغاية والهدف لها ، وأما في لعب الأطفال وما يتناسب مع نوع اللعبة ، فإن هناك غاية خيالية وهميّة ، والهدف من اللعبة هو الوصول إليها.

وفي الحقيقة أن خلقة الإنسان والعالم ، من أعمال الله تعالى وهو منزّه عن أن يقوم بأعمال عبث دون هدف أو غرض ، فهو الذي يخلق ، ويرزق ويميت ، وهكذا يخلق ويهلك فهل يتصور أن يكون خلقه هذا دون هدف معيّن ، وغرض محكم يتابعه.

إذن لا بد لخلق الكون والإنسان ، من هدف وغاية ثابتة ، والفائدة منه لا تعود إلى الله الغني المتعال ، فكل ما فيه يعود للمخلوق نفسه. إذن يجب الاعتراف بأن الكون بما فيه الإنسان يتجه ويسير نحو خلقة معيّنة خاصة ، ووجود أكمل ، لا يتصفان بالفناء والزوال.

وإذا أمعنا النظر في حالة الناس ووضعهم ، ومدى تأثرهم بالتربية الدينيّة ، فإننا نرى أن الناس نتيجة الارشادات الإلهيّة ، والتربية الدينيّة ، ينقسمون إلى قسمين ، وهم الأخيار والأشرار ، ومع هذا فإننا لا نجد أيّ امتياز أو فارق في هذه الحياة ، بل على العكس ، غالبا ما تكون الموفقية للأشرار والظالمين ، أما الأخيار فإنهم مبتلون بالفتن والمشاكل والحياة السيئة والحرمان وتحمّل الظلم.

والحال هذه تقتضي العدالة الإلهية أن تكون هناك نشأة

١٥٦

أخرى ، حتى يجد فيها كل من الفريقين المذكورين ، جزاء أعمالهم ، ويحيون حياة تناسب حالهم ، ويشير الله تعالى في كتابه العزيز إلى هاتين الحالتين بقوله :

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١).

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ* أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٢).

ويذكر سبحانه وتعالى في آية أخرى ، جمع فيها الدليلين بقوله جلّ شأنه :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ* وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٣).

بيان آخر

قد أشرنا في الفصل الثاني من الكتاب في مبحث الظاهر والباطن القرآني ، إنّ المعارف الإسلامية في القرآن الكريم ، مبيّنة بطرق مختلفة ، والطرق المذكورة بشكل تنقسم إلى قسمين ، الظاهر والباطن.

__________________

(١) سورة الدخان الآية ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) سورة ص الآية ٢٧ ـ ٢٨.

(٣) سورة الجاثية الآية ٢١ ـ ٢٢.

١٥٧

والمراد من طريق الظاهر ، هو البيان الذي يتناسب مع مستوى أفكار العامة ، على خلاف الطريق الباطن الذي يختصّ بالخاصة منهم ، ويدرك مع روح الحياة المعنويّة.

والبيان الذي يؤخذ عن طريق الظاهر مؤداه أن الله تعالى الحاكم المطلق لعالم الخلقة ، فكل ما في هذا الكون ملكه ، فهو الذي خلق الملائكة التي لا يعلم إحصاؤها كي تكون مطيعة ومنفّذة لأوامره ، يرسلهم إلى حيث شاء من الكون ، ولكل بقعة من عالم الطبيعة وما يلازمها من نظم ترتبط بمجموعة خاصة من الملائكة موكّلين عليها.

والنوع الإنساني من مخلوقاته وعباده الذين يجب عليهم اتباع أوامره ونواهيه ، والطاعة له ، وما الأنبياء إلّا حملة شرائعه وقوانينه ، يبعثهم إلى الناس ، لبيان وإجراء تلك الشرائع والقوانين.

فالله جلّ ثناؤه ، لما جعل الثواب والأجر لمن آمن وأطاع ، جعل العقاب والعذاب لمن كفر وعصى ، وهو القائل ، (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) ، ولما كان عادلا ، فعدالته تقتضي أن يفصل بين الفريقين في النشأة الأخرى ، وهما الأخيار والأشرار ، وأن يمتّع الأخيار بالنعيم ، وللأشرار الشقاء.

وقد وعد الله تعالى بمقتضى عدله ، أن يحشر الناس الذين مروا في الحياة الدنيا دون استثناء ، ويحاسبهم حسابا دقيقا في معتقداتهم وأعمالهم ، من صغيرة أو كبيرة ، ويقضي بينهم بالحق والعدل ، وفي النهاية ، سيوصل لكل ذي حق حقه ، ويأخذ لكل مظلوم نصيبه ممن ظلمه ، ويعطي أجر عمل كل عامل ، ويصدر الحكم لفريق في الجنة وفريق في السعير.

١٥٨

هذا هو البيان الظاهري للقرآن الكريم ، وقد جاء مطابقا لفكر الإنسان الاجتماعي ، لتكون فائدته أعمّ ، ونطاقه أشمل.

أما الذين تعمّقوا في الحقائق ، ولهم القدرة على فهم المعنى الباطني للقرآن الكريم ، فهم يدركون الآيات القرآنية على مستوى أرفع من العامة. والقرآن الكريم ، يلمح خلال تعابيره البسيطة أحيانا بالمعنى الباطني تلميحا.

فالقرآن الكريم بتعابيره المختلفة ، يذكر إجمالا أنّ الطبيعة بجميع أجزائها ، والإنسان أحدها ، في سيرها التكويني (نحو الكمال) تصير إلى الله تعالى ، وسيأتي اليوم الذي تنتهي حركتها وسيرها ، وتفقد إنيّتها واستقلالها كليا.

والإنسان هو جزء من أجزاء هذا الكون ، فإن طريق كماله الخاص يتم عن طريق الشعور والعلم ، مسرعا في طريقه إلى الله تعالى ، واليوم الذي يختتم به هذا المسير ، سيشاهد عيانا حقانية الله الأحد ، وسيرى أن القدرة والملك وكل صفة من صفات الكمال تنحصر في ذاته القدسية ، ومن هذا الطريق ، ستتجلّى له حقيقة الأشياء كلها.

وهذا هو أول منزل وموقف من العالم الأبدي ، فإذا كان الإنسان في هذه الدنيا ، بإيمانه وعمله الصالح ، أوجد ارتباطا واتصالا بالله تعالى واستأنس به ، وبالمقربين من عباده ، سيحظى بسعادة لا توصف ، وسيكون في جوار الله سبحانه ، ويكون قرين الصالحين في العالم العلوي ، وإذا ما كان ممن تربطهم علاقة وثيقة بهذه الدنيا الدنيئة ، ولذائذها الزائلة ، فقد قطع اتصاله بالعالم العلوي ،

١٥٩

ولم تقم بينه وبين خالقه رابطة أو اتصال ولا مع المقربين من عباده ، فإنه سيحاط بعذاب دائم ، وخزي أبدي.

صحيح أن الأعمال الحسنة والسيئة للإنسان في هذه الدنيا تزول وتذهب ، لكن صور الأعمال هذه تستقر في باطنه ، وأينما رحل فهي معه ، وتكون مصدر حياته الآتية سواء في السعادة أو الشقاء.

وكل ما ذكر يمكن استنتاجه من الآيات التالية :

يقول جلّ من قائل : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) (١).

ويقول : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٢).

ويقول : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٣) :

ويقول : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٤).

ويخاطب الله سبحانه يوم القيامة بعض أفراد البشر ، بقوله :

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥).

وفي تأويل القرآن الكريم ، والحقائق التي تنبع منه الآيات ، يقول جلّ اسمه :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ

__________________

(١) سورة العلق الآية ٨.

(٢) سورة الشورى الآية ٥٣.

(٣) سورة الانفطار الآية ١٩.

(٤) سورة الفجر الآية ٢٧ ـ ٣٠.

(٥) سورة ق الآية ٢٢.

١٦٠