الشيعة في الإسلام

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الشيعة في الإسلام

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: بيت الكاتب للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٠

وهو فضلا عن نبوغه في علم الكلام ، يعتبر من نوابغ عصره في علم الفلسفة والرياضيات أيضا ، وخير شاهد على ذلك ، هو الكثير من مؤلفاته المهمة في مختلف العلوم العقلية ، وقد قام بإنشاء مرصد فلكي أيضا.

٥ ـ صدر الدين محمد الشيرازي ، المولود سنة ٩٧٩ ، والمتوفي سنة ١٠٥٠ للهجرة.

هو أول فيلسوف قام بتصنيف وترتيب المسائل الفلسفية كالمسائل الرياضية (بعد سيرها قرونا متمادية في العصر الإسلامي) بعد أن كانت مبعثرة ، فحصلت النتائج التالية :

أولا : فسح المجال للفلسفة بأن تطرح ويحل فيها مئات من المسائل الفلسفية ، والتي لم يكن لها المجال لأن تطرح في السابق.

ثانيا : أتيح المجال لعرض مجموعة من المسائل العرفانية ، (والتي كانت حتى ذلك الوقت تعتبر مواضيع خارجة عن نطاق العقل ، وفوق مستوى الفكر الإنساني) وثم بحثها وتمحيصها بأيسر السبل.

ثالثا : اتضحت كثير من الظواهر الدينية ، والعبارات الفلسفية العميقة لأئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، والتي بقيت لقرون متتالية تتصف باللغز الذي لا يحلّ ، وكانت تعتبر من المتشابهات غالبا ، وبهذا اتصلت الظواهر الدينية بالعرفان والفلسفة في أكثر الموارد ، وسلكت سويا ، طريقا واحدا.

وهناك من قام بهذه المهمة قبل «صدر المتألهين» أيضا ، مثل الشيخ «السهروردي» مؤلف كتاب «حكمة الإشراق» وهو من

١٠١

فلاسفة القرن السادس ، و «شمس الدين محمد تركه» من فلاسفة القرن السادس الهجري ، حيث قاما بدراسات مثمرة ، إلا أنهما لم يوفقا توفيقا كاملا ، كالذي حظي به «صدر المتألهين».

وقد وفّق صدر المتألهين اثر اتخاذ هذه الطريقة إلى إثبات نظرية الحركة الجوهرية ، واكتشف البعد الرابع والنظرية النسبيّة (خارج عن نطاق الذهن والفكر) ، وصنّف ما يزيد عن خمسين كتابا ورسالة. ومن أهم كتبه في الفلسفة ، كتاب (الأسفار) في تسعة مجلدات.

الطريق الثالث :

الكشف

الإنسان وإدراكه للعرفان

في الوقت الذي تسعى الأكثرية من الناس في أمور معاشهم ، ورفع احتياجاتهم اليومية للحياة ، غير مبالين بالمعنويات ، فإن هناك غريزة في وجودهم ، تدعى غريزة حبّ الذات ، نراها تنمو عندهم ، تجبرهم على إدراك مجموعة من القضايا المعنوية.

كل إنسان (على الرغم من أن السوفسطائيين والشكاكين يسمّون كل حقيقة وواقعية خرافة) يؤمن بواقعيات ثابتة ، ونراه ، ينظر بفطرته وضميره المنزّه إلى هذه الواقعيات الثابتة في الكون ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، يشعر الإنسان بفناء أجزاء هذا العالم ، فيرى العالم وظواهره كالمرآة التي تعكس الواقعيات

١٠٢

الثابتة الخلابة ، وعند إحساس لذاتها ، تصبح اللذائذ الأخرى حقيرة في نظره ، وبالتالي تجعله ينصرف عن الحياة الفاتنة الفانية.

هذا هو مدى جاذبية العرفان ، التي تسلك بالمؤمن إلى العالم العلوي ، وتقرّ في قلبه عظمة الله وجلاله ، فينسى كل شيء ، ويغفل عن كل شيء ، فتحرضه هذه الجاذبية على أن ينبذ كل ما يتمناه ويرجوه في هذه الحياة ، وتدعوه إلى عبادة الله الذي لا يرى ، وهو أوضح من كل ما يرى ويسمع.

وفي الحقيقة أن هذه الجاذبية الباطنية ، هي التي قد أوجدت في الإنسان ، سبل عبادة الله تعالى. والعارف هو الذي يعبد الله سبحانه عن حبّ وإخلاص ، لا عن طلب للثواب ولا عن خوف ورهبة من العذاب. من هنا يتضح أن العرفان ليس مذهبا في قبال المذاهب الأخرى ، بل أن العرفان طريق من طرق العبادة (عبادة الحب والإخلاص ، لا للخوف والرجاء) وهو طريق لإدراك وفهم حقائق الدين ، في قبال طريق الظواهر الدينية وطريق التفكر العقلي.

ظهور العرفان في الإسلام

من بين صحابة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وقد جاء ذكر ما يقارب من اثني عشر ألفا منهم في كتب الرجال) ينفرد الإمام علي عليه‌السلام ببيانه البليغ عن حقائق العرفان ، ومراحل الحياة المعنوية ، إذ يحتوي على الذخائر الجمّة ، ما لم نجد مثليه في الآثار التي بين

١٠٣

أيدينا عند بقية الصحابة ، وأشهر أصحاب الإمام علي عليه‌السلام وتلاميذه «سلمان الفارسي» و «أويس القرني» و «كميل بن زياد» و «رشيد الهجري» و «ميثم التمّار» والعرفاء عامة في الإسلام يجعلون هؤلاء أئمة وهداة لهم.

وهناك طائفة أخرى تأتي في الدرجة الثانية ، وهم «طاوس اليماني» و «مالك بن دينار» و «إبراهيم الأدهم» و «شقيق البلخي» الذين ظهروا في القرن الثاني الهجري ، وكانوا يعرفون بالزهاد وأولياء الله الصالحين ، دون أن يتظاهروا بالعرفان والتّصوف ، وعلى أية حال ، فإنهم لم ينكروا ارتباطهم ومدى تأثرهم بالطائفة الأولى.

وهناك طائفة ثالثة ظهرت في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث للهجرة مثل «أبا يزيد البسطامي» و «المعروف الكرخي» و «جنيد البغدادي» وغيرهم ، من الذين سلكوا طريق العرفان ، وتظاهروا بالعرفان والتصوف ، ولهم أقوال تدل على مدى المكاشفة والمشاهدة لديهم ، ولما كانت هذه الأقوال تتصف بظاهرها اللاذع ، فإنها قد أثارت عليهم الفقهاء والمتكلمين في ذلك العصر ، وسببت المشاكل والفتن فأدّت إلى أن يزجّ بعضهم في السجون ، والبعض الآخر يقدّم إلى أعواد المشانق.

وأمام هذا الوضع فقد أبدوا التعصب لطريقتهم مقابل المخالفين ، وهكذا كانت طريقتهم تتسع وتنتشر يوما بعد يوم ، ونجدها قد وصلت إلى ذروتها في القدرة والانتشار ، في القرنين السابع والثامن الهجريين ، حيث كانت تتسم بالرفعة والعلوّ تارة ،

١٠٤

والسقوط والانحطاط تارة أخرى ، ولا تزال تمارس حياتها حتى اليوم (١).

والظاهر أن أكثر مشايخ العرفان الذين جاء ذكرهم في كتب العرفان ، كانوا على مذهب أهل التسنن ، والطريقة التي نشاهدها اليوم (والتي تشتمل على مجموعة من عادات وتقاليد ، لم نجد في الكتاب والسنة أساسا لها) تذكّرنا بتلك الأيام ، وإن كان البعض من تلك العادات والتقاليد انتقلت إلى الشيعة.

وكما يقال ، إن هؤلاء كانوا يعتقدون أن الإسلام يعوزه منهج للسير والسلوك ، والمسلمون استطاعوا أن يصلوا إلى طريقة معرفة النفس ، وهي مقبولة لدى الباري عزوجل ، مثل ما في الرهبانية عند المسيحيين ، إذ لم يوجد أساس له في الدعوة المسيحية ، فأوجدها النصارى وحبّذها جمع فانتهجها (٢).

ويستنتج مما ذكر ، أن كلا من مشايخ الطريقة ، جعل ما رآه صلاحا من عادات وتقاليد ، في منهج سيره وسلوكه. وأمر متبعيه بذلك ، وبمرور الزمن أصبح منهاجا وسعيا مستقلا ، مثل مراسم الخضوع والخشوع ، وتلقين الذكر والخرقة والاستفادة من الموسيقى والغناء عند إقامة مراسم الذكر ، حتى آل الأمر في بعض الفرق منها أن تجعل الشريعة في جانب ، والطريقة في جانب آخر ، والتحق متبعو هذه الطريقة بنهج الباطنية. أما معايير النظرية الشيعية ،

__________________

(١) يراجع كتب التراجم وتذكرة الأولياء والطرائق وغيرها.

(٢) قوله تعالى في سورة الحديد الآية ٢٧ : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ ....)

١٠٥

فاستنادا إلى المصادر الأساسية للإسلام (الكتاب والسنة) تقرّ خلاف ذلك ، ومن المستحيل أن النصوص الدينية قد تغافلت عن هذه الحقيقة أو أنها أهملت جانبا من جوانب هذا النهج والطريق (معرفة النفس والسير والسلوك) ، ويستحيل عليها أيضا أن تغض النظر عن شخص (أيّ كان) في الواجبات أو المحرمات.

إرشاد الكتاب والسنة إلى معرفة النفس ، ومناهجها

إن الله تعالى جلّ شأنه ، يأمر الناس في آيات متعددة في كتابه المجيد ، أن يتدبّروا القرآن ، ويعملوا به ، ولا يقنعوا لأنفسهم بالفهم والإدراك السطحي للقرآن ، وبيّن في كثير من آياته أن في عالم الطبيعة آيات ودلالات له جلّ جلاله.

فلو تأملنا وتدبرنا معنى الآية والدلالة ، يتضح أن الآية والدلالة هي التي تشير إلى شيء آخر لا إلى نفسها ، فعلى سبيل المثال ، إن الذي يرى الضوء الأحمر ، المشعر بالخطر.

فإنه مع مشاهدته للضوء ، يتبادر إلى ذهنه الخطر ذاته ، ولا يلتفت إلى الضوء نفسه ، وإذا ما فكر في الضوء نفسه ، أو ماهية الزجاج أو لونه ، فذهنه يصوّر له الضوء أو الزجاج أو اللون ، ولا يصور له مفهوم الخطر.

فإذا ، كان العالم وظواهره ، آيات ودلالات لخالق العالم ، فإن وجودهما ليس مستقلا ، ولو شوهدت بأيّ شكل أو أيّة صورة ، فإنما ترشد إلى وجوده سبحانه.

والذي ينظر إلى العالم بهذا المنظار ، ووفقا لتعاليم القرآن

١٠٦

الكريم وهدايته ، لا يرى إلّا الله سبحانه ، وبدلا من أن يرى جمال العالم ، فإنه يرى جمالا أزليا غير متناه ، وهذا العالم تجلّ لهذا الجمال الأزلي عندئذ يهب حياته ، وينسى ذاته ، ويفنى في حبّ الله جلّ شأنه.

وهذا الإدراك ـ كما يتّضح ـ لا يحصل عن طريق الحواس ، كالعين والأذن ، ولا عن طريق الخيال والعقل ، لأن هذه لم تكن سوى آيات ودلالات ، فهي في غفلة عن هذه الدلالة والهداية.

وهذا الطريق ، الذي لا بدّ لسالكه أن ينسى كل شيء سوى الله تعالى ، عند ما يستمع إلى قوله في كتابه المجيد : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١).

سيعلم أن الطريق الرئيسي الذي ينتهي به إلى الهداية الواقعية والكاملة ، هو طريق النفس الإنسانية ، والمرشد الحقيقي له ، هو الله تعالى ، فقد كلّفه بمعرفة نفسه ، وأن يسير في هذا السبيل ، بتركه للسبل الأخرى ليرى الله من هذه الطريق ، فإنه سيدرك مطلوبه الحقيقي.

والنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه».

ويقول أيضا : «اعرفكم بنفسه ، أعرفكم بربه».

وأما طريقة السير والسلوك ، وهي طريقة الكثير من الآيات القرآنية التي تأمر بذكر الله تعالى ، كقوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (٢)

__________________

(١) سورة المائدة الآية ١٠٥.

(٢) سورة البقرة الآية ١٥٢.

١٠٧

وغيرها من الآيات في الكتاب ، والأقوال في السنة ، فقد جاءت مفصّلة ، ويختتمها بقوله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (١).

فهل يمكن أن يتصوّر ، أن الإسلام ، يعرّف لنا الطريق إلى الله تعالى ، ولا يحثّ الناس على تتبعه ، أو يعرّفه ويغفل عن تبيان نهجه ، في حين نجده يقول عزّ من قائل : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (٢).

__________________

(١) سورة الأحزاب الآية ٢١.

(٢) سورة النحل الآية ٨٩.

١٠٨

الفصل الثالث :

المعتقدات الإسلامية

من وجهة نظر

الشيعة الإمامية

١٠٩
١١٠

معرفة الله

ضرورة وجود الله تعالى

النظر إلى الكون عن طريق المخلوقات والواقعيات.

إن أول خطوة يخطوها الإدراك والشعور لدى الإنسان ـ واللذان وجدا منذ وجوده ـ تبين له حقيقة وجود الخالق والمخلوق ، باستثناء أولئك الذين يشكّون في وجودهم وفي كل شيء ، ويعتبرون العالم ظنا وخيالا ، إن الإنسان منذ وجوده يلازمه الإدراك والشعور ، يرى نفسه والعالم أجمع ، فلا يشك بوجوده ولا يشك بأشياء أخرى غيره وهذا الإدراك والشعور يمكن فيه ، وليس هناك مجال للشك والتردد.

هذه الواقعية والوجود الذي يثبته الإنسان أمام السوفسطائيين والمشككين ، أمر ثابت لا يعتريه البطلان ، وفي الحقيقة أن كلام السوفسطائيين والمشككين الذي ينفي الواقعية القائمة بحدّ ذاتها ، هو كلام باطل ، لا يحمل على الصحة اطلاقا ، بل إن العالم والكون ينطوي على واقعية ثابتة.

ولكن كل هذه الظواهر التي تنطوي على واقعية ، والتي نشاهدها عيانا ، تفقد واقعيتها وتصير إلى الفناء ، خلال أدوار حياتها.

ومن هنا يتّضح أن العالم المشهود وأجزاءه ، لم تكن عين الواقعية (والتي لا يمكن إنكارها) ، بل تعتمد وتستند إلى واقعية

١١١

ثابتة ، وبتلك الواقعية ، تتصف بالواقعية ، وتتصف بالوجود ، وما دامت مرتبطة ومتصلة بها ، فهي موجودة وباقية ، وما إن تنقطع عنها حتى تزول وتفنى (١) ، ونحن نسمّى هذه الواقعية الثابتة التي لا يعتريها البطلان ب (واجب الوجود) أو الله سبحانه.

. نظرة أخرى عن طريق ارتباط الإنسان بالعالم.

إن الأسلوب الذي اتبع في الفصل السابق ، لإثبات وجود الله تعالى أسلوب بسيط ، يستطيع الإنسان أن ينتهج هذا الأسلوب بفطرته التي أودعه الله إياها ، وليس هناك أيّ رادع أو مانع يمنعه من ذلك ، ولكن معظم الناس ، نتيجة ارتباطهم المستمر بالماديات ، وتفانيهم في اللذائذ المحسوسة ، يصعب عليهم الرجوع إلى الفطرة ، وهي الفطرة الإلهية البيّنة.

فعلى هذا يعلن الإسلام أن شريعته عامة ، والكل سواسية أمام الدين ومقاصده ، فهو يثبت وجود الله تعالى لهؤلاء الناس من طريق وأسلوب آخر ، وهو الفطرة الواضحة ، والتي غفل عنها البشر ، فيخاطب البشر بها ، ويعرّف الله جلّ شأنه عن طريقها.

فالقرآن الكريم ، يتخذ طرقا لإيصال البشر كافة إلى معرفة الله ، فهو يلفت الأنظار ، ويوجه الأفكار غالبا إلى خلقة العالم ، والنظام والتنسيق القائم فيه ، ويدعو إلى ملاحظة ودراسة الآفاق والأنفس ، ذلك لأن الإنسان في حياته المحدودة ، لا يتخلف ولا

__________________

(١) وفي كتابه العزيز إشارة إلى هذا البرهان بقوله تعالى (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) سورة إبراهيم الآية ١٠.

١١٢

يخرج عن الطبيعة والنظام الحاكم فيها مهما سلك من سبل ، ولن يغض النظر ـ بما أوتي من شعور وإدراك ـ عن المشاهد الخلابة ، سواء في الأرض أو في السماء.

إن عالم الوجود (١) بما يتصف من سعة فإن كل جزء منه ، بل وجميع أجزائه معرّضة للتغيير والتبديل المستمرين ، وتظهر في كل لحظة بشكل جديد غير سابقتها

ووفقا للقوانين التي لا تقبل الاستثناء ، فإن هذا العالم بأسره ، ينطوي على نظام واضح بيّن ، يجري وفقا لقوانين مدهشة ومحيّرة للعقول ، تسيّر عمله من أدنى حالة إلى أكملها ، كي توصله إلى الهدف الاسمي وهو الكمال.

وفوق الأنظمة الخاصة ، توجد أنظمة أعمّ ، وهي النظام العام للكون ، الذي يربط أجزاءه العديدة التي لا تحصى بعضها ببعض ، ويوفق بين الأنظمة الجزئية ، ويربط بعضها بالبعض الآخر ، فهي في سيرها المستمر لن تتصف بالاستثناء أو الاختلال.

فنظام الخلقة مثلا عند ما أوجد الإنسان على سطح الأرض ، فقد جعل خلقته تتناسب مع المحيط الذي يعيش فيه ، وجعل المحيط بشكل يتناسب وذلك المخلوق ، كالمربّية العطوف التي تربي النشأ بكل عطف وحنان ، فالعالم بما فيه من شمس وقمر ونجوم وماء وتراب وليل ونهار ، والفصول السنويّة ، والسحب والرياح

__________________

(١) يقول جلّ ثناؤه (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ* وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ* وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) سورة الجاثية الآية (٣ ـ ٦).

١١٣

والأمطار ، والكنوز التي تحت الأرض وفوقها ، وبالتالي كل ما تملك من قوة ، سخّرت لراحة الإنسان وسعادته ، وإننا نلاحظ هذا الارتباط والتعاون في كل مظهر من مظاهر الطبيعة ، وفي كل ما يجاورنا من قريب أو بعيد ، وحتى في البيت الذي نعيش فيه.

ومثل هذا الاتصال والارتباط قائم في جميع أجزاء الأجهزة الداخلية لكل مظهر من مظاهر هذا العالم ، فالطبيعة لمّا منحت الإنسان الخبز مثلا ، منحته الرجلين للسعي إليه ، واليدين لتناوله ، والفم لأكله ، والأسنان لمضغه ، وربطته بسلسلة من الوسائل المرتبطة بعضها بالبعض الآخر كالسلاسل ، والتي ترتبط بالهدف الغائي وهو البقاء والكمال لهذا المخلوق.

ولم يشك أحد من علماء العالم أن الارتباطات اللامتناهية ، والتي توصلوا إليها اثر الدراسات العلمية لآلاف السنين ، ما هي إلا طليعة وبداية مختصرة لأسرار الخلقة ، وكل كشف جديد ، بمثابة إنذار للبشرية عن مجهولات لا حصر لها.

وهل يمكن القول بأن هذا الكون الرحب ، مع استقلال أجزائه ، يمتاز بوحدة واتصال ومع ما فيه من اتقان مدهش ، لا يدلّ على علم وقدرة غير متناهية. وهل يمكن القول بأنه وجد دون خالق ، ولم يكن هناك سبب أو هدف من إيجاده؟

وهل يمكن التصديق بأن كل هذه الأنظمة سواء الجزئية منها أو الكلية ، وكذا النظام العام القائم في الكون ، مع ما يتصف به من ارتباط محكم غير متناه.

والذي يسير وفق نظام دقيق خاص ، لا يقبل التغيير

١١٤

والاستثناء ، كل هذا قد جاء دون حساب ، وإنما مجرد المصادفة هي التي لعبت دورها في خلقه وإيجاده؟ أم أنّ كلا من هذه الظواهر سواء الصغيرة منها أو الكبيرة في العالم ، قد اتخذت لها نهجا قبل حدوثها وخلقتها ، وبعد أن وجدت سلكت ذلك السبيل والنهج؟

أم أن هذا الكون مع وحدته الكاملة الشاملة ، والاتصال والارتباط القائم فيما بينها ، فهو لا يعدو مجموعة واحدة متكاملة ، قد أنشئت وخلقت نتيجة لعوامل متعددة مختلفة ، ويسير وفقا لقوانين متباينة؟

من الطبيعي أن الشخص الذي يرجع كل ظاهرة لمسبب وكل معلول لعلة ، فإنه عند مشاهدة عدة أحجار بصورة منتظمة ومنسقة ، ينسبها مباشرة إلى علم وقدرة قامت بصنعها ، وبذلك ينفي المصادفة مطلقا ، ويحكم بوجود تخطيط هادف ، ولا يدّعي أن المصادفة هي التي أوجدت هذا النظام والتنسيق.

لذا فإن الكون ، بما فيه من أنظمة مهيمنة ، مخلوقة لخالق عظيم ، هو الذي أوجدها بعلمه وقدرته غير المتناهية ، ويسيّرها إلى الغاية. وما العوامل البسيطة التي تنشئ الحوادث البسيطة ، في العالم إلّا منتهية إليه ، فهي تحت قدرته وهيمنته وتسخيره ، وكل ما في الكون محتاج إليه ، وهو غير محتاج لأحد أو لشيء ، ولم يكن معلولا لعلة ، ولا سببا لمسبب.

١١٥

وحدانية الله تعالى

كل واقعية من واقعيات العالم ، تعتبر واقعية محدودة ، أي أنها تتمتع بالوجود على «فرض وجود السبب والشرط» ، وتعتبر أيضا وفقا لغرض عدم السبب والشرط» عدما ، ولحقيقة وجودها حدّ محدود ، إذ لا توجد خارج ذلك الحدّ ، فالله جلّ شأنه هو المنزّه عن الحدّ والمحدودية لأن واقعيته مطلقة ، فهو موجود بأيّ تقدير ، ولم يكن محتاجا لأيّ سبب وشرط ولا مرتبطا بأيّة علة.

ولا يسعنا أن نفترض عددا لأمر غير محدود وغير متناه ، فإذا ما افترض ثان ، فإنه غير الأول ، وفي النتيجة ، الاثنان محدودان متناهيان.

وسيضع كل منهما حدا فاصلا للآخر ، فلو افترضنا على سبيل المثال حجما غير محدود وغير متناه ، لا يسعنا افتراض حجم آخر إزاءه ، ولو قدّر أن افترضنا هذا فإن الثاني هو الأول ، فعلى هذا ، فإن الله تعالى أحد لا شريك له (١) ...

__________________

(١) يروى أن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين أتقول إن الله واحد ، فحمل الناس عليه وقالوا : أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ، ثم قال : يا أعرابي إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام ، فوجهان منها لا يجوزان على الله عزوجل ، ووجهان يثبتان فيه ، فأما اللذان لا يجوزان عليه ، فقول القائل واحد يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز ، لأن ما لا ثاني له يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنه كفر من قال إنه ثالث ثلاثة ، وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع والجنس فهذا ما لا يجوز ، ـ

١١٦

الذات والصفات

لو نظرنا إلى الإنسان مثلا من زاوية العقل ، سنرى له ذاتا ، وهذه الذّات هي عين إنسانيته الخاصة به ، ويمتاز بصفات أيضا ، وهذه الصفات التي تعرّف كنه ذاته ، فمثلا أنه ابن لفلان ، عالم قادر ، طويل ، جميل ، أو صفات أخرى مغايرة.

فبعض هذه الصفات ، كالأولى ، لا تنفصل عن الذّات ، وبعضها الآخر ، كالعلم مثلا ، يمكن أن تنفصل عن الذّات أو تتغير ، وعلى أية حال ، فإن كلا من هذه الصفات ، ليست بالذّات ، كما أن كلّ واحدة منها غير الأخرى.

وهذا الموضوع (الذّات مغايرة للصّفات ، والصّفات تختلف فيما بينها) خير دليل على أن الذّات التي تتصف بصفة ، والصفة التي تعيّن وتعرّف الذّات ، كلاهما محدودتان ومتناهيتان ، لأن الذّات إذا كانت غير محدودة وغير متناهية ، لكانت تشمل الصفات وكذا الصفات كانت كل واحدة منها تشتمل على الأخرى ، فتصبح في النتيجة كلها شيئا واحدا ، فمثلا لو كانت الذّات الإنسانية هذه

__________________

ـ لأنه تشبيه وجلّ ربنا تعالى عن ذلك. وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربنا ، وقول القائل إنه عزوجل أحديّ المعنى يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا عزوجل. بحار الأنوار ج ٢ : ٦٥.

ويقول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : معرفته (الله) عين ذاته ، أي أن إثبات وجود الله تعالى ، وهو وجود غير متناه وغير محدود ، كاف في إثبات وحدانية ، لأن الثاني لا يتصور لغير المتناهي.

١١٧

تنحصر في القدرة ، وكانت القدرة والعلم وكذا طول القامة ، والجمال كل واحدة منها عين الأخرى ، لكانت كل هذه المفاهيم لا تعدو المفهوم الواحد.

فيتّضح مما سبق بأنه لا يمكن إثبات صفة (بالمعنى السابق) لذات الله عزوجل ، لأن الصفة لا تتحقق من غير تحديد لها ، وذاته المقدسة منزّهة من أيّ تحديد (حتى من هذا التنزيه الذي يعتبر في الحقيقة اثبات صفة له).

معاني صفات الله تعالى

نعلم أنّ في العالم الكثير من الكمالات التي تظهر بشكل صفات ، فهذه الصفات المثبتة متى ما ظهرت في شيء ، تسعى في تكامل المتّصف ، وتمنحه قيمة أكثر ، كما يتّضح ذلك من مقارنة جسم حيّ كالإنسان مع جسم غير حيّ كالحجر.

مما لا شك فيه أن هذه الكمالات قد منحها الله تعالى ، ولو كان مفتقدا لها لما منحها لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، ولما جعلها تتدرج في طريق الكمال ، فعلى هذا يجب أن يقال ، ووفقا لحكم العقل السليم ، أن الخالق ، يتّصف بالعلم والقدرة وكل كمال حقيقي.

وفضلا عن هذا ، فإن آثار العلم والقدرة وبالتالي آثار الحياة واضحة في نظام الخلقة.

وبما أن ذات الله غير محدودة وغير متناهية ، فالكمالات هذه أن اعتبرت صفات له ، فإنها في الحقيقة عين ذاته ، وكذا كل

١١٨

واحدة منها هي عين الأخرى (١) ، وأما الاختلاف الذي يشاهد بين الذّات والصّفات ، وبين الصّفات نفسها فتنحصر في المفهوم ، وفي الحقيقة ليس هناك سوى مبدأ واحد غير قابل للانقسام.

فالإسلام يلزم متبعيه كي لا يقعوا في مثل هذا الاشتباه (المحدودية بالتوصيف ، أو نفي أصل الكمال) ويضعهم بين النفي والإثبات (٢) ويأمرهم بهذا الاعتقاد ، فالله عالم لا كعلم غيره ، وله القدرة ، وليست كقدرة الآخرين ، فهو يسمع لا بإذن ، ويرى لا بعين ، وهكذا ...

مزيد من التوضيح في معاني الصفات

الصفات نوعان : صفات كمال وصفات نقص. فالصفات الكمالية ـ كما أشرنا إليها ـ معان إثباتية ، تمنح المتصف بها قيمة وجودية أكثر ، وآثارا وجوديّة أوسع ، ويتّضح ذلك من مقارنة موجود حيّ عالم قادر ، مع موجود آخر غير حيّ ، غير عالم وغير قادر ، وأما صفات النّقص ، فهي صفات تغايرها.

__________________

(١) عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : لم يزل الله جلّ وعزّ ربنا والعلم ذاته ولا معلوم والسمع ذاته ولا مسموع والبصر ذاته ولا مبصر والقدرة ذاته ولا مقدور. البحار ج ٢ : ١٥٢.

(٢) عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام : إن الله نور لا ظلمة فيه وعلم لا جهل فيه ، وحياة لا موت فيه. البحار ج ٢ : ١٢٩.

وقد سئل الإمام الرضا عليه‌السلام عن التوحيد فقال : ... إن للناس في التوحيد ثلاثة مراتب ، إثبات بتشبيه ومذهب النفي ومذهب إثبات بلا تشبيه ، فمذهب الإثبات بتشبيه لا يجوز ، ومذهب النفي. لا يجوز ، والطريق في المذهب الثالث إثبات بلا تشبيه. البحار ج ٢ : ٩٤.

١١٩

عند ما نمعن النظر في صفات النقص ، نجدها بحسب المعنى منفية. تفتقر إلى الكمال ، وإلى نوع من قيم الوجود ، مثل : الجهل والعجز والقبح والسّقم وأمثالها.

وحسب ما تقدم أن نفي صفات النقص تعني صفات الكمال ، كما أن نفي الجهل يعني العلم ، ونفي العجز يعني القدرة ، ومن هنا نجد القرآن الكريم يثبت كل صفة كمالية لله تعالى بشكل مباشر ، وينفي كل صفة نقص عنه ،

كما في قوله تعالى : (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ؛) و (هُوَ الْحَيُّ ؛ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ؛ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ).

ومما تجدر ملاحظته أن الله تعالى واقعيّة مطلقة ، فليس له حدّ ونهاية ، فعلى هذا (١) فإن أيّة صفة كمالية تطلق عليه ، لا تعني المحدودية ، فإنه ليس بمادة وجسم ولا يحدّد بزمان أو مكان ، ومنزه من كل صفة حالية حادثة ، وكل صفة تثبت له حقيقة فهي بعيدة عن المحدودية وهو القائل : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٢).

صفات الفعل

فالصّفات (فضلا عما سبق) تنقسم انقساما آخر ، وهي صفات الذّات وصفات الفعل.

__________________

(١) يقول الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : لا يوصل الله تعالى بزمان أو مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون ، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون والانتقال. البحار ج ٢ : ٩٦.

(٢) سورة الشورى الآية ١١.

١٢٠