شرح المقاصد - ج ٥

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٥

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

قلنا : ليس السحر يوجد في كل عصر وزمان ، وبكل قطر ومكان ، ولا ينفذ حكمه كل أوان ، ولا له يد في كل شأن ، والنبي معصوم من أن يهلكه الناس ، أو يوقع خللا في نبوته ، لا أن يوصل ضررا وألما إلى بدنه. ومراد الكفار بكونه مسحورا أنه مجنون أزيل عقله بالسحر ، حيث ترك دينهم.

فان قيل : قوله تعالى في قصة موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) (١)

يدل على أنه لا حقيقة للسحر ، وإنما هو تخييل وتمويه.

قلنا : يجوز أن يكون سحرهم هو إيقاع ذلك التخييل ، وقد تحقق. ولو سلم فكون أثره في تلك الصورة هو التخييل لا يدل على أنه لا حقيقة له اصلا. وأما الإصابة بالعين وهو أن يكون لبعض النفوس خاصية أنها إذا استحسنت شيئا لحقته الآفة ، فثبوتها يكاد يجري مجرى المشاهدات التي لا تفتقر إلى حجة. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : العين حق. وقال : العين يدخل الرجل القبر ، والجمل القدر. وذهب كثير من المفسرين إلى أن قوله تعالى :

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ ..) (٢) الآية.

نزل في ذلك ، وقالوا : كان العين في بني أسد ، وكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام ، فلا يمر به شيء يقول فيه : لم أر كاليوم ، إلّا عانه ، فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصفة ان يقول في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك فعصمه الله ، واعترض الجبائي بأن القوم ما كانوا ينظرون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر استحسان بل مقت وبغض.

والجواب : أنهم كانوا يستحسنون منه الفصاحة وكثيرا من الصفات. وإن كانوا يبغضونه من جهة الدين ، ثم للقائلين بالسحر والعين اختلاف في جواز الاستعانة بالرقى والعوذ ، وفي جواز تعليق التمائم ، وفي جواز النفث والمسح ، ولكل من

__________________

(١) سورة طه آية رقم ٦٦.

(٢) سورة القلم آية رقم ٥١.

٨١

الطرفين أخبار وآثار. والجواز هو الأرجح. والمسألة بالفقهيات أشبه والله أعلم.

قال : الفصل الثاني ـ في المعاد وفيه مباحث.

وهو مصدر أو مكان ، وحقيقة العود توجه الشيء إلى ما كان عليه ، والمراد هاهنا الرجوع إلى الوجود بعد الفناء ، أو رجوع أجزاء البدن إلى الاجتماع بعد التفرق ، وإلى الحياة بعد الموت ، والأرواح إلى الأبدان بعد المفارقة ، وأما المعاد الروحاني المحض على ما يراه الفلاسفة ، فمعناه رجوع الأرواح إلى ما كانت عليه من التجرد عن علاقة البدن ، واستعمال الآلات ، أو التبرؤ عما ابتليت به من الظلمات.

قال : المبحث الأول ـ

يجوز إعادة المعدوم خلافا للفلاسفة مطلقا ، ولبعض المعتزلة في الأعراض ، ولبعضهم في غير الباقية منها كالأصوات لنا إقناعا أن الأصل هو الإمكان حتى يقوم دليل الوجوب أو الامتناع ، والزاما أن المعاد مثل المبدأ ، بل عينه ، فيمتنع كونه ممكنا في وقت ، ممتنعا في وقت ، بل ربما يدعي أن الوجود الأول إفادة زيادة استعداد لقبول الوجود على ما يشير إليه قوله تعالى (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (١) وفيه نظر لا يقال : لعله امتنع لأمر لازم لأنا نقول فيمتنع أو لا.

كثير من مباحث المتكلمين يرى في الظاهر أجنبية عن العلم بالعقائد الدينية ، ويعلم عند تحقيق المقاصد الأصلية أنها نافعة في إيراد الحجج عليها ، أو دفع الشبه عنها. وذلك كإعادة المعدوم ، وثبوت الجزء والخلاء ، وصحة الفناء على العالم ، وجواز الخرق على الأفلاك ، وعدم اشتراط الحياة بالبنية ، وعدم لزوم تناهي القوى الجسمانية ، ونحو ذلك في إثبات الحشر وعذاب القبر ، والخلود في الجنة أو النار ... وغير ذلك على اختلاف الآراء. وإنما أخر بحث إعادة المعدوم خاصة إلى هاهنا ، لما لها من زيادة الاختصاص بأمر المعاد ، حيث لا يفتقر إليها إلا في

__________________

(١) سورة الروم آية رقم ٢٧ وتكملة الآية (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

٨٢

إثبات المعاد بطريق الوجود بعد الفناء ، اتفق جمهور المتكلمين على جوازها ، والحكماء على امتناعها. وأما المعتزلة فذهب غير البصري إلى جواز إعادة الجواهر ، لكن بناء على بقاء ذواتها في العدم ، حتى لو بطلت لاستحالت إعادتها ، واختلفوا في الاعراض ، فقال بعضهم: يمتنع إعادتها مطلقا ، لأن المعاد إنما يعاد بمعنى ، فيلزم قيام المعنى بالمعنى. وإلى هذا ذهب بعض أصحابنا. وقال الأكثرون منهم بامتناع إعادة الأعراض التي لا تبقى كالأصوات والإرادات لاختصاصها عندهم بالأوقات ، وقسموا الباقية الى ما يكون مقدورا للعبد ، وحكموا بأنه لا يجوز إعادتها ، لا للعبد ولا للرب ، وإلى ما لا يكون مقدورا للعبد ، وجوزوا إعادتها لنا إقناعا أن الأصل فيما لا دليل على وجوبه وامتناعه هو الإمكان على ما قالت الحكماء أن كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الامكان ما لم يزدك عنه قائم البرهان. فمن ادعى عدم إعادة المعدوم فعليه الدليل ، وإلزاما أن المعاد مثل المبدأ ، بل عينه ، لأن الكلام في إعادة المعدوم بعينه ، ويستحيل كون الشيء ممكنا في وقت ، ممتنعا في وقت ، للقطع بأنه لا أثر للأوقات فيما هو بالذات. وعلى هذا لا يرد ما يقال أن العود ، وهو الوجود ثانيا أخص من مطلق الوجود ، ولا يلزم من إمكان الأعم إمكان الأخص. وقريب من هذا ما يقال أن المعدوم الممكن قابل للوجود ضرورة استحالة الانقلاب ، فالوجود الأول أن إفادة زيادة استعداد لقبول الوجود على ما هو شأن سائر القوابل ، بناء على اكتساب ملكة الاتصاف بالفعل ، فقد صار قابليته للوجود ثانيا أقرب ، وإعادته على الفاعل أهون ، ويشبه أن يكون هذا هو الحق. والمراد بقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (١) وإن لم يفده زيادة الاستعداد فمعلوم بالضرورة أنه لا ينقص عما هو عليه بالذات من قابلية الوجود في جميع الأوقات. هذا ، ولكن الأقرب أن تحمل الإعادة التي جعلت أهون على إعادة الأجزاء وما تفتت من المواد إلى ما كانت عليه من الصور والتأليفات على ما يشير إليه قوله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢) لا على إعادة المعدوم ، لأنه لم يبق

__________________

(١) سورة الروم آية رقم ٢٧.

(٢) سورة يس آية رقم ٧٩.

٨٣

هناك القابل والمستعد ، فضلا عن الاستعداد القائم به.

فإن قيل : ما معنى كون الإعادة أهون على الله تعالى وقدرته قديمة لا تتفاوت المقدورات بالنسبة إليها؟

قلنا : كون الفعل أهون تارة يكون من جهة الفاعل بزيادة شرائط الفاعلية ، وتارة من جهة القابل بزيادة استعدادات القبول ، وهذا هو المراد هاهنا ، وأما من جهة قدرة الفاعل فالكل على السواء. لا يقال : غاية ما ذكرتم أن المعدوم ممكن الوجود في الزمان الثاني كما في الزمان الأول نظرا إلى ذاته (١) وهو لا ينافي امتناع وجوده لأمر لازم له كامتناع الحكم عليه، والإشارة إليه على أن الكلام ليس في الوجود ، بل في الإعادة التي هي الإيجاد ثانيا لذلك الشيء بعينه ، وإمكان الوجود لا يستلزم إمكانها لأنا نقول : لو امتنع المعدوم لأمر لازم (٢) له لامتنع وجوده أولا ، كما لو امتنع لذاته. ثم إمكان الوجود مستلزم لإمكان الإيجاد ، سيما بالنظر إلى قدرة واحدة ، على أن المراد بالإعادة هاهنا كونه معادا ، وهو معنى الوجود ثانيا.

قال : والمنكرون منهم من ادعى الضرورة.

(مكابرة ومنهم من تمسك بوجوه :

أحدها ـ أنه لو أعيد لزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه وهو باطل بالضرورة (٣) ، ورد بالمنع بان حاصله تحمل العدم بين زماني وجوده بعينه ، وما ذاك إلا كتخلل الوجود بين العدمين الشيء بعينه.

الثاني ـ أنه لو جاز إعادته بجميع مشخصاته (٤) لجاز إعادة وقته الأول ، فيكون مبتدأ من حيث أنه معاد ، وفيه جمع بين المتقابلين ، ومنع بكونه معادا ، إذ هو الموجود في الوقت الثاني ، ورفع للامتياز إذا لم يكن معادا إلا من حيث كونه مبتدأ. ورد بأن الوقت ليس من جملة المشخصات. ولو سلم فالموجود في الوقت الأول

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (تعالى).

(٢) سقط من (ب) لفظ (لازم له).

(٣) سقط من (ب) لفظ (بالضرورة).

(٤) في (ب) أشخاصه بدلا من (مشخصاته). وهو تحريف.

٨٤

إنما يلزم كونه مبتدأ لو لم يكن الوقت معادا ، أو لم يكن هو مسبوقا بحدوث آخر. وهذا ما يقال : إن المبتدأ هو الواقع أولا ، لا الواقع في زمان أول ، والمعاد هو الواقع ثانيا ، لا الواقع في زمان ثان (١).

الثالث : أنه لو جاز لجاز أن يوجد ابتداء ما يماثله في الماهية وجميع المشخصات ، فيلزم عدم امتياز الاثنين ، ورد بأن عدم الامتياز في نفس الأمر غير لازم وعند العقل غير مستحيل.

الرابع : أن المعدوم لا إشارة إليه (٢) ، فلا حكم عليه. ورد بعد تسليم عدم ثبوت المعدوم أن التمييز والثبوت عند العقل كاف لصحة الحكم. كما يقال : المعدوم الممكن يجوز أن يوجد).

وقال : الحكم بأن الموجود ثانيا ليس بعينه هو الموجود أولا ضروري لا يتردد فيه العقل عند الخلوص عن شوائب (٣) التقليد والتعصب. واستحسنه الإمام في المباحث حيث قال : ونعم ما قال الشيخ من أن كل من رجع إلى فطرته السليمة ، ورفض عن نفسه (٤) الميل والعصبية ، شهد عقله الصريح بأن إعادة المعدوم ممتنع. والرد بالمنع كيف وقد قال بجوازه كثير من العقلاء ، وقام البرهان (٥) عليه. ومنهم من تمسك بوجوه :

الأول ـ أنه لو أعيد المعدوم بعينه ، لزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه ، واللازم باطل بالضرورة. ورد بمنع ذلك بحسب وقتين ، فإن معناه عند التحقيق تخلل العدم بين زماني وجود بعينه ، واتصاف ذلك الشيء ، بل وجوده السابق واللاحق نظرا إلى الوقتين لا ينافي اتحاده بالشخص ، ويكفي لصحة تخلل العدم ، كتخلل الوجود بين العدم السابق واللاحق. وجعل صاحب المواقف هذا الوجه بيانا لدعوى

__________________

(١) في (ب) تالي بدلا من (ثان).

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (البتة).

(٣) في (ب) عوائد بدلا من (شوائب).

(٤) ليس في (ب) لفظ (عن نفسه).

(٥) قال تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ).

٨٥

الضرورة ، وهو مخالف (١) لكلام القوم ، وللتحقيق فإن ضرورية مقدمة الدليل لا توجب ضرورية المدعي.

الثاني ـ لو جاز إعادة المعدوم بعينه ، أي بجميع مشخصاته ، لجاز إعادة وقته الأول، لأنه من جملتها ضرورة أن الموجود بقيد (٢) كونه في هذا الوقت غير الموجود بقيد (٣) كونه في وقت آخر ، ولأن الوقت أيضا معدوم يجوز إعادته لعدم التمايز ، أو بطريق الإلزام على من يقول بجواز إعادة الشكل ، لكن اللازم باطل لإفضائه إلى كون الشيء مبتدأ من حيث أنه معاد ، إذ لا معنى للمبتدإ إلا الموجود في وقته الأول. وفي هذا جمع بين المتقابلين ، حيث صدق على شيء واحد ، في زمان واحد ، من جهة واحدة أنه مبتدأ أو معاد ، لما أشرنا إليه من لزوم كونه مبتدأ من جهة كونه معادا ، ومنع لكونه معادا لأنه الموجود في الوقت الثاني ، وهذا قد وجد في الوقت الأول ، ورفع للتفرقة والامتياز بين المبتدأ والمعاد ، حيث لم يكن معادا إلا من حيث كونه مبتدأ. والامتياز بينهما بحسب العقل ضروري. وقد يجعل هذا الوجه ثلاثة أوجه بحسب ما يلزم من الفسادات.

والجواب ـ أنا لا نسلم كون الوقت من المشخصات. فإنا قاطعون بأن هذا الكتاب هو بعينه الذي كان بالأمس ، حتى إن من زعم (٤) خلاف ذلك نسب إلى السفسطة (٥). وتغاير الاعتبارات والإضافات لا ينافي الوحدة الشخصية بحسب الخارج. ولو سلم فلا نسلم أن ما يوجد في الوقت الأول يكون مبتدأ البتة ، وإنما يلزم لو لم يكن الوقت أيضا معادا أو لم يكن هو مسبوقا بحدوث آخر ، وهذا ما يقال أن المبتدأ هو الواقع أولا ، لا الواقع في الزمان الأول ، والمعاد هو الواقع ثانيا ، لا الواقع في الزمان الثاني. وبهذا يمكن ان يدفع ما يقال : لو أعيد الزمان بعينه لزم

__________________

(١) هو عضد الدين الإيجي ، وقد سبق الترجمة له في كلمة وافية في الجزء الأول.

(٢) في (ب) يفيد بدلا من (بقيد) وهو تحريف.

(٣) في (ب) يفيد بدلا من (بقيد) وهو كسابقه لا يعتدّ به لأنه تحريف.

(٤) في (ب) تصور بدلا من زعم.

(٥) السفسطائيون الذين عاشوا في دولة اليونان وكانت لهم أفكار عجيبة. سبق الحديث عنهم في كلمة وافية.

٨٦

التسلسل. لأنه لا مغايرة بين المبتدأ والمعاد بالماهية ، ولا بالوجود ، ولا بشيء من العوارض ، وإلا لم يكن إعادة له بعينه ، بل بالقبلية والبعدية ، بأن هذا في زمان سابق ، وذلك في زمان لاحق ، فيكون للزمان زمان يمكن إعادته بعد العدم ويتسلسل.

الثالث ـ لو جاز أن يعاد المعدوم بعينه ، لجاز أن يوجد ابتداء ما يماثله في الماهية ، وجميع العوارض المشخصة لأن حكم الأمثال واحد ، ولأن التقدير أن وجود فرد بهذه الصفات من جملة الممكنات (١). واللازم باطل لعدم التميز بينه وبين المعاد ، لأن التقدير اشتراكهما في الماهية وجميع العوارض. ورد بأن عدم التميز في نفس الأمر غير لازم كيف ولو لم يتميزا لم يكونا شيئين ، وعند العقل غير مسلم الاستحالة ، إذ ربما يلتبس ، وعلى العقل ما هو متميز (٢) في نفس الأمر. وقد يجاب بأنه لو صح هذا الدليل لجاز وقوع شخصين متماثلين ابتداء بعين ما ذكرتم ، ويلزم عدم التميز ، وحاصله أنه لا تعلق لهذا بإعادة المعدوم.

الرابع ـ أن المعدوم تمتنع الإشارة إليه إذ لم يبق له ثبوت اصلا ، فيمتنع الحكم عليه بصحة العود ، لأن الحكم بثبوت شيء لشيء يقتضي تميزه وثبوته في الجملة.

والجواب ـ عند المعتزلة القائلين بثبوت المعدوم وبقاء ذاته ظاهر. وعندنا أن التميز والثبوت عند العقل كاف في صحة الحكم ، والاحتياج إلى الثبوت العيني إنما هو عند ثبوت الصفة له في الخارج. وما يقال : إن القضية تكون حينئذ ذهنية ، لا حقيقية ، ولا خارجية ، فلا يفيد إلا صحة العود في الذهن ، ليس بشيء لأنا نأخذ للقضية مفهوما عاما (٣) هو أن ما يصدق عليه الوصف العنواني في الجملة يصدق عليه المحمول. فالمعنى هاهنا أن ما يصدق عليه أنه معدوم في الخارج يصدق عليه أنه يوجد في الخارج. ولو سلم فالذهنية معناها أن الموضوع المأخوذ في الذهن محكوم عليه بالمحمول. فالمعنى هاهنا أن المعنى الذهني المعدوم في الخارج

__________________

(١) في (ب) بزيادة (الواجبة).

(٢) في (ب) بزيادة (عن غيره).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (آخر).

٨٧

يصح أن يعاد ، ويوجد في الخارج. وبالجملة فهذا كما يقال : المعدوم الممكن (١) يجوز أن يوجد ، ومن سيولد يجوز ان يتعلم ، إلى غير ذلك من الحكم على ما ليس بموجود في الخارج حال (٢) الحكم. وقد يجاب عن جميع الوجوه بأنا نعني بالإعادة أن يوجد ذلك الشيء الذي هو بجميع أجزائه وعوارضه ، بحيث يقطع كل من يراه ، بأنه هو ذلك الشيء ، كما يقال : أعد كلامك ، أي تلك الحروف بتأليفها وهيئاتها ، ولا يضر كون هذا معادا وفي زمان ، وذاك مبتدأ وفي زمان آخر ولا المناقشة في أن هذا نفس الأول أو مثله. وهذا القدر كاف في إثبات الحشر (٣) ولا يبطل بشيء من الوجوه.

قال : المبحث الثاني ـ

(اختلف الناس في المعاد فنفاه الطبيعيون (٤) ذهابا إلى أن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس الذي يفنى بصورته وأعراضه ، فلا يعاد ، وتوقف جالينوس لتردده في أن النفس هو المزاج أم جوهر باق ، وأثبته الحكماء والمليون. إلا أنه عند الحكماء روحاني فقط ، وعند جمهور المسلمين جسماني فقط بناء على أن الروح جسم لطيف ، وعند المحققين منهم كالغزالي ، والحليمي ، والراغب ، والقاضي ، وأبي زيد روحاني وجسماني ذهابا إلى تجرد النفس ، وعليه أكثر الصوفية والشيعة والكرامية ، وليس بتناسخ ، لأنه عود في الدنيا إلى بدن ما ، وهذا عود في الآخرة إلى بدن من الأجزاء الأصلية للبدن الأول ، والقول بأنه ليس هو الأول بعينه لا يضر ، وربما يؤيد بقوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (٥) وقوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى) (٦)

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (الممكن).

(٢) في (ب) عند وجود بدلا من (حال).

(٣) في (ب) البعث بدلا من (الحشر).

(٤) الدين يقولون بالطبيعة الخالقة وينكرون الخالق الموجد. وقد ناقشهم الإمام الغزالي في دعواهم الباطلة ورد كيدهم في نحورهم.

(٥) سورة النساء آية رقم ٥٦.

(٦) سورة يس آية رقم ٨١.

٨٨

وبما ورد في الحديث من كون أهل الجنة جردا مردا ، وكون ضرس الجهنمي مثل أحد لنا أنه أمر ممكن ، أخبر به الصادق ، إذ تواتر من نبينا القول به وورد في التنزيل ما لا يحتمل التأويل مثل :

(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١) (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٢) وقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) (٣) (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) (٤)

إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث ، وحملها على التمثيل للمعاد الروحاني ترغيبا وترهيبا للعوام ، وتتميما لأمر النظام نسبة للأنبياء إلى الكذب في التبليغ ، والقصد إلى التضليل.)

الفلاسفة الطبيعيون الذين لا يعتد بهم في المسألة ، ولا في الفلسفة ، أنه لا معاد للبشر اصلا ، زعما منهم أنه هذا الهيكل المحسوس بما له من المزاج ، والقوى ، والأعراض ، وأن ذلك يفنى بالموت وزوال الحياة ، ولا يبقى إلا المواد العنصرية المتفرقة ، وأنه لا إعادة للمعدوم ، وفي هذا تكذيب للعقل على ما يراه المحققون من أهل الفلسفة ، وللشرع على ما يراه المحققون من أهل الملة. وتوقف جالينوس في أمر المعاد لتردده في أن النفس هو المزاج ، فيفنى بالموت ، فلا يعاد ، أم جوهر باق بعد الموت يكون له المعاد. واتفق المحققون من الفلاسفة ، والمليين على حقية المعاد واختلفوا في كيفيته ، فذهب جمهور المسلمين إلى أنه جسماني فقط ، لأن الروح عندهم جسم سار في البدن سريان النار في الفحم ، والماء في الورد. وذهب الفلاسفة إلى أنه روحاني فقط ، لأن البدن ينعدم بصوره وأعراضه ، فلا يعاد. والنفس جوهر مجرد باق لا سبيل إليه للفناء ، فيعود إلى عالم المجردات بقطع

__________________

(١) سورة يس آية رقم ٧٩.

(٢) سورة يس آية رقم ٥١.

(٣) سورة القيامة آية رقم ٣.

(٤) سورة ق آية رقم ٤٤.

٨٩

التعلقات. وذهب كثير من علماء الإسلام كالإمام الغزالي (١) والكعبي ، والحليمي ، والراغب(٢) ، والقاضي أبي زيد الدبوسي إلى القول بالمعاد الروحاني والجسماني جميعا ، ذهابا إلى أن النفس جوهر مجرد يعود إلى البدن. وهذا رأي كثير من الصوفية ، والشيعة ، والكرامية ، وبه يقول جمهور النصارى ، والتناسخية.

قال الإمام الرازي : إلا أن الفرق أن المسلمين يقولون بحدوث الأرواح ، ردها إلى الأبدان ، لا في هذا العالم ، بل في الآخرة ، والتناسخية بقدمها وردها إليها في هذا العالم ، وينكرون الآخرة والجنة والنار. وإنما نبهنا على هذا الفرق لأنه يغلب على الطباع العامية أن هذا المذهب يجب ان يكون كفرا وضلالا ، لكونه مما ذهب إليه التناسخية والنصارى ، ولا يعلمون أن التناسخية إنما يكفرون لإنكارهم القيامة والجنة والنار ، والنصارى لقولهم بالتثليث. وأما القول بالنفوس المجردة فلا يرفع اصلا من أصول الدين ، بل ربما يؤيده ، ويبين الطريق إلى إثبات المعاد بحيث لا يقدح فيه شبه المنكرين ، كذا في نهاية العقول. وقد بالغ الإمام الغزالي في تحقيق المعاد الروحاني ، وبيان أنواع الثواب والعقاب بالنسبة إلى الروح ، حتى سبق إلى كثير من الأوهام ، ووقع في ألسنة بعض العوام أنه ينكر حشر الأجساد افتراء عليه. كيف وقد صرح به في مواضع من كتاب الإحياء وغيره ، وذهب إلى أن إنكاره كفر. وإنما لم يشرحه في كتبه كثير شرح ، لما قال أنه ظاهر لا يحتاج إلى زيادة بيان. نعم بما يميل كلامه وكلام كثير من القائلين بالمعادين إلى أن معنى ذلك أن يخلق الله تعالى من الأجزاء المتفرقة لذلك البدن بدنا ، فيعيد إليه نفسه المجردة الباقية بعد؟؟؟؟ البدن. ولا يضرنا كونه غير البدن الأول ، بحسب الشخص ، ولامتناع

__________________

(١) هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي ، أبو حامد حجة الإسلام ، فيلسوف متصوف له نحو مائتي مصنف ولد عام ٤٥٠ ه‍ ووفاته عام ٥٠٥ ه‍ رحل إلى نيسابور ثم إلى بغداد فالحجاز فبلاد الشام فمصر ، وعاد إلى بلدته. من كتبه إحياء علوم الدين ، وتهافت الفلاسفة ، وغير ذلك كثير.

(٢) هو الحسين بن محمد بن المفضل أبو القاسم الأصفهاني المعروف بالراغب ، أديب من الحكماء العلماء من أهل أصبهان ، سكن بغداد واشتهر حتى كان يقرن بالإمام الغزالي من كتبه محاضرات الأدباء ، والذريعة إلى مكارم الشريعة ، والأخلاق ، ويسمى أخلاق الراغب وجامع التفاسير ، والمفردات في غريب القرآن وغير ذلك كثير توفي عام ٥٠٢ ه‍ راجع روضات الجنات ٢٤٩ وتاريخ حكماء الإسلام ١١٢.

٩٠

إعادة المعدوم بعينه ، وما شهد به النصوص ومن كون أهل الجنة جردا مردا ، وكون ضرس الكافر مثل جبل أحد يعضد ذلك. وكذا قوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (١).

ولا يبعد أن يكون قوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (٢).

إشارة إلى هذا.

فإن قيل : فعلى هذا يكون المثاب والمعاقب باللذات والآلام الجسمانية غير من عمل الطاعة وارتكب المعصية.

قلنا : العبرة في ذلك بالإدراك. وإنما هو للروح ، ولو بواسطة الآلات ، وهو باق بعينه ، وكذا الأجزاء الأصلية من البدن. ولهذا يقال للشخص من الصبا إلى الشيخوخة أنه هو بعينه ، وإن تبدلت الصور والهيئات ، بل كثير من الآلات والأعضاء. ولا يقال لمن جنى في الشباب فعوقب في المشيب أنها عقوبة لغير الجاني.

قال لنا المعتمد في إثبات حشر الأجساد دليل السمع ، والمفصح عنه غاية الإفصاح من الأديان دين الإسلام ، ومن الكتب القرآن ، ومن الأنبياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمعتزلة يدعون إثباته ، بل وجوبه بدليل العقل. وتقريره أنه يجب على الله ثواب المطيعين ، وعقاب العاصين ، وأعواض المستحقين. ولا يتأتى ذلك إلا بإعادتهم بأعيانهم ، فيجب. لأن ما لا يتأتى الواجب إلا به واجب. وربما يتمسكون بهذا في وجوب الإعادة على تقدير الفناء ، ومبناه على أصلهم الفاسد (٣) في الوجوب على الله تعالى ، وفي كون ترك الجزاء ظلما لا يصح صدوره من الله تعالى ، مع إمكان المناقشة (٤) في أن الواجب لا يتم إلا به ، وأنه لا يكفي المعاد الروحاني. ويدفعون

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ٥٦.

(٢) سورة يس آية رقم ٨١.

(٣) سقط من (ب) لفظ (الفاسد).

(٤) في (ب) المجادلة بدلا من (المناقشة).

٩١

ذلك بأن المطيع والعاصي هي هذه الجملة أو الأجزاء الأصلية ، لا الروح وحده. فلا يصل الجزاء إلى مستحقه إلا بإعادتها (١).

والجواب ـ أنه إن اعتبر الأمر بحسب الحقيقة ، فالمستحق هو الروح ، لأن مبنى الطاعة والعصيان على الإدراكات والإرادات والأفعال والحركات ، وهو المبدأ للكل. وإن اعتبر بحسب الظاهر ، يلزم أن يعاد جميع الأجزاء الكائنة من أول التكليف إلى الممات. ولا يقولون بذلك ، فالأولى التمسك بدليل السمع ، وتقريره أن الحشر والإعادة أمر ممكن أخبر به الصادق ، فيكون واقعا ، أما الإمكان فلأن الكلام فيما عدم بعد الوجود ، أو تفرق بعد الاجتماع ، أو مات بعد الحياة ، فيكون قابلا لذلك. والفاعل هو الله القادر على كل الممكنات ، العالم بجميع الكليات والجزئيات. وأما الإخبار فلما تواتر من الأنبياء ، سيما نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم كانوا يقولون بذلك ، ولما ورد في القرآن من نصوص لا يحتمل أكثرها التأويل مثل قوله تعالى :

(قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢).

(فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٣).

(فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٤) ، (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٥) ،

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (٦) ،

(كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (٧) ،

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) (٨) ،

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) (٩).

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (كاملة).

(٢) سورة يس آية رقم ٧٨ ، ٧٩.

(٣) سورة يس آية رقم ٥١.

(٤) سورة الإسراء آية رقم ٥١.

(٥) سورة القيامة آية رقم ٣.

(٦) سورة فصلت آية رقم ٢١.

(٧) سورة النساء آية رقم ٥٦.

(٨) سورة الذاريات آية رقم ٤٢.

(٩) سورة العاديات آية رقم ٩.

٩٢

إلى غير ذلك من الآيات ، وفي الأحاديث أيضا كثيرة. وبالجملة فإثبات الحشر من ضروريات الدين ، وإنكاره كفر بيقين.

فإن قيل : الآيات المشعرة بالمعاد الجسماني ليست أكثر وأظهر من الآيات المشعرة بالتشبيه والجبر والقدر ، ونحو ذلك ، وقد وجب تأويلها قطعا ، فلنصرف هذه أيضا إلى بيان المعاد الروحاني ، وأحوال سعادة النفوس وشقاوتها بعد مفارقة الأبدان على وجه يفهمه العوام ، فإن الأنبياء مبعوثون إلى كافة الخلائق لإرشادهم إلى سبيل الحق ، وتكميل نفوسهم بحسب القوة النظرية والعملية ، وتبقية النظام المفضي إلى صلاح الكل ، وذلك بالترغيب والترهيب بالوعد والوعيد والبشارة بما يعتقدونه لذة وكمالا ، والإنذار عما يعتقدونه ألما ونقصانا ، وأكثرهم عوام تقصر عقولهم عن فهم الكمالات الحقيقية ، واللذات العقلية ، وتقتصر على ما لقوه من اللذات والآلام الحسية ، وعرفوه من الكمالات والنقصانات البدنية ، فوجب أن تخاطبهم الأنبياء بما هو مثال للمعاد الحقيقي ترغيبا وترهيبا للعوام ، وتتميما لأمر النظام ، وهذا ما قال أبو نصر (١) الفارابي أن الكلام مثل وخيالات للفلسفة.

قلنا : إنما يجب التأويل عند تعذر الظاهر. ولا تعذر هاهنا ، سيما على القول بكون البدن المعاد مثل الأول ، لا عينه ، وما ذكرتم من حمل كلام الأنبياء ونصوص الكتاب على الإشارة إلى مثال معاد النفس ، والرعاية لمصلحة العامة نسبة للأنبياء إلى الكذب فيما يتعلق بالتبليغ ، والقصد إلى تضليل أكثر الخلائق ، والتعصب طول العمر لترويج الباطل وإخفاء الحق ، لأنهم لا يفهمون إلا هذه الظواهر التي لا حقيقة لها عندكم. نعم ، لو قيل : إن هذه الظواهر مع إرادتها من الكلام وثبوتها في نفس الأمر مثل للمعاد الروحاني واللذات والآلام العقلية ، وكذا أكثر ظواهر القرآن على ما يذكره المحققون من علماء الإسلام ، لكان حقا لا ريب فيه ولا اعتداد بمن ينفيه.

قال : احتج المنكرون بوجوه : الأول ـ

__________________

(١) سبق الترجمة له فى هذا الجزء في كلمة وافية فليرجع إليها.

٩٣

(الأول ـ انه مبني على إعادة المعدوم للقطع بفناء المزاج والحياة والتأليف والهيئات ، وقد ثبت استحالتها ، ورد بمنع المقدمتين.

الثاني ـ لو أكل إنسان إنسانا فالأجزاء المأكولة إما أن تعاد في بدن الآكل ، فلا يكون المأكول بعينه معادا أو بالعكس ، على أن لا أولوية ، ولا سبيل إلى جعلها جزءا من كل منهما ، وأنه يلزم في أكل الكافر المؤمن تنعيم الأجزاء العاصية ، وتعذيب المطيعة ، ورد بأن المعاد هي الأجزاء الأصلية ، فلا محذور ، ولعل الله يحفظها من أن تصير جزءا أصليا لبدن آخر. بل عند المعتزلة يجب ذلك ليصل الجزاء إلى مستحقه.

فإن قيل : مثل من يحيي العظام وهي رميم ، أءذا متنا وكنا ترابا يشعر بأن المتنازع إعادة الأجزاء بأسرها. قلنا : لأنه ورد إزالة لاستبعادهم إحياء الرميم والتراب ، والوارد لإثبات نفس الإعادة أيضا كثير مثل :

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (١)

(فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢).

الثالث ـ أن الإعادة لا لغرض عبث ، ولغرض عائد إلى الله تعالى نقص ، وإلى العبد إما إيصال ألم ، وهو سفه ، أو لذة ، ولا لذة في الوجود ، سيما في عالم الحس إذ هي خلاص عن ألم ، والإيلام ليعقبه الخلاص غير لائق بالحكمة. بمنع لزوم الغرض ، ومنع انحصاره فيما ذكر ، إذ ربما يكون إيصال الجزاء إلى المستحق غرضا ، ومنع كون اللذة الأخروية دفع الألم).

إن المعاد الجسماني موقوف على إعادة المعدوم ، وقد بان استحالتها وجه التوقف إما على تقدير كونها إيجادا بعد الفناء فظاهر. وأما على تقدير كونها جمعا وإحياء بعد التفرق والموت فللقطع بفناء التأليف والمزاج والحياة ، وكثير من الأغراض والهيئات.

__________________

(١) سورة الروم آية رقم ٢٧.

(٢) سورة الإسراء آية رقم ٥١.

٩٤

والجواب ـ منع امتناع الإعادة. وقد تكلمنا على أدلته ، ولو سلم ، فالمراد إعادة الأجزاء إلى ما كانت عليه من التأليف والحياة ، ونحو ذلك. ولا يضرنا كون المعاد مثل المبدأ ، لا عينه.

الثاني ـ لو أكل إنسان إنسانا ، وصار غذاء له جزءا من بدنه ، فالأجزاء المأكولة إما أن تعاد في بدن الآكل ، أو في بدن المأكول ، وأيا ما كان لا يكون أحدهما بعينه معادا بتمامه ، على أنه لا أولوية لجعلها جزءا من بدن أحدهما دون الآخر ، ولا سبيل لجعلها جزءا من كل منهما ، وأيضا إذا كان الآكل كافرا والمأكول مؤمنا يلزم تنعيم الأجزاء العاصية ، أو تعذيب الأجزاء المطيعة.

والجواب ـ أنا نعني بالحشر إعادة الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره ، لا الحاصلة بالتغذية ، فالمعاد من كل من الآكل والمأكول الأجزاء الأصلية الحاصلة في أول الفطرة من غير لزوم فساد.

فإن قيل : يجوز أن يصير تلك الأجزاء الغذائية الأصلية في المأكول الفضل في الآكل نطفة وأجزاء أصلية لبدن آخر ، ويعود المحذور.

قلنا : الفساد إنما هو في وقوع ذلك ، لا في إمكانه فلعل الله تعالى يحفظها من أن تصير جزءا لبدن آخر ، فضلا عن أن تصير جزءا أصليا. وقد ادعى المعتزلة (١) أنه يجب على الحكيم حفظها عن ذلك ليتمكن من إيصال الجزاء إلى مستحقه ، ونحن نقول : لعله يحفظها عن التفرق ، فلا يحتاج إلى إعادة الجمع والتأليف ، بل إنما يعاد إلى الحياة والصور والهيئات.

فإن قيل : الآيات الواردة في باب الحشر من مثل :

(مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٢)

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) (٣)

(إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٤).

__________________

(١) سبق الحديث عنها في كلمة ضافية في الجزء الأول من هذا الكتاب.

(٢) سورة يس آية رقم ٧٨.

(٣) سورة الواقعة آية رقم ٤٧.

(٤) سورة سبأ آية رقم ٧.

٩٥

تشعر بأن الأصلية ، وغير الأصلية ، ومتنازع المحق والمبطل ، ومتوارد الإثبات والنفي هي إعادة الأجزاء بأسرها إلى الحياة ، لا الأصلية وحدها ، ولا إعادة المعدوم بعينه.

قلنا : ومن الآيات ما هو مسوق لنفس الإعادة مثل :

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (١)

(فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢)

وكأن المنكرين استبعدوا إحياء ما كانوا يشاهدون من الرميم والتراب ، فأزيل استبعادهم بتذكير ابتداء الفطرة والتنبيه على كمال العلم والقدرة.

وأما حديث إعادة المعدوم ، والأجزاء الأصلية فلعله لم يخطر ببالهم.

الثالث ـ أن الإعادة لا لغرض عبث لا يليق بالحكيم ، ولغرض عائد إلى الله تعالى نقص يجب تنزيهه عنه ، ولغرض عائد إلى العباد أيضا باطل ، لأنه إما إيصال ألم ، وهو لا يليق بالحكيم ، وإما إيصال لذة ، ولا لذة في الوجود ، سيما في عالم الحس. فكل ما يتخيل لذة فإنما هو خلاص عن الألم ، ولا ألم في العدم أو الموت ، ليكون الخلاص عنه لذة مقصودة بالإعادة ، بل إنما يتصور ذلك بأن يوصل إليه ألما ثم يخلصه عنه ، فتكون الاعادة لإيصال ألم يعقبه خلاص (٣) وهو غير لائق بالحكمة (٤).

والجواب ـ منع لزوم الغرض ، وقبح الخلو عنه في فعل الله تعالى. ثم منع انحصار الغرض في إيصال اللذة والألم (٥) ، إذ يجوز أن يكون نفس إيصال الجزاء إلى من يستحقه غرضا ، ثم منع كون اللذة دفعا للألم ، وخلاصا عنه. كيف واللذة والألم من الوجدانيات التي لا يشك العاقل في تحققها ، وقد سبق تحقيق

__________________

(١) سورة الروم آية رقم ٢٧.

(٢) سورة الإسراء آية رقم ٥١.

(٣) في (ب) بزيادة (خلاص العبد).

(٤) في (ب) الحكيم بدلا من (الحكمة).

(٥) في (ب) بزيادة لفظ (فقط).

٩٦

ذلك (١) ، ثم منع كون اللذات الأخروية من جنس الدنيوية بحسب الحقيقة ليلزم كونها دفعا للألم وخلاصا عنه.

قال : تنبيه

((تنبيه) بعد إثبات تجرد النفس وبقائها بعد خراب البدن لا يفتقر إثبات المعاد الروحاني إلى زيادة بيان ، لأنه عبارة إما عن عودها إلى ما كانت عليه من التجرد المحض (٢) ، أو التبرؤ من ظلمات التعلق ملتذة او متألمة ، بما اكتسبت (٣) وإما عن تعلقها بالبدن المحشور الذي ليس بمعقول ولا منقول ، إما أن تتعلق به نفس أخرى ، وتبقى نفسها معطلة أو متعلقة ببدن آخر).

القائلون بالمعاد الروحاني فقط ، أو به ، وبالجسماني جميعا هم الذين يقولون بأن النفوس الناطقة مجردة باقية لا تفنى بخراب البدن لما سيق من الدلائل ، ويشهد بذلك نصوص من الكتاب والسنة ، فلا حاجة للأولين إلى زيادة بيان في إثبات المعاد ، لأنه عبارة عن عود النفس إلى ما كانت عليه من التجرد أو التبرؤ من ظلمات التعلق وبقائها ملتذة بالكمال ، أو متألمة بالنقصان ، ولا للآخرين بعد إثبات حشر الأجساد ، لأن القول بإحياء البدن مع تعلق نفس أخرى به تدبر أمره وبقاء نفسه معطلة ، أو متعلقة ببدن آخر غير مقبول عند العقل ، ولا منقول من أحد. كيف ونفسها مناسبة لذلك المزاج ، آلفة به ، لم تفارقه إلا لانتفاء قابليته لتصرفاتها. فحين عادت القابلية ، عاد التعلق لا محالة. وقد يقال إن قوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (٤) (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (٥) (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (٦)

إشارة إلى المعاد الروحاني ، وكذا الأحاديث الواردة في حال أرواح المؤمنين ،

__________________

(١) في (ب) بزيادة (في هذا الكتاب).

(٢) سقط من (ب) لفظ (المحض).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (النفس).

(٤) سورة السجدة آية رقم ١٧.

(٥) سورة يونس آية رقم ٢٦.

(٦) سورة التوبة آية رقم ٧٢.

٩٧

وخصوصا الصديقين والشهداء والصالحين ، وأنها في حواصل طيور خضر في قناديل من نور معلقة تحت العرش ، وإن كانت ظواهرها مشعرة بأن الأرواح من قبيل الأجسام على ما قال إمام الحرمين أن الأظهر عندنا أن الأرواح أجسام لطيفة مشابكة للأجسام المحسوسة ، أجرى الله تعالى العادة باستمرار حياة الأجساد ما استمرت مشابكتها بها. فإذا فارقها ، يعقب الموت الحياة في استمرار العادة ، ثم الروح يعرج به ، ويرفع في حواصل طيور خضر في الجنة ، ويهبط به إلى سجين من الكفرة كما وردت فيه الآثار ، والحياة عرض يحيى به الجوهر. والروح يحيا بالحياة أيضا إن قامت به الحياة ، فهذا قولنا في الروح ، كذا في الإرشاد.

قال : المبحث الثالث ـ

(المبحث الثالث اختلف القائلون بصحة فناء الجسم في أنه بإعدام معدم ، أو بحدوث ضد ، أو بانتفاء شرط.

أما الأول ـ فقال القاضي وبعض المعتزلة هو بإعدام الله تعالى بلا واسطة. وقال أبو الهذيل (١) : بأمر افن ، كالوجود بأمر كن.

وأما الثاني ـ فقال ابن الإخشيد (٢) : يخلق الله تعالى الفناء في جهة معينة ، فتفنى الجواهر بأسرها. وقال ابن شبيب (٣) : يخلق الله في كل جوهر فناء ، فيقتضي فناءه في الزمان الثاني. وقال أبو علي : يخلق بعدد كل جوهر فناء ، لا في محل. وقال أبو هاشم (٤) : بل فناء واحدا.

وأما الثالث ـ فقال بشر (٥) : ذلك الشرط بقاء يخلقه الله ، لا في محل. وقال أكثر

__________________

(١) هو محمد بن الهزيل بن عبد الله بن مكحول العبدي مولى عبد القيس أبو الهذيل العلاف ، من أئمة المعتزلة ، ولد في البصرة عام ١٣٥ ه‍ واشتهر بعلم الكلام قال : المأمون : أطل أبو الهذيل على الكلام كإطلال الغمام على الأنام له مقالات في الاعتزال ، ومجالس ومناظرات وكان حسن الجدل قوي الحجة ، سريع الخاطر توفي عام ٢٣٥.

(٢) سبق الترجمة له في الجزء الثاني.

(٣) سبق الترجمة له في الجزء الثالث.

(٤) سبق الترجمة له في الجزء الأول.

(٥) سبق الترجمة له في الجزء الأول.

٩٨

أصحابنا بقاء قائم بالجسم يخلق الله فيه حالا فحالا. وقال إمام الحرمين الأعراض التي تحت اتصاف الجسم بها. وقال القاضي في أحد قوليه : الأكوان التي يخلقها فيه حالا فحالا. وقال: النظام (١) خلقه لأنه ليس بباق ، بل يخلق حالا فحالا.)

قد سبقت في مباحث الجسم إشارة إلى أن الأجسام باقية ، غير متزايلة على ما يراه النظام ، وقابلة للفناء ، غير دائمة للبقاء على ما يراه الفلاسفة قولا بأنها أزلية أبدية. والجاحظ (٢) ، وجمع من الكرامية (٣) قولا بأنها أبدية ، غير أزلية. وتوقف أصحاب أبي الحسين في صحة الفناء ، واختلف القائلون بها في أن الفناء بإعدام معدم ، أو بحدوث ضد ، أو بانتفاء شرط.

اما الأول ـ فذهب القاضي ، وبعض المعتزلة إلى أن الله تعالى يعدم العالم بلا واسطة ، فيصير معدوما كما أوجده كذلك ، فصار موجودا. وذهب أبو الهذيل إلى أنه تعالى يقول له : «افن» فيفنى ، كما قال له : (كُنْ) فكان.

وأما الثاني ـ فذهب جمهور المعتزلة إلى أن فناء الجوهر بحدوث ضد له هو الفناء ، ثم اختلفوا فذهب ابن الإخشيد إلى أن الفناء ، وإن لم يكن متحيزا ، لكنه يكون حاصلا في جهة معينة. فإذا أحدثه الله تعالى فيها ، عدمت الجواهر بأسرها. وذهب ابن شبيب إلى أن الله تعالى يحدث في كل جوهر فناء ، ثم ذلك الفناء يقتضي عدم الجوهر في الزمان الثاني. وذهب أبو علي (٤) وأتباعه إلى أنه يخلق بعدد كل جوهر فناء لا في محل ، فتفنى الجواهر.

__________________

(١) سبق الترجمة له في هذا الجزء.

(٢) هو عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان الشهير بالجاحظ كبير أئمة الأدب ، ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة ولد عام ١٦٣ في البصرة ، ومات والكتاب على صدره قتلته مجلدات من الكتب على رأسه عام ٢٥٥ ه‍ له تصانيف كثيرة منها كتاب الحيوان ، والبيان والتبيين ، والبخلاء والمحاسن والأضداد والتبصر بالتجارة ، ومجموع رسائل اشتمل على أربع وهي ، المعاد والمعاش ، وكتمان السر وحفظ اللسان ، والجد والهزل ، والحسد والعداوة وغير ذلك كثير. راجع إرشاد الأريب ٦ : ٥٦ ـ ٨٠ والوفيات ١ : ٣٨٨.

(٣) سبق الكلام عنها في كلمة وافية.

(٤) سبق الترجمة له في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

٩٩

وقال أبو هاشم وأشياعه : يخلق فتاء واحد ، لا في محل ، فتفنى به الجواهر بأسرها.

وأما الثالث ـ وهو أن فناء الجوهر بانقطاع شرط وجوده. فزعم بشر أن ذلك الشرط بقاء يخلقه الله تعالى ، لا في محل ، فإذا لم يوجد عدم الجوهر. وذهب الأكثرون من أصحابنا والكعبي (١) من المعتزلة إلى أنه بقاء قائم به ، يخلقه الله تعالى حالا فحالا. فإذا لم يخلقه الله تعالى فيه ، انتفى الجوهر.

وقال إمام الحرمين بأنها الأعراض التي يجب اتصاف الجسم بها. فإذا لم يخلقها الله فيه فني. وقال القاضي في أحد قوليه : هو الأكوان التي يخلقها الله تعالى في الجسم حالا فحالا. فمتى لم يخلقها فيه انعدم.

وقال النظام إنه ليس بباق ، بل يخلق حالا فحالا فمتى لم يخلق فني.

وأكثر هذه الأقاويل من قبيل الأباطيل ، سيما القول : بكون الفناء أمرا محققا في الخارج ، وضدا للبقاء ، قائما بنفسه ، أو بالجوهر ، وكون البقاء موجودا إلّا في محل ، ولعل وجه البطلان غني عن البيان.

قال : المبحث الرابع ـ

(واختلفوا في أن الحشر إيجاد بعد الفناء ، أو جمع التفرق ، والحق التوقف.

احتج الأولون بوجوه :

الأول ـ الإجماع قبل ظهور المخالفين ، ورد بالمنع.

الثاني ـ قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) (٢).

ولا يتصور إلا بانعدام المخلوقات ، وليس بعد القيمة وفاقا ، فيكون قبلها.

__________________

(١) هو عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي من بني كعب البلخي الخراساني أبو القاسم ، أحد أئمة المعتزلة ، كان رأس طائفة منهم تسمى الكعبية ، وله آراء ومقالات في الكلام انفرد بها وهو من أهل بلخ أقام ببغداد مدة طويلة وتوفي بها عام ٣١٩ ه‍ له كتب منها التفسير ، وتأييد مقالة أبي الهذيل وقبول الأخبار ، ومقالات الإسلاميين ، وباب ذكر المعتزلة ، وأدب الجدل ، وتحفة الوزراء وغير ذلك كثير راجع تاريخ بغداد ٩ : ٣٨٤ ، والمقريزي ٢ : ٣٤٨ ووفيات الأعيان ١ : ٢٥٢.

(٢) سورة الحديد آية رقم ٣.

١٠٠