شرح المقاصد - ج ٥

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٥

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

اما الأول : فلوجهين : (١) :

أحدهما : أنه إما لا لمصلحة فعبث ، أو لمصلحة لم يعلمها أولا فجهل ، أو علمها وأهملها ، ثم رعاها فبداء.

قلنا : لمصلحة تجددت.

وثانيهما : أن الحكم إما مؤقت ، فنفيه بعده لا يكون نسخا ، وإما مؤبد ، فنسخه تناقض ، وإما مرسل ففي علم الله إما أن يستمر إلى الأبد (٢) فلا يرتفع ، أو إلى غاية ما ، فبعدها لا رفع ولا نسخ.

قلنا : مرسل عن توقيت الوجوب مثلا وتأييده وما بعده ، والمعلوم استمرار الوجوب إلى وقت النسخ ولا تناقض فيه ، وإن كان الواجب أبدا كما إذا قلت :

صوم الأبد واجب.

وأما الثاني : فلوجهين :

أحدهما : تواتر التأييد مثل : تمسكوا بالسبت ابدا.

قلنا : افتراء ، ولو سلم فعبارة عن طول الزمان.

وثانيهما : أنه إن كان قد صرح بدوام شريعته فذاك ، أو بانقطاعها لزم تواتر ذلك لنوفر الدواعي ، ولم يتواتر أو سكت عن الأمرين ، لزم أن لا يتكرر ، ولا يتقرر حتى ينسخ وقد تقرر.

قلنا صرّح بالانقطاع ، ولم يتواتر لقلة الدواعي والنقلة في كل طبقة ، أو سكت وتقررت بحكم الأصل ، أو تكرر الأسباب).

الواردة في كتب الأنبياء المتقدمين المنقولة إلى (٣) العربي ، المشهورة فيما بين أممهم.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (لوجهين).

(٢) الأبد : هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب المستقبل كما أن الأزل استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي.

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (اللسان).

٤١

أما من التوراة فمنها ما جاء في السفر الخامس (١) : جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من سيعير ، واستعلن من جبال فاران ، يريد الإخبار عن إنزال التوراة على موسى بطور سيناء. والإنجيل على عيسى بسيعير ، فإنه كان يسكن من سيعير بقرية تسمى ناصرة ، وأنزل القرآن على محمد بمكة. فإن فاران في طريق مكة قبل العدن بميلين ونصف ، وهو كان المنزل ، وقد بقي إلى اليوم (٢) على يسار الطريق من العراق إلى مكة. وهذا ما ذكر في التوراة أن إسماعيل أقام برية فاران ، يعني بادية العرب.

ومنها ما جاء في السفر الخامس أنه تعالى قال لموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني مقيم لهم نبيا من بني إخوتهم مثلك ، وأجري قولي في فيه ، ويقول لهم ما آمرهم به ، والرجل الذي لا يقبل قول النبي الذي يتكلم باسمي فأنا انتقم منه. والمراد ببني إخوة بني إسرائيل بنو إسماعيل (٣) على ما هو المتعارف ، فلا يصرف إلى من بعد موسى من أنبياء بني إسرائيل ، ولا إلى عيسى لأنهم لم يكونوا من بني إخوتهم ، ولا إلى موسى لكونه صاحب شريعة مستأنفة فيها بيان مصالح الدارين ، فتعين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومنها ما جاء في السفر الأول أنه تعالى قال لإبراهيم (عليه‌السلام) : إن هاجر تلد ، ويكون من ولدها من يده فوق الجميع ، ويد الجميع مبسوطة إليه بالخشوع.

وأما في الإنجيل ، فمنها ما ورد في الصحاح الرابع عشر : أنا أطلب لكم إلى أبي حتى يمنحكم ويعطيكم فارقليطا ليكون معكم إلى الأبد. والفارقليط روح الحق واليقين.

وفي الخامس عشر : وأما فارقليط روح القدس الذي يرسله أبي باسمي ، وهو يعلمكم ويمنحكم جميع الاشياء ، وهو يذكركم ما قلته لكم ، ثم قال : وإني قد أخبرتكم بهذا قبل أن يكون حتى إذا كان ذلك تؤمنوا به. وقوله : «باسمي» يعني

__________________

(١) راجع ما كتبناه في تحقيق الجزء الثاني من كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم) طبعة دار عكاظ (جدة) المملكة العربية السعودية.

(٢) سقط من (أ) حرف الجر (إلى).

(٣) قال تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

٤٢

بالنبوة ، ومعنى الفارقليط كاشف الخفيات.

وفي السادس عشر : أقول لكم الآن حقا يقينا أن انطلاقي عنكم خير لكم ، فإن لم أنطلق عنكم إلى أبي ، لم يأتكم الفارقليط ، وإن انطلقت أرسلت به إليكم ، فإذا جاء هو يفيد أهل العالم ، ويدينهم ويوبخهم ، ويوقفهم على الخطيئة والبر (١) ثم قال : إذا جاء روح الحق واليقين ، يرشدكم ، ويعلمكم ، ويدبركم جميع الحق ، لأنه ليس يتكلم بدعة من تلقاء(٢) نفسه.

وأما في الزبور فقوله : تقلد أيها الجبار السيف ، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيئة يمينك ، وسهامك مسنونة ، والأمم يحرون (٣) تحتك. وقوله : قال داود : اللهم ابعث جاعل السنة حتى يعلم الناس أنه بشريعتي أبعث محمدا حتى يعلم الناس أن عيسى بشر.

قال في تلخيص المحصل : وأمثال هذا كثير في كتب الأنبياء المتقدمين يذكرها المصنفون الواقفون على كتبهم ، ولا يقدر المخالف على دفعها أو صرفها إلى ملك او نبي آخر ، ولا على أن يكتمها ، ولقد جمع أبو الحسين البصري (٤) في كتاب غرر الأدلة ما يوقف من نصوص التوراة على صحة نبوة محمد (عليه‌السلام). وأما المنكرون ، أنكر المشركون والنصارى والمجوس ، ومن يجري مجراهم نبوة محمد (عليه‌السلام) بغيا منهم وحسدا وعنادا ولددا من غير تمسك بشبهة ، وأكثر اليهود تمسكوا بأنه لو كان نبيا لزم نسخ دين موسى ، واللازم باطل.

أما أولا : فلبطلان النسخ مطلقا لوجهين :

أحدهما ـ أنه لم يكن لمصلحة ، فعبث ، وإن كان لمصلحة لم يعلمها عند شرعية الحكم المنسوخ فجهل ، وإن كان لمصلحة علمها وأهملها أولا ثم رعاها فبداء ، أو نقول : إن كان في شرعية الحكم المنسوخ مصلحة ، لم يعلم إهمالها عند النسخ فجهل ، وإن كان يعلمها فرأى رعايتها أولا ، ثم أهملها فبداء.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (البر).

(٢) في (ب) (عند) بدلا من (تلقاء).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (سجلا).

(٤) سبق الترجمة له في كلمة وافية في الجزء الأول من هذا الكتاب.

٤٣

والجواب : أنه لمصلحة تجددت وحصلت بعد ما لم تكن ، فإن المصالح تختلف باختلاف الأزمان والأحوال. فرب دواء يصلح في الصيف دون الشتاء ، ولزيد دون عمرو ، ولهذا أورد في التوراة أن آدم أمر بتزويج بناته من بنيه ، ثم نسخ وفاقا.

وثانيهما : أن الحكم إما مؤقت مثل : صم غدا ، فنفيه بعد ذلك لا يكون نسخا ، وإما مؤبد مثل ، صم أبدا. فنسخه تناقض بمنزلة قولك : الصوم واجب أبدا (١) وليس بواجب. وإما مرسل لا توقيت فيه ولا تأبيد ، وحينئذ فإما أن يعلم الله تعالى استمراره ابدا ، فلا يرتفع للزوم الجهل ، أو إلى غاية ما (٢) ، فلا رفع بعدها ولا نسخ.

والجواب : أنه مرسل عن توقيت الوجوب مثلا ، وتأبيده ، والمعلوم عند الله استمرار الوجوب إلى غاية هي وقت نسخه ورفعه ولا تناقض من ذلك ، سواء كان الواجب مؤقتا أو مؤبدا بمنزلة قولك : صوم الغد أو الأبد واجب حينا دون حين. وإنما التناقض في رفع الوجوب بعد تأبيده ، كما إذا قيل : الوجوب ثابت ابدا ، ثم نسخ فيكون زمان لا وجوب فيه ، وهذا لا نزاع في امتناعه ، وهو المراد بقولهم : إن النسخ ينافي التأبيد ، وعليه يبتنى امتناع نسخ شريعتنا. والفرق بين كون التأبيد راجعا إلى الواجب ، أو إلى الوجوب مما يتضح بالرجوع إلى الأصل الذي مهدنا في بحث الرؤية في قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٣).

على ان التحقيق أن لا رفع هاهنا. وإنما النسخ بيان لانتهاء حكم شرعي سبق على الإطلاق.

وأما ثانيا ، فبطلان نسخ شريعة موسى (عليه‌السلام) لوجهين :

الأول ـ أنه تواتر النص منه على تأبيدها ، مثل : تمسكوا بالسبت ابدا ، وهذه شريعة مؤبدة ما دامت السموات والأرض.

__________________

(١) ليس في (ب) لفظ (أبدا).

(٢) في (ب) تقتضي ذلك بدلا من (ما).

(٣) سورة الأنعام آية رقم ١٠٣ وتكملة الآية (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)

٤٤

والجواب : أنه افتراء على موسى (عليه‌السلام). ودعوى تواتره مكابرة (١). ولو صح لما ظهرت المعجزات على عيسى أو محمد (عليهما‌السلام) ولأظهروه في زمانهما احتجاجا عليهما. ولو أظهروه لاشتهر لتوفر الدواعي ، على أنه كثيرا ما يعبر بالتأبيد ، فالدوام عن طول الزمان.

وثانيهما ـ أنه إما أن يكون صرح بدوام شريعته فيدوم ، أو بانقطاعها فيلزم تواتره لكونه من الأمور العظام التي تتوافر الدواعي (٢) على نقلها ولم تتواتر ، أو سكت عن الدوام والانقطاع ، فيلزم أن لا يتكرر ولا يتقرر (٣) إلى أوان النسخ وقد تقرر.

والجواب : أنه صرح بانقطاعها بالناسخ ولم يتواتر لعدم توفر الدواعي ، ولقلة الناقلين في بعض الطبقات ، إذ لم يبق من اليهود في زمان بخت نصر (٤) إلا أقل من القليل. أو سكت ، وقد تقرر وتكرر بناء على تكرر الأسباب والمحال ، أو على أن الأصل في الثابت هو البقاء حتى يظهر دليل العدم.

قال : المبحث الخامس

(المبحث الخامس ، قد دلت النصوص ، وانعقد الاجماع على أنه مبعوث إلى الناس كافة ، بل إلى الثقلين ، لا إلى العرب خاصة ، وأنه خاتم النبيين ، لا نبي بعده ، ولا نسخ لشريعته ، وأنه أفضل الأنبياء ، وأمته خير الأمم ، واختلفوا في الأفضل بعده ، فقيل : آدم ، وقيل : إبراهيم. وقيل : موسى ، وقيل : عيسى. وفضله النصارى على الكل بأنه روح من الله تعالى وتقدس وكلمته ألقاها إلى سيدة نساء العالمين المطهرة على الأدناس ، وتربى في حجر الأنبياء ، وتكلم في المهد ، ولم يخل قط عن التوحيد والشرائع ، ولم يلتفت إلى زخارف الدنيا ولذاتها ، ولم يسع في هلاك احد ، ولم يمت ، بل رفع إلى السماء ، واختص بمعجزات مثل الإحياء.

قلنا : بل الأفضل من كان في غاية التوحيد والمعارف وأنه في الخيرات

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (ممن ادعاه).

(٢) في (ب) الناس بدلا من (الدواعي)

(٣) سقط من (ب) لفظ (يتكرر).

(٤) هذا الملك الجبار كان له دور كبير في تشتيت جماعة اليهود.

٤٥

والكمالات مع ولادته من المشركين والمشركات ، ونشأته فيما بينهم ، ومن دام على ملاحظة جناب القدس مع الشغل الظاهر بما يؤدي إلى نظام أمر العباد في المعاش والمعاد ، وإلى رفع قواعد الحق ، وهدم أساس الباطل بالجهاد ، ومن اختص بمعجزة باقية على وجه الزمان ، وروضته ظاهرة تأتيها الزوار ، وتستنزل بها البركات).

يريد أنه مبعوث إلى الثقلين ، لا إلى العرب خاصة ، على ما زعم بعض اليهود والنصارى زعما منهم أن الاحتياج إلى النبي إنما كان للعرب خاصة دون أهل الكتابين ، ورد بما مر من احتياج الكل إلى من يجدد أمر الشريعة ، بل احتياج اليهود والنصارى أكثر لاختلال دينهم بالتحريفات وأنواع الضلالات ، مع ادعائهم أنه من عند الله تعالى ، والدليل على عموم بعثته وكونه خاتم النبيين ، لا نبي بعده ، ولا نسخ لشريعته هو أنه ادعى ذلك بحيث لا يحتمل التأويل ، وأظهر المعجزة على وفقه ، وأن كتابه المعجز قد شهد بذلك قطعا كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) (١) (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (٢) (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ...) (٣) الآيات (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (٤) (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ) (٥).

لا يقال : ففي القرآن ما يدل على أن التوراة والإنجيل هدى للناس من غير تفرقة بين ما يوافق القرآن ويخالفه ، فيختص هداية القرآن وبعثة محمد (عليه‌السلام) بقومه الذين هم العرب على ما يشير إليه بقوله :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) (٦).

لأنا نقول : هما هدى للناس من قبل نزول القرآن ، أو هدى لهم إلى الإيمان

__________________

(١) سورة سبأ آية رقم ٢٨.

(٢) سورة الأعراف آية رقم ١٥٨.

(٣) سورة الجن الآيات رقم ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤.

(٤) سورة الأحزاب آية رقم ٤٠.

(٥) سورة التوبة آية رقم ١٦.

(٦) سورة إبراهيم آية رقم ٤.

٤٦

بمحمد (عليه‌السلام) والاتباع لشريعته لما فيهما من البشارة ببعثته ، والإنباء عن الاهتداء بمتابعته. فإن قيل : أليس عيسى (عليه‌السلام) حيا بعد نبينا ، رفع إلى السماء ، وسينزل إلى الدنيا؟ قلنا : بلى ، ولكنه على شريعة نبينا ، لا يسعه إلا اتباعه ، على ما قال (عليه‌السلام) في حق موسى أنه لو كان حيا لما وسعه إلا اتباعي ، فيصح أنه خاتم الأنبياء ، بمعنى أنه لا يبعث نبي بعده ، وأجمع المسلمون على أن أفضل الأنبياء محمد ، لأن أمته خير الأمم لقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١) (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (٢).

وتفضيل الأمة من حيث إنها أمة تفضيل للرسول الذي هم أمته ، ولأنه مبعوث إلى الثقلين ، وخاتم الأنبياء والرسل ، ومعجزته الظاهرة الباهرة باقية على وجه الزمان ، وشريعته ناسخة لجميع الأديان ، وشهادته قائمة في القيامة على كافة البشر ، الى غير ذلك من خصائص لا تعد ولا تحصى. وقوله تعالى : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) (٣).

إشارة إلى ذلك ، والأحاديث الصحاح في هذا المعنى كثيرة ، حتى قال (عليه‌السلام) : أنا أكرم الأولين والآخرين على الله تعالى ولا فخر. كما قال (عليه‌السلام) : لا تخيروني على موسى ، وما ينبغي لعبد أن يقول : إني خير من يونس بن متى تواضع منه.

واختلفوا في الأفضل بعده ، فقيل : آدم ، لكونه أبا البشر. وقيل : نوح ، لطول عبادته ومجاهدته. وقيل : إبراهيم ، لزيادة توكله واطمئنانه. وقيل : موسى ، لكونه كليم الله ونجيه. وقيل : عيسى ، لكونه روح الله وصفيه. وفضله النصارى على الكل بأنه كلمة ألقاها إلى مريم وروح منه ، طاهر مقدس ، لم يخلق من نطفة ، وقد ولدته سيدة نساء العالمين المطهرة عن الأدناس ، وتربى في حجر الأنبياء والأولياء ، وتكلم

__________________

(١) سورة آل عمران آية رقم ١٩.

(٢) سورة البقرة آية رقم ١٤٣.

(٣) سورة البقرة آية رقم ٢٥٣.

٤٧

في المهد بعبودية نفسه ، وربوبية الله ، لم يخل زمانا من التوحيد والشرائع ، ولم يلتفت إلى زخارف الدنيا ، ولم يستمتع بلذاتها ، ولم يدخر قوت يوم ، ولم يسع في هلاك نفس ، أو سبيها ، أو استرقاقها ، ولا في أخذ مال ولا ولد ، ولا إيذاء لأحد ، معجزاته من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص أبهر المعجزات وأشهرها ، ثم هو في السماء ، ومن زمرة الأحياء ، ونبوته مما اتفق عليها ذو والآراء ، واعترف بها خاتم الأنبياء.

والجواب : أن البعض من ذلك حجة لنا وشاهد بفضل نبينا ، كالولادة من المشركين والمشركات ، والتربي في حجرهم ، مع المواظبة على التوحيد والطاعات ، وكالإقبال على الجهاد ، وقمع المشركين ، وقهر أعداء الدين ، وكالقيام بمصالح نظام العالم ، مع الاستغراق في التوجه إلى جناب القدس. وأما معجزاته ، فإنما اشتهر تلك الشهرة بإخبار من نبينا وكتابه ، مع ذلك فأين هن من معجزاته؟ ثم الكون ميتا في الأرض أنفع للأمة من الكون حيا في السماء ، حيث صارت الروضة المقدسة مهبطا للبركات ، ومصعدا للدعوات ، وموطنا للاجتماع على الطاعات .. إلى غير ذلك من أنواع الخيرات .. ونبوة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) مما نطق به العجماء ، وشهد به رب الأرض والسماء واتفق عليه من سبقه من الأنبياء ، وخصائصه مما لا يضبطه العد والإحصاء وقد أشرقت الأرض بنورها إشراق الشمس في كبد السماء. فصياح الخصماء نباح الكلاب في الليلة القمراء ..

قال خاتمة

(معراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إلى المسجد الأقصى ثابت بالكتاب (١) وهو في اليقظة وبالجسد بإجماع القرن الثاني ، ثم إلى السماء بالخير المستفيض ، ثم إلى الجنة أو إلى العرش أو إلى طرف العالم بخبر الواحد ، وما روي عن عائشة (رضي الله عنها) أنها قالت : والله ما فقدت جسد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم). وعن معاوية أنها كانت رؤيا صالحة ، لا يعارض ما ذكرنا على أنه لو ادعى المعراج للروح أو في المنام لما نكره الكفار غاية الإنكار).

__________________

(١) قال تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

٤٨

قد ثبت معراج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بالكتاب والسنة ، وإجماع الأمة. إلا أن الخلاف في أنه في المنام أو في اليقظة؟ وبالروح فقط ، أو بالجسد؟ وإلى المسجد الأقصى فقط أو إلى السماء؟ والحق أنه في اليقظة بالجسد إلى المسجد الأقصى بشهادة الكتاب ، وإجماع القرن الثاني ومن بعدهم ، ثم إلى السماء بالأحاديث المشهورة ، والمنكر مبتدع ، ثم إلى الجنة أو العرش ، أو طرف العالم على اختلاف الآراء بخبر الواحد ، وقد اشتهر أنه نعت لقريش المسجد الأقصى على ما هو عليه ، وأخبرهم بحال غيرهم ، وكان على ما أخبر وبما رأى في السماء من العجائب ، وبما شاهد من أحوال الأنبياء على ما هو مذكور في كتب الأحاديث لنا أنه أمر ممكن أخبر به الصادق ، ودليل الإمكان أما تماثل الأجسام ، فيجوز الخرق على السماء كالأرض ، وعروج الإنسان كغيره ، وأما عدم دليل الامتناع وأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال ، وأيضا لو كان دعوى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) المعراج في المنام أو بالروح لما أنكره الكفرة غاية الإنكار ، ولم يرتد بعض من أسلم ترددا منه في صدق النبي (عليه‌السلام) تمسك المخالف بما روي عن عائشة (رضي الله عنها) أنها قالت : والله ما فقدت جسد محمد رسول الله ، وعن معاوية إنها كانت رؤيا صالحة ، وأنت خبير بأنه على تقدير صحة روايته لا يصلح حجة في مقابلة ما ورد من الأحاديث وأقوال كبار الصحابة ، وإجماع القرون اللاحقة.

قال : المبحث السادس

(الأنبياء معصومون عما ينافي مقتضى المعجزة كالكذب في التبليغ. وجوزه القاضي سهوا ، وعن الكفر ، وجوزه الأزارقة (١) حيث جوزوا الذنب مع القول بأن كل ذنب كفر ، وعن تعمد الكبار سمعا عندنا ، وعقلا عند المعتزلة ، وجوزه الحشوية

__________________

(١) الأزارقة : فرقة من فرق الخوارج التي تزعمها نافع بن الأزرق الذي توفي في حياة عبد الملك بن مروان عام ٦٥ ه‍ وهو من أصل البصرة ، صحب في أول أمره عبد الله بن عباس ، وله أسئلة رواها عنه قال الذهبي مجموعة في جزء أخرج الطبراني بعضها في مسند ابن عباس من المعجم الكبير ، وكان وأصحاب له من أنصار الثورة على عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ووالوا عليا إلى أن كانت قضية التحكيم فاجتمعوا في حروراء ، وهي قرية من ضواحي الكوفة ونادوا بالخروج على علي ، وكان نافع جبارا فتاكا قاتله المهلب ابن أبي صفرة ، ولقى الأهوال في حربه وقتل يوم «دولاب» على مقربة من الأهواز.

٤٩

وعن الصغائر المنفرة وكذا تعمد غير المنفرة خلافا لإمام الحرمين ، وأبي هاشم ، والمختار عن سهو الكبيرة أيضا لنا لو صدر عنهم الذنب ، لزم حرمة اتباعهم ، ورد شهادتهم ، ووجوب زجرهم ، واستحقاقهم العذاب والذم ، وعدم نيلهم عهد النبوة ، وكونهم غير مخلصين ، وغير مسارعين في الخيرات ، وغير معدودين من المصطفين الأخيار ، واللوازم منتفية ، وفي قيام بعض الوجوه على الصغيرة ، وسهو الكبيرة نظر. احتج المخالف بما نقل من نسبة المعصية والذنب إليهم ، ومن توبتهم واستغفارهم. والجواب إجمالا رد ما نقل آحادا وحمل المتواتر والمنصوص على السهو ، أو ترك الأولى ، أو ما قبل البعثة ، أو نحو ذلك والتفاصيل في التفاسير).

في عصمة الأنبياء ، وقد سبق أن المعجزة تقتضي الصدق في دعوى النبوة وما يتعلق بها من التبليغ ، وشرعية الأحكام. فما يتوهم صدوره عن الأنبياء من القبائح إما أن يكون منافيا لما يقتضيه المعجزة كالكذب فيما يتعلق بالتبليغ أو لا. والثاني إما أن يكون كفرا ومعصية غيره ، وهي إما أن تكون كبيرة كالقتل والزنا ، أو صغيرة منفرة كسرقة لقمة ، والتطفيف بحبة. أو غير منفرة ككذبة ، وهمّ بمعصية. كل ذلك إما عمدا أو سهوا ، وبعد البعثة أو قبلها. والجمهور على وجوب عصمتهم (١) عما ينافي مقتضى المعجزة ، وقد جوزه القاضي سهوا زعما منه أنه لا يدخل في التصديق المقصود بالمعجزة وعن الكفر ، وقد جوزه الأزارقة من الخوارج بناء على تجويزهم الذنب ، مع قولهم بأن كل ذنب كفر ، وجوز الشيعة إظهاره تقية واحترازا عن إلقاء النفس في التهلكة ورد بأن أولى الأوقات بالتقية ابتداع الدعوة لضعف الداعي ، وشوكة المخالف وكذا عن تعمد الكبائر بعد البعثة ، فعندنا سمعا ، وعند المعتزلة عقلا ، وجوزه الحشوية (٢) إما لعدم دليل الامتناع ، وإما لما سيجيء من شبه الوقوع ،

__________________

(١) العصمة : ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها ، والعصمة المؤثمة : هي التي يجعل من هتكها آثما ، والعصمة المقومة : هي التي يثبت بها للانسان قيمة بحيث من هتكها فعليه القصاص أو الدية.

(٢) الحشوية : فرقة من الفرق الإسلامية أجمعت على الجبر والتشبيه ، وينكرون الخوض في الكلام والجدل ، ويقولون على التقليد وظواهر الروايات والتشبيه ولهذا تسمى بالمشبهة وتنسب هذه الفرقة إلى محمد ابن كرام الذي نشأ في سجستان وتوفي ببيت المقدس سنة ٨٦٩ م.

٥٠

وكذا عن الصغائر المنفرة لإخلالها بالدعوة إلى الاتباع. ولهذا ذهب كثير من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة أيضا ، وبعض الشيعة إلى نفي الصغائر ولو سهوا. والمذهب عندنا منع الكبائر بعد البعثة مطلقا ، والصغائر عمدا لا سهوا ، لكن لا يصرون ولا يقرون ، بل ينبهون فيتنبهون ، وذهب إمام الحرمين منا وأبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغائر عمدا. لنا. أنه لو صدر عنهم الذنب لزم أمور كلها منتفية.

الأول ـ حرمة اتباعهم. لكنه واجب بالإجماع ، وبقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (١).

الثاني ـ رد شهادتهم ـ لقوله تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ...) (٢) الآية.

والإجماع على ذلك ، لكنه منتف للقطع بأن من يرد شهادته في القليل من متاع الدنيا لا يستحق القبول في أمر الدين القائم إلى يوم الدين.

الثالث ـ وجوب منعهم وزجرهم ، لعموم أدلة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر. لكنه منتف لاستلزامه إيذائهم المحرم بالإجماع ، ولقوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) (٣) الآية.

الرابع ـ استحقاقهم العذاب واللعن واللوم والذم لدخولهم تحت قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) (٤) وقوله (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٥) وقوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) (٦) وقوله : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (٧).

لكن ذلك منتف بالإجماع. ولكونه من أعظم المنفرات.

__________________

(١) سورة آل عمران آية رقم ٣١.

(٢) سورة الحجرات آية رقم ٦.

(٣) سورة التوبة آية رقم ٦١.

(٤) سورة الجن آية رقم ٢٣.

(٥) سورة هود آية رقم ١٨.

(٦) سورة الصف آية رقم ٢.

(٧) سورة البقرة آية رقم ٤٤.

٥١

الخامس ـ عدم نيلهم عهد النبوة لقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١) فإن المراد به النبوة أو الإمامة التي دونها.

السادس ـ كونهم غير مخلصين ، لأن المذنب قد أغواه الشيطان ، والمخلص ليس كذلك لقوله تعالى حكاية : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٢).

لكن اللازم منتف بالإجماع. وبقوله تعالى في إبراهيم ويعقوب : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) (٣). وفي يوسف : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٤).

السابع ـ كونهم من حزب الشيطان ومتبعيه. واللازم قطعي البطلان.

الثامن ـ عدم كونهم مسارعين في الخيرات ، ومعدودين عند الله من المصطفين الأخيار ، إذ لا خير في الذنب ، لكن اللازم منتف لقوله تعالى في حق بعضهم : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) (٥). (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) (٦).

وحصول المطلوب من هذه الوجوه ، محل بحث ، لأن وجوب الاتباع إنما هو فيما يتعلق بالشريعة وتبليغ الأحكام ، وبالجملة فيما ليس بزلة ولا طبع واستحقاق العذاب ، ورد الشهادة إنما يكون بكبيرة ، أو إصرار على صغيرة من غير إنابة ورجوع ، ولزوم الزجر والمنع ، واستحقاق العذاب واللوم إنما هو على تقدير التعمد وعدم الإنابة ، ومع ذلك فلا يتأذى به النبي ، بل يبتهج وبمجرد كبيرة سهوا أو صغيرة ولو عمدا لا يعد المرء من الظالمين على الإطلاق ، ولا من الذين أغواهم الشيطان ، ولا من حزب الشيطان ، سيما مع الإنابة ، وعلى كون الخيرات لعموم كل

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ١٢٤.

(٢) سورة الحجر آية رقم ٣٩ ، ٤٠.

(٣) سورة ص آية رقم ٤٦.

(٤) سورة يوسف آية رقم ٢٤.

(٥) سورة الأنبياء آية رقم ٩٠.

(٦) سورة ص آية رقم ٤٧.

٥٢

فعل وترك. فمسارعة البعض إليها أو كونه من زمرة الأخيار لا ينافي صدور ذنب عن آخر سيما سهوا أو مع التوبة (١). وبالجملة فدلالة الوجوه المذكورة على نفي الكبيرة سهوا ، أو الصغيرة الغير المنفر عمدا على ما هو المتنازع محل نظر ، احتج المخالف بما نقل من أقاصيص الأنبياء ، وما شهد به كتاب الله من نسبة المعصية والذنب إليهم ، ومن توبتهم واستغفارهم وأمثال ذلك.

والجواب عنه إما إجمالا فهو أن ما نقل آحادا مردود وما نقل متواترا أو منصوصا في الكتاب محمول على السهو والنسيان أو ترك الأولى ، أو كونه قبل البعثة ، أو غير ذلك من المحامل والتأويلات ، وإما تفصيلا فمذكور في التفاسير وفي الكتب المصنفة في هذا الباب. أما في قصة آدم (عليه‌السلام) فأمران.

أحدهما ـ ما ورد في التنزيل من أنه عصى وغوى وأزله الشيطان ، وخالف النهي عن أكل الشجرة ، وبنزع اللباس ، والإخراج من الجنة ثم تاب الله تعالى عليه واجتباه.

والجواب : أنه كان قبل البعثة كيف ولم تكن له في الجنة أمة أو كان عن نسيان لقوله تعالى : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (٢).

أو كان زلة وسهوا حيث ظن أن المنهي شجرة بعينها ، وقد قرب فردا آخر من جنسها ، وإنما عوتب لترك التيقظ والتنبه لإصابة المراد. وقد يعتذر بأنه وإن كان عمدا ، لكن لم يكن إلا صغيرة ، وهذا هو الظاهر ، إلا إن فيه تسليما للمدعي.

وثانيهما ـ قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها)(٣). إلى قوله : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما).

ولم يقل أحد في حق الأنبياء بالشرك في الألوهية ولو قبل البعثة ، فالوجه على

__________________

(١) التوبة : هي الرجوع إلى الله بحل عقدة الإصرار عن القلب ثم القيام بكل حقوق الرب. والتوبة النصوح : هي توثيق بالعزم على أن لا يعود لمثله. قال ابن عباس : التوبة النصوح : الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع بالبدن ، والإضمار على أن لا يعود.

(٢) سورة طه آية رقم ١١٥.

(٣) سورة الأعراف آية رقم ١٨٩ ، ١٩٠.

٥٣

أنه على حذف المضاف أي جعل أولادهما له شركاء ، بدليل قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١).

أو المراد ما وقع له من الميل إلى طاعة الشيطان ، وقبول وسوسته ، أو الخطاب لقريش ، والنفس الواحدة قضى. ومعنى «جعل منها زوجها» جعلها من جنسها عربية قرشية. وإشراكهما فيما آتاهما الله تسمية أولادهما بعبد مناف ، وعبد العزى ، وعبد الدار ، ونحو ذلك ، وأما الشبهة في حق نوح (عليه‌السلام) فهو أن قوله تعالى : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) (٢) تكذيب له في قوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) (٣).

والجواب أنه ليس للتكذيب ، بل للتنبيه ، على أن المراد بالأهل في الوعد هو الأهل الصالح ، أو المعنى أنه ليس من أهل دينك ، أو أنه أجنبي منك ، وإن أضفته إلى نفسك بأبنائك لما روي من أنه كان ابن امرأته ، والأجنبي إنما يعد من آل النبي إذا كان له عمل صالح ، وأما الشبهة في حق إبراهيم (عليه‌السلام) فهو أنه كذب في قوله تعالى : (هذا رَبِّي) (٤) و(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) (٥) و(إِنِّي سَقِيمٌ) (٦).

والجواب : أن الأول على سبيل الفرض والتقدير ، كما يوضع الحكم الذي يراد إبطاله أو على الاستفهام ، أو على أنه كان في مقام النظر والاستدلال. وذلك قبل البعثة.

والثاني على التعريض والاستهزاء.

والثالث على أن به مرض الهم والحزن من عنادهم ، أو الحمى على ما قيل. وأما الشبهة في قصة يوسف من جهة يعقوب (عليهما‌السلام) الإفراط في المحبة ، والحزن والبكاء.

والجواب : أنه لا معصية في ميل النفس سيما من يلوح عليه آثار الخير

__________________

(١) سورة الأعراف آية رقم ١٩٠.

(٢) سورة هود آية رقم ٤٦.

(٣) سورة هود آية رقم ٤٥.

(٤) سورة الأنعام آية رقم ٤٦.

(٥) سورة الأنبياء آية رقم ٦٣.

(٦) سورة الصافات آية رقم ٨٩.

٥٤

والصلاح ، وأنواع الكمال ، ولا في بث الشكوى والحزن إلى الله تعالى في مصائب يكون من جهة العباد سيما وقيل : إنه كان من خوف أن يموت يوسف (عليه‌السلام) على غير دين الإسلام. ومن جهة الأخوة ما فعلوا بيوسف ، وما قالوا من الكذب.

والجواب : أنهم لم يكونوا أنبياء. ومن جهة يوسف الهم المشار إليه بقوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) (١) و(جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) (٢).

والرضا بسجود إخوته وأبويه له.

والجواب : أن ذلك قبل البعثة. أو المراد : (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (٣) على أن يكون الجواب المحذوف ما دل عليه الكلام السابق. ويكون التقدير : لو لا أن رأى برهان ربه لخالطها ، أو المراد الميلان المذكور في الطبيعة البشرية ، لا الهم بالمعصية ، والقصد إليها ، أو هو من باب المشارفة ، أي شارف أن يهم بها. وبالجملة فلا دلالة هاهنا على العزم والقصد إلى المعصية فضلا عما يذكره الحشوية من الحشويات. ولهذا ورد في هذا المقام من الثناء على يوسف ما ورد من غير أن تنعى عليه زلة ، أو يذكر له استغفار وتوبة.

وأما جعل السقاية في رحل أخيه ، فقد كان بإذنه ورضاه ، بل بإذن الله تعالى. ونسبة السرقة إلى الأخوة تورية عما كانوا فعلوا بيوسف مما يجري مجرى السرقة. أو هو قول المؤذن : والسجدة كانت عندهم تحية وتكرمة كالقيام والمصافحة. لو كانت مجرد انحناء وتواضع ، لا وضع جبهة.

وأما في قصة موسى فقتل القبطي وتوبته عنه ، واعترافه لكونه من عمل الشيطان محمول على أنه كان خطأ ، وقبل البعثة ، وإذنه للسحرة في إظهار السحر بقوله : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) (٤).

__________________

(١) سورة يوسف آية رقم ٢٤.

(٢) سورة يوسف آية رقم ٧٠.

(٣) سورة يوسف آية رقم ٢٤.

(٤) سورة يونس آية رقم ٨٠.

٥٥

ليس رضاء به. بل الغرض إظهار إبطاله ، او اظهار معجزته ، ولا يتم الا به وقيل لم يكن حراما حينئذ ، وإلقاء الألواح كان عن دهشة وتحير لشدة غضبه والأخذ برأس هارون ، وجره إليه لم يكن على سبيل الإيذاء ، بل كان يدنيه الى نفسه ليتفحص منه حقيقة الحال ، فخاف هارون أن يحمله بنو إسرائيل على الإيذاء ، ويفضي إلى شماتة الأعداء ، فلم يثبت بذلك ذنب له ، ولا لهارون ، فإنه كان ينهاهم عن عبادة العجل ، وقوله للخضر : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) (١) أي عجبا. وما فعله الخضر كان بإذن الله تعالى.

وأما في قصة داود (عليه‌السلام) ، فلم يثبت سوى أنه خطب امرأة كان خطبها أوريا ، فزوجها أولياؤها داود دون أوريا ، أو سأل أن ينزل عنها فيطلقها ، وكان ذلك عادة في عهده ، فكان زلة منه لاستغنائه بتسعة وتسعين ، والخصمان كانا ملكين أرسلهما الله تعالى إليه لينبهاه ، فلما تنبه ، استغفر ربه ، وخرّ راكعا وأناب. وسياق الآيات يدل على كرامته عند الله تعالى ، ونزاهته عما ينسبه إليه الحشوية ، إلا أنه بالغ في التضرع والتحزن والبكاء والاستغفار استعظاما للزلة بالنظر إلى ماله من رفيع المنزلة ، وتقرير الملكين تمثيل وتصوير للقصة ، لا إخبار بمضمون الكلام ، ليلزم الكذب ، ويحتاج إلى ما قيل إن المتخاصمين كانا لصين دخلا عليه للسرقة ، فلما رآهما اخترعا الدعوى. أو كانا راعيي غنم ظلم أحدهما الآخر ، والكلام على حقيقته.

وأما في قصة سليمان فأمور :

أحدها ما أشير إليه بقوله : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ ...) (٢) الخ.

وذلك انه اشتغل باستعراض الأفراس حتى غربت الشمس ، وغفل عن العصر ، أو عن ورد كان له وقت العشي ، فاغتمّ لذلك ، واسترد الأفراس فعقرها.

__________________

(١) سورة الكهف آية رقم ٧٤.

(٢) سورة ص آية رقم ٣١.

٥٦

والجواب : أن ذلك كان على سبيل السهو والنسيان ، وعقر الجياد ، وضرب أعناقها كان لإظهار الندم ، وقصد التقرب إلى الله تعالى ، والتصدق على الفقراء من أحب ماله. على أن المفسرين من قال : المراد حبه للجهاد ، وإعلاء كلمة الله. وضمير «توارت» للجياد ، لا للشمس ، وإنما طفق مسحا بالسوق والأعناق تشريفا لها ، أو امتحانا ، أو إظهارا لإصلاح آلة الجهاد بنفسه.

وثانيها ـ ما أشير إليه بقوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ ..) (١) الآية.

فإن كان ذلك ما روي أنه ولد له ابن ، فكان يغذوه في السحابة خوفا من أن تقتله الشياطين أو تخبله ، مما دعاه ، إلى أن ألقي على كرسيه ميتا ، فتنبه لخطئه في ترك التوكل ، فاستغفر وأناب. فهذا مما لا بأس به ، وغايته ترك الأولى ، وليس في التحفظ ، ومباشرة الأسباب ترك الامتثال لأمر التوكل على ما قال (عليه‌السلام) : «اعقلها وتوكل» (٢).

وكذا ما روي أنه قال : «لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ، كل واحدة تأتي بفارس مجاهد في سبيل الله» ولم يقل : «إن شاء الله». فلم تحمل إلا امرأة واحدة ، جاءت بشق ولد له عين واحدة ، ويد واحدة ، ورجل واحدة. فألقته القابلة على كرسيه.

وأما ما روي عن حديث الخاتم والشيطان ، وعبادة الوثن في بيته ، وجلوس الشيطان على كرسيه ، فعلى تقدير صحته يجوز أن يكون اتخاذ التماثيل غير محرم في شريعته وعبادة التماثيل في بيته غير معلوم له.

وثالثها ـ ما يشعر به قوله تعالى : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)(٣).

__________________

(١) سورة ص آية رقم ٣٤.

(٢) الحديث أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة ٦٠ باب ٢٥١٧ حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى ابن سعيد القطان حدثنا المغيرة بن أبي قرة السدوسي قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قال رجل يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل قال : أعقلها وتوكل. قال عمرو بن علي ، قال : يحيى ، وهذا عندي حديث منكر. وقال الترمذي : وهذا حديث غريب من حديث أنس لا نعرفه إلا من هذه الوجه.

(٣) سورة ص آية رقم ٣٥.

٥٧

من الحسد ، وعدم إرادة الخير للغير.

والجواب : أن ذلك لم يكن حسدا ، بل طلبا للمعجزة على وفق ما غلب في زمانه ، ولاق بحاله. فإنهم كانوا يفتخرون في ذلك العهد بالملك والجاه ، وهو كان ناشئا في بيت الملك والنبوة ، ووارثا لهما ، أو إظهارا لإمكان طاعة الله وعبادته مع هذا الملك العظيم. وقيل: أراد ملكا لا يورث مني ، وهو ملك الدين ، لا الدنيا ، أو ملكا لا أسلبه ، ولا يقوم فيه غيري مقامي ، كما وقع ذلك مرة. وقيل : ملكا خفيا لا ينبغي للناس ، وهي القناعة. وقيل : كان ملكه عظيما ، فخاف أن لا يقوم غيره بشكره ولا يحافظ فيه على حدود الله.

وأما في قصة يونس مما يشعر به قوله تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) (١)

فالجواب أن المغاضبة على الكفار المعاندين ، لا على الله تعالى. ومعنى: «لن نقدر» ، لن نضيق عليه. كما في قوله تعالى : (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) (٢)

فلا يوجب شكا في القدرة. ومعنى الظلم في قوله : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٣) ترك الأفضل وهو الصبر. وهذا معنى قوله تعالى : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) (٤)

أي في ترك الصبر على معاندة الكفار.

وأما في حق نبينا فمثل : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (٥) و(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) (٦) و(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) (٧).

محمول على ما فرط منه من الزلة وترك الأفضل ، وقوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى)(٨).

معناه فقدان الشرائع والأحكام ، وقيل : إنه ضل في صباه في بعض شعاب

__________________

(١) سورة الأنبياء آية رقم ٨٧.

(٢) سورة الفجر آية رقم ١٦.

(٣) سورة الأنبياء آية رقم ٨٧.

(٤) سورة القلم آية رقم ٤٨.

(٥) سورة غافر آية رقم ٥٥.

(٦) سورة التوبة آية رقم ١١٧.

(٧) سورة الفتح آية رقم ٢.

(٨) سورة الضحى آية رقم ٧.

٥٨

مكة ، فرده أبو جهل إلى عبد المطلب. وقيل : ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب. وبالجملة لا دلالة على العصيان ، والميل عن طريق الحق. ولذا قال : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (١) وقوله : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) (٢).

ثم لما كان يثقل عليه ، ويغمه من فرطاته قبل النبوة ، أو من جهله بالشرائع والأحكام ، أو من تهالكه على إسلام أولي العناد وتلهفه.

وقوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (٣). تلطف في الخطاب ، وعتاب على ترك الأفضل ، وإرشاد إلى الاحتياط في تدبيره الخيرات. قوله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ..) إلى قوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). (٤)

عتاب على ترك الأفضل ، وهو أن لا يرضى باختيار الصحابة الفداء. وكذا الكلام في قوله : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (٥)

وقوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) (٦).

وما روي من أنه قرأ بعد قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٧) «تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها لترتجى» فلما أخبره جبريل بما وقع منه ، حزن وخاف خوفا شديدا ، فنزل قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (٨).

تسلية له.

فالجواب : أنه كان من إلقاء الشيطان ، لا تعمدا منه. وقيل : بل الغرانيق هي الملائكة. وكان هذا قرآنا فنسخ. وقيل : معنى تمنى النبي حديث النفس. وكان الشيطان يوسوس إليه غير الهدى ، فينسخ الله وساوسه من نفسه ، ويهديه إلى الصواب.

__________________

(١) سورة النجم آية رقم ٢.

(٢) سورة الشرح آية رقم ٢.

(٣) سورة التوبة آية رقم ٤٣.

(٤) سورة الأنفال آية رقم ٦٧.

(٥) سورة التحريم آية رقم ١.

(٦) سورة عبس آية رقم ١ ، ٢.

(٧) سورة النجم آية رقم ١٩ ، ٢٠.

(٨) سورة الحج آية رقم ٥٢.

٥٩

وقوله : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) (١).

عتاب على أنه أخفى في نفسه عزيمة تزوج زينب عند تطليق زيد إياها خوفا من طعن المنافقين ، ولا خفاء في أن إخفاء أمر دنيوي خوفا من طعن أعداء الدين ليس من الصغائر ، فضلا عن الكبائر ، بل غايته زلة وترك الأولى.

وكذا ميلان القلب لزينب ، وأما مثل قوله :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) (٢) (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) (٣) (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (٤) (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٥) (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ) (٦).

والجواب : أن الأمر لا يقتضي سابقة تركه ، ولا النهي سابقة فعله ، ولا الشرط وقوع مضمونه ، وبالجملة فمسألة جواز الصغيرة عمدا على الأنبياء في معرض الاجتهاد لا قاطع فيها ، لا نفيا ولا إثباتا.

فإن قيل : ما بال زلة الأنبياء حكيت بحيث تقرأ بأعلى الصوت على وجه الزمان ، مع أن الله غفار ستار ، وقد أمرنا بالستر على من ارتكب ذنبا؟

قلنا ليدل على صدق الأنبياء ، وكون ما يبلغون السيئ بأمر من الله من غير إخفاء لشيء ، أو ليكون امتحانا للأمم كيف يفعلون بأنبيائهم بعد الاطلاع على زلالتهم ، وليعلموا أن الأنبياء مع جلالة قدرهم ، وكثرة طاعاتهم كيف التجئوا إلى التضرع والاستغفار في أدنى زلة ، وأن الصغيرة ليست مما يقدح في الولاية والإيمان البتة ، أو تقع مكفرة لا محالة ، بحيث لا عتاب عليها ولا عقاب.

__________________

(١) سورة الأحزاب آية رقم ٣٧.

(٢) سورة الأحزاب آية رقم ١.

(٣) سورة الأنعام آية رقم ٥٢.

(٤) سورة البقرة آية رقم ١٤٧.

(٥) سورة الزمر آية رقم ٦٥.

(٦) سورة يونس آية رقم ٩٤.

٦٠