شرح المقاصد - ج ٥

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٥

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

١

٢

٣
٤

السمعيات

(قال : المقصد السادس)

في السمعيات وفيه فصول.

أربعة مباحث : النبوة ، ومباحث المعاد ، ومباحث الأسماء والأحكام وما يلائمها ، ومباحث الإمامة.

(قوله : الفصل الأول في النبوة (١) وفيه مباحث).

وهو كون الإنسان مبعوثا من الحق إلى الخلق. فإن كان النبي مأخوذا من النباوة وهو الارتفاع لعلو شأنه واشتهار مكانه ، أو من النبي بمعنى الطريق لكونه وسيلة إلى الحق تعالى ، فالنبوة على الأصل كالأبوة ، وإن كان من النبأ وهو الخبر لإنبائه عن الله تعالى فعلى قلب الهمزة واوا ثم الإدغام كالمروة.

(قوله : المبحث الأول).

النبي إنسان بعثه الله لتبليغ ما أوحى إليه ، وكذا الرسول ، وقد يخص بمن (خص بشريعة وكتاب ، والبعثة لمتضمنها مصالح لا تحصى لطف من الله تعالى ، ورحمة يختص بها من يشاء من عباده من غير وجوب عليه خلافا للمعتزلة ولا عنه خلافا للحكماء وبعض المتكلمين ذهابا إلى ان مقتضى الحكمة يجب ان يقع

__________________

(١) قال الشريف الجرجاني : النبي من أوحى إليه بملك أو ألهم في قلبه أو نبه بالرؤيا الصالحة فالرسول أفضل بالوحي الخاص الذي فوق وحي النبوة ، لأن الرسول : هو من أوحى إليه جبريل خاصة بتنزل الكتاب من الله تعالى.

٥

لامتناع السفه كالمعلوم وقوعه لامتناع الجهل.)

الرسول :

له شريعة وكتاب فيكون أخص من النبي ، واعترض بما ورد في الحديث من زيادة عدد الرسل على عدد الكتب ، فقيل : هو من له كتاب أو نسخ لبعض أحكام الشريعة السابقة ، والنبي قد يخلو عن ذلك كيوشع (عليه‌السلام) ، وفي كلام بعض المعتزلة أن الرسول صاحب الوحي بواسطة الملك ، والنبي هو المخبر عن الله تعالى بكتاب أو إلهام أو تنبيه في المنام ، ثم البعثة لطف من الله تعالى ورحمة للعالمين لما فيها من حكم ومصالح لا تحصى منها معارضة العقل فيما يستقل بمعرفته مثل وجود الباري ، وعلمه ، وقدرته (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (١) ومنها استفادة الحكم (٢) من النبي فيما لا يستقل به العقل مثل الكلام والرؤية ، والمعاد الجسماني ، ومنها إزالة الخوف الحاصل عند الإتيان بالحسنات لكونه تصرفا في ملك الله بغير إذنه ، وعند تركها لكونه ترك طاعة ، ومنها بيان حال الأفعال التي تحسن تارة وتقبح أخرى من غير اهتداء العقل إلى مواقعها ، ومنها بيان منافع الأغذية والأدوية ومضارها التي لا تفي بها التجربة (٣) إلا بعد أدوار وأطوار مع ما فيها من الأخطار ، ومنها تكميل النفوس البشرية بحسب استعداداتهم المختلفة في العلميات والعمليات. ومنها تعليم الصنائع الخفية (٤) من الخاصيات والضروريات ، ومنها تعليمهم الأخلاق الفاضلة الراجعة إلى الأشخاص والسياسات الكاملة العائدة إلى الجماعات من المنازل والمدن ، ومنها الإخبار بتفاصيل ثواب المطيع ، وعقاب العاصي ، ترغيبا في الحسنات ، وتحذيرا عن السيئات إلى غير ذلك من الفوائد. فلهذا قالت المعتزلة بوجوبها على الله تعالى ، والفلاسفة بلزومها في حفظ نظام العالم على ما سيجيء ، والحاصل أن النظام المؤدي إلى صلاح حال النوع على العموم في المعاش والمعاد لا يتكمل إلا ببعثة

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ١٦٥

(٢) في (ب) الأحكام بدلا من (الحكم)

(٣) في (ب) بزيادة كلمة (الشخصية).

(٤) سقط من (ب) لفظ (الخفية)

٦

الأنبياء ، فيجب على الله تعالى عند المعتزلة لكونه لطفا وصلاحا للعباد ، وعند الفلاسفة لكونه سببا للخير العام المستحيل تركه في الحكمة (١) والعناية الإلهية ، وإلى هذا ذهب جمع من المتكلمين بما وراء النهي ، وقالوا : إنها من مقتضيات حكمة الباري (عزوجل) فيستحيل ان لا يوجد لاستحالة السفه عليه. كما أن ما علم الله وقوعه يجب أن يقع لاستحالة الجهل عليه ، ثم طولوا في ذلك وعولوا على ضروب من الاستدلال مرجعها إلى ما ذكرنا من لزوم السفه والعبث كما في خلق الأغذية ، والأدوية التي لا تتميز عن السموم المهلكة إلا بتجارب لا يتجاسر عليها العقلاء ، ولا يفي بها الأعمار ، وخلق الأبدان التي ليس لها بدون الغذاء إلا الفناء ، وخلق نوع الإنسان المفتقر في البقاء إلى اجتماع لا ينتظم بدون بعثة الأنبياء ، وكخلق العقل المائل إلى المحاسن ، النافر عن القبائح ، الجازم بأن شرفه وكماله في العلم بتفاصيل ذلك ، والعمل بمقتضياتها من الامتثال والاجتناب ، وأنه لا يستقل بجميع ذلك على التفصيل ، بل يفتقر إلى بيان ممن أوجدها ودعا إلى الإتيان بالبعض منها ، والانتهاء عن البعض كالمجمل من الخطاب ، فإن خلق العقل مائلا إلى المحاسن ، نافرا عن القبائح بمنزلة الخطاب في كونه دليلا على الأمر والنهي اللذين هما من الصفات القائمة بذاته تعالى ، إذ لا معنى لهما سوى الدعوة إلى المباشرة والامتناع ، وكما في جعل بعض الأفعال بحيث قد يحمد عاقبته ، فيجب. وقد يذم ، فيحرم ، كالصوم مثلا ، فلو لم يكن له بيان من الشارع لكان في ذلك إباحة ترك الواجب ، وإباحة مباشرة المحظور وهو خارج عن الحكمة ، فظهر بهذه الوجوه ، وأمثالها أنه لا بد من النبي البتة (٢) ، ولهذا كان في كل عصر للعقلاء نبي أو من يخلفه في إقامة الدليل السمعي ، وكان الغالب على المتمسكين بالشرائع سلوك

__________________

(١) الحكمة : علم يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في الوجود بقدر الطاقة البشرية فهي علم نظري غير آلي ، والحكمة أيضا هي هيئة القوة العقلية العلمية المتوسطة بين الغريزة التي هي إفراط هذه القوة ، والبلادة التي هي تفريطها. والحكمة : تجيء على ثلاثة معان. الأول الإيجاد ، والثاني العلم. والثالث الأفعال المثلثة كالشمس والقمر وغيرهما وقد فسر ابن عباس ـ رضي الله عنهما الحكمة في القرآن بتعلم الحلال والحرام ، وقيل : الحكمة فى اللغة : العلم مع العمل وقيل الحكمة يستفاد منها ما هو الحق في نفس الأمر بحسب طاقة الإنسان ، وقيل كل كلام وافق الحق فهو حكمة.

(٢) قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) وقال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

٧

طريق الحق وسبيل النجاة والرشاد مع اشتغالهم باكتساب أسباب المعاش ، وخلو أكثرهم عن صناعة النظر وحذاقة الذهن ، وعلى الفلاسفة المتشبثين بأذيال العقل العدول عن الصواب والوقوع في الضلال مع رجاحة عقولهم ، ودقة أنظارهم ، وإقبالهم بالكلية على البحث عن المعارف الإلهية والعلوم اليقينية ، وأنت خبير بأن في ترويج أمثال هذا المقال توسيع مجال الاعتزال ، فإنهم لا يعنون بالوجوب على الله تعالى سوى أن تركه لقبحه مخل بالحكمة ، ومظنة لاستحقاق المذمة ، فالحق أن البعثة لطف من الله تعالى ورحمة يحسن فعلها ولا يقبح تركها على ما هو المذهب في سائر الألطاف ، ولا تبتنى على استحقاق من المبعوث واجتماع أسباب وشروط فيه ، بل الله تعالى يختص برحمته من يشاء من عباده وهو (١) (أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).

قال : وللمنكرين.

(شبه إحداها : أنها تتوقف على علم المبعوث بأن الباعث هو الله تعالى ، ولا سبيل إليه ، ورد بجواز نصب الأدلة ، أو خلق العلم الضروري ..

الثاني : أنها عبث ، لأن ما حسن عقلا يفعل ، وما قبح يترك ، وما لم يحسن ولا يقبح يفعل حسب المصلحة ، ورد بأنها تعاضد العقل فيما يستقل ، وتعاونه فيما لا يستقل ، وتدفع الاحتمال فيما يظن ، وتكون الطريق فيما لا يدرك مع أن التفويض إلى العقول المتفاوتة مظنة اختلال النظام.

الثالث : أن مبناها على التكليف بما لا ينتفع به العبد لتضرره ، ولا المعبود لتعاليه مع ما فيه من شغل السر عن التوجه التام ، ورد بأن نفعه جدا غالب.

الرابع : ان في الشرائع ما يشعر بأنها ليست من عند الله كأفعال الصلاة ، والحج ، والوضوء ، والغسل ، وغير ذلك من الأمور الخارجة عن قانون العقل (٢) ، ورد بأنها

__________________

(١) سورة الأنعام آية رقم ١٢٤ وتكملة الآية (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ).

(٢) العقل : جوهر مجرد عن المادة في ذاته مقارن لها في فعله وهي النفس الناطقة التي يشير إليها كل ـ

٨

ابتلاء وتأكيد لملكة الامتثال عند الظاهريين ، وحكم وأسرار خفية ظاهرة على المحققين.

الخامس : القدح في المعجزة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى).

المنكرون للنبوة منهم من قال باستحالتها ، ولا اعتداد بهم ، ومنهم من قال بعدم الاحتياج إليها كالبراهمة (جمع من الهند أصحاب برهام) ومنهم من لزم ذلك من عقائدهم كالفلاسفة النافين لاختيار الباري وعلمه بالجزئيات ، وظهور الملك على البشر ، ونزوله من السموات ، ومنهم من لاح ذلك من على أفعاله وأقواله كالمصرين على الخلاعة وعدم المبالاة ، وفي التكاليف ، ودلالة المعجزات ، وهؤلاء آحاد أوباش من الطوائف ، لا طائفة معينة يكون لها ملة ونحلة. وبالجملة للمنكرين شبه :

الأولى : أن البعثة تتوقف على علم المبعوث بأن الباعث هو الله تعالى ، ولا سبيل إلى ذلك ، والجواب المنع لجواز أن ينصب دليلا له أو يخلق علما ضروريا فيه.

الثانية : وهي للبراهمة أن ما جاء به النبي إما أن يكون موافقا للعقل حسنا عنده ، فيقبل ويفعل ، وإن لم يكن نبيا أو مخالفا له قبيحا عنده فيرد ويترك ، وإن جاء به النبي وأيا ما كان لا حاجة إليه ، فإن قيل : لعله لا يكون حسنا عند العقل ، ولا قبيحا ، قلنا : فيفعل عند الحاجة لأن مجرد الاحتمال لا يعارض تنجز الاحتياج ، ويترك عند عدمها للاحتياط ، والجواب : أن ما يوافق العقل قد يستقل بمعرفته فيعاضده النبي ويؤكده. بمنزلة الأدلة العقلية على مدلول واحد. وقد لا يستقل ، فيدله عليه ويرشده ، وما يخالف العقل قد لا يكون مع الجزم فيدفعه النبي أو يرفع عنه الاحتمال ، وما لا يدرك حسنه ولا قبحه قد يكون حسنا يجب فعله أو قبيحا يجب تركه ، هذا مع أن العقول متفاوتة ، فالتفويض إليها مظنة التنازع والتقاتل ومفض إلى اختلال النظام ، وأن فوائد البعثة لا تنحصر في بيان حسن الأشياء وقبحها على ما تقدم.

__________________

ـ أحد بقوله : أنا ، وقيل العقل : جوهر روحاني خلقه الله تعالى متعلقا بالبدن ، وقيل العقل نور في القلب يعرف الحق والباطل ، وقيل العقل : جوهر مجرد عن المادة يتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وقيل العقل. قوة النفس الناطقة ، والله أعلم.

٩

الثالثة : أن العمدة في باب البعثة هي التكليف ، وهو عبث لا يليق بالحكيم ، إذ لا يشتمل على فائدة للعبد لكونه في حقه مضرة ناجزة ومشقة ظاهرة ، ولا للمعبود لتعاليه عن الاستفادة والانتفاع ، وأيضا فيه شغل للقلب عما هو غاية الأعمال ونهاية الكمال ، أعني الاستغراق في معرفته ، والغناء في عظمته ، والجواب : أن مضاره الناجزة قليلة جدا بالنسبة إلى منافعها الدنيوية والأخروية الظاهرة لدى الواقفين على ظواهر الشريعة النبوية فضلا عن الكاشفين عن أسرارها الخفية ، وإذا تأملتم فالتكليف صرف إلى ما ذكرتم لا شغل عنه على ما توهمتم.

الرابعة : وهي لأهل الخلاعة المنهمكين في اتباع الهوى وترك الطاعة أنا نجد الشرائع مشتملة على أفعال وهيئات لا يشك في أن الصانع الحكيم لا يعتبرها ولا يأمر بها كما نشاهد في الحج ، والصلاة ، وكغسل بعض الأعضاء لتلوث بعض آخر ، إلى غير ذلك من الأمور الخارجة عن قانون العقل ، والجواب : أنها أمور تعبدية اعتبرها الشارع ابتلاء للمكلفين ، وتطويعا لنفوسهم وتأكيدا لملكة (١) امتثالهم الأوامر والنواهي. ولعل فيها حكما ومصالح لا يعلمها (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (٢) وقد أشار إليها بعض الخائضين في بحار أسرار الشريعة.

الخامسة : القدح في ثبوت المعجزة ووجه دلالتها ونقلها سيأتي بأجوبتها.

__________________

(١) الملكة : هي صفة راسخة في النفس ، وتحقيقه أنه تحصل للنفس هيئة بسبب فعل من الأفعال ، ويقال لتلك الهيئة كيفية نفسانية وتسمى حالة ما دامت سريعة الزوال فإذا تكررت ومارستها النفس حتى رسخت تلك الكيفية فيها وصارت بطيئة الزوال فتصير ملكة ، وبالقياس إلى ذلك الفعل عادة وخلقا.

(٢) سورة آل عمران آية رقم ٧ وتكملة الآية (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).

١٠

قال : المبحث الثاني المعجزة :

(أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي وعدم المعارضة ، وقيل : أمر قصد به إظهار صدق من ادعى النبوة والرسالة ، وزاد بعضهم قيد موافقة الدعوى. وبعضهم مقارنة زمن التكليف إذ عند انقراضه تظهر الخوارق ، لا لقصد التصديق).

مأخوذ من العجز المقابل للقدرة ، وحقيقة الإعجاز إثبات العجز استعير لإظهاره ، ثم أسند مجازا إلى ما هو سبب العجز ، وجعل اسما له ، فالتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية ، كما في الحقيقة وقيل للمبالغة كما في العلامة. وذكر إمام الحرمين بناء على رأي الأشعري (١) أن هاهنا تجوزا آخر ، هو استعمال العجز في عدم القدرة كالجهل في عدم العلم ، وهو في الحقيقة ضد للقدرة ، وإنما يتعلق بالموجود ، وبما يقدر عليه ، حتى إن عجز الزمن إنما هو عن القعود ، بمعنى أنه وجد منه اضطرارا لا اختيارا. فلو تحقق العجز عن المعارضة ، لوجبت المعارضة الاضطرارية ، والمعجزة في العرف أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة ، وإنما قال : أمر ليتناول الفعل كانفجار الماء من بين الأصابع وعدمه ، كعدم إحراق النار ، ومن اقتصر على الفعل ، جعل المعجز هاهنا كون النار (بَرْداً وَسَلاماً) (٢) وبقاء الجسم على ما كان عليه من غير احتراق ، واحترز بقيد المقارنة للتحدي عن كرامات الأولياء والعلامات الإرهاصية التي تتقدم بعثة الأنبياء ، وعن أن يتخذ الكاذب معجزة من مضى من الأنبياء حجة لنفسه ، وبقيد عدم المعارضة عن السحر والشعبذة ، كذا ذكره الإمام الرازي (٣) ، وفيه نظر :

__________________

(١) له ترجمة وافية في هذا الجزء.

(٢) سورة الأنبياء آية رقم ٦٩.

(٣) هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين أبو عبد الله ، فخر الدين الرازي ، الإمام المفسر ، أوحد زمانه في المعقول والمنقول وعلوم الأوائل ، وهو قرشي النسب أصله من طبرستان ومولده في الرى عام ٥٤٤ ه‍ ـ ويقال له «ابن خطيب الري» رحل إلى خوارزم وما وراء النهر وخراسان وتوفي في هراه ـ

١١

أما أولا : فلأنه لا بد من قيد الظهور على يد المدعي ، ومن جهته احترازا عن أن يتخذ الكاذب معجزة من يعاصره من الأنبياء حجة لنفسه ، وعن ان يقول : معجزتي ما ظهر مني في السنين الماضية ، فقد صرحوا بأنه لا عبرة بذلك ، ومن قيد الموافقة للدعوى احترازا عما إذا قال : معجزتي نطق هذا الجماد. فنطق بأنه مفتر كذاب. ولهذا قال الشيخ أبو الحسن : هي فعل من الله تعالى ، أو قائم مقام الفعل. يقصد بمثله التصديق ، وقال بعض الأصحاب : هي أمر قصد به إظهار صدق من ادعى الرسالة.

وأما ثانيا : فلأن القوم عدوا من المعجزات ما هو متقدم غير مقرون بالتحدي ، ولا مقصود به إظهار الصدق لعدم الدعوى حينئذ ، كإظلال الغمام ، وتسليم الحجر والمدر ، ونحو ذلك.

وأما ثالثا : فلأن المعجزة قد تتأخر عن التحدي ، كما إذا قال : معجزتي ما يظهر مني يوم كذا ، فظهرت.

ويمكن الجواب عن الأول بأن ذكر التحدي مشعر بالقيدين. فإن معناه طلب المعارضة فيما جعله شاهدا لدعوته ، وتعجيز الغير عن الإتيان بمثل ما أبداه. تقول : تحديت فلانا إذا باريته الفعل ، ونازعته الغلبة ، وتحديته القراءة أينا أقرأ. وبالتحدي يحصل ربط الدعوى بالمعجزة حتى لو ظهرت آية من شخص وهو ساكت لم يكن معجزة. وكذا لو ادعى الرسالة ، فظهرت الآية من غير إشعار منه بالتحدي. قالوا : ويكفي في التحدي أن يقول : آية صدقي أن يكون كذا وكذا. ولا يحتاج إلى أن يقول : هذه آيتي ولا يأتي أحد بمثلها ، فعلى هذا لا تكون معجزة نبي ماض ، ولا معاصر معجزة للغير.

وعن الثاني أن عد الإرهاصات من جملة المعجزات إنما هو على سبيل

__________________

ـ عام ٦٠٦ ه‍ أقبل الناس على كتبه في حياته يتدارسونها ، وكان يحسن الفارسية من تصانيفه مفاتيح الغيب ، ولوامع البينات في شرح أسماء الله الحسنى ، والصفات ، ومعالم أصول الدين ، ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين. وغير ذلك كثير. راجع طبقات الأطباء ٢ : ٢٣ والوفيات ١ : ٤٧٤

١٢

التغليب والتشبيه ، والمحققون على أن خوارق العادات المتعلقة ببعثة النبي إذا كانت متقدمة. فإن ظهرت منه. فإن شاعت ، وكان هو مظنة البعثة كما في حق نبينا (عليه‌السلام) حيث أخبر بذلك بعض أهل الكتاب والكهنة. فإرهاص (١) أي تأسيس لقاعدة البعثة ، وإلا فكرامة محضة ، وإن ظهرت من غيره ، فإن كان من الأخيار ، فكذلك أي إرهاص أو كرامة، وإلا فإرهاص محض كظهور النور في جبين عبد الله ، أو ابتلاء كما إذا ظهرت على يد من ادعى الألوهية. فإن الأدلة القطعية قائمة على كذبه بخلاف مدعي النبوة. فلهذا جوزوا إظهارها على يد المتأله دون المتنبي.

وعن الثالث أن المتأخر ، إن كان بزمان يسير يعد مثله في العرف مقارنا ، فلا إشكال ، وإن كان بزمان متطاول فالمعجزة عند من شرط المقارنة هو ذلك القول المقارن ، فإنه إخبار بالغيب ، لكن العلم بإعجازه تراخى إلى وقت وقوع ذلك الأمر ، ومن جعل المعجزة نفس ذلك الأمر ، فهو لا يشترط المقارنة ، وعلى التقديرين لا يصح من ذلك النبي تكليف الناس بالتزام الشرع ناجزا لانتفاء المعجزة أو العلم بها. لكن لو بين الأحكام وعلق التزامها بوقوع ذلك الأمر ، صح عند الإمام ، ولم يصح عند القاضي ، ثم المراد بعدم المعارضة أن لا يظهر مثله ممن ليس بنبي ، وأما من نبي آخر ، فلا امتناع ، وزاد بعضهم في تفسير المعجزة قيدا آخر ، وهو أن يكون في زمان التكليف ، لأن ما يقع في الآخرة من الخوارق ليست بمعجزة ، ولأن ما يظهر عند ظهور أشراط الساعة وانتهاء التكاليف لا يشهد بصدق الدعوى (٢) لكونه زمان نقض العادات وتغير الرسوم.

قال : وأما إمكانها فضروري

(وكذا إمكان نقلها إلى الغائبين ، وأما وجه دلالتها فهو أنها بمنزلة صريح (٣)

__________________

(١) الإرهاص : ما يظهر من الخوارق عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قبل ظهوره كالنور الذي كان في جبين آباء نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : إحداث أمر خارق للعادة دال على بعثة نبي قبل بعثته وقيل : هو ما يصدر عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل النبوة من أمر خارق للعادة ، قيل إنها من قبيل الكرامات ، فإن الأنبياء قبل النبوة لا يقصرون عن درجة الأولياء.

(٢) في (ب) لدعوى بدلا من (الدعوى)

(٣) سقط من (ب) لفظ (صريح)

١٣

التصديق ، كما إذا ادعى أحد أنه رسول هذا الملك فطولب بالحجة ، فقال : أن يخالف الملك عادته ويقوم عن سريره ثلاث مرات. ففعل. وهذا توضيح بالمثال لاستدلال بقياس الغائب على الشاهد. فإن قيل : هاهنا أنواع احتمالات لا يثبت معها المقصود ..

الأول أن يستند ذلك الأمر إلى المدعي لخاصية في نفسه ، أو مزاج في بدنه ، أو اطلاع منه على بعض الخواص (١) ، أو الأوضاع الفلكية ، أو إلى ملك أو جني ، أو غير ذلك.

الثاني : أن يكون ابتداء عادة أو تكريرا بما لا يكون إلا بعد دهور ..

الثالث : أن يكون مما يعارض ، ولم يعارض لغرض ، أو عورض ولم ينقل لمانع.

الرابع : أن لا يكون لغرض التصديق ، إما لانتفاء الغرض ، أو لثبوت غرض آخر ، كلطف المكلف (٢) ، أو إجابة لدعوة ، أو معجزة لنبي آخر ، أو ابتلاء للعباد ، أو إضلال لهم ، ويعد كونه بمنزلة صريح القول بأنك صادق ، فإنما يفيد إذا استحال الكذب في إخباره ، وما ذلك إلا بالسمع.

فالجواب إجمالا أن الاحتمالات العقلية لا تنافي حصول العلم القطعي (٣) كما في سائر العاديات ، وتفصيلا :

أولا بأنا بينا أن لا مؤثر سيما في مثل هذه الغرائب إلا الله تعالى على أن مجرد التمكين كاف في إفادة المطلوب.

وثانيا : بأن الكلام فيما علم قطعا أنه خارق للعادة ، وأن المتحدين عجزوا عن معارضته مع فرط الاهتمام ، وكمال الاشتغال. ولهذا كانت معجزة كل نبي من جنس ما غلب على أهل زمانه ، كالسحر في زمن موسى (عليه‌السلام) (٤) ، والطب

__________________

(١) في (ب) الخوارق بدلا من (الخواص)

(٢) في (أ) لمكلف بدلا من (المكلف)

(٣) في (ب) اليقين بدلا من (القطعي)

(٤) قال تعالى مخاطبا موسى عليه‌السلام : (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى)

١٤

في زمن عيسى (١) (عليه‌السلام) ، والموسيقى في زمن داود (عليه‌السلام) ، والفصاحة في زمن محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

وثالثا : أنه لا خفاء في ترتب الغايات على أفعاله ، وإن لم تكن أغراضا على أنا لا ندعي سوى أنها تدل على تصديق قائم بذاته ، سواء كان غرضا أم لم يكن.

ورابعا : أن ظهور المعجزة على يد الكاذب وإن جاز عقلا ، فمعلوم الانتفاء قطعا. ومنا من قال باستحالته لإفضائه إلى التعجيز عن الأدلة على صدق دعوى الرسالة ، أو لأن الصدق لازم لها بمنزلة العلم لإيقان الفعل ، أو لأن التسوية بين الصادق والكاذب سفه.

وخامسا : أنها تفيد العلم بالصدق من غير افتقار إلى اعتبار إخبار من الله بمنزلة أن يقول : «جعلتك رسولا ، وأنشأت الرسالة فيك»).

قدح بعض المنكرين للنبوة في المعجزات بأن تجويز خوارق العادات سفسطة ، إذ لو جازت ، لجاز أن ينقلب الجبل ذهبا والبحر دهنا ، والمدعي للنبوة شخصا آخر ، عليه ظهرت المعجزة إلى غير ذلك من المحالات ، وبعضهم بأنها على تقدير ثبوتها لا تثبت على الغائبين لأن أقوى طرق نقلها التواتر ، وهو لا يفيد اليقين ، لأن جواز الكذب على كل أحد يوجب جوازه على الكل ، لكونه نفس الآحاد ، ولأنه لو أفاده لأفاده خبر الواحد ، لأن كل طبقة يفرض عدد التواتر ، فعند نقصان واحد منه إن بقيت مفيدة لليقين ، وهكذا إلى الواحد ، فظاهر. وإن لم تبق كان المفيد هو ذلك الواحد الزائد. ولأنه غير مضبوط بعدد ، بل ضابطه حصول اليقين ، فإثبات اليقين به يكون دورا.

والجواب عن الأول أن المراد بخوارق العادات أمور ممكنة في نفسها ، ممتنعة في العادة. بمعنى أنها لم يجر العادة بوقوعها كانقلاب العصا حية ، فإمكانها ضروري ، وإبداعها ليس أبعد من إبداع خلق الأرض والسماء وما بينهما ، والجزم

__________________

(١) قال تعالى على لسان عيسى عليه‌السلام : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) آل عمران آية ٤٩

١٥

بعدم وقوع بعضها كانقلاب الجبل والبحر ، وهذا الشخص ، وأمثال ذلك لا ينافي إلا الإمكان الذاتي على ما سبق في صدر الكتاب.

وعن الثاني بأن المتواترات أحد أقسام الضروريات ، فالقدح فيها بما ذكر مع أنه ظاهر الاندفاع لا يستحق الجواب. وأما وجه دلالتها أي وجه دلالة المعجزة على صدق الرسالة أنها عند التحقيق بمنزلة صريح التصديق لما جرت العادة به من أن الله تعالى يخلق عقيبها العلم الضروري بصدقه ، كما إذا قام رجل في مجلس ملك بحضور جماعة ، وادعى أنه رسول هذا الملك إليهم ، فطالبوه بالحجة ، فقال : هي أن يخالف هذا الملك عادته ويقوم عن سريره ثلاث مرات ويقعد ففعل ، فإنه يكون تصديقا له ومفيدا للعلم الضروري بصدقه من غير ارتياب.

فإن قيل : هذا تمثيل وقياس للغائب على الشاهد وهو على تقدير ظهور الجامع ، إنما يعتبر في العمليات لإفادة الظن ، وقد اعتبرتموه بلا جامع لإفادة اليقين في العمليات التي هي أساس ثبوت الشرائع. على أن حصول العلم فيما ذكرتم من المثال إنما هو بشواهد من قرائن الأحوال.

قلنا التمثيل إنما هو للتوضيح والتقريب دون الاستدلال ، ولا مدخل لمشاهدة القرائن في إفادة العلم الضروري لحصوله للغائبين عن هذا المجلس عند تواتر القضية إليهم ، وللحاضرين فيما إذا فرضنا الملك في بيت ليس فيه غيره ودونه حجب لا يقدر على تحريكها أحد سواه. وجعل مدعي الرسالة حجته أن الملك يحرك تلك الحجب من ساعته ففعل.

فإن قيل هاهنا احتمالات تنفي الدلالة على الصدق والجزم به ، وهي أنواع :

الأول : احتمال أن لا يكون ذلك الأمر من الله تعالى ، بل يستند إلى المدعي بخاصية في نفسه ، أو مزاج في بدنه ، أو لاطلاع منه على خواص في بعض الأجسام يتخذها ذريعة(١) إلى ذلك ، أو يستند إلى بعض الملائكة أو الجن ، أو إلى اتصالات كوكبية وأوضاع فلكية ، لا يطلع عليها غيره ، إلى غير ذلك من الأسباب

__________________

(١) في (ب) وسيلة بدلا من (ذريعة)

١٦

الثاني : احتمال أن لا يكون خارقا للعادة ، بل ابتداء عادة أراد الله أجراءها أو تكرير عادة لا تكون إلا في دهور متطاولة ، كعود الثوابت إلى نقطة معينة.

الثالث : احتمال أن يكون مما يعارض إلا أنه لم يعارض لعدم بلوغه إلى من يقدر المعارضة ، أو لمواضعة من القول ، وموافقة في إعلاء كلمته ، أو لخوف ، أو لاستهانة وقلة مبالاة ، أو لاشتغال بما هو أهم ، أو عورض ولم ينقل لمانع.

الرابع : احتمال أن لا يكون لغرض التصديق ، إما لانتفاء الغرض في فعله على ما هو المذهب ، وإما لثبوت غرض آخر مثل ان يكون لطفا بمكلف ، أو إجابة لدعوته ، أو معجزة لنبي آخر ، أو ابتلاء للعبد لينال الثواب بالتوقف عن موجبه ، أو النظر والاجتهاد في دفعه ، كما في إنزال المتشابه ، أو إضلالا للخلق على ما هو المذهب عندكم من أن (الله يضل من يشاء) من عباده ، وبعدم تسليم انتفاء الاحتمالات ، وكون المعجزة بمنزلة صريح القول من الله تعالى بأن المدعي صادق فهو لا يوجب صدقه إلا بعد استحالة الكذب في إخبار الله تعالى ، ولا سبيل إلى ذلك بدليل السمع للزوم الدور ، ولا بدليل العقل ، لأن غايته أن الكذب قبيح ، وهو على الله تعالى مستحيل ، وثبوت المقدمتين بغير دليل السمع في حيز المنع.

فالجواب إجمالا أن الاحتمالات والتجويزات العقلية لا تنافي العلوم العادية الضرورية القطعية ، فنحن نقطع بحصول العلم بالصدق عقيب ظهور المعجزة من غير التفات إلى ما ذكر من الاحتمالات لا بالنفي ولا بالإثبات ، كما يحصل في المثال المذكور ، وإن كان الملك ظلوما غشوما كذوبا لا يبالي بإغواء رعيته والاستهزاء برسله ، وتفصيلا :

أولا : أنا بينا أن لا مؤثر في الوجود إلا الله وحده ، سيما في مثل إحياء الموتى ، وانقلاب العصا حية ، وانشقاق القمر ، وسلام الحجر والمدر ، على أن مجرد التمكين ، وترك الدفع من قبل الحكيم القادر المختار كاف في إفادة المطلوب ، ولهذا ذهب المعتزلة إلى ان المعجزة (١) تكون فعلا لله تعالى ، أو واقعا بأمره أو بتمكينه.

__________________

(١) المعجزة : أمر خارق للعادة داعية إلى الخير والسعادة مقرونة بدعوى النبوة قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول من الله تعالى.

١٧

وثانيا : أن كلامنا فيما حصل الجزم بأنه خارق للعادة ، وأن المتحدين عجزوا عن معارضته ، مع كونهم أحق بها إن أمكنت لكثرة اشتغالهم بما يناسب ذلك ، وكمالهم فيه ، وفرط اهتمامهم بالمعارضة ، وتوفر دواعيهم. ولهذا كانت معجزة كل نبي من جنس ما غلب على أهل زمانه ، وتهالكوا عليه وتفاخروا به ، كالسحر في زمن موسى (عليه‌السلام) ، والطب في زمن عيسى ، والموسيقى في زمن داود ، والفصاحة في زمن محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

وثالثا : أنه لا خفاء ولا خلاف في ترتيب الغايات والآثار على بعض أفعاله وإن لم يجعلها أغراضا له على أنا لا نقول إنه فعل المعجزة لغرض التصديق ، بل إنها دلت على تصديق من الله تعالى قائم بذاته ، سواء جعل من جنس العلم أو كلام النفس ، أو غيرهما.

ورابعا : أن ظهور المعجزة على يد الكاذب لأي غرض فرض وإن جاز عقلا بناء على شمول قدرة الله ، فهو ممتنع عادة معلوم الانتفاء قطعا ، كما هو حكم سائر العاديات ، وهذا ما قال القاضي : إن اقتران ظهور المعجزة بالصدق أحد العاديات ، فإذا جوزنا انحرافها عن مجراها ، جاز إخلاء المعجزة عن اعتقاد الصدق ، وحينئذ يجوز إظهاره على يد الكاذب ، وإما بدون ذلك فلا ، لاستحالة العلم بصدق الكاذب ، ومنا من قال باستحالته عقلا ، فالشيخ لافضائه إلى التعجيز عن إقامة الدلالة على صدق دعوى الرسالة ، والإمام وكثير من المتكلمين ، لأن الصدق مدلول بها لازم بمنزلة العلم لإتقان الفعل ، فلو ظهرت من الكاذب ، لزم كونه صادقا كاذبا ، وهو محال ، والماتريدية لإيجابه التسوية بين الصادق والكاذب ، وعدم التفرقة بين النبي والمتنبي ، وهو سفه لا يليق بالحكيم.

وخامسا : أن مجرد إظهار المعجزة على يده يفيدنا العلم بصدقة ، وبتصديق الله إياه من غير افتقار إلى اعتبار كلام وإخبار ، ومن هنا يصح التمسك بخبر النبي في إثبات الكلام ، وامتناع الكذب والنقص على ما مر ، وإلى هذا يشير ما قال إمام الحرمين ، أنا نجعل إظهار المعجزة تصديقا بمنزلة أن يقول : جعلته رسولا ، وأنشأت الرسالة فيه كقولك : جعلتك وكيلا ، واستنبتك بشأن من غير قصد إلى

١٨

إخبار وإعلام بما ثبت ، ومحصوله أنه يعتبر القول فيه إنشاء لا إخبارا. وأما لو تم لنا نفي الكذب عنه بغير خبر النبي على ما سبق فلا إشكال.

قال : خاتمة (طريق إثبات النبوة على الإطلاق على المنكرين هو المعجزة لا غير ، وهذا لا ينافي خلق العلم الضروري بها ، أو ثبوتها بإخبار من نبي آخر أو كتاب).

لا خفاء في ثبوت النبوة بخلق العلم الضروري ، كعلم الصديق (رضي الله عنه) ، وبخبر من ثبتت عصمته عن الكذب كنصوص التوراة والإنجيل في نبوة نبينا (عليه‌السلام) ، وكإخبار موسى (عليه‌السلام) بنبوة هارون وكالب ويوشع (عليهم‌السلام) فيما ذكر إمام الحرمين من أنه لا يمكن نصب دليل على النبوة سوى المعجزة ، لأن ما يقدر دليلا إن لم يكن خارقا للعادة ، أو كان خارقا ، ولم يكن مقرونا بالدعوة ، لم يصلح دليلا للاتفاق على جواز وقوع الخوارق من الله تعالى ابتداء محمول على ما يصلح دليلا للنبوة على الإطلاق ، وحجة على المنكرين بالنسبة إلى كل نبي ، حتى الذي لا نبي قبله ، ولا كتاب. وأمّا ما سيأتي من الاستدلال على نبوة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بما شاع من أخلاقه وأحواله فعائد إلى المعجزة على ما نبين إن شاء الله تعالى.

قال : المبحث الثالث :

(قال الحكماء : إن الإنسان يحتاج في تعيشه إلى اجتماع مع بني نوعه ، وتشارك لا يتم إلا بمعاملات ومعاوضات تفتقر إلى قانون متفق عليه يقرره على ما ينبغي من تميز عن الآخرين بخصوصية من قبل خالق الكل ، وآيات تقتضي الإقرار به ، والانقياد له ، وهي بحسب القوة الإنسانية الاطلاع على المغيبات لاتصال النفس بعالم الغيب ، وبحسب القوة الحيوانية باعتبار الحركات ظهور أفعال يعجز عن امثالها أمثاله ، كحدوث رياح وزلازل وحرق وغرق وهلاك أشخاص ظالمة ومدن فاسدة ، ونحو ذلك ، لاختصاص النفس بقوة التصرف فيما عدا بدنها من الأجسام ، وباعتبار السكنات الإمساك عن القوت مدة غير معتادة لانجذاب النفس إلى عالم القدس واستتباعها القوة الغاذية وخوادمها ومن هاهنا جاز أن تتمثل لقوته المتخيلة الكاملة العقول المجردة والنفوس السماوية ، سيما العقل الفعال الذي له زيادة

١٩

اختصاص بعالم العناصر أشباحا مصورة تخاطبه ، وتحدث في سمعه كلاما منظوما يحفظ ويتلى، وهذا هو الوحي ، ونزول الملك والكتاب ، وأما كون ذلك من الله تعالى لنظام المعاش ، ونجاة المعاد ، وصلاح العباد ، مع نفي القصد والغرض من أفعاله ، والعلم بالجزئي على الوجه الجزئي في اوصافه ، فقرروه بأن العناية الإلهية ، أعني إحاطة علمه السابق بنظام الموجودات على الوجه اللائق تقتضي فيضان ذلك النظام على الترتيب والتفصيل الذي من جملته وجود الشروع والشارع ليكون الموجود على وفق المعلوم ، ولا خفاء في أن هذا لا يكفي فيما ثبت بالضرورة من الدين).

في طريقة الفلاسفة بالاحتياج إلى النبي والشريعة (١) ، وبثبوت المعجزة ، لكن يقررون ذلك على وجه لا يوافق ما علم بالضرورة من الدين.

أما تقريرهم في الاحتياج الى النبي فهو أن الإنسان مدني بالطبع ، أي محتاج في تعيشه إلى التمدن ، وهو اجتماعه مع بني نوعه للتعاون والتشارك في تحصيل ما يحتاجون إليه من الغذاء الموافق ، واللباس الواقي من الحر والبرد ، والمسكن الملائم بحسب الفصول المختلفة ، والسلاح الحامي عن السباع والأعداء ، فإن كل ذلك مما يحصل بالصناعات ، ولا يمكن للإنسان الواحد القيام بجميعها ، بل لا بد أن يخبز هذا لذلك ، وذلك يخيط لآخر ، وآخر يتخذ الإبرة له إلى غير ذلك من المصالح التي لا بقاء للنوع (٢) بدونها ، ثم ذلك التعاون والتشارك لا يتم إلا بمعاملات فيما بينهم ومعاوضات ، ولا ينتظم إلا بقانون متفق عليه مبني على العدل والإنصاف ، ضابط لما لا حصر له من الجزئيات ، لئلا يقع الجور ، فيختل أمر النظام لما جبل عليه كل أحد من أنه يشتهي ما يحتاج إليه ، ويغضب على من

__________________

(١) الشريعة : هي الائتمار بالتزام العبودية ، وقيل الشريعة هي الطريق في الدين.

(٢) النوع : اسم دال على أشياء كثيرة مختلفة بالأشخاص والنوع الحقيقي : كل مقول على واحد أو على كثيرين متفقين بالحقائق في جواب ما هو فالكلي : جنس ، والمقول على واحد إشارة إلى النوع المنحصر في الشخص ، والنوع الإضافي : هي ماهية يقال لها وعلى غيرها الجنس قولا أوليا أي بلا واسطة كالإنسان بالقياس إلى الحيوان فإنه ماهية يقال عليها وعلى غيرها كالفرس الجنس ، وهو الحيوان ، حتى إذا قيل ما الإنسان والفرس ، فالجواب أنه حيوان ، وهذا المعنى يسمى نوعا إضافيا لأن نوعيته بالإضافة إلى ما فوقه وهو الحيوان والجسم النامي ، والجسم والجوهر.

٢٠