شرح المقاصد - ج ٥

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٥

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

إليه ، وقاتل من نازعه بكلتا يديه حتى فني الخلق الكثير والجم الغفير ، وآثر على التقية عن الحمية في الدين ، والعصبية للإسلام والمسلمين ، مع أن الخطب إذ ذاك أشد ، والخصم ألد. وفي أول الأمر قلوب القوم أرق ، وجانبهم أسهل ، وآراؤهم إلى اتباع الحق واجتذاب الباطل أميل ، وعهدهم بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أقوى ، وهمهم في تنفيذ أحكامه أرغب. ومن ادعى النص الجلي فقد طعن في كبار المهاجرين ، والأنصار عامة ، بمخالفة الحق وكتمانه ، وفي علي (رضي الله تعالى عنه) خاصة باتباعه الباطل وإذعانه بل في النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) حيث اتخذ القوم أحبابا وأصحابا ، وأعوانا وأنصارا ، وأختانا ، وأصهارا ، مع علمه بحالهم في ابتدائهم ومآلهم ، بل في كتاب الله تعالى ، حيث أثنى عليهم ، وجعلهم خير أمة ، ووصفهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن مكابرات الروافض (١) ادعاؤهم تواتر هذا النص قرنا بعد قرنا ، مع أنه لم يشتهر فيما بين الصحابة والتابعين. ولم يثبت ممن يوثق به من المحدثين ، مع شدة ميلهم إلى أمير المؤمنين ونقلهم الأحاديث الكثيرة في مناقبه وكمالاته في أمر الدنيا والدين ، ولم ينقل عنه (رضي الله تعالى عنه) في خطبه ورسائله ومفاخره إشارة إلى ذلك. وابن جرير الطبري (٢) مع اتهامه بالتشيع لم يذكر في روايته قصة الدار هذه الزيادة التي يدعيها الشيعة وهي قوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «إنه خليفتي فيكم من بعدي» ونعم ما قال المأمون : وجدت أربعة في أربعة : الزهد في المعتزلة ، والكذب في الرافضة ، والمروءة في أصحاب الحديث ، وحب الرئاسة في أصحاب الرأي والظاهر ما ذكره المتكلمون من أن هذا المذهب أعني دعوى النص الجلي مما وضعه هشام ابن (٣) الحكم ، ونصره ابن الراوندي (٤) وأبو عيسى الوراق وأضرابهم ، ثم رواه

__________________

(١) سبق الحديث عنهم في كلمة وافية.

(٢) هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري أبو جعفر ، المؤرخ المفسر الإمام ولد عام ٢٢٤ ه‍ واستوطن بغداد وتوفي بها عام ٣١٠ ه‍ عرض عليه القضاء فامتنع ، والمظالم فأبى له «أخبار الأمم والملوك وجامع البيان في تفسير القرآن» راجع الوفيات ١ : ١٥٦ وطبقات السبكي ٢ : ١٣٥ ـ ١٤٠

(٣) هو هشام بن الحكم الشيباني الكوفي ، أبو محمد ، متكلم مناظر كان شيخ الإمامية في وقته ، ولد بالكوفة ونشأ بواسط وسكن بغداد ، وانقطع إلى يحيى بن خالد البرمكي ، صنف كتبا منها الإمامية والقدر ، والشيخ والغلام ، والرد على المعتزلة في طلحة والزبير وغير ذلك راجع منهج المقال ٣٥٩ وفهرست الطوسى ١٧٤.

(٤) هو أحمد بن يحيى بن إسحاق بن الراوندي فيلسوف مجاهر بالإلحاد من سكان بغداد نسبته إلى راوند ـ

٢٦١

أسلاف الروافض شغفا بتقرير مذهبهم.

قال الإمام الرازي : ومن العجائب أن الكاملين من علماء الشيعة لم يبلغوا في كل عصر حد الكثرة فضلا عن التواتر وأن عوامهم وأوساطهم لا يقدرون أن يفهموا كيفية هذه الدعوى على الوجه المحقق ، وأن غلاتهم زعموا أن المسلمين ارتدوا بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ولم يبق على الإسلام إلا عدد يسير أقل من العشرة ، فكيف يدعون التواتر في ذلك الطريق.

الثاني ـ روايات وأمارات ربما تفيد باجتماعها القطع بعدم النص ، وهي كثيرة جدا كقول العباس لعلي : امدد يدك أبايعك. تقول الناس : هذا عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان. وقول عمر لأبي عبيدة (رضي الله تعالى عنه) : امدد يدك أبايعك. وقول أبي بكر : بايعوا عمر أو أبا عبيدة. وقوله : وددت أني سألت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) عن هذا الأمر فيمن هو ، وكنا لا ننازعه وكدخول علي (رضي الله تعالى عنه) في الشورى ، فإنه رضي بإمامة أيهم كان. وكقوله (رضي الله تعالى عنه) لطلحة (رضي الله تعالى عنه) : إن أردت بايعتك وكاحتجاجه على معاوية ببيعة الناس له ، لا بنص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وكقوله حين دعي إلى البيعة : اتركوني والتمسوا غيري ، وكمعاضدته أبا بكر وعمر ، والإشارة عليهما بما هو أصلح حين خرج أبو بكر لقتال العرب ، وعمر لقتال فارس ، وكعدم تعرضه لذلك النص في شيء من خطبه ورسائله ومفاخراته ومخاصماته ، وعند تأخره عن البيعة ، وكإنكار زيد بن علي مع علو رتبته هذا النص ، وكذا كثير من سادات أهل البيت. وكتسمية الصحابة أبا بكر مدة حياته بخليفة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

قال : احتج المخالف بأنه يستحيل عادة

(أن يهمل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) مثل هذا الأمر ولم يهمل ما هو دونه.

__________________

ـ من قرى أصبهان قال ابن خلكان له مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام توفي عام ٢٩٨ ه‍ راجع وفيات الأعيان ١ : ٢٧ وتاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٨ ومروج الذهب للمسعودي ٧ : ٧ : ٢٣٧ والبداية والنهاية ١١ : ١١٢ والنحل للشهرستاني ١ : ٨١ ، ٩٦ وشرح نهج البلاغة ٣ : ٤١ ومعاهد التنصيص ١ : ١٥٥.

٢٦٢

والجواب أن ترك التنصيص على معين ليس إهمالا)

من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أن يهمل مثل هذا الأمر الجليل ، وقد بين ما هو بالنسبة إليه أقل من القليل.

والجواب أن ترك النص الجلي على واحد بالتعيين ليس إهمالا بل تفويض معرفة الأحق الأليق إلى آراء أولي الألباب ، واختيار أهل الحل والعقد من الأصحاب ، وأنظار ذوي البصيرة (١) بمصالح الأمور ، وتدبير سياسة الجمهور ، مع التنبيه على ذلك بخفيف الإشارة ، أو لطيف العبارة نوع بيان لا يخفى حسنه على أهل العرفان.

قال : المبحث الخامس ـ الإمام

(بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أبو بكر (رضي الله عنه). وقالت الشيعة : علي. لنا إجماع أهل الحل والعقد وإن كان من البعض بعض توقف ، وقد ثبت انقياد علي لأوامره ونواهيه وإقامة الجمعة والأعياد معه وتسميته خليفة ، والثناء عليه حيا وميتا والاعتذار عن التأخر في البيعة ، وأيضا اتفقوا على أن الإمام أبو بكر ، أو علي ، أو العباس. ثم أنهما لن ينازعاه فتعين. وحديث التقية تضليل للأمة. ولو كانت ، لكانت في زمن معاوية ، وقد يتمسك بقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ ..) (٢) الآية.

فالداعي المفترض الطاعة أبو بكر عند المفسرين ، وعمر عند البعض ، وفيه المطلوب. وبقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر (٣) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : الخلافة بعدي ثلاثون سنة (٤) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) في مرضه : ائتوني بكتاب وقرطاس أكتب

__________________

(١) البصيرة : قوة للقلب المنور بنور القدس يرى بها حقائق الأشياء وبواطنها بمثابة البصر للنفس يرى به صور الأشياء وظواهرها ، وهي التي يسميها الحكماء العاقلة النظرية والقوة القدسية.

(٢) سورة الفتح آية رقم ١٦ وتكملة الآية (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً).

(٣) الحديث رواه الإمام الترمذي في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما ٣٦٦٢ ـ بسنده عن حذيفة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وذكره. قال الترمذي : هذا حديث حسن. وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه أيضا عن ربعي عن حذيفة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورواه سالم الأنعمي ، كوفي عن ربعي ابن حراش عن حذيفة.

(٤) سبق تخريج هذا الحديث.

٢٦٣

كتابا لا يختلف فيه اثنان. ثم قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، وبأن المهاجرين الذين وصفهم الله بأنهم الصادقون كانوا يخاطبونه بيا خليفة رسول الله وبأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) استخلفه في الصلاة ولم يعزله. ولذا قال علي (رضي الله عنه) : رضيك رسول الله لديننا فرضيناك لدنيانا. وبأنها لو لم تكن حقا لما كانت جماعة رضوا بها وسكتوا عليها خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، وهذه ظنيات ربما تفيد باجتماعها القطع. مع أن المسألة فرعية يكفي فيها الظن).

الحق بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) عندنا وعند المعتزلة وأكثر الفرق ، أبو بكر. وعند الشيعة علي (رضي الله تعالى عنه). ولا عبرة بقول الروندية أتباع القاسم بن روند إنه العباس (رضي الله تعالى عنه). لنا وجوه :

الأول ـ وهو العمدة ، إجماع أهل الحل والعقد على ذلك. وإن كان من البعض بعض تردد وتوقف على ما روي أن الأنصار قالوا : منا أمير ومنكم أمير. وأن أبا سفيان قال: أرضيتم يا عبد مناف أن يلي عليكم تيم؟ والله لأملأن الوادي خيلا ورجلا. وذكر في صحيح البخاري وغيره من الكتب الصحيحة أن بيعة علي

(وقع في هذا الموضع من المصنف بياض مقدار ما يسع فيه كلمتان)

وفي إرسال أبي بكر وعمر أبا عبيدة بن الجراح إلى علي رضي الله عنه رسالة لطيفة رواها الثقات بإسناد صحيح تشتمل على كلام كثير من الجانبين ، وقليل غلظة من عمر وعلي ، أن عليا جاء إليهما ودخل فيما دخلت فيه الجماعة ، وقال حين قام عن المجلس : بارك الله فيما ساءني وسركم ، فيما روي أنه لما بويع لأبي بكر (رضي الله تعالى عنه) ، وتخلف علي ، والزبير ، والمقداد (١) ، وسلمان ، وأبو ذر ، أرسل أبو بكر من الغد إلى علي فأتاه مع أصحابه ، فقال : ما خلفك يا علي

__________________

(١) هو المقداد بن عمرو ، ويعرف بابن الأسود ، صحابي من الأبطال ، هو أحد السبعة الذين كانوا أول من أظهر الإسلام ، وهو أول من قاتل على فرس في سبيل الله وفي الحديث : إن الله عزوجل أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم علي ، والمقداد ، وأبو ذر ، وسلمان ، وكان في الجاهلية من سكان حضر موت ، واسم أبيه عمرو بن ثعلبة شهد بدرا وغيرها وسكن المدينة توفي على مقربة منها عام ٣٣ ه‍ راجع الإصابة ت ٨١٨٥ وتهذيب ١٠ : ٢٨٥ وصفوة الصفوة ١ : ١٦٧.

٢٦٤

عن أمر الناس؟ فقال : عظم المصيبة ، ورأيتكم استغنيتم برأيكم. فاعتذر إليه أبو بكر ، ثم أشرف على الناس فقال : هذا علي بن أبي طلب ، ولا بيعة لي في عنقه وهو بالخيار في أمره، ألا فأنتم بالخيار جميعا في بيعتكم إياي ، فإن رأيتم لها غيري ، فأنا أول من يبايعه ، فقال علي : لا نرى لها أحدا غيرك. فبايعه هو وسائر المتخلفين. محل نظر. ثم الإجماع على إمامته على أهليته لذلك ، مع أنها من الظهور بحيث لا يحتاج إلى البيان.

الثاني ـ أن المهاجرين والأنصار اتفقوا على أن الإمامة لا تعدو أبا بكر وعليا والعباس ، ثم إن عليا والعباس بايعا أبا بكر وسلما له الأمر. فلو لم يكن على الحق ، لنازعاه كما نازع علي معاوية لأنه لا يليق لهما السكوت عن الحق ، ولأن ترك المنازعة يكون مخلا بالعصمة الواجبة عندكم ، فيخرجان عن أهلية الإمامة. فتعين أبو بكر للاتفاق على أنها ليست لغيرهم.

فإن قيل : إذا لم يكن على الحق ، كيف يتعين إماما على الحق؟ وهل هذا إلا تهافت؟

قلنا : عدم كونه على الحق إذا استلزم كونه على الحق ، كان باطلا ، لأن ما يفضي ثبوته إلى انتفائه كان منتفيا قطعا وفيه المطلوب. وقد يجاب بأنه يجوز أن لا يكون على الحق بفضل علي عليه واستحقاقه الإمامة دونه ، ثم يبطل ذلك الفضل والاستحقاق بترك ما وجب من المنازعة ، فيصير أبو بكر هو الإمام بالحق.

فإن قيل : يجوز أن يكون ترك المنازعة لمانع التقية ، وخوف الفتنة.

قلنا : قد سبق الجواب ، والله أعلم.

الثالث ـ قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (١)

وعد الخلافة لجماعة من المؤمنين المخاطبين ، ولم يثبت لغير الائمة الأربعة ، فيثبت لهم على الترتيب.

__________________

(١) سورة النور آية رقم ٥٥.

٢٦٥

الرابع ـ قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً ..) (١) لآية.

جعل الداعي مفترض الطاعة. والمراد به عند أكثر المفسرين أبو بكر وبالقوم بنو حنيفة ، قوم مسيلمة الكذاب وقيل : قوم فارس. فالداعي عمر. وفي ثبوت خلافته ثبوت خلافة أبي بكر (رضي الله عنه). وبالاتفاق لم يكن ذلك عليا ، لأنه لم يقاتل في خلافته الكفار.

الخامس ـ قوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر (٢).

السادس ـ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تصير ملكا عضوضا (٣) أي ينال الرعية منهم ظلم ، كأنهم يعضون عضا وكانت خلافة أبي بكر سنتين ، وخلافة عمر عشر سنين ، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة وخلافة علي ست سنين.

السابع ـ قوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) في مرضه الذي توفي فيه : ائتوني بكتاب وقرطاس أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف فيه اثنان ثم قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر (٤).

الثامن ـ أن المهاجرين الذين وصفهم الله بقوله (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٥) كانوا يقولون له : يا خليفة رسول الله.

التاسع ـ أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) استخلفه في الصلاة التي هي أساس الشريعة ولم يعزله. ورواية العزل افتراء من الروافض ، ولهذا لما قال أبو بكر : أقيلوني فلست بخيركم قال علي (رضي الله عنه) : لا نقيلك ولا نستقيلك ، قدمك رسول الله فلا نؤخرك ، رضيك لديننا فرضيناك لدنيانا.

__________________

(١) سورة الفتح آية رقم ١٦.

(٢) سبق تخريج هذا الحديث.

(٣) سبق تخريج هذا الحديث في هذا الجزء.

(٤) سبق تخريج هذا الحديث في هذا الجزء.

(٥) سورة الحجرات آية رقم ١٥ وصدر الآية (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

٢٦٦

العاشر ـ لو كانت الإمامة حقا لعلي ، غصبها أبو بكر ، ورضيت الجماعة بذلك ، وقاموا بنصرته دون علي (رضي الله عنه) لما كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر. واللازم باطل. وهذه الوجوه وإن كانت ظنيات فنصب الإمام من العمليات ، فيكفي فيه الظن على أنها باجتماعها ربما تفيد القطع لبعض المنصفين. ولو سلم فلا أقل من صلوحها سندا للإجماع وتأييدا.

قال : احتجت الشيعة بوجوه لهم في إثبات إمامة علي (رضي الله عنه) بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وجوه من العقل والنقل والقدح فيمن عداه من أصحاب رسول الله الذين قاموا بالأمر ، ويدعون في كثير من الأخبار الواردة في هذا الباب التواتر بناء على شهرته فيما بينهم وكثرة دورانه على ألسنتهم ، وجريانه في أنديتهم ، وموافقته لطباعهم ، ومقارعته لأسماعهم. ولا يتأملون له كيف خفي على الكبار من الأنصار والمهاجرين والتقاة من الرواة والمحدثين. ولم يحتج به البعض على البعض ولم يبنوا عليه الإبرام والنقض ، ولم يظهر إلا بعد انقضاء دور الإمامة وطول العهد بأمر (١) الرسالة ، وظهور التعصبات الباردة والتعسفات الفاسدة ، وإفضاء امر الدين إلى علماء السوء ، والملك إلى أمراء الجور. ومن العجائب أن بعض المتأخرين من المتشغبين الذين لم يروا أحدا من المحدثين ، ولا رووا حديثا في أمر الدين ملئوا كتبهم (٢) من أمثال هذه الأخبار والمطاعن (٣) في الصحابة الأخيار ، وإن شئت فانظر في كتاب التجريد المنسوب إلى الحكيم نصير الطوسي (٤) كيف نصر الأباطيل ، وقرر الأكاذيب؟ والعظماء من عترة النبي وأولاد الوصي الموسومون بالدراية ، المعصومون في الرواية لم يكن معهم هذه الأحقاد والتعصبات ، ولم يذكروا من

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (بأمر).

(٢) في (ب) بزيادة (مصنفاتهم).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (القول).

(٤) هو محمد بن محمد بن الحسن ، أبو جعفر ، نصير الدين الطوسي ، فيلسوف كان رأسا في العلوم العقلية ، علامة بالأرصاد والمجسطي والرياضيات علت منزلته عند «هولاكو» ولد بطوس عام ٥٩٧ ه‍ وتوفي عام ٦٧٢ ه‍ صنف كتبا جليلة منها «شكل القطاع» وتحرير أصول اقليدس وتجريد العقائد يعرف بتجريد الكلام ، وتلخيص المحصل وغير ذلك. راجع فوات الوفيات ٢ : ١٤٩ والوافي ١ : ١٧٩ وابن الوردي ٢ : ٢٢٣ وشذرات ٥ : ٣٣٩ ومفتاح السعادة ١ : ٢٦١.

٢٦٧

الصحابة إلا الكمالات ، ولم يسلكوا مع رؤساء المذاهب من علماء الإسلام إلا طريق الإجلال والإعظام. وها هو الإمام علي بن موسى الرضى مع جلالة قدره ونباهة ذكره ، وكمال علمه وهداه وورعه وتقواه ، قد كتب على ظهر كتاب عهد المأمون له ما ينبئ عن وفور حمده وقبول عهده والتزام ما شرط عليه ، وإن كتب في آخره والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك. ثم أنه دعا للمأمون بالرضوان ، فكتب في أثناء أسطر العهد تحت قوله : وسميته الرضى رضي الله عنك وأرضاك ، وتحت قوله : ويكون له الأمرة الكبرى بعدي. بل جعلت فداك. وفي موضع آخر : وصيتك رحم ، وجزيت خيرا. وهذا العهد بخطهما موجود الآن في المشهد الرضوي بخراسان ، وآحاد الشيعة في هذا الزمان لا يسمحون لكبار الصحابة بالرضوان فضلا عن بني العباس. فقد رضوا رأسا برأس. ومن البين الواضح في هذا الباب ما كتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : فقد جعلت لآل بني كاكلة على كافة بيت المسلمين كل عام مائتي مثقال ذهبا عينا إبريزا كتبه ابن الخطاب. فكتب أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) : لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون ، أنا أول من اتبع أمر من أعز الإسلام ، ونصر الدين والأحكام ، عمر بن الخطاب ، ورسمت بمثل ما رسم لآل بني كاكلة في كل عام مائتي دينار ذهبا عينا إبريزا ، واتبعت أثره ، وجعلت لهم بمثل ما رسم عمر إذ وجب عليّ وعلى جميع المسلمين اتباع ذلك ، كتبه علي بن أبي طالب. وهذا بخطهما موجود الآن في ديار العراق.

قال : الأول

(أن بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إماما وليس غير علي (كرم الله وجهه) لانتفاء الشرائط من العصمة والنص الأفضلية.

والجواب منع الاشتراط ، ثم منع الانتفاء في حق أبي بكر (رضي الله عنه)).

هذا هو الوجه العقلي. وتقريره أنه لا نزاع في أن بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إماما ، وليس غير علي. لأن الإمام يجب أن يكون معصوما ، ومنصوصا عليه ، وأفضل أهل زمانه ، ولا يوجد شيء من ذلك في باقي الصحابة. أما العصمة والنص فبالاتفاق. وأما الأفضلية فلما سيأتي وهذا يمكن أن يجعل أدلة ثلاثة بحسب الشروط ، وربما يورد في صورة

٢٦٨

القلب فيقال : الإمام إما علي (رضي الله عنه) وإما أبو بكر واما القياس (١) بالإجماع المشتمل على قول المعصوم ، ولا سبيل إلى الأخيرين لانتفاء الشرط.

والجواب أولا منع الاشتراط وثانيا منع انتفاء الشرائط في أبي بكر (رضي الله عنه).

وأما ما يقال أن الإجماع على أن الإمام أحدهم إجماع على صلوح كل منهم للإمامة فمحل نظر.

قال : الثاني

(قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ..) (٢) الآية.

نزلت في علي حين أعطى السائل خاتمه ، وهو راكع والمراد بالولي المتصرف في الأمر. إذ ولاية النصرة تعم الكل. والمتصرف في أمر الأمة هو الإمام.

قلنا : ما قبل الآية شاهد صدق على أنه لولاية المحبة والنصرة ، دون التصرف ، والإمامة.

ووصف المؤمنين يجوز أن يكون للمدح دون التخصيص ، ولزيادة شرفهم واستحقاقهم «وهم راكعون» يحتمل العطف ، أي يركعون في صلاتهم ، لا كصلاة اليهود ، أو يخضعون على أن النصرة المضافة إلى البعض تختص بمن عداهم ضرورة أن الإنسان لا ينصر به نفسه. والحصر إنما لنفي المسارعة ، ولم يكن الإمامة. وظاهر الكلام ثبوت الولاية بالفعل ، وفي الحال. ولم يكن حينئذ ولاية التصرف والإمامة ، وصرفه إلى المآل لا يستقيم في الله ورسوله وحمل صيغة الجمع على الواحد إنما يصح بدليل وخفاء الاستدلال بالآية على الصحابة عموما ، وعلى علي مخصوصا في غاية البعد.)

__________________

(١) القياس في اللغة : عبارة عن التقدير يقال قست الغل بالغل إذا قدرته وسويته ، وهو عبارة عن رد الشيء إلى نظيره وفي الشريعة عبارة عن المعنى المستنبط من النص لتعدية الحكم من المنصوص إلى غيره ، وهو الجمع بين الأصل والفرع في الحكم.

(٢) سورة المائدة آية رقم ٥٥ وتكملة الآية : (وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ).

٢٦٩

إشارة إلى الدليل النقلي من الكتاب وتقريره أن قوله تعالى :

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١)

نزلت باتفاق المفسرين في علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) حين أعطى السائل خاتمه وهو راكع في صلاته. وكلمة «إنما» للحصر بشهادة النقل والاستعمال. والولي كما جاء بمعنى الناصر فقد جاء بمعنى المتصرف ، والأولى والأحق بذلك يقال : أخو المرأة وليها. والسلطان ولي من لا ولي له. وفلان ولي الدم. وهذا هو المراد هاهنا ، لأن الولاية بمعنى النصرة تعم جميع المؤمنين لقوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢)

فلا يصح حصرها في المؤمنين الموصوفين بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة حال الركوع. والمتصرف من المؤمنين في أمر الأمة يكون هو الإمام ، فتعين علي (رضي الله عنه) لذلك إذ لم توجد هذه الصفات في غيره.

والجواب منع كون الولي بمعنى المتصرف في أمر الدين والدنيا. والأحق بذلك على ما هو خاصة الإمام ، بل الناصر والموالي والمحب على ما يناسب ما قبل الآية وما بعدها ، وهو قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)(٣).

فإن الحصر إنما يكون بإثبات ما نفى عن الغير. وولاية اليهود والنصارى المنهى عن اتخاذها ليست هي التصرف والإمامة ، بل النصرة والمحبة ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٤)

__________________

(١) سورة المائدة آية رقم ٥٥.

(٢) سورة التوبة آية رقم ٧١ وتكملة الآية (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

(٣) سورة المائدة آية رقم ٥١.

(٤) سورة المائدة آية رقم ٥٦.

٢٧٠

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (١)

لظهور أن ذلك تولي محبة ونصرة لا إمامة. وبالجملة لا يخفى على من تأمل في سياق الآية وكان له معرفة بأساليب الكلام أن ليس المراد بالولي فيها ما يقتضي الإمامة ، بل الموالاة والنصرة والمحبة ، ثم وصف المؤمنين لما ذكر يجوز أن يكون للمدح والتعظيم ، دون التقييد والتخصيص ، وأن يكون لزيادة شرف الموصوفين واستحقاقهم أن يتخذوا أولياء ، وأولويتهم بذلك ، وقربهم ونصرتهم ، وشفقتهم الحاملة على النصرة وقوله : (وَهُمْ راكِعُونَ) كما يحتمل الحال يحتمل العطف ، بمعنى أنهم يركعون في صلاتهم لا كصلاة اليهود خالية عن الركوع أو بمعنى أنهم خاضعون. على أن هاهنا وجوها أخر من الاعتراض ، منها أن النصرة وإن كانت عامة ، لكن إذا أضيفت إلى جماعة مخصوصة من المؤمنين فبالضرورة تختص بمن عداهم ، لأن الإنسان لا يكون ناصرا لنفسه. وكأنه قيل لبعض المؤمنين : إنما ناصركم البعض الآخر.

قال الإمام الرازي : إن هذا السؤال عليه التعويل في دفع هذه الشبهة (٢) فإنه دقيق متين ، وأنت خبير بأن مبناه على اختصاص الخطاب بالبعض من المؤمنين ، وعلى كون المؤمنين الموصوفين جميع من عداهم. ومنها أن الحصر إنما يكون نفيا لما وقع فيه تردد ونزاع (٣) ولا خفاء في أن ذلك عند نزول الآية لم يكن إمامة الأئمة الثلاثة (٤).

ومنها أن ظاهر الآية ثبوت الولاية بالفعل ، وفي الحال ، ولا شبهة في أن إمامة علي (رضي الله عنه) إنما كانت بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) والقول بأنه كانت له ولاية التصرف في أمر المسلمين في حياة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أيضا مكابرة. وصرف الولاية إلى ما يكون في المآل دون الحال لا يستقيم في حق الله تعالى ورسوله.

__________________

(١) سورة المائدة آية رقم ٥١ وقد جاءت هذه الآية محرفة في المطبوعة حيث قال «ومن يولّه».

(٢) سقط من (ب) لفظ (الشبهة).

(٣) في (ب) أو بدلا من (الواو).

(٤) سقط من (أ) لفظ (الثلاثة).

٢٧١

ومنها أن الذين آمنوا صيغة جمع ، فلا يصرف الى الواحد إلا بدليل. وقول المفسرين إن الآية نزلت في حق علي (رضي الله عنه) لا يقتضي اختصاصها به ، واقتصارها عليه. ودعوى انحصار الأوصاف فيه مبنية على جعل (وَهُمْ راكِعُونَ) (١) حالا من ضمير (يُؤْتُونَ) وليس بلازم. ومنها أنه لو كانت في الآية دلالة على إمامة علي (رضي الله عنه). لما خفيت على الصحابة عامة. وعلى علي خاصة ، ولما تركوا الانقياد لها والاحتجاج بها.

قال : الثالث ـ

(ما تواتر من حديث الغدير والمنزلة ، فإن المراد بالمولى المتولي للأمر ، والأولى بالتصرف فيه ، كما في قوله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) (٢).

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها (٣) لا المعتق والمعتق ، والحليف والجار ، وابن العم ، وهو ظاهر ، ولا الناصر فإنه ظاهر ، ومنزلة هارون من موسى (عليهما‌السلام) عام بمنزلة المعرف باللام. فحيث أخرجت النبوة ، تعينت الخلافة والتصرف في أمر العامة لو بقي بعده. وهي معنى الإمامة.

والجواب منع التواتر ، بل الكلام في صحة خبر الغدير ودلالته على حصر الإمامة في علي (رضي الله عنه) ، ثم لا عبرة بالآحاد في مقابلة الإجماع ، وترك عظماء الصحابة الاحتجاج بهما آية عدم الدلالة ، والحمل على العناد غاية الغواية ، ولو سلم عموم المنزلة بالإضافة إلى العلم ، فلا يتناول الخلافة ، والتصرف بطريق النيابة ،

__________________

(١) سورة المائدة آية رقم ٥٥.

(٢) سورة الحديد آية رقم ١٥.

(٣) روى ابن ماجه في سننه في كتاب النكاح ١٨٨١ ـ ١٥ باب لا نكاح إلا بولي. حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا أبو عوانة حدثنا أبو إسحاق الهمداني ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا نكاح إلا بولي. وفي رواية : أيما امرأة لم ينكحها الولي فنكاحها باطل. فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، وفي حديث عائشة ـ رضي الله عنها «السلطان ولي من لا ولي له».

٢٧٢

لأنه شريك في النبوة ، ولا يدل على بقائها ، بعد موت المستخلف ، وليس انتفاؤها عزلا ونقصا ، بل عودا إلى الكمال ، وهو الاستقلال. وتصرف هارون لو بقي إنما يكون لنبوته. وقد انتفت في حق علي (رضي الله عنه) فكذا ما يبني عليها)

تمسك بما يدعون فيه التواتر من الأخبار ، أما حديث الغدير فهو أنه (عليه‌السلام) قد جمع الناس يوم غدير خم موضع بين مكة والمدينة ـ بالجحفة وذلك بعد رجوعه من حجة الوداع. وكان يوما صائفا حتى إن الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدة الحر ، وجمع الرحال ، وصعد (عليه‌السلام) عليها وقال مخاطبا معاشر المسلمين : ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : اللهم بلى. قال : فمن كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله (١)

وهذا حديث متفق على صحته أورده علي (رضي الله عنه) يوم الشورى عند ما حاول ذكر فضائله ، ولم ينكره أحد. ولفظ المولى قد يراد به المعتق ، والمعتق ، والحليف ، والجار ، وابن العم ، والناصر ، والأولى بالتصرف ، قال الله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) (٢)

أي أولى بكم. ذكره أبو عبيدة وقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن مولاها (٣) .. أي الأولى بها والمالك لتدبير أمرها ، ومثله في الشعر كثير.

وبالجملة استعمال المولى بمعنى المتولي والمالك للأمر ، والأولى بالتصرف شائع في كلام العرب منقول عن كثير من أئمة اللغة ، والمراد أنه اسم لهذا المعنى ، لا صفة ، بمنزلة الأولى ليعترض بأنه ليس من صيغة اسم التفضيل ، وأنه لما يستعمل استعماله ، وينبغي أن يكون المراد به في الحديث هو هذا المعنى ليطابق صدر

__________________

(١) الحديث رواه ابن ماجه في المقدمة : فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ١١٦ ـ بسنده عن علي ابن زيد بن جدعان عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال أقبلنا مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في حجته التي حج فنزل في بعض الطريق فأمر الصلاة جامعة فأخذ بيد علي فقال : وذكره في الزوائد : إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان.

(٢) سورة الحديد آية رقم ١٥.

(٣) سبق تخريج هذا الحديث.

٢٧٣

الحديث ، ولأنه لا وجه للخمسة الأول ، وهو ظاهر ، ولا للسادس لظهوره وعدم احتياجه إلى البيان ، وجمع الناس لأجله ، سيما وقد قال الله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (١).

ولا خفاء في أن الولاية بالناس ، والتولي ، والمالكية لتدبير أمرهم ، والتصرف فيهم بمنزلة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) هو معنى الإمامة.

والجواب منع تواتر الخبر ، فإن ذلك من مكابرات الشيعة ، كيف وقد قدح في صحته كثير من أهل الحديث ، ولم ينقله المحققون منهم كالبخاري ومسلم ، والواقدي ، وأكثر من رواه لم يرووا المقدمة التي جعلت دليلا على أن المراد بالمولى الأولى ، وبعد صحة الرواية فمؤخر الخبر ـ أعني قوله : اللهم وال من والاه ـ يشعر بأن المراد بالمولى هو الناصر والمحب ، بل مجرد احتمال ذلك كاف في دفع الاستدلال ، وما ذكره من أن ذلك معلوم ظاهر من قوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢)

لا يدفع الاحتمال لجواز أن يكون الغرض التنصيص على موالاته ونصرته ، ليكون أبعد عن التخصيص الذي تحتمله أكثر العمومات وليكون أقوى دلالة ، وأوفى بإفادة زيادة الشرف ، حيث قرن بموالاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وهذا القدر من المحبة والنصرة لا يقتضي ثبوت الإمامة ، وبعد تسليم الدلالة على الإمامة فلا عبرة بخبر الواحد في مقابلة الإجماع. ولو سلم ، فغايته الدلالة على استحقاق الإمامة وثبوتها في المآل ، لكن من أين يلزم نفي إمامة الأئمة قبله ، وهذا قول بالموجب ، وهو جواب ظاهر لم يذكره القوم ، وإذا تأملت فما يدعون من تواتر الخبر حجة عليهم ، لا لهم ، لأنه لو كان مسوقا لثبوت الإمامة ، دالا عليه ، لما خفي على عظماء الصحابة ، فلم يتركوا الاستدلال به ، ولم يتوقفوا في أمر الإمامة. والقول بأن القوم تركوا الانقياد عنادا ، وعلي (رضي الله عنه) ترك الاحتجاج تقية آية الغواية هو غاية الوقاحة.

__________________

(١) سورة التوبة آية رقم ٧١ وتكملة الآية (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

(٢) سورة التوبة آية رقم ٧١.

٢٧٤

وأما حديث المنزلة فهو قوله (عليه‌السلام) لعلي (رضي الله عنه) : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي» (١) وتقريره أن المنزلة اسم جنس أضيف فعم ، كما إذا عرف باللام بدليل صحة الاستثناء ، وإذا استثنى منها مرتبة النبوة ، بقيت عامة في باقي المنازل التي من جملتها كونه خليفة له ومتوليا تدبير الأمر ، ومتصرفا في مصالح العامة ورئيسا مفترض الطاعة لو عاش بعده. إذ لا يليق بمرتبة النبوة زوال هذه المنزلة الرفيعة الثابتة في حياة موسى (عليه‌السلام) بوفاته. وإذا قد صرح بنفي النبوة ، لم يكن ذلك إلا بطريق الإمامة.

والجواب منع التواتر ، بل هو خبر واحد في مقابلة الإجماع ؛ ومنع عموم المنازل ، بل غاية الاسم المفرد المضاف إلى العلم الإطلاق. وربما يدعى كونه معهودا معينا كغلام زيد. وليس الاستثناء المذكور إخراجا لبعض أفراد المنزلة ، بمنزلة قولك : إلا النبوة. بل منقطع بمعنى لكن على ما لا يخفى على أهل العربية ، فلا يدل على العموم. كيف ومن منازله الأخوة في النسب ، ولم يثبت لعلي ، اللهم إلّا أن يقال : إنها بمنزلة المستثنى لظهور انتفائها ، ولو سلم العموم ، فليس من منازل هارون الخلافة والتصرف بطريق النيابة على ما هو مقتضى الإمامة ، لأنه شريك له في النبوة ، وقوله : (اخْلُفْنِي) (٢) ليس استخلافا بل مبالغة وتأكيدا في القيام بأمر القوم. ولو سلم فلا دلالة على بقائها بعد الموت. وليس انتفاؤها بموت المستخلف عزلا ولا نقصا ، بل ربما يكون عودا إلى حالة أكمل ، هي الاستقلال بالنبوة ، والتبليغ من الله ، ولو سلم ، فتصرف هارون ونفاذ أمره لو بقي بعد موسى إنما يكون لنبوته. وقد انتفت النبوة في حق علي (رضي الله تعالى عنه) فينتفي ما يبتنى عليها ويتسبب عنها.

وأما الجواب بأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لما خرج إلى غزوة تبوك استخلف عليا على المدينة ، فأكثر أهل النفاق في ذلك. فقال علي : يا رسول الله ، أتتركني مع الخوالف؟

__________________

(١) الحديث رواه ابن ماجه في سننه في المقدمة ـ فضل علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ١١٥٨ ـ حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم قال : سمعت إبراهيم بن سعد ابن أبي وقاص يحدث عن أبيه عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره.

(٢) سورة الأعراف آية رقم ١٤٢ وتكملة الآية (فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ).

٢٧٥

فقال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي. وهذا لا يدل على خلافته بعده ، كابن أم مكتوم (١) (رضي الله عنه) استخلفه على المدينة في كثير من غزواته ، فربما يدفع بأن العبرة لعموم اللفظ ، لا لخصوص السبب بل ربما يحتج بأن استخلافه على المدينة وعدم عزله منها ، مع أنه لا قائل بالفصل ، وأن الاحتياج إلى الخليفة بعد الوفاة أشد وأوكد منه حال الغيبة يدل على كونه خليفة

قال : الرابع ـ

(الرابع ـ النصوص الجلية مثل : سلموا عليه بإمرة المؤمنين ، أنت الخليفة من بعدي ، إنه إمام المتقين ، هذا خليفتي عليكم ، أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني (بكسر الدال).

والجواب أنها آحاد في مقابلة الإجماع ولو صحت ودلت ، لما خفيت على الصحابة ومن بعدهم ، سيما العترة الطاهرة).

هذه أخبار يدعون أنها نصوص جلية من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) على خلافة علي (رضي الله تعالى عنه) وهو قوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) مخاطبا لأصحابه : سلموا عليه بإمرة المؤمنين. الضمير لعلي والإمرة (بالكسر) الإمارة من أمر الرجل ، صار أميرا. وقوله (عليه‌السلام) لعلي (رضي الله تعالى عنه) : أنت الخليفة من بعدي. وقوله (عليه‌السلام) : إنه إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وقد أخذ بيد علي : هذا خليفتي عليكم. وقوله (عليه‌السلام) لعلي (رضي الله عنه) : أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني (بالكسر).

والجواب ما مر أنها أخبار آحاد في مقابلة الإجماع. وأنها لو صحت لما خفيت

__________________

(١) هو عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم صحابي شجاع ، كان ضرير البصر ، أسلم بمكة ، وهاجر إلى المدينة بعد وقعة بدر وكان يؤذن لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة مع بلال وكان النبي يستخلفه على المدينة ، يصلي بالناس في عامة غزواته وحضر حرب القادسية ، ومعه راية سوداء وعليه درع سابغة ـ فقاتل وهو أعمى ، ورجع بعدها إلى المدينة فتوفي فيها عام ٢٣ ه‍ راجع ابن سعد ٤ : ١٥٣ ، وصفوة الصفوة ١ : ٢٣٧ وذيل الذيل ٢٦ ، ٤٧.

٢٧٦

على الصحابة والتابعين ، والمهرة المتقين من المحدثين ، سيما على أولاده الطاهرين. ولو سلم فغايته إثبات خلافته ، لا نفي خلافة الآخرين.

قال الخامس ـ

(الخامس ـ القدح في إمامة الآخرين ، أما إجمالا فلظلمهم لسبق كفرهم لقوله تعالى: (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١)

وعهد الإمامة لا يناله الظالم ، لقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢)

وفساده ظاهر. وأما تفصيلا فلأنه خالف أبو بكر (رضي الله تعالى عنه) كتاب الله في منع إرث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بخبر رواه.

قلنا : قد يخص عام الكتاب بخبر الواحد القطعي الدلالة ، سيما المسموع ، من فم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فإنه بمنزلة المتواتر ، ومنع فاطمة الزهراء (رضي الله تعالى عنها) فدك مع أنها ادعت النحلة ، وشهد علي وأم أيمن ، وصدق لأزواج في ادعاء الحجرة من غير شاهد.

قلنا : لو سلم ، فللحاكم أن يحكم بالمعلوم ، ولا يحكم بقول المعصوم. وخالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث استخلف عمر وقد عزله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) عن أمر الصدقات.

قلنا : قد استخلف عندكم عليا ، وليس انقضاء التولية بالقضاء الشغل عزلا ، ولا مجرد فعل ما لم يفعله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) قدحا ولم يكن عارفا بالأحكام ، حيث قطع يسار يد سارق ، وتوقف في ميراث الجدة ، ومعرفة الكلالة.

قلنا : لو سلم ، فكم مر مثله للمجتهدين ، وشك في استحقاقه حيث قال عند وفاته: ليت أني سألت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) عن هذا الأمر فيمن هو؟ وكنا لا ننازعه أهله.

قلنا : لو صح ، فلا يدل على الشك بل على عدم النص ، وعلى مبالغته في طلب الحق.)

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٢٥٤ وصدر الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ).

(٢) سورة البقرة آية رقم ١٢٤.

٢٧٧

استدلال على إمامة علي (رضي الله تعالى عنه) بالقدح في إمامة الآخرين ، وتقريره أنه لا نزاع في وجود إمام بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وغير علي من الجماعة الموسومين بذلك لا يصلح لذلك. أما إجمالا فلظلمهم لسبق كفرهم ، لقوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(١)

والظالم لا يكون إماما لقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢)

والجواب منع المقدمتين ومنع دلالة الآية على كون من كان كافرا ثم أسلم ظالما ، ومنع كون المراد بالعهد هو الإمامة ، وأما تفصيلا فمما يقدح في إمامة أبي بكر (رضي الله تعالى عنه) أنه خالف كتاب الله تعالى في منع إرث النبي بخبر رواه : وهو : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة (٣).

وتخصيص الكتاب إنما يجوز بالخبر المتواتر دون الآحاد.

والجواب أن خبر الواحد ، وإن كان ظني المتن قد يكون قطعي الدلالة ، فيخصص به عام الكتاب لكونه ظني الدلالة ، وإن كان قطعي المتن جمعا بين الدليلين ، وتمام تحقيق ذلك في (٤) أصول الفقه. على أن الخبر المسموع من فم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إن لم يكن فوق المتواتر ، فلا خفاء في كونه بمنزلته. فيجوز للسامع المجتهد أن يخصص به عام الكتاب. ومنها أنه منع فاطمة (رضي الله تعالى عنها) فدك وهي قرية بخيبر مع أنها ادعت أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) قد نحلها إياها ، ووهبها منها ، وشهد بذلك علي (رضي الله عنه) ، وأم أيمن ، فلم يصدقهم ، وصدق أزواج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) في ادعاء الحجرة لهن من غير شاهد. ومثل هذا الجور والميل لا يليق بالإمام. ولهذا رد عمر بن عبد العزيز (٥) من المروانية فدك إلى أولاد فاطمة (رضي الله تعالى عنها).

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٢٥٤.

(٢) سورة البقرة آية رقم ١٢٤.

(٣) الحديث رواه الإمام أحمد في المسند ٢ : ٤٦٣ ـ حدثنا وكيع قال : حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : وذكره وفيه زيادة (ما تركت بعد مئونة عاملي ونفقة نسائي صدقة).

(٤) في (ب) بزيادة لفظ (كتب).

(٥) هو عمر بن العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي أبو حفص الخليفة الصالح ، والملك العادل ، وربما قيل له خامس الخلفاء الراشدين تشبيها له بهم ، وهو من ملوك الدولة المروانية ولد ـ

٢٧٨

والجواب أنه لو سلم صحة ما ذكر ، فليس على الحاكم أن يحكم بشهادة رجل وامرأة وإن فرض عصمة المدعي ، والشاهد ، وله الحكم بما علمه يقينا وإن لم يشهد به شاهد ، ولعمري أن قصة فدك على ما يرويه الروافض من بين الشواهد على انهماكهم في الضلالة وافترائهم على الصحابة ، وكونهم الغاية في الغواية ، والنهاية في الوقاحة ، حيث ظنوا بمثل أبي بكر وعمر أنهما أخذا حق سلالة النبوة ظلما لينتفع به الآخرون لا هما نفسهما ، ولا من يتصل بهما ، ويمثل علي (رضي الله تعالى عنه) أنه مع علمه بحقيقة الحال لم يدفع تلك الظلامة أيام خلافته ، ولسائر الأصحاب أنهم سكتوا على ذلك من غير تعرض ولا اعتراض. والمذكور في كتب التواريخ ، أن فدك كانت على ما قرره أبو بكر (رضي الله تعالى عنه) إلى زمن معاوية ، ثم أقطعها مروان بن الحكم (١) ووهبها مروان من ابنيه عبد العزيز وعبد الملك ، ثم لما ولي الوليد بن عبد الملك وهب عمر بن عبد العزيز نصيبه للوليد ، وكذا سليمان بن عبد الملك ، فصارت كلها للوليد ، ثم ردها عمر بن عبد العزيز أيام خلافته إلى ما كانت عليه ، ثم لما كانت سنة عشرين ومائتين كتب المأمون إلى عامله على المدينة قثم بن جعفر أن يرد فدك إلى أولاد فاطمة (رضي الله تعالى عنها) فدفعها إلى محمد بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، ومحمد بن عبد الله بن زيد بن الحسين بن زيد ليقوما بها لأهلهما ، وعد ذلك من تشيع المأمون ، فلما استخلف المتوكل (٢) ردها الى ما كانت عليه. ومنها أنه خالف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) في الاستخلاف ، حيث جعل عمر خليفة له والرسول (عليه‌السلام) ،

__________________

ـ ونشأ بالمدينة عام ٦١ ه‍ استوزره سليمان بن عبد الملك بالشام ، وولي الخلافة بعهد من سليمان سنة ٩٩ ه‍ توفي عام ١٠١ ه‍ راجع فوات الوفيات ٢ : ١٠٥ وتهذيب التهذيب ٧ : ٤٧٥ وحلية الأولياء ٥ : ٢٥٣ ـ ٣٥٣.

(١) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو عبد الملك خليفة أموي هو أول ملك من بني الحكم بن أبي العاص وإليه ينسب بنو مروان ودولتهم المروانية ولد بمكة ٢ ه‍ ونشأ بالطائف ، وسكن المدينة قتل عام ٦٥ ه‍ أول من ضرب الدنانير وكتب عليها «قل هو الله أحد».

(٢) هو جعفر «المتوكل على الله» بن محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد أبو الفضل : خليفة عباسي ولد ببغداد عام ٢٠٦ ه‍ وبويع بعد وفاة أخيه الواثق سنة ٢٣٢ ه‍ وكان جواد محبا للعمران من آثاره المتوكلية ببغداد أنفق عليها أموالا كثيرة وهو الذي أمر بترك الجدل في القرآن. راجع تاريخ الخميس ٢ : ٣٣٧ واليعقوبي ٣ : ٢٠٨

٢٧٩

مع أنه أعرف بالمصالح والمفاسد وأوفر شفقة على الأمة ، لم يستخلف أحدا ، بل عزل عمر بعد ما ولاه أمر الصدقات. فاستخلافه وتوليته جميع أمور المسلمين مخالفة للرسول ، وترك لما وجب من اتباعه.

والجواب أنا لا نسلم أنه لم يستخلف أحدا بل استخلف إجماعا. أما عندنا فأبا بكر ، وأما عندكم فعليا ، ولا نسلم أنه عزل عمر ، بل انقضى توليته بانقضاء شغله كما إذا وليت أحدا عملا فأتمه ، فلم يبق عاملا. فإنه ليس من العزل في شيء. ولا نسلم أن مجرد فعل ما لم يفعله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) مخالفة له وترك لاتباعه. وإنما يكون ذلك إذا فعل ما نهى عنه أو ترك ما أمر به ولا نسلم أن هذا قادح في استحقاق الإمامة.

ومنها أنه لم يكن عارفا بالأحكام حتى قطع يسار سارق من الكوع ، لا يمينه. وقال لجدة سألته عن إرثها : لا أجد لك شيئا في كتاب الله ، ولا سنة نبيه. فأخبره المغيرة ، ومحمد بن سلمة أن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أعطاها السدس ، وقال : اعطوا الجدات السدس (١). ولم يعرف الكلالة وهي من لا والد له ولا ولد. وكل وارث ليس بوالد ولا ولد.

والجواب بعد التسليم أن هذا لا يقدح في الاجتهاد ، فكم مثله للمجتهدين.

ومنها أنه شك عند موته في استحقاقه الإمامة حيث قال : وددت أني سألت رسول الله عن هذا الأمر فيمن هو؟ وكنا لا ننازعه أهله.

والجواب أن هذا على تقدير صحته لا يدل على الشك ، بل على عدم النص ، وإن إمامته كانت بالبيعة والاختيار ، وأنه في طلب الحق بحيث يحاول أن لا يكتفي بذلك ، بل يريد اتباع النص خاصة.

ومنها أن عمر مع كونه وليه وناصره قال : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله تعالى

__________________

(١) الحديث رواه الإمام الترمذي في كتاب الفرائض ١٠ باب ما جاء في ميراث الجدة ٢١٠٠ ـ عن قبيصة بن ذؤيب قال وذكره ورواه ابن ماجه في كتاب الفرائض ٤ باب ميراث الجدة ٢٧٢٤ بسنده عن قبيصة بن ذؤيب ، وحدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عثمان بن إسحاق بن خرشة عن ابن ذويب قال : جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه تسأله ميراثها فقال : وذكره.

٢٨٠