شرح المقاصد - ج ٥

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٥

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

يزاحمه. وذلك القانون هو الشرع ، ولا بد له من شارع يقرره على ما ينبغي متميزا عن الآخرين بخصوصية فيه من قبل خالق الكل ، واستحقاق طاعة وانقياد ، وإلا لما قبلوه ، ولم ينقادوا له ، وأن يكون إنسانا يخاطبهم ويلزمهم المعاملة على وفق ذلك القانون ، ويراجعونه في مواضع الاحتياج ومظان الاشتباه ، فتلك الخصوصية هي البعثة والنبوة ، وذلك الإنسان الشارع لقوانين المعاملات فيما بينهم ، والسياسات في حق من يخرج من مصالح البقاء هو النبي ، فلا بد من أمر مختص يدل على أن شريعته من عند ربه ، ويقتضي لمن وقف عليه أن يقر بنبوته ، وينقاد له وهو المعجزة.

قالوا : وهذا الإنسان هو الذي يجتمع فيه خواص ثلاث : هي الاطلاع على المغيبا ، وظهور خوارق العادات ، ومشاهدة الملك مع سماع كلامه. ومعنى ذلك على ما شرحه في الشفاء وغيره أنه يكون كاملا في قوته النفسانية ، أعني الإنسانية والحيوانية المدركة والمحركة ، بمعنى أن نفسه القدسية بصفاء جوهرها ، وشدة اتصالها بالمبادئ العالية المنتقشة بصور الكائنات ماضيها ، وحاضرها ، وآتيها ، وقلة التفاتها إلى الأمور الجاذبة إلى الخسة السافلة ، تكون بحيث يحصل لها جميع ما يمكن للنوع دفعه ، أو قريبا من دفعه ، إذ لا بخل هناك ولا احتجاب ، وإنما المانع هو انجذاب القوابل إلى عالم الطبيعة ، وانغماسها في الشواغل عن عالم العقل ، وأن قوته المتخيلة تكون بحيث يتمثل لها العقول المجردة صورا وأشباحا يخاطبونه ويسمعونه كلاما منظوما محفوظا ، وأن قوته المحركة تكون بحيث يطيع لها هيولى العناصر ، فيتصرف فيها تصرفها في بدنه ، فيعنون بالخصائص هذه القوى ، وبمشاهدة الملك هذا المعنى ، فلا يرد الاعتراض بأن الاطلاع على المغيبات وظهور خوارق العادات قد يوجد لغير الأنبياء ، فلا يكون من خواصهم ، وأن مشاهدة الملك وسماع كلامه مجرد عبارة لا يقولون بمعناها على أن الخاصة (١) قد تطلق على الإضافية ، وأن ما ذكر بمجرد اعتبار مقارنته التحدي يصير خاصة حقيقية.

__________________

(١) الخاصة : كلية مقولة على أفراد حقيقية واحدة فقط قولا عرضيا سواء وجد في جميع أفراده كالكاتب بالقوة بالنسبة إلى الإنسان أو في بعض أفراده كالكاتب بالفعل بالنسبة إليه فالكلية مستدركة وقولنا فقط ـ

٢١

وأما تقريرهم من المعجزات فإجمالا أنه لا يبعد أن يختص بعض النفوس الإنسانية بقوة هي مبدأ لأفعال غريبة بسبب ما لها من الخصوصية الشخصية ، أو بسبب أمر طارئ عليها من غير اكتساب أو حاصل لها بالاكتساب على ما هو شأن أكثر الأولياء ، وهذا لا ينافي اتحاد النفوس بحسب النوع : وتفصيلا أن المشهور من معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء ثلاث بحسب القوة الإنسانية ، والقوة الحيوانية باعتبار الحركات والسكنات.

فالأول : الاطلاع على المغيبات ، وليس ببعيد لتحقيقه في حال النوم على ما تعرفه من نفسك وتسمعه من غيرك. وسبب ذلك اتصال النفس بالمبادئ العالية ، اعني العقول والنفوس السماوية المنتقشة بصور ما يستند إليها من الحوادث لما تقرر من أنها عالمة بذواتها ، وأن العلم بالعلل والأسباب يوجب العلم بالمعلولات والمسببات. غاية الأمر أن علم العقول بالحوادث لا يكون إلا على وجه كلي خال من قيد الهذية وخصوص الوقتية ، والكاملون قد يدركونها على الوجه الجزئي ، إما بجعلها جزئية بمعونة الحواس الباطنة على ما قررها الحكماء ، وإما لارتسامها في النفوس السماوية ، كذلك على ما يراه بعضهم ، ومعنى اتصال النفس بالمبادئ العالية صيرورتها مستعدة لفيضان العلوم عليها بحصول القوى لها وزوال المانع ، أعني الشواغل الحسية عنها ، بمنزلة مرآة مجلوة تحاذي شطر الشمس ، ولا يلزم من ذلك انتقاشها بجميع ما في المبادي من الصور ، لأن لقبول كل صورة استعدادا يخصها.

والثاني : ظهور حركات وأفعال تعجز عن أمثالها أمثاله ، كحدوث رياح وزلازل ، وحرق ، وغرق ، وهلاك أشخاص ظالمة ، وخراب مدن فاسدة ، وانفجار المياه من الأحجار ، بل من الأصابع ، وليس ببعيد ، لأن علاقة النفس مع البدن إنما هي بالتدبير والتصرف ، لا الحلول (١) والانطباع ، فيجوز أن يكون بعض النفوس

__________________

ـ يخرج الجنس ، والعرض العام لأنهما مقولان على حقائق وقولنا قولا عرضيا يخرج النوع والفصل لأن قولهما على ما تحتهما ذاتي لا عرضي ، وخاصة الشيء : ما لا يوجد بدون الشيء والشيء قد يوجد بدونها مثل الألف واللام. لا يوجدان بدون الاسم ، والاسم يوجد بدونهما كما في زيد.

(١) الحلول السرياني : عبارة عن اتحاد الجسمين بحيت تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر ، ـ

٢٢

من القوة بحيث يتصرف في أجسام أخر غير بدنها ، بل في كلية العناصر ، حتى كأنها نفس لعالم العناصر.

والثالث : الإمساك عن القوت مدة غير معتادة ، وليس ببعيد كما في بعض الأمراض لاشتغال الطبيعة بهضم الأخلاط الفاسدة ، وتحليل المواد الردية عن تحليل المواد المحمودة والرطوبات الأصلية المحوج إلى البدل ، فيجوز في حق الأشخاص الكاملة لانجذاب نفوسهم إلى جناب القدس بالكلية ، واستتباعها القوى الجسمانية التي بها الهضم والشهوة والتغذية وما يتعلق بذلك ، بل لا يبعد أن يكون هذا من حق هؤلاء أولى وأقرب منه في المرض لكون احتياج المريض إلى الغذاء أوفر وأوفى (١)

أما أولا فلتحلل رطوباته بسبب الحرارة الغريبة المسماة بسوء المزاج (٢).

وأما ثانيا فلفرط احتياجه إلى حفظ القوى البدنية بحفظ الرطوبات التي بها تعتدل الحرارة الغريزية ، وذلك لما عرض لها بسبب المرض المضاد لها من الفتور.

وأما ثالثا فلاختصاص العارف بأمر يقتضي الاستغناء عن الغذاء ، وهو السكون البدني الحاصل بسبب ترك القوى البدنية أفاعيلها عند متابعتها النفس.

وأما تقريرهم لنزول الوحي وظهور الملك مع أنه من المجردات (٣) دون الأجسام ، فهو أن النائم ومن يجري مجراه في عدم استيلاء الحواس عليه قد يشاهد صورا غريبة ، ويسمع أصواتا عجيبة ، وليست بمعدومة صرفة ولا موجودة في الخارج ، بل في القوة المتخيلة والحس المشترك ، وربما لا يكون متأدية إليه من طرق الحواس الظاهرة ، بل من عالم آخر ، فلا يبعد أن يكون لبعض أفراد الإنسان

__________________

ـ كحلول ماء الورد في الورد فيسمى الساري حالا ، والمسرى فيه محلا.

الحلول الجواري : عبارة عن كون أحد الجسمين ظرفا للآخر كحلول الماء في الكوز.

(١) في (ب) أكثر بدلا من (أوفى).

(٢) المزاج : كيفية متشابهة تحصل عن تفاعل عناصر منافرة لأجزاء مماسة بحيث تكسر سورة كل منها سورة كيفية الآخر.

(٣) المجردات : المجرد. ما لا يكون محلا لجوهر ولا حالا في جوهر آخر ولا مركبا منهما على اصطلاح أهل الحكمة.

٢٣

نفس شريفة شديدة الاتصال بعالم العقل ، قليلة الالتفات إلى عالم الحس ، ومتخيلة شديدة جدا قوية التلقي من عالم الغيب ، قليلة الانغماس في جانب الظاهر ، لا يعصيها المصورة ولا يشغلها المحسوسات عن أفعالها الخاصة ، ويحصل لذلك الإنسان في اليقظة أن يتصل بعالم الغيب ، ويتمثل لقوته المتخيلة العقول المجردة والنفوس السماوية أشباحا مصورة سيما العقل الفعال (١) الذي له زيادة اختصاص بعالم العناصر ، فتخاطبه وتحدث في سمعه كلاما مسموعا يحفظ ويتلى ، ويكون ذلك من قبل الله وملائكته ، لا من الإنسان ، وهذا معنى الوحي ونزول الملك والكتاب. وقد يكون ذلك على غاية الكمال ، فيعبر عنها بمشاهدة وجه الله الكريم وسماع كلامه من غير واسطة.

وأما تقريرهم في كون النبي مبعوثا من قبل الباري تعالى لحفظ النظام وصلاح العباد في المعاش والمعاد ، مع أنهم لا يثبتون له الفعل بالاختيار والعلم بالجزئيات ، ويقطعون بأنه ـ بل جميع المبادي العالية ـ لا يفعل لغرض في الأمور السافلة ، فهو أن العناية الإلهية بمخلوقاته ، أعني إحاطة علمه السابق بنظام الموجودات على الوجه الأليق في الأوقات المترتبة التي يقع كل موجود منها في واحد من تلك الأوقات يقتضي إفاضة ذلك النظام على ذلك الترتيب والتفصيل الذي من جملته وجود الشرع والشارع ووجوب ما به يكون النظام على وجه الصواب ، فيجب ذلك عنه وعن إحاطته بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل ليكون الموجود على وفق المعلوم وعلى أحسن النظام ، وإن لم يكن هناك انبعاث قصد وطلب منه تعالى ، وهذا ما قال في الشفاء إن العناية الإلهية تقتضي المصالح التي لها منفعة ما في البقاء ، كإنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين ، وتقعير الأخمص من القدمين ، فكيف لا تقتضي المنفعة التي هي في محل الضرورة للبقاء ، ولتمهيد نظام الخير وأساس المنافع كلها ، وكيف لا يجب وقد وجدها هو مبني عليها ومتعلق بها ، وكيف يجوز أن يكون المبدأ الأول والملائكة بعده يعلمون ذلك ولا يعلمون هذا.

__________________

(١) هو أن تصير النظريات مخزونة عند قوة العاقلة بتكرار الاكتساب بحيث يحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد لكنها لا يشاهدها بالفعل.

٢٤

ففي الجملة قالوا بوجوب البعثة ولزوم النبوة. فمن قال هي واجبة في الحكماء أراد تبقية النظام على الوجه اللائق ، ومن قال في العناية أراد تمثل النظام في علمه الشامل. ومن قال في الطبيعة ، أراد وجود النظام الكامل. ولقد أفصح عن المقصود بعض الإفصاح من قال : إن المدبر الذي يسوق النوع من النقصان إلى الكمال لا بد أن يبعث الأنبياء ويمهد الشرائع كما هو موجود في العالم ، ليحصل النظام ويتعيش الأشخاص ويمكن لهم الوصول من النقصان إلى الكمال الذي خلقوا لأجله.

قال : المبحث الرابع محمد رسول الله

(صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لأنه ادعى الرسالة وهو ظاهر ، وأظهر المعجزة لأنه أتى بالقرآن المعجز (١) ، وأخبر عن المغيبات (٢) ، وظهر منه ما لا يعتاد من الأحوال. أما النوع الأول منه فبيان الإعجاز أنه (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) تحدى بأقصر سورة منه مصاقع البلغاء مع كثرتهم وشهرتهم بالعصبية ، فعدلوا عن المعارضة إلى المقارعة ، وهو دليل العجز ، ووجه الإعجاز عند الأكثرين كونه في الطبقة العليا من البلاغة ، وعند الكثيرين الصرفة ، وهي أن الله تعالى صرف العقول عن المعارضة مع القدرة عليها ، ورد بأن فصحاء العرب إنما كانوا يتعجبون من ذلك ، لا من عدم المعارضة مع سهولتها ، وبأن ترك كمال البلاغة أدخل في الإعجاز بالصرفة ، وبقوله تعالى :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) (٣) .. الآية.

وقيل كونه على أسلوب غريب مخالف لما دل عليه كلامهم. وقيل سلامته عن الاختلاف والتناقض ، وقيل اشتماله على دقائق العلوم والحكم والمصالح. وقيل على الإخبار عن المغيبات ، وردت بأن خرافات مسيلمة وغيره على ذلك الأسلوب ، وكلام كثير من البلغاء والحكماء سالم عن الاختلاف والتناقض ،

__________________

(١) قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

(٢) وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن بعض نسائه «من منكن تنبحها كلاب هجر».

(٣) سورة الإسراء آية رقم ٨٨ وتكملة الآية : (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

٢٥

ومشتمل على العلوم والحقائق ، وكثير من السور خال عن الإخبار عن المغيبات ، ووجه دفع المطاعن إجمالا أن رؤساء العرب مع حذاقتهم وعداوتهم اعترفوا به وأذعنوا ، ولم يطعنوا ، بل نسبوه لكمال حسنه إلى السحر (١).

وتفصيلا الجواب عما يورده بعض المعاندين من أعداء الدين مثل ان فيه غير العربي كالإستبرق والسجيل ، فكيف يكون عربيا مبينا ، وأن فيه خطأ من جهة الإعراب ، مثل : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (٢)

وأن فيه مقدار احدى عشرة آية من كلام البشر وهي (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ..) (٣) الآيات.

فكيف يصح التحدي بسورة وأقلها ثلاث آيات! وأن فيه ما يتمسك به أهل الغواية مثل : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٤).

وأن فيه عيب التكرار كقصة فرعون و(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥) ، و(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٦) ، وأن فيه اختلافا كثيرا من القراءات ، فكيف يصح قوله : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٧).

وأن فيه التناقض مثل : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (٨).

مع قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٩).

والكذب المحض مثل (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)(١٠).

__________________

(١) سورة طه آية رقم ٦٣ وتكملة الآية (يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى)

(٢) سورة طه آية رقم ٢٥

(٣) سورة طه آية رقم ٥

(٤) سورة الرحمن آية رقم ١٦

(٥) سورة المرسلات آية رقم ١٥

(٦) سورة النساء آية رقم ٨٢

(٧) سورة الرحمن آية رقم ٣٩

(٨) سورة الحجر آية رقم ٦٢

(٩) سورة الأعراف آية رقم ١١

٢٦

والشعر من كل بحر مثل قوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (١) وغير ذلك.

والجواب : أنه لا يبعد توافق اللغتين أو جعل الكل عربيا تغليبا ، وأن الخطأ إما في التخطئة على ما بين في علم النحو ، وأن المحكى لا يلزم أن يكون عبارة المحكى عنه ، وفي التشابه فوائد مثل مثوبة النظر ، أو التوقف والتكرار ربما يكون من المحاسن والاختلاف المنفى هو تفاوت النظم بحيث يقصر عن الإعجاز ، ووهم التناقض والكذب والشعر من الجهل بعلم التفسير وبمعنى الشعر).

(أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) (٢) ولم يخالف في ذلك من أهل الملل والأديان إلا البعض من اليهود والنصارى ، وحجتنا أنه (عليه‌السلام) ادعى النبوة ، وأظهر المعجزة ؛ وكل من كان كذلك فهو نبي لما بينا ، أما دعوى النبوة فبالتواتر والاتفاق (٣) حتى جرت مجرى الشمس في الوضوح والإشراق. وأما إظهار المعجزة فلأنه أتى بالقرآن ، وأخبر عن المغيبات ، وأظهر أفعالا على خلاف المعتاد ، وبلغت جملتها حد التواتر ، وإن كانت تفاصيلها من الآحاد. فلنتكلم في الأنواع الثلاثة :

أما النوع الأول ففيه ثلاث مقامات لبيان إعجاز القرآن ، ووجه الإعجاز ، ودفع شبه الطاعنين.

أما المقام الأول فهو أنه (صلى الله تعالى عليه وسلم) تحدى بالقرآن (٤) ، ودعا إلى الإتيان بسورة مثله مصاقع البلغاء والفصحاء من العرب العرباء مع كثرتهم كثرة رمال الدهناء ، وحصى البطحاء ، وشهرتهم بغاية العصبية والحمية الجاهلية ، وتهالكهم على المباهاة والمباراة والدفاع عن الأحساب ، وركوب الشطط في هذا الباب ، فعجزوا حتى آثروا المقارعة (٥) على المعارضة ، وبذلوا المهج والأرواح دون المدافعة فلو قدروا على المعارضة لعارضوا. ولو عارضوا؛ لنقل إلينا لتوفر

__________________

(١) سورة الكهف آية رقم ٢٩

(٢) سورة الفتح آية رقم ٢٨

(٣) سقطت من (ب) كلمة (الاتفاق)

(٤) في (ب) بزيادة كلمة (العرب)

(٥) المقارعة : الحرب والقتال

٢٧

الدواعي وعدم الصارف ، والعلم بجميع ذلك قطعي كسائر العاديات ، لا يقدح فيه احتمال انهم تركوا المعارضة مع القدرة عليها ، أو عارضوا ولم ينقل إلينا لمانع ، كعدم المبالاة وقلة الالتفات ، والاشتغال بالمهمات.

وأما المقام الثاني فالجمهور على أن إعجاز القرآن لكونه في الطبقة العليا من الفصاحة ، والدرجة القصوى من البلاغة على ما يعرفه فصحاء العرب (١) بسليقتهم ، وعلماء الفرق بمهارتهم في فن البيان ، وإحاطتهم بأساليب الكلام. وهذا مع اشتماله على الإخبار عن المغيبات الماضية والآتية ، كما سنذكره ، وعلى دقائق العلوم الإلهية ، وأحوال المبدأ والمعاد ، ومكارم الأخلاق ، والإرشاد إلى فنون الحكمة العلمية والعملية ، والمصالح الدينية والدنيوية على ما يظهر للمتدبرين ويتجلى على المتفكرين ، وذهب النظام (٢) وكثير من المعتزلة والمرتضى من الشيعة إلى أن إعجازه بالصرفة ، وهي أن الله صرف همم المتحدين عن معارضته مع قدرتهم عليها ، وذلك إما بسلب قدرهم ، أو بسلب دواعيهم ، أو بسلب العلوم التي لا بد منها في الإتيان بمثل القرآن. بمعنى أنها لم تكن حاصلة لهم ، أو بمعنى أنها كانت حاصلة فأزالها الله. وهذا هو المختار عند المرتضى ، وتحقيقه أنه كان عندهم العلم بنظم القرآن ، والعلم بأنه كيف يؤلف كلام يساويه أو يدانيه. والمعتاد أن من كان عنده هذان العلمان يتمكن من الإتيان بالمثل ، إلا أنهم كلما حاولوا ذلك ، أزال الله تعالى عن قلوبهم تلك العلوم. وفيه نظر.

واحتجوا أولا بأنا نقطع بأن فصحاء العرب كانوا قادرين على التكلم بمثل

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (جميعهم)

(٢) هو إبراهيم بن سيار بن هانئ البصري أبو اسحاق النظام من أئمة المعتزلة قال الجاحظ : الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له فإن صح ذلك فأبو إسحاق من أولئك : تبحر في علوم الفلسفة ، واطلع على أكثر ما كتبه رجالها من طبيعيين وإلهيين ، وانفرد بآراء خاصة تابعته فرقته من المعتزلة وسميت باسمه ، وبين هذه الفرق وغيرها مناقشات طويلة ، وقد ألفت كتب خاصة للرد على النظام وفيها تكفير له وتضليل أما شهرته بالنظام فأشياعه يقولون إنها من إجادته نظم الكلام ، وخصومه يقولون إنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة ، وفي كتاب الفرق بين الفرق أن النظام عاشر في زمان شبابه قوما من الثنوية متأثر بهم توفي عام ٢٣١ ه

٢٨

مفردات الصورة ومركباتها القصيرة مثل : «الحمد لله» ومثل : «رب العالمين» .. وهكذا ، إلى الآخر ، فيكونون قادرين على الإتيان بمثل الصورة.

وثانيا بأن الصحابة عند جمع القرآن كانوا يتوقفون في بعض السور والآيات إلى شهادة الثقات ، وابن مسعود (رضي الله تعالى عنه) قد بقي مترددا في الفاتحة والمعوذتين ، ولو كان نظم القرآن معجزا بفصاحته لكان كافيا في الشهادة.

والجواب عن الأول بأن حكم الجملة قد يخالف حكم الأجزاء. وهذه بعينها شبهة من نفى قطيعة الإجماع والخبر المتواتر ، ولو صح ما ذكر لكان كل من آحاد العرب قادرا على الإتيان بمثل قصائد فصحائهم ، كامرئ القيس (١) وأضرابه ، واللازم قطعي البطلان ..

وعن الثاني بعد صحة الرواية وكون الجمع بعد النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) لا في زمانه ، وكون كل سورة مستقلة بالإعجاز أن ذلك كان للاحتياط ، والاحتراز عن أدنى تغيير لا يخل بالاعجاز ، وأن إعجاز كل سورة ليس مما يظهر لكل أحد بحيث لا يبقى له تردد أصلا.

وقيل : إعجازه بنظمه الغريب المخالف لما عليه كلام العرب في الخطب والرسائل والأشعار. وقيل : بسلامته عن الاختلاف والتناقض ، وقيل : باشتماله على دقائق العلوم ، وحقائق الحكم والمصالح. وقيل : بإخباره عن المغيبات ، ورد بأن حماقات مسيلمة (٢) ومن يجري مجراه أيضا على ذلك النظم ، وبأنه كثيرا ما يسلم كلام البلغاء عن الاختلاف والتناقض ، ويشتمل كلام الحكماء على العلوم والحقائق ، والإخبار عن المغيبات التي لا توجد إلا في قليل من الكتاب.

فإن قيل : لا يظهر فرق بين كون الإعجاز بنظمه الخاص ، وكونه ببلاغة النظم

__________________

(١) هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي ، من بني آكل المرار ، أشهر شعراء العرب على الإطلاق يماني الأصل مولده بنجد نحو ١٣٠ ـ ٨٠ ق ه أبوه ملك أسد وغطفان وأمه أخت المهلهل الشاعر فلقنه المهلهل الشعر فقاله وهو غلام ، وجعل يشبب ويلهو ويعاشر صعاليك العرب قتل والده وأخا بثأره ويعرف بالملك الضليل توفي عام ٤٩٧ ـ ٥٤٥ م

(٢) مسيلمة الكذاب بن تمامة بن كبير : متنبئ من المعمرين وفي الأمثال : أكذب من مسيلمة. عرف برحمان اليمامة قتل عام ١٢ ه‍ في حروب الردة. وراجع ابن هشام ٣ : ٧٤ والروض الأنف ٢ : ٤٠

٢٩

ليجعلا مذهبين متقابلين ، ويجعل كون الإعجاز بالأمرين جميعا مذهبا ثالثا ينسب إلى القاضي على ما قال إمام الحرمين أن وجه الإعجاز عندنا هو اجتماع الجزالة مع الأسلوب والنظم المخالف لأساليب كلام العرب من غير استقلال لاحدهما ، إذ ربما يدعي أن بعض الخطب والأشعار من كلام أعاظم البلغاء لا ينحط عن جزالة القرآن انحطاطا بينا قاطعا للأوهام ، وربما يقدر نظم ركيك يضاهي نظم القرآن على ما روى من ترهات مسيلمة الكذاب : الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وثيل وخرطوم طويل. فلزم كون الإعجاز بالنظم البديع مع الجزالة ، أعني البلاغة ، وهو التعبير عن معنى سديد بلفظ شريف ، وأن ينبئ عن المقصود من غير مزيد.

ثم قال : وفي القرآن سوى النظم والبلاغة وجهان آخران من الإعجاز هما : الإخبار عن قصص الأولين من غير سماع وتلقين ، والإخبار عن المغيبات المستقبلة متكررة متوالية.

قلنا : معنى الأول ان نظم القرآن وتركيبه يخالف المعتاد من أساليب كلام العرب ، إذ لم يعهد فيه كون المقاطع على مثل يعلمون ، ويفعلون. والمطالع على مثل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) (١) ، و(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (٢) ، و(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) (٣) ، و(عَمَّ يَتَساءَلُونَ)(٤) ، وأمثال ذلك.

ومعنى الثاني أن نظمه بالغ في الفصاحة والمطابقة لمقتضى الحال الجد الخارج عن طوق البشر ، وكان معنى النظم على الأول ترتيب الكلمات ، وضم بعضها إلى البعض. وعلى الثاني جمعها مترتبة المعاني ، متناسقة الدلالات على حسب ما يقتضيه العقل على ما قال عبد القاهر أن النظم هو توخي معاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام. ولهذا زيادة بيان في بعض كتبنا في فن البيان. وقد استدل على بطلان الصرفة بوجوه :

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٢١

(٢) سورة المزمل آية رقم ١

(٣) سورة الحاقة آية رقم ١

(٤) سورة النبأ آية رقم ١

٣٠

الأول : أن فصحاء العرب إنما كانوا يتعجبون من حسن نظمه وبلاغته وسلاسته في جزالته ، ويرقصون رءوسهم عند سماع قوله تعالى :

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ..) (١) الآية.

لذلك ، لا لعدم تأتي المعارضة مع سهولتها في نفسها.

الثاني : أنه لو قصد الإعجاز بالصرفة لكان الأنسب ترك الاعتناء ببلاغته وعلو طبقته ، لأن كلما كان أنزل في البلاغة وأدخل في الركاكة ، كان عدم تيسر المعارضة أبلغ في خرق العادة.

الثالث : قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٢).

فإن ذكر الاجتماع والاستظهار بالغير في مقام التحدي إنما يحسن فيما لا يكون مقدورا للبعض ، ويتوهم كونه مقدورا للكل ، فيقصد نفي ذلك ..

فإن قيل : لو كان القصد إلى الإعجاز بالبلاغة لكان ينبغي أن يؤتى بالكل في أعلى الطبقات لكونه أبلغ في خرق العادة ، والمذهب أن الله تعالى قادر على أن يأتي بما هو أفصح مما أتى به وأبلغ ، وأن بعض الآيات في باب البلاغة أعلى وأرفع كقوله تعالى :

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ..) (٣) الآية.

بالنسبة إلى سورة الكافرين مثلا. (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (٤)

قلنا : هذا أوفى بالغرض ، وأوضح في المقصود. بمنزلة صانع يبرز من مصنوعاته ما ليس غاية مقدوره ونهاية ميسوره ، ثم يدعو جماهير الحذاق في الصناعة إلى ان يأتوا بما يوازي أو يداني دون ما ألقاه ، وأهون ما أبداه.

__________________

(١) سورة هود آية رقم ٤٤

(٢) سورة الإسراء آية رقم ٨٨

(٣) سورة هود آية رقم ٤٤

(٤) سورة الكافرون آية رقم ١

٣١

وأما المقام الثالث : فأشراف العرب مع كمال حذاقتهم في أسرار الكلام ، وفرط عداوتهم للإسلام لم يجدوا فيه للطعن مجالا ، ولم يوردوا في القدح مقالا ، ونسبوه إلى السحر(١) على ما هو دأب المحجوج المبهوت تعجبا من فصاحته ، وحسن نظمه وبلاغته ، واعترفوا بأنه ليس من جنس خطب الخطباء أو شعر الشعراء ، وأن له حلاوة ، وعليه طلاوة وأن أسافله مغدقة ، وأعاليه مثمرة ، فآثروا المقارعة على المعارضة ، والمقاتلة على المقاولة ، وأبى الله إلا أن يتم نوره على كره المشركين ورغم المعاندين ، وحين انتهى الأمر إلى من بعدهم من أعداء الدين ، وفرق الملحدين اخترعوا مطاعين ليست إلّا هزءة للساخرين ، وضحكة للناظرين ، منها أن فيه كلمات غير عربية كالإستبرق (٢) ، والسجيل (٣) ، والقسطاس (٤) ، والمقاليد. فكيف يصح أنه عربي مبين؟ فرد بأن ذلك من توافق اللغتين ، أو المراد أنه عربي النظم والتركيب ، أو الكل عربي على سبيل التغليب ، ومنها أن فيه خطأ من جهة الإعراب مثل :

(إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (٥).

و(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) (٦) و(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) (٧)

ورد بأن كل ذلك صواب على ما بين في علم الإعراب. ومنها أن فيه مما يكذبه ، حيث أخبر بأنه لا يتيسر للبشر والجن ، بل الإنس والجن لا يأتيان بمثل سورة منه ، وأقل السور ثلاث آيات. ثم حكى عن موسى مع اعترافه بأن هارون أفصح منه مقدار إحدى عشرة آية منه وهي :

__________________

(١) قال تعالى على لسان الكفار (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ)

(٢) قال تعالى : (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) الكهف آية ٣١

(٣) (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) سورة هود آية ٨٢

(٤) قال تعالى : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) سورة الإسراء آية رقم ٣٥

(٥) سورة طه آية رقم ٦٣

(٦) سورة البقرة آية رقم ٦٢.

(٧) سورة النساء آية رقم ١٦٢.

٣٢

(رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (١) إلى قوله : (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً)(٢).

ورد بأن المحكى لا يلزم أن يكون لهذا النظم بعينه ، على أن المختار عند البعض في المتحدى به سورة من الطوال أو عشر من الأوساط. ومنها أن فيه متشابهات يتمسك بها أهل الغواية كالمجسمة بمثل :

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٣).

ورد بأنها لنيل المثوبة بالنظر والاجتهاد في طلب المراد ، أو لفوائد لا تحصى بالرجوع إلى الراسخين في العلم. ومنها أن فيه عيب التكرار كإعادة قصة فرعون في عدة مواضع ، وكإعادة :

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤) و(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٥)

في سورة الرحمن والمرسلات. ورد بأنه ربما يكون من محاسن الكلام على ما يقرره علماء البيان فيما وقع منه فى القرآن. ومنها أن فيه قوله :

(وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٦)

وأنت تجد فيه من الاختلاف المسموع من أصحاب القراءة ما يربى على اثني عشر ألفا.

ورد بأن المراد من الاختلاف المنفي هو التفاوت في مراتب البلاغة ، بحيث

__________________

(١) سورة طه آية رقم ٢٥.

(٢) سورة طه آية رقم ٣٥.

(٣) سورة طه آية رقم ٥.

(٤) سورة الرحمن آية رقم ١٦.

(٥) سورة المرسلات آية رقم ١٥.

(٦) سورة النساء آية رقم ٨٢.

٣٣

يكون بعضة قاصرا عن مرتبة الإعجاز ، لا يقال : تقدير الطعن فاسد عن أصله ، لأنه استدلال بثبوت اللازم على ثبوت الملزوم ، لأنا نقول : لا ، بل هو مبني على أن كلمة «لو» في اللغة تفيد انتفاء الجزاء لانتفاء الشرط ، يعني عدم وجدان الاختلاف فيه بسبب أنه ليس من عند غير الله. وأما إذا حملت كلمة «لو» في الآية على ما هو قانون الاستدلال كما في قوله تعالى :

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١).

فهو استدلال بنفي اللازم على نفي الملزوم ، أي لكن لم يوجد فيه الاختلاف ، فلم يكن من عند غير الله ، وتمام تحقيق هذا المقام يطلب من شرحنا لتلخيص المفتاح ، ومنها أن فيه التناقض كقوله تعالى :

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (٢) مع قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣) (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) (٤) مع قوله : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٥).

إلى غير ذلك من مواضع فيها تنافي الكلامين.

ورد بمنع وجود شرائط التناقض. وقد بين ذلك على التفصيل في كتب التفسير. ومنها أن فيه الكذب المحض كقوله تعالى :

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (٦) للقطع بأن الأمر بالسجود لم يكن بعد خلقنا وتصويرنا.

ورد بأن المراد خلق أبينا آدم وتصويره.

ومنها أن فيه الشعر من كل بحر ، وقد قال : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) (٧) فمن الطويل: (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٨) ومن المديد : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ

__________________

(١) سورة الأنبياء آية رقم ٢٢.

(٢) سورة الرحمن آية رقم ٣٩.

(٣) سورة الحجر آية رقم ٩٢ ، ٩٣.

(٤) سورة الغاشية آية رقم ٦.

(٥) سورة الحاقة آية رقم ٦٩.

(٦) سورة الأعراف آية رقم ١١.

(٧) سورة يس آية رقم ٦٩.

(٨) سورة الكهف آية رقم ٢٩.

٣٤

بِأَعْيُنِنا) (١) ومن البسيط : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) (٢) ومن الوافر : (وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (٣) ومن الكامل : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤) ومن الهزج : (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) (٥) ومن الرجز (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) (٦) ومن الرمل : (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ)(٧) ومن السريع : (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) (٨) ومن المنسرح : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) (٩) ومن الخفيف : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (١٠) ومن المضارع : (يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) (١١) ومن المقتضب : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (١٢) ومن المجتث : (الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) (١٣) ومن المتقارب : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (١٤).

ورد بأن مجرد كون اللفظ على هذه الأوزان لا يكفي ، بل لا بد من تعمد الوزن ، وعند البعض من التقفية ، على أن في كثير مما ذكر نوع تغيير ، ولو سلم فالتغليب باب واسع.

قال : وأما النوع الثاني :

(وأما النوع الثاني) فمن الماضية قصص الأنبياء وغيرهم ، ومن المستقبلية الواردة في التنزيل قوله تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) (١٥) (الم غُلِبَتِ الرُّومُ ..) إلى قوله : (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) (١٦) (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (١٧) (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) (١٨).

__________________

(١) سورة هود آية رقم ٣٧. (٢) سورة الأنفال آية رقم ٤٢.

(٣) سورة التوبة آية رقم ١٤.

(٤) سورة البقرة آية رقم ٢١٣.

(٥) سورة يوسف آية رقم ٩١.

(٦) سورة الإنسان آية رقم ١٤.

(٧) سورة سبأ آية رقم ١٣.

(٨) سورة طه آية رقم ٩٥.

(٩) سورة الإنسان آية رقم ٢.

(١٠) سورة الماعون آية رقم ١ ، ٢.

(١١) سورة غافر آية رقم ٣٢ ، ٣٣.

(١٢) سورة البقرة آية رقم ١٠.

(١٣) سورة التوبة آية رقم ٧٩.

(١٤) سورة الأعراف آية رقم ١٨٣.

(١٥) سورة الفتح آية رقم ٢٠.

(١٦) سورة الروم الآيات ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٦.

(١٧) سورة القمر آية رقم ٤٥.

(١٨) سورة الفتح آية رقم ٢٧.

٣٥

ونحو ذلك. وفي الحديث قوله (صلى الله تعالى عليه وسلم) لعلي (كرم الله وجهه) : «تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين» ولعمار (رضي الله تعالى عنه) : «ستقتلك الفئة الباغية» وقوله (صلى الله تعالى عليه وسلم) : «سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها». وإخباره بزوال ملك كسرى وقيصر ، وباستيلاء الأتراك وغير ذلك).

من أنواع المعجزات إخباره عن الغيوب الماضية المستقبلة ، أما الماضية فكقصة موسى وفرعون ، وقصة يوسف ، وقصة إبراهيم ، ونوح ، ولوط ، وغيرهم (عليهم‌السلام) على تفاصيلها وطولها من غير سماع من أحد ولا تلقن من كتاب على ما أشير إليه بقوله : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) (١).

وأما المستقبلة ، فمنها في القرآن كقوله تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) (٢) ، (الم غُلِبَتِ الرُّومُ ..) (٣) إلى قوله : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) ، (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) (٤) ، (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٥) ، (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) (٦) ، (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٧) ، (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) (٨) ، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (٩) ، (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (١٠) (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (١١) ، (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) (١٢)

ومنها ما ليس فيه كقوله (عليه‌السلام) لعلي (رضي الله عنه) : تقاتل بعدي الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين. ولعمار : تقتلك الفئة الباغية ، وقوله (عليه‌السلام) : زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما

__________________

(١) سورة هود آية رقم ٤٩.

(٢) سورة الفتح آية رقم ٢٠.

(٣) سورة الروم آية رقم ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٦.

(٤) سورة آل عمران آية رقم ١٥١.

(٥) سورة القمر آية رقم ٤٥.

(٦) سورة الفتح آية رقم ١٦.

(٧) سورة النور آية رقم ٥٥.

(٨) سورة الفتح آية رقم ٢٧.

(٩) سورة التوبة آية رقم ٣٣.

(١٠) سورة الإسراء آية رقم ٨٨.

(١١) سورة البقرة آية رقم ٢٤.

(١٢) سورة القصص آية رقم ٨٥.

٣٦

ما زوى لي منها. وقوله : الخلافة بعدي ثلاثون سنة. وكإخباره بهلاك كسرى وقيصر وزوال ملكهما ، وإنفاق كنوزهما في سبيل الله ، وباستيلاء الأتراك .. إلى غير ذلك مما ورد في صحاح الأحاديث ، وقد اقترنت بدعوى النبوة ، فيتميز عن الكرامات ، وبطهارة النفس وصوالح الأعمال ، وترك المراجعة إلى أحوال الكواكب ، والنظر في آلاتها ، فيتميز عن السحر والكهانة والنجوم وأمثال ذلك.

قال : وأما النوع الثالث

(وأما النوع الثالث فكان النور الذي كان ينتقل في آبائه ، وولادته مختونا مسرورا ، وخاتم النبوة ، ورؤيته من خلفه ، وكاتصافه بغاية الصدق ، والأمانة والعفة والشجاعة ، والفصاحة ، والسماحة ، والزهد ، والتواضع ، والشفقة ، والصبر ، والمعارف ، والمكارم ، والمصالح ، وكونه مستجاب الدعوة ، وكخرور الأوثان ، وسقوط شرف قصور الأكاسرة ليلة ولادته ، وإظلال السحاب عليه ، وانشقاق القمر ، وانقلاع الشجر ، وتسليم الحجر ، ونبوع الماء من بين أصابعه ، وحنين الجذع ، وشكاية النوق ، وشهادة الشاة المسمومة ، وتسبيح الحصى ، ونحو ذلك مما لا يكاد يحصى).

من أنواع المعجزات أفعال ظهرت منه (عليه‌السلام) على خلاف العادة تربى على ألف ، قد فصلت في دلائل النبوة ، بعضها إرهاصية ظهرت قبل دعوى النبوة ، وبضعها تصديقية ظهرت بعدها وتنقسم إلى أمور ثابتة في ذاته ، وأمور متعلقة لصفاته ، وأمور خارجة عنهما.

فالأول : كالنور الذي كان ينقلب في آبائه ، إلى أن ولد وكولادته مختونا مسرورا وضعا إحدى يديه على عينيه ، والأخرى على سوأته ، وما كان من خاتم النبوة بين كتفيه ، وطول قامته عند الطويل ، ووساطته عند الوسيط ، ورؤية من خلفه كأن يرى من قدامه.

والثاني : كاستجماعه الغاية القصوى من الصدق ، والأمانة ، والعفاف ، والشجاعة ، والفصاحة ، والسماحة ، والزهد ، والتواضع لأهل المسكنة ، والشفقة على الأمة ، والمصابرة على متاعب النبوة ، والمواظبة على مكارم الأخلاق ،

٣٧

وكبلوغه النهاية في العلوم والمعارف الإلهية ، وتمهيد المصالح الدينية والدنيوية ، وككونه مجاب الدعوة على ما دعى لابن عباس (رضي الله تعالى عنه) بقوله : «اللهم فقّهه في الدين» (١) فصار إمام المفسرين ، ودعا على عتبة بن أبي لهب بقوله : «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» فافترسه الاسد. وعلى مضر بقوله : «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعل عليهم سنين كسني يوسف» (٢) فمنع الله القطر عنهم سنين. وعلى من لحقه من الكفار حين خرج من الغار بقوله : «يا أرض خذيه» فساخت قوائم فرسه.

والثالث : كخرور الأوثان سجدا ليلة ولادته ، وسقوط شرف قصور الأكاسرة ، وإظلال السحاب عليه ، وكانشقاق القمر ، وانقلاع الشجر ، وتسليم الحجر ، ونبوغ الماء من بين أصابعه إلى أن رويت الجنود ودوابهم ، وشبع الخلق الكثير من طعامه اليسير ، وحنين الجذع في مسجد المدينة حين انتقل منه إلى المنبر ، وشكاية النوق عن أصحابها ، وشهادة الشاة المشوية يوم خيبر بأنها مسمومة ، ودرور الضرع من الشاة اليابسة الجرباء لأم معبد حين مسح يده عليها ، وخطاب الذئب وهب بن أوس بقوله : أتعجب من أخذى شاة ، وهذا محمد يدعو إلى الحق فلا تجيبونه ، وتسبيح الحصى ، وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى.

__________________

(١) الحديث عن الإمام مسلم في كتاب فضائل الصحابة ، ٣٠ باب فضائل عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ١٣٨ (٢٤٧٧) ـ حدثنا زهير بن حرب ، وأبو بكر بن النضر قالا حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا ورقاء بن عمر اليشكري قال : سمعت عبيد الله بن أبي يزيد يحدث عن ابن عباس أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أتى الخلاء فوضعت له وضوءا فلما خرج قال : «من وضع هذا» في رواية زهير قالوا وفي رواية أبي بكر قلت : ابن عباس قال : وذكره ، ورواه البخاري في الوضوء ١٠ ، وأحمد بن حنبل في المسند ١ : ٢٦٦ ، ٣١٤ ، ٣٢٨

(٢) الحديث رواه الإمام البخاري في كتاب الأذان ١٢٨ والاستسقاء رقم ٢ وفي كتاب الجهاد ٩٨ وكتاب الأنبياء ١٩ وفي تفسير سوره ٣ : ٩ ، ٤ ، ٢١ ورواه الإمام مسلم في كتاب المساجد ٥٤ باب استحباب جميع القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازله ٢٩٤ (٦٧٥) حدثني أبو الطاهر وحرملة ابن يحيى قالا : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال : أخبرني سعيد ابن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنهما سمعا أبا هريرة يقول كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ، ويرفع رأسه «سمع الله لمن حمده. ربنا لك الحمد» ثم يقول : وهو قائم «اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم كسني يوسف.

٣٨

قوله :

(وقد يستدل بوجوه أخر ، تشهد للمنصف بنبوته (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : أحدها : ما اجتمع فيه من الكمالات العلمية ، والعملية ، والنفسانية ، والبدنية ، والخارجية.

الثاني : ما اشتمل عليه شريعته من أمر الاعتقادات ، والعبادات ، والمعاملات ، والسياسات ، وغير ذلك.

الثالث : ظهور دينه على الأديان مع قلة الأنصار والأعوان ، وكثرة أهل الضلالة والعدوان.

الرابع : أنه ظهر على فترة من الرسل ، واختلال في الملك ، وانتشار الضلال واشتهار المحال ، وافتقار إلى من يجدد أمر الدين ، ويدفع في صدور الملحدين ، ويرفع لواء المتقين ، ولم يكن بهذه الصفة غيره من العالمين).

ما سبق هو العمدة في إثبات النبوة ، وإلزام الحجة على المجادل والمعاند. وقد يذكر وجوه أخر تقوية له وتتميما ، وإرشاد الطالب الحق ، وتعليما.

الأول : أنه قد اجتمع فيه من الأخلاق الحميدة ، والأوصاف الشريفة ، والسير المرضية ، والكمالات العلمية والعملية ، والمحاسن الراجعة إلى النفس والبدن والنسب والوطن ما يجزم العقل بأنه لا يجتمع إلا لنبي. وتفاصيل ذلك تصنيف على حدة.

الثاني : أن من نظر فيما اشتملت عليه شريعته مما يتعلق بالاعتقادات ، والعبادات ، والمعاملات ، والسياسات ، والآداب وعلم ما فيها من دقائق الحكمة ، علم قطعا أنها ليست إلا وضعا إلهيا ، ووحيا سماويا ، والمبعوث بها ليس إلا نبيا.

الثالث : أنه انتصب مع ضعفه وفقره وقلة أعوانه وأنصاره حربا لأهل الأرض آحادهم وأوساطهم وأكاسرتهم وجبابرتهم ، فضلل آراءهم ، وسفه أحلامهم ، وأبطل مللهم ، وهدم دولهم ، وظهر دينه على الأديان ، وزاد على مر الأعصار والأزمان ، وانتشر في الآفاق والأقطار ، وشاع في المشارق والمغارب من غير أن تقدر الأعداء مع كثرة عددهم وعددهم ، وشدة شوكتهم وشكيمتهم ، وفرط حميتهم

٣٩

وعصبيتهم ، وبذلهم غاية الوسع في إطفاء أنواره ، وطمس آثاره على إخماد شرارة من ناره ، فهل يكون ذلك إلا بعون إلهي ، وتأييد سماوي؟.

الرابع : أنه ظهر أحوج ما كان الناس إلى من يهدي إلى الطريق المستقيم ، ويدعو إلى الدين القويم ، وينظم الأمور ، ويضبط حال الجمهور لكونه زمان فترة من الرسل ، وتفرق للسبل ، وانحراف في الملل ، واختلال للدول ، واشتعال للضلال ، واشتغال بالمحال ، فالعرب على عبادة الأوثان ، ووأد البنات ، والفرس على تعظيم النيران ، ووطء الأمهات ، والترك على تخريب البلاد ، وتعذيب (١) العباد. والهند على عبادة البقر (٢) ، وسجود الحجر والشجر ، واليهود على الجحود. والنصارى حيارى فيمن ليس بوالد ولا مولود. وهكذا سائر الفرق في أودية الضلال ، وأخبية الحيال والخبال ، أفيليق بحكمة الملك الحق المبين أن لا يرسل رحمة للعالمين؟ ولا يبعث من يجدد أمر الدين؟ وهل ظهر أحد يصلح لهذا الشأن ، ويؤسس هذا البنيان غير محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مر بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك ابن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان (عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات).

الخامس : النصوص

(الخامس : نصوص الكتب السماوية ففي التوراة جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من سيعير ، واستعلن من جبال فاران. وفي الإنجيل ، إني أطلب إلى أبي وأبيكم حتى يمنحكم ويعطيكم فارقليطا ليكون معكم إلى الأبد.

وفي الزبور : تقلد أيها المختار السيف ، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك ، وسهامك لمسنونة ، والأمم يخرون تحتك. وأما المنكرون فأكثرهم أهل جهل وعناد وغاية متشبث الآخرين القدح في النسخ مطلقا ، وفي نسخ دين موسى خصوصا.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (تعذيب العباد)

(٢) الحق يقال ان الإسلام دخل بلاد الهند والكثير من أهل الهند يدينون بالإسلام وقد برز من بينهم علماء أجلاء لهم باع طويل في علوم الإسلام.

٤٠