شرح المقاصد - ج ٥

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٥

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

يكن عند الأشعري مؤمنا على الإطلاق ، فليس بكافر لوجود التصديق ، لكنه عاص بتركه النظر والاستدلال ، فيعفو الله عنه أو يعذبه بقدر ذنبه ، وعاقبته الجنة. وهذا يشعر بأن مراد الأشعري أنه لا يكون مؤمنا على الكمال ، كما في ترك الأعمال ، وإلا فهو لا يقول بالمنزلة بين المنزلتين ، ولا بدخول غير المؤمن الجنة ، وعند هذا يظهر أنه لا خلاف معه على التحقيق ، ومنهم من قال : لا بد من ابتناء الاعتقاد على الدليل من الاقتدار على مجادلة الخصوم ، وحل ما يورد عليه من الإشكال ، وإليه ذهبت المعتزلة ، ولم يحكموا بإيمان من عجز عن شيء من ذلك ، بل حكم أبو هاشم بكفره ، فإن بنوا ذلك على أن ترك النظر كبيرة تخرج من الإيمان إذا طرأت وتمنع من الدخول فيه إذا قارنت ، فهي مسألة صاحب الكبيرة ، وقد سبقت. وإن أرادوا أن مثل هذا التصديق لا يكفي في الإيمان أو لا ينفع فمسألة أخرى ، وبهذا يشعر تمسكاتهم وهي وجوه.

الأول ـ أن حقيقة الإيمان إدخال النفس في الأمان من أن يكون مكذوبا ومخدوعا وملتبسا عليه ، على أنه إفعال من الأمن للتعدية أو للصيرورة كأنه صار ذا أمن ، وذلك إنما يكون بالعلم. ورد بأنه يجعل متعلقا بالمخبر مثل : آمنت به ، وله. لا بالسامع. فالمناسب عند ملاحظة الاشتقاق من الأمن أن يقال : معناه آمنه المخالفة والتكذيب على ما صرح به المعتزلة. وذلك بالتصديق سواء كان عن دليل ، أو لا. ولو سلم فالأمن (١) من أن يكون مكذوبا أو مخدوعا يحصل بالاعتقاد الجازم ، وإن كان عن تقليد.

الثاني ـ أن الواجب هو العلم. وذلك لا يكون إلا بالضرورة أو الاستدلال ، ولا ضرورة ، فتعين الدليل. ورد بأنه لا نزاع في وجوب النظر والاستدلال بل في أن ترك هذا الواجب يوجب عدم الاعتداد بالتصديق ، على

__________________

(١) الأمن : هو عدم توقع مكروه في الزمان الآتي ، والإيمان على خمسة أوجه : إيمان مطبوع ، وإيمان مقبول ، وإيمان معصوم ، وإيمان موقوف ، وإيمان مردود ، فالإيمان المطبوع هو إيمان الملائكة ، والإيمان المعصوم هو إيمان الأنبياء والإيمان المقبول : هو إيمان المؤمنين ، والإيمان الموقوف : هو إيمان المبتدعين ، والإيمان المردود : هو إيمان المنافقين.

٢٢١

أنه ربما يقال : إن المقصود من الاستدلال هو التوصل إلى التصديق ولا عبرة بانعدام الوسيلة بعد حصول المقصود.

الثالث ـ أن الأصل الذي يقلد فيه إن كان باطلا ، فتقليده باطل بالاتفاق كتقليد اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان أسلافهم. وإن كان حقا فحقيته إما أن يعلم بالتقليد فدور ، أو بالدليل فتناقض. ورد بأن الكلام فيما علم حقيته بالدليل كالأحكام التي علم كونها من دين الإسلام أن من اعتقدها تقليدا هل يكون مؤمنا يجري عليه أحكام المؤمنين في الدنيا والآخرة ، وإن كان عاصيا بتركه النظر والاستدلال ، وأما ما يقال : إن القول بجواز التقليد (١) إن لم يكن عن دليل فباطل. وإن كان فتناقض. فمغالطة ظاهرة ، لا يقال : المقصود أن التقليد لا يكفي في الخروج عن عهدة الواجب فيما وجب العلم به من أصول الإسلام. وبعض هذه الوجوه يفيد ذلك ، لأنا نقول : هذا مما لا نزاع فيه ، ولا حاجة به إلى هذه الوجوه الضعيفة لثبوته بالنص والإجماع على وجوب النظر ، والاستدلال على أنه حكي عن الكعبي (٢) وابن أبي عياش ، وجمع آخر من المعتزلة أن من العقلاء من كلف النظر ، وهم أرباب النظر ، ومنهم من كلف التقليد والظن ، وهم العوام ، والعبيد ، وكثير من النسوان ، لعجزهم عن النظر في الأدلة وتمييزها عن الشبه. لكنهم كلفوا تقليد المحق دون المبطل. والظن الصائب دون الخطأ.

وذكر بعض المتأخرين منهم أن العاجزين كلفوا أن يسمعوا أوائل الدلائل التي تتسارع إلى الإفهام. فإن فهموا كفاهم وهم أصحاب الجمل ، ولا يكلفون تلخيص العبارة ، وإن لم يمكنهم الوقوف عليها ، فليسوا مكلفين أصلا ، وإنما خلقوا

__________________

(١) التقليد : عبارة عن اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل معتقدا للحقية فيه من غير نظر ولا تأمل في الدليل كأن هذا المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه وقيل : عبارة عن قول الغير بلا حجة ولا دليل.

(٢) هو عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي من بني كعب البلخي الخراساني أبو القاسم أحد أئمة المعتزلة كان رأس الطائفة الكعبية وله آراء ومقالات في الكلام انفرد بها وهو من أهل بلخ أقام ببغداد مدة طويلة وتوفي ببلخ عام ٣١٩ ه‍ من كتبه «الطعن على المحدثين» وتأييد مقالة أبي الهذيل. وغير ذلك.

٢٢٢

لانتفاع المكلفين بهم في الدنيا ، وهم كثير من العوام ، والعبيد ، والنسوان وصاحب الجمل عند المتكلمين هو الذي يعتقد الجمل التي اتفق عليها أهل الملة. ولا يدخل في الاختلافات بل يعتقد أن ما وافق منها تلك الجمل فحق. وما خالفهما فباطل ، وتلك الجمل هي أن الله تعالى واحد لا شريك له (١) ولا مثل (٢) ، وأنه لم يزل قبل الزمان والمكان والعرش ، وكل ما خلق ، وأنه القديم ، وما سواه محدث وأنه عدل (٣) في قضائه ، صادق في إخباره لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ، ولا يكلفهم ما لا يطيقونه ، وأنه مصيب حكيم محسن في جميع أفعاله وفي كل ما خلق وقضى وقدر ، وأنه بعث الرسل ، وأنزل الكتب ليتذكر من في سابق علمه أن يتذكر ويخشى ، ويلزم الحجة على من علم أنه لا يؤمن ويأبى. وأن الرضاء بقضائه واجب ، والتسليم لأمره لازم ، ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، لا كالإضلال الذي علم به الشيطان. إلى غير ذلك من العقائد الإسلامية.

فإن قيل : أكثر أهل الإسلام آخذون بالتقليد قاصرون أو مقصرون في الاستدلال ، ولم تزل الصحابة ومن بعدهم من الأئمة ، والخلفاء ، والعلماء ، يكتفون منهم بذلك ويجرون عليهم أحكام المسلمين ، فما وجه هذا الاختلاف؟ وذهاب كثير من العلماء والمجتهدين إلى أنه لا صحة لإيمان المقلدين.

قلنا : ليس الخلاف في هؤلاء الذين نشئوا في ديار الإسلام من الأمصار ، والقرى ، والصحارى ، وتواتر عندهم حال النبي (عليه‌السلام) وما أوتي به من المعجزات ، ولا في الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض (٤) واختلاف الليل والنهار فإنهم كلهم من أهل النظر والاستدلال ، بل فيمن نشأ على شاهق جبل مثلا ، ولم يتفكر في ملكوت السموات والأرض فأخبره إنسان بما يفترض عليه اعتقاده ، فصدقه فيما أخبره بمجرد إخباره من غير تفكر وتدبر ، وأما ما

__________________

(١) قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ).

(٢) قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

(٣) قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)

(٤) قال تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ).

٢٢٣

يحكى عن المعتزلة من أنه لا بد في صحة الإسلام من النظر والاستدلال والاقتدار على تقرير الحجج ، ودفع الشبهة ، فبطلانه يكاد يلحق بالضروريات من دين الإسلام. والظاهر أن المراد أن ذلك واجب ، وإن صح الإيمان بدونه. فإن أرادوا الواجب على الكفاية فوفاق ، إذ لا بد في كل صقع ممن يقوم بإقامة الحجج ، وإزاحة الشبه ومجادلة الخصوم. وإن أرادوا الواجب على كل مكلف بحيث لا يسقط بفعل البعض ، ففيه الخلاف. وأما المقلد فقد ذكر بعض من نظر في الكلام ، وسمع من الإمام أنه لا خلاف في إجراء أحكام الإسلام عليه ، والاختلاف في كفره راجع إلى أنه هل يعاقب عقاب الكافر؟ فقال الكثيرون : نعم ، لأنه جاهل بالله ورسوله ودينه. والجهل بذلك كفر ، ومثل قوله تعالى :

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) (١) وقوله (صلى الله تعالى عليه وسلم) : «من صلى صلاتنا ، ودخل مسجدنا ، واستقبل قبلتنا ، فهو مسلم» (٢) محمول على الإسلام في حق الأحكام ، وقال بعض ذوي التحقيق منهم : إنه وإن كان جاهلا لكنه مصدق ، فيجوز أن ينتقص عقابه لذلك.

قال : المبحث السادس ـ الكفر عدم الإيمان عما من شأنه.

(وهو أعم من التكذيب لشموله الكافر الخالي عن التصديق والتكذيب ، وقال القاضي : هو الجحد بالله وفسر بالجهل ، ورد بأن الكافر قد يعرف الله ويصدق به والمؤمن قد لا يعرف بعض أحكامه فأجيب بأن المراد الجحد به في شيء مما علم قطعا أنه من أحكامه ، أو الجهل بذلك إجمالا وتفصيلا ، وقالت المعتزلة : هو قبيح أو إخلال بواجب يستحق به أعظم العقاب ، وفيه خفاء ظاهر.

فإن قيل : قد يكفر المكلف بعض أفعاله مع أن تصديقه بحاله.

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ٩٤.

(٢) الحديث رواه الإمام البخاري في كتاب الإيمان ٢٨ والترمذي في كتاب الإيمان ٢ باب ما جاء في قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرت بقتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة. ٢٦٠٨ ـ بسنده عن أنس ابن مالك قال : قالرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره ـ قال الترمذي وهذا حديث حسن صالح حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

٢٢٤

قلنا : لو سلم ، فيجوز أن يكون بعض المحظورات علامة التكذيب دون البعض ، وذلك إلى الشارع وكذا بعض التأويلات في الأصول).

وهذا معنى عدم تصديق النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) في شيء مما علم مجيئه به على ما ذكره الإمام الغزالي (١) لشموله الكافر الخالي عن التصديق والتكذيب ، واعتبر الإمام الرازي بأن من جملة ما جاء به النبي أن تصديقه واجب في كل ما جاء به. فمن لم يصدقه فقد كذبه في ذلك ضعيف ، لظهور المنع.

فإن قيل : من استخف بالشرع أو الشارع. أو ألقى المصحف في القاذورات ، أو شد الزنار بالاختيار كافر إجماعا ، وإن كان مصدقا للنبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) في جميع ما جاء به ، وحينئذ يبطل عكس التعريفين. وإن جعلت ترك المأمور به أو ارتكاب المنهى عنه علامة التكذيب وعدم التصديق ، بطل طردهما بغير الكفرة من الفساق.

قلنا : لو سلم اجتماع التصديق المعتبر في الإيمان مع تلك الأمور التي هي كفر وفاقا ، فيجوز أن يجعل الشارع بعض محظورات الشرع علامة التكذيب ، فيحكم بكفر من ارتكبه ، وبوجود التكذيب فيه ، وانتفاء التصديق عنه كالاستخفاف بالشرع. وشد الزنار ، وبعضها. لا كالزنا وشرب الخمر ، ويتفاوت ذلك إلى متفق عليه ، ومختلف فيه ، ومنصوص عليه ومستنبط من الدليل ، وتفاصيله في كتب الفروع. وبهذا يندفع إشكال آخر ، وهو أن صاحب التأويل في الأصول إما أن يجعل من المكذبين ، فيلزم تكفير كثير من الفرق الإسلامية كأهل البدع والأهواء. بل المختلفين من أهل الحق. وإما أن لا يجعل ، فيلزم عدم تكفير المنكرين لحشر الأجساد ، وحدوث العالم وعلم الباري بالجزئيات (٢) فإن تأويلاتهم ليست بأبعد من تأويلات أهل الحق للنصوص الظاهرة في خلاف مذهبهم وذلك لأن من النصوص

__________________

(١) سبق الترجمة له في كلمة وافية. وراجع وفيات الأعيان ١ : ٤٦٣ ، وطبقات الشافعية ٤ : ١٠١ وشذرات الذهب ٤ : ١٠

(٢) ينكر بعض الفلاسفة علم الله بالجزئيات وهذه كبيرة من الكبائر ، وخصوصا إذا صدرت ممن يدين بالإسلام ، وكيف يستقيم ذلك والله تعالى يقول : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

٢٢٥

ما علم قطعا من الدين أنه على ظاهره ، فتأويله تكذيب للنبي ، بخلاف البعض. ثم لا يخفى أن المراد التكذيب ، أو عدم التصديق من المكلف ، ليخرج الصبي العاقل الذي لم يصدق ، أو صرح بالتكذيب وأما عند القائلين بصحة إيمانه ، وبأنه يكفر بصريح التكذيب وإن لم يكفر بترك التصديق ، فالمراد التكذيب ممن يصح منه الإيمان وعدم التصديق ممن يجب عليه الإيمان.

وقال القاضي : الكفر هو الجحد بالله ، وربما يفسر الجحد بالجهل. واعترض بعدم انعكاسه. فإن كثيرا من الكفرة عارفون بالله تعالى ، مصدقون به (١) غير جاحدين. وإن أريد الجحد أو الجهل أعم من أن يكون بوجوده أو وحدانيته ، أو شيء من صفاته وأفعاله وأحكامه ، لزم تكفير كثير من أهل الإسلام المخالفين في الأصول لأن الحق واحد وفاقا. وأجيب بأن المراد الجحد به في شيء مما علم قطعا أنه من أحكامه أو الجهل بذلك إجمالا وتفصيلا وحينئذ يطرد وينعكس. بل ربما يكون أحسن من التعريف بتكذيب النبي (عليه‌السلام) أو عدم تصديقه ، لشموله الكفر بالله ، من غير توسط النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) ككفر إبليس.

وقالت المعتزلة : هو ارتكاب قبيح ، أو إخلال بواجب يستحق به أعظم العقاب. ولا خفاء في أن هذا من أحكام الكفر ، لا ذاتياته ، ولا لوازمه البينة التي ينتقل الذهن منها إليه ، ومع هذا فإن أريد أعظم العقاب على الإطلاق ، لم يصدق إلا على ما هو أشد أنواع الكفر وإن أريد أعظم بالنسبة إلى ما دونه. صدق على كثير من المعاصي ، وإن اريد بالنسبة إلى الفسق (٢) وقد فسروا الفسق بما يستحق به عقوبة دون عقوبة الكفر ـ فدور. أو بالخروج من طاعة الله بكبيرة ـ ومن الكبائر ما هو كفر ـ فلا يتناوله التعريف. وإن قيد الكبيرة بغير الكفر ، عاد الدور.

وبالجملة لا خفاء في اختلال هذا التعريف وخفائه. وما قيل : إن الكفر عند كل طائفة مقابل لما فسروا به الإيمان ، ولا يستقيم على القول بالمنزلة بين المنزلتين أصلا ، ولا على قول السلف ظاهرا.

__________________

(١) قال تعالى على لسانهم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ).

(٢) فسقت : الرطبة خرجت عن قشرها وفسق عن أمر ربه أي خرج قال ابن الأعرابي : لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم (فاسق) قال : وهذا عجب وهو كلام عربي.

٢٢٦

قال : خاتمة ـ

((خاتمة) الكافر إن أظهر الإيمان خص باسم المنافق ، وإن كفر بعد الإسلام ، فبالمرتد. وإن قال بتعدد الآلهة في المشرك وإن تدين ببعض الأديان فبالكتابى ، وإن أسند الحوادث إلى الزمان واعتقد قدمه فبالدهري (١). وإن نفى الصانع ، فبالمعطل. وإن أبطن عقائد هي كفر بالاتفاق فبالزنديق).

قد ظهر أن الكافر اسم لمن لا إيمان له. فإن أظهر الإيمان خص باسم المنافق ، وإن طرأ كفره بعد الإسلام ، خص باسم المرتد لرجوعه عن الإسلام ، وإن قال بإلهين أو أكثر خص باسم المشرك لإثباته الشريك في الألوهية. وإن كان متدينا ببعض الأديان والكتب المنسوخة ، خص باسم الكتابي ، كاليهودي والنصراني ، وإن كان يقول بقدم الدهر وإسناد الحوادث إليه ، خص باسم الدهري. وإن كان لا يثبت الباري تعالى خص باسم المعطل ، وإن كان مع اعترافه بنبوة النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) وإظهاره شعائر الإسلام يبطن عقائد هي كفر بالاتفاق خص باسم الزنديق (٢). وهو في الأصل منسوب إلى زند ، اسم كتاب أظهره مزدك في أيام قباد ، وزعم أنه تأويل كتاب المجوس الذي جاء به زرادشت الذي يزعمون أنه نبيهم.

قال : المبحث السابع ـ في حكم مخلف الحق من أهل القبلة.

(ليس بكافر ما لم يخالف ما هو من ضروريات الدين ، كحدوث العالم ، وحشر الأجساد ، وقيل : كافر ، وقال الاستاذ : نكفر من أكفرنا ، ومن لا ، فلا ، وقال قدماء المعتزلة نكفر المجبرة ، والقائلين بقدم الصفات ، وخلق الأعمال ، وجهلاءهم ، نكفر من قال بزيادة الصفات وبجواز الرؤية وبالخروج من النار ، وبكون الشرور والقبائح بخلقه وإرادته. لنا أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ومن بعده لم يكونوا يفتشون عن

__________________

(١) الدهر : هو الآن الدائم الذي هو امتداد الحضرة الإلهية وهو باطن الزمان وبه يتحد الأزل والأبد. والدهرية. نسبة إلى الذين جحدوا بالله ، وزعموا أن العالم وجد بدون الله عزوجل تعالى الله عن ذلك (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ). سورة الجاثية آية رقم ٢٤.

(٢) الزنديق : من الثنوية وهو فارسي معرب وجمعه زنادقة وقد تزندق والاسم : الزندقة.

٢٢٧

العقائد وينبهون على ما هو الحق.

فإن قيل : فكذا في الأصول المتفق عليها.

قلنا : لاشتهارها ، وظهور أدلتها على ما يليق بأصحاب الجمل. قد يقال : ترك البيان إنما كان اكتفاء بالتصديق الإجمالي ، إذا التفصيل إنما يجب عند ملاحظة التفاصيل ، وإلا فكم مؤمن لا يعرف معنى القديم ، والحادث هذا ، وإكفار الفرق بعضها بعضا مشهور)

في باب الكفر والإيمان. ومعناه أن الذين اتفقوا على ما هو من ضروريات الإسلام كحدوث العالم ، وحشر الأجساد وما أشبه ذلك. واختلفوا في أصول سواها كمسألة الصفات وخلق الأعمال ، وعموم الإرادة ، وقدم الكلام ، وجواز الرؤية ، ونحو ذلك مما لا نزاع أن الحق فيها واحد ، هل يكفر المخالف للحق بذلك الاعتقاد وبالقول به أم لا؟ وإلا فلا نزاع في كفر أهل القبلة المواظب طول العمر على الطاعات باعتقاد قدم العالم ، ونفي الحشر ، ونفي العلم بالجزئيات ، ونحو ذلك. وكذا بصدور شيء من موجبات الكفر عنه ، أما الذي ذكرنا فذهب الشيخ الاشعري ، وأكثر الأصحاب إلى أنه ليس بكافر ، وبه يشعر ما قال الشافعي (رحمه‌الله تعالى) : لا ارد شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية (١) ، لاستحلالهم الكذب ، وفى المنتقى عن أبي حنيفة (رحمه‌الله تعالى) أنه لم يكفر أحدا من أهل القبلة. وعليه أكثر الفقهاء ومن أصحابنا من قال بكفر لمخالفين. وقالت قدماء المعتزلة بكفر القائلين بالصفات القديمة ، وبخلق الأعمال ، وكفر المجبرة ، حتى حكي عن الجبائي أنه قال : المجبر كافر. ومن شك في كفره فهو كافر ، ومن شك في كفر من شك في كفره فهو كافر. ومنهم من بلغ الغاية في الحماقة والوقاحة فزعم أن القول بزيادة الصفات ، وبجواز الرؤية ، وبالخروج من النار ، وبكون الشرور والقبائح بخلقه وإرادته ومشيئته ، وبجواز إظهار المعجزة على يد الكاذب كلها كفر.

__________________

(١) الخطابية كلها حلولية لدعواها حلول روح الإله في جعفر الصادق ، وبعد في أبي الخطاب الأسدي فهذه الطائفة كافرة من هذه الجهة ، ومن جهة دعواها أن الحسن ، والحسين وأولادهما أبناء الله وأحباؤه ، ومن ادعى منهم في نفسه أنه من أبناء الله فهو أكفر من سائر الخطابية. راجع الفرق بين الفرق ٢٥٥.

٢٢٨

وقال الاستاذ أبو إسحاق الأسفرايني (١) بكفر من يكفرنا ، ومن لا ، فلا. واختيار الإمام الرازي أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة. وتمسك بأنه لو توقف صحة الإسلام على اعتقاد الحق في تلك الأصول لكان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ومن بعده يطالبون بها من آمن ، ويفتشون عن عقائدهم فيها. وينبهونهم على ما هو الحق منها. واللازم منتف قطعا. ثم فرق بينها وبين ما هو من أصول الإسلام بالاتفاق بأن بعضها مما اشتهر كونه من الدين ، واشتمل عليه الكتاب بحيث لا يحتاج إلى البيان. كحشر الأجساد ، وبعضها مما ظهرت أدلتها على ما يليق بأصحاب الجمل بحيث يتسارع إليها الإفهام ، كحدوث العالم. وإنما طال الكلام فيها لإزالة شكوك الفقهاء المبطلون ، بخلاف الأصول الخلافية ، فإن الحق فيها خفي يفتقر إلى زيادة نظر وتأمل ، والكتاب والسنة قد يشتملان على ما يتخيل معارضا لحجة أهل الحق. فلو كانت مخالفة الحق فيها كفرا ، لاحتيج الى البيان البتة. ثم أجاب عن أدلة تكفير الفرق بعضهم بعضا بأجوبة مبني بعضها على أن خرق الإجماع ليس بكفر ، وأن الإجماع لا ينعقد بدون اتفاق المشبهة والمجسمة والروافض وأمثالهم. وبعضها على أن من لزمه الكفر ، ولم يقل به ، فليس بكافر. وبعضها على أن صاحب التأويل ـ وإن كان ظاهر البطلان ـ ليس بكافر. ووافقه بعض المتأخرين من المعتزلة حذرا عن شفاعة تكفير من تكاد تشهد الأرض والسماء بإسلامهم ، وعن لزوم تكفير كثير من كبارهم ، لكن كلامهم يموج بتكفير عظماء أهل الإسلام ، والله عزيز ذو انتقام. ولقائل أن يجيب عن تمسك الإمام بمنع الملازمة بأن التصديق بجميع ما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إجمالا كاف في صحة الإيمان ، وإنما يحتاج الى بيان الحق في التفاصيل عند ملاحظتها ، وإن كانت مما لا خلاف في تكفير المخالف فيها ، كحدوث العالم ، فكم من مؤمن لم يعرف معنى الحادث والقديم (٢) أصلا ، ولم يخطر بباله حديث حشر الأجساد قطعا. لكن إذا لاحظ ذلك ، فلو لم يصدق كان كافرا.

__________________

(١) سبق الترجمة عنه ، والحديث عن أعماله في كلمة وافية في الجزء الأول.

(٢) القديم : يطلق على الموجود الذي لا يكون وجوده من غيره ، وهو القديم بالذات ، ويطلق القديم على الموجود الذي ليس وجوده مسبوقا بالعدم ، وهو القديم بالزمان. والقديم بالذات يقابله المحدث بالذات ، وهو الذي يكون وجوده من غيره كما أن القديم بالزمان يقابله المحدث بالزمان ، وهو الذي سبق عدمه وجوده سبقا زمانيا ، وكل قديم بالذات قديم بالزمان ، وليس كل قديم بالزمان قديما ـ

٢٢٩

قال : المبحث الثامن ـ

(المبحث الثامن ـ حكم المؤمن والكافر والفاسق ما مر ، والفسق هو الخروج عن طاعة الله بارتكاب الكبيرة ، أو الإصرار على الصغيرة وقد يقيد بعدم التأويل احترازا عن الباغي. وأما استحلال ما هو معصية قطعا والاستهانة به فكفر. والمبتدع هو من خالف في العقيدة طريقة أهل الحق. وهو كالفاسق. وأما في حق الدنيا فحكم المؤمن والكافر والفاسق مذكور في الفروع ، وحكم المنافق والزنديق إجراء الاحكام ، وحكم المبتدع البغض والإهانة والطعن واللعن ، ومن المبطلين من جعل المخالفة في الفروع بدعة. ومنهم من زاد كل أمر لم يكن على عهد الصحابة).

حكم المؤمن الخلود في الجنة ، وحكم الكافر الخلود في النار ، ويختص المنافق بالدرك الأسفل. وحكم الفاسق من المؤمنين الخلود في الجنة ، إما ابتداء بموجب العفو أو الشفاعة. وإما بعد التعذيب بالنار بقدر الذنب ، وفيه خلاف المعتزلة والخوارج كما سبق. والفسق هو الخروج عن طاعة الله تعالى بارتكاب الكبيرة ، وقد عرفتها ، وينبغي أن يقيد بعدم التأويل للاتفاق على أن الباغي ليس بفاسق. وفي معنى ارتكاب الكبائر الإصرار على الصغائر ، بمعنى الإكثار منها ، سواء كانت من نوع واحد أو أنواع مختلفة وأما استحلال المعصية بمعنى اعتقاد حلها فكفر ، صغيرة كانت أو كبيرة. وكذا الاستهانة بها ، بمعنى عدها هينة ، ترتكب من غير مبالاة ، وتجري مجرى المباحات. ولا خفاء في أن المراد ما ثبت بقطعي. وحكم المبتدع ، وهو من خالف في العقيدة طريقة السنة والجماعة ينبغي أن يكون حكم الفاسق ، لأن الإخلال بالعقائد ليس بأدون من الإخلال بالأعمال ، وأما فيما يتعلق بأمر الدنيا فحكم المؤمن ظاهر ، وحكم الكافر بأقسامه من الحربي والذمي والكتابي والمرتد ، فذكروه في كتب الفروع. وحكم المنافق والزنديق إجراء أحكام الإسلام ، وحكم الفاسق الحد فيما يجب فيه الحد ، والتعزير (١) في غيره ، والأمر بالتوبة ، ورد

__________________

ـ بالذات ، والقديم بالذات أخص من القديم بالزمان ، فيكون الحادث بالذات أعم من الحادث بالزمان ، لأن مقابل الأخص ، أعم من مقابل الأعم ، ونقيض الأعم من شيء مطلق أخص من نقيض الأخص.

(١) التعزير : هو تأديب دون الحد ، وأصله من العزر وهو المنع.

٢٣٠

الشهادة ، وسلب الولاية على اختلاف في ذلك بين الفقهاء ، وحكم المبتدع البغض والعداوة والإعراض عنه. والإهانة والطعن واللعن وكراهية الصلاة خلفه. وطريقة أهل السنة أن العالم حادث ، والصانع قديم متصف بصفات قديمة ، ليست عينه ولا غيره ، وواحد لا شبه له ولا ضد ، ولا ند ، ولا نهاية له ، ولا صورة ، ولا حد ، ولا يحل في شيء ولا يقوم به حادث ولا يصح عليه الحركة والانتقال ، ولا الجهل ، ولا الكذب ولا النقص ، وأنه يرى في الآخرة ، وليس في حيز ولا جهة ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، لا يحتاج إلى شيء ، ولا يجب عليه شيء ، كل المخلوقات بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته. لكن القبائح منها ليست برضاه وأمره ومحبته. وأن المعاد الجسماني ، وسائر ما ورد به السمع من عذاب القبر ، والحساب والصراط ، والميزان ، وغير ذلك حق ، وان الكفار مخلدون في النار دون الفساق. وأن العفو والشفاعة (١) حق ، وأن أشراط الساعة من خروج الدجال ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج دابة الأرض حق. وأول الأنبياء آدم ، وآخرهم محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وأول الخلفاء أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي (رضي الله عنهم) والأفضلية بهذا الترتيب مع تردد فيها بين عثمان وعلي (رضي الله عنه) والمشهور من أهل السنة في ديار خراسان والعراق والشام ، وأكثر الاقطار هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن ، علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أول من خالف أبا علي الجبائي ، ورجع عن مذهبه إلى السنة ، أي طريقة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) والجماعة أي طريقة الصحابة. وفي ديار ما وراء النهر الماتريدية (٢) أصحاب أبي منصور الماتريدي تلميذ أبي نصر العياض ، تلميذ أبي بكر الجوزجاني صاحب أبي

__________________

(١) قال الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يرويه ابن ماجه بسنده عن أبي موسى الأشعري. قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أمتي الجنة فاخترت الشفاعة ، لأنها أعم وأكفى أترونها للمتقين ..؟. لا ولكنها للمذنبين ، الخطائين المتلوثين».

(٢) هي مدرسة أبي منصور الماتريدي ، تلك المدرسة التي أرادت هي الأخرى أن تجمع بين الشرع والعقل ، وهي أقرب إلى المعتزلة منها إلى الأشاعرة على عكس ما جرت به الآراء السائدة.

٢٣١

سليمان الجوزجاني ، تلميذ محمد بن الحسن الشيباني (١) (رحمه‌الله) وما تريد من قرى سمرقند، وقد دخل الآن فيها بين الطائفتين اختلاف في بعض الأصول ، كمسألة التكوين ، ومسألة الاستثناء في الإيمان ، ومسألة إيمان المقلد وغير ذلك.

والمحققون من الفريقين لا ينسبون أحدهما إلى البدعة والضلالة خلافا للمبطلين المتعصبين ، حتى ربما جعلوا الاختلاف في الفروع أيضا بدعة وضلالة كالقول بحل متروك التسمية عمدا وعدم نقض الوضوء بالخارج النجس من غير السبيلين ، وكجواز النكاح بدون الولي (٢) ، والصلاة بدون الفاتحة (٣) ولا يعرفون أن البدعة المذمومة هو المحدث في الدين ، من غير أن يكون في عهد الصحابة والتابعين ، ولا دل عليه الدليل الشرعي. ومن الجهلة من يجعل كل أمر لم يكن في زمن الصحابة بدعة مذمومة ، وإن لم يقم دليل على قبحه تمسكا بقوله (عليه‌السلام) : إياكم ومحدثات الأمور (٤).

ولا يعلمون أن المراد بذلك هو أن يجعل في الدين ما ليس منه. عصمنا الله من اتباع الهوى وثبتنا على اقتفاء الهدى بالنبي وآله.

قال : الفصل الرابع ـ في الإمامة.

(وهي رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وأحكامه في الفروع. إلا أنه لما شاعت من أهل البدع اعتقادات فاسدة مخلة بكثير من القواعد ، أدرجت مباحثها في الكلام).

لا نزاع في أن مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق لرجوعها إلى أن القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات ، وهي أمور

__________________

(١) هو محمد بن الحسن الشيباني ـ أبو عبد الله إمام بالفقه والأصول ولد عام ١٣١ ه‍ وتوفي عام ١٨٩ ه‍ راجع الفهرست لابن النديم ١ : ٢٠٣ والوفيات ١ : ٤٥٣

(٢) يقول الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نكاح إلا بولي». وقال الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيما امرأة لم ينكحها الولي فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل».

(٣) قال الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» : رواه الإمام الترمذي في المواقيت ٦٩ والدارمي في الصلاة ٣٦.

(٤) رواه النسائي في كتاب العيدين ٢٢.

٢٣٢

كلية تتعلق بها مصالح دينية أو دنيوية ، لا ينتظم الأمر إلا بحصولها ، فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة ، من غير أن يقصد حصولها من كل أحد. ولا خفاء في أن ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية ، وقد ذكر في كتبنا الفقهية أنه لا بد للأمة من إمام يحيي الدين ، ويقيم السنة ، وينتصف للمظلومين ، ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها ، ويشترط أن يكون مكلفا ، مسلما ، عدلا ، حرا ، ذكرا ، مجتهدا ، شجاعا ، ذا رأي وكفاية ، سميعا ، بصيرا ، ناطقا ، قريشيا ، فإن لم يوجد من قريش من يستجمع الصفات المعتبرة ، ولي كناني ، فإن لم يوجد ، فرجل من ولد إسماعيل ، فإن لم يوجد فرجل من العجم ، ولا يشترط أن يكون هاشميا ولا معصوما ولا أفضل من يولى عليهم. وتنعقد الإمامة بطرق :

أحدها ـ بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ، ووجوه الناس الذين يتيسر حضورهم من غير اشتراط عدد ، ولا اتفاق من في سائر البلاد بل لو تعلق الحل والعقد بواحد مطاع كفت بيعته.

والثاني ـ استخلاف الإمام وعهده ، وجعله الأمر شورى ، بمنزلة الاستخلاف ، إلا ان المستخلف غير متعين ، فيتشاورون ويتفقون على أحدهم. وإذا خلع الإمام نفسه ، كان كموته ، فينتقل الأمر إلى ولي العهد.

والثالث ـ القهر والاستيلاء ، فإذا مات الإمام وتصدى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف ، وقهر الناس بشوكته ، انعقدت الخلافة له. وكذا إذا كان فاسقا أو جاهلا على الأظهر ، إلا أنه يعصى بما فعل ، ولا يعتبر الشخص إماما بتفرده بشروط الإمامة ، ويجب طاعة الإمام ما لم يخالف حكم الشرع. سواء كان عادلا أو جائرا. ولا يجوز نصب إمامين في وقت واحد على الأظهر ، وإذا ثبت الإمام بالقهر والغلبة ثم جاء آخر فقهره ، انعزل وصار القاهر إماما ، ولا يجوز خلع الإمام بلا سبب. ولو خلعوه لم ينفذ وإن عزل نفسه ، فإن كان لعجزه عن القيام بالأمر ، انعزل وإلا ، فلا ، ولا ينعزل الإمام بالفسق والإغماء. وينعزل بالجنون ، وبالعمى ، والصم والخرس وبالمرض الذي ينسيه العلوم.

قال إمام الحرمين : وإذا جار والى الوقت فظهر ظلمه وغشمه ، ولم يرعو لزاجر

٢٣٣

عن سوء صنيعه بالقول ، فلأهل الحل والعقد التواطؤ على ردعه ، ولو بشهر السلاح ، ونصب الحروب. هذا ، ولكن لما شاعت بين الناس في باب الإمامة اعتقادات فاسدة ، واختلافات ، بل اختلافات باردة سيما من فرق الروافض والخوارج ، ومالت كل فئة إلى تعصبات تكاد تفضي إلى رفض كثير من قواعد الإسلام ، ونقض عقائد المسلمين ، والقدح في الخلفاء الراشدين ، مع القطع بأنه ليس للبحث عن أحوالهم ، واستحقاقهم وأفضليتهم كثير تعلق بأفعال المكلفين ألحق المتكلمون هذا الباب بأبواب الكلام ، وربما أدرجوه في تعريفه حيث قالوا : هو العلم الباحث عن أصول الصانع والنبوة والإمامة والمعاد ، وما يتصل بذلك على قانون الإسلام. والإمامة رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا ، خلافة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وبهذا القيد خرجت النبوة ، وبقيد العموم مثل القضاء والرئاسة في بعض النواحي ، وكذا رئاسة من جعلة الإمام نائبا عنه على الإطلاق ، فإنها لا تعم الإمامة.

وقال الإمام الرازي (١) : هي رئاسة عامة في الدين والدنيا ، لشخص من الأشخاص ، وقال : هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام لفسقه. وكأنه أراد بكل الأمة أهل الحل والعقد ، واعتبر رياستهم على من عداهم أو على كل من آحاد الأمة. ومع هذا يرد عليه أن الوحدة من شرائط الإمامة ، لا من مقوماتها. وفي الشروط كثرة وعلى اشتراطها أدلة ويمكن أن يقال : إنها بالمقومات أشبه ، من جهة أنه لا يقال لجميع الأمة حينئذ أئمة. بخلاف الإمام الجاهل أو الفاسق أو نحو ذلك ، وعلى هذا ينبغي أن لا يقال لشخصين بايعهما الأمة أنهما إمامان.

فإن قيل : الخلافة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إنما تكون فيمن استخلفه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ولا يصدق التعريف على إمامة البيعة (٢) ونحوها ، فضلا عن رئاسة النائب العام للإمام.

قلنا : لو سلم فالاستخلاف أعم من أن يكون بوسط أو بدونه.

قال : وفيه مباحث لبيان وجوب الإمامة وشروطها وطريق ثبوتها ، ونبذ من

__________________

(١) سبق الترجمة له في كلمة وافية في الجزء الأول.

(٢) تكلما عن البيعة وشروطها وقواعدها في كلمة وافية في الجزء الثالث.

٢٣٤

أحكامها ، وتعيين الإمام الحق بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وإمامة الأئمة الأربعة وترتيبهم في الأفضلية.

قال : المبحث الأول ـ نصب الإمام.

(واجب على الخلق سمعا عندنا وعند عامة المعتزلة ، وعقلا عند بعضهم ، وعلى الله عند الشيعة (١) ، وليس بواجب أصلا عند النجدات ، وحال ظهور العدل عند الأصم ، والظلم عند القوطي ، لنا وجوه :

الأول ـ الإجماع حتى قدموه على دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثاني ـ أنه لا يتم إلا به ما وجب من إقامة الحدود ، وسد الثغور ، ونحو ذلك مما يتعلق بحفظ النظام.

الثالث ـ أن فيه جلب منافع. ودفع مضار لا تحصى ، وذلك واجب إجماعا. فإن قيل : ويتضمن مضارا أيضا ، قلنا : لا يعبأ بها لقلتها ، فإن قيل : فالأئمة بعد الأئمة المهديين على الضلالة. قلنا : ضرورة فلا معصية ولا ضلالة.

الرابع ـ وجوب طاعته ومعرفته بالكتاب والسنة وهو يقتضي وجوب حصوله وذلك نصبه).

بعد انقراض زمن النبوة واجب علينا سمعا عند أهل السنة وعامة المعتزلة ، وعقلا عند الجاحظ (٢) ، والخياط (٣) والكعبي ، وأبي الحسين البصري. وقالت الشيعة والسبعية ، وهم قوم من الملاحدة سموا بذلك لأن متقدميهم قالوا : الأئمة تكون سبعة ، وعند السابع وهو محمد بن إسماعيل توقف بعضهم عليه وجاوزه

__________________

(١) الشيعة المدلول اللغوي للفظ الشيعة هم الأنصار والأتباع ، وأما المدلول السياسي فيقصد به الحزب المناصر لآل البيت ، بيت علي ـ رضي الله عنه ، وكل إمام لا ينسب إلى هذا البيت تعد سلطته غير شرعية عندهم.

(٢) سبق الترجمة له في كلمة وافية في هذا الجزء.

(٣) هو أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان ، الخياط ، ذكره ابن المرتضى في رجال الطبقة الثانية ، وقال عنه : أستاذ أبي القاسم البلخي عبد الله بن أحمد ، وكان أبو الحسين فقيها صاحب حديث ، واسع الحفظ لمذاهب المتكلمين. راجع طبقات المعتزلة ص ٨٥.

٢٣٥

بعضهم ، وقالوا : الأئمة تدور على سبعة سبعة ، كأيام الأسبوع. ، وهو واجب على الله ، فعندهم ليكون معلما في معرفة الله تعالى وعند بعض الشيعة ـ وهم الإمامية ـ ليكون لطفا في أداء الواجبات العقلية ، واجتناب المقبحات العقلية ، وعند بعضهم ـ وهم الغلاة ـ لتعليم اللغات ، وأحوال الأغذية ، والأدوية ، والسموم ، والحرف ، والصناعات ، والمحافظة عن الآفات والمخافات.

وقالت النجدات ـ قوم من الخوارج أصحاب نجدة بن عويمر (١) ـ : إنه ليس بواجب أصلا.

وقال أبو بكر الأصم من المعتزلة : لا يجب عند ظهور العدل والإنصاف لعدم الاحتياج ، ويجب عند ظهور الظلم.

وقال هشام القوطي منهم بالعكس ، أي يجب عند ظهور العدل لإظهار شرائع الشرع ، لا عند ظهور الظلم ، لأن الظلمة ربما لم يطيعوه ، وصار سببا لزيادة الفتن. لنا على الوجوب وجوه :

الأول ـ وهو العمدة إجماع الصحابة حتى جعلوا ذلك أهم الواجبات ، واشتغلوا به عن دفن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وكذا عقيب موت كل إمام. روي أنه لما توفي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) خطب أبو بكر (رضي الله عنه) فقال : أيها الناس ، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد رب محمد ، فإنه حي لا يموت. لا بد لهذا الأمر ممن يقوم به ، فانظروا وهاتوا آراءكم رحمكم الله. فتبادروا من كل جانب. وقالوا : صدقت ، ولكن ننظر في هذا الأمر ، ولم يقل أحد : إنه لا حاجة إلى الإمام.

الثاني ـ أن الشارع أمر بإقامة الحدود ، وسد الثغور ، وتجهيز الجيوش

__________________

(١) هو نجدة بن عامر الحروري الحنفي ، من بني حنيفة من بكر بن وائل رأس الفرقة النجدية ، نسبة إليه ، من الحرورية ، ويعرف أصحابها بالنجدات من كبار أصحاب الثورات في صدر الإسلام انفرد عن سائر الخوارج بآراء قال ابن حجر العسقلاني قدم مكة ، وله مقالات معروفه وأتباع انقرضوا ، كان أول أمره مع نافع بن الأزرق ، وفارقه لإحداثه مذهبه ، ثم خرج مستقلا باليمامة سنة ٦٦ ه‍ أيام عبد الله بن الزبير في جماعة كبيرة فأتى البحرين واستقر بها ، وتسمى بأمير المؤمنين توفي عام ٦٩ ه‍.

٢٣٦

للجهاد ، وكثير من الأمور المتعلقة بحفظ النظام ، وحماية بيضة الإسلام ، مما لا يتم إلا بالإمام ، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا فهو واجب ، على ما مر في صدر الكتاب. لا يقال : الأمر بإقامة الحدود كقطع السارق مثلا إن كان مشروطا بوجود الإمام ، لم يكن مطلقا فلم يستلزم وجوبه ، كالأمر بالزكاة بالنسبة إلى تحصيل النصاب. وإن لم يكن مشروطا به فظاهر ، لأنا نقول : فرق بين تقيد الوجوب ، وتقيد الواجب ، فههنا الوجوب مطلق ، أي لم يقيد ولم يشترط بوجود الإمام ، والواجب ـ أعني المأمور به ـ مشروط به وموقوف عليه. كوجوب الصلاة المشروطة بالطهارة.

وأما في الزكاة فالوجوب مشروط بحصول النصاب ، حتى إذا انتفى ، فلا وجوب.

الثالث ـ أن في نصب الإمام استجلاب منافع لا تحصى ، واستدفاع مضار لا يخفى ، وكل ما هو كذلك فهو واجب ، أما الصغرى فيكاد يلحق بالضروريات بل المشاهدات ، ويعد من العيان الذي لا يحتاج إلى البيان. ولهذا اشتهر أن ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن (١) وما يلتئم باللسان لا ينتظم بالبرهان .. وذلك لأن الاجتماع المؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد لا يتم بدون سلطان قاهر يدرأ المفاسد ويحفظ المصالح ويمنع ما يتسارع إليه الطباع ويتنازع عليه الأطماع. وكفاك شاهدا ما يشاهد من استيلاء الفتن والابتلاء بالمحن لمجرد هلاك من يقوم بحماية الحوزة ورعاية البيضة ، وإن لم يكن على ما ينبغي من الصلاح والسداد ، ولم يخل عن شائبة شر وفساد ، ولهذا لا ينتظم أمر أدنى اجتماع كرفقة طريق بدون رئيس يصدرون عن رأيه ، ومقتضى أمره ونهيه. بل ربما يجري مثل هذا فيما بين الحيوانات العجم ، كالنحل لها عظيم يقوم مقام الرئيس ينتظم أمرها به ما دام فيها ، وإذا هلك انتشرت الأفراد انتشار الجراد ، وشاع فيما بينها الهلاك والفساد ، لا يقال :

__________________

(١) نعتقد ـ والله أعلم ـ أن هذا من كلام بعض الصحابة أو التابعين ، وهذه كلمة حق ، فالسلطان هو الذي ينفذ الأحكام على هؤلاء المخالفين شرع الله ، والله يعلم أن اللسان ببيانه والعقل بأحكامه لا يغنيان عن الحق شيئا إذا ما عميت النفس ، وانطمس الحس ، وعميت البصيرة ، ولهذا جعل من السلطان والقوة ما يرد بهما هؤلاء الشاردين إلى جادة الصواب. والله أعلم.

٢٣٧

فغاية الأمر أنه لا بد في كل اجتماع من رئيس مطاع ، منوط به النظام والانتظام. لكن من أين يلزم عموم رئاسته جميع الناس ، وشمولها أمر الدين على ما هو المعتبر في الإمام ، لأنا نقول : انتظام أمر عموم الناس على وجه يؤدي إلى صلاح الدين والدنيا ، ويفتقر إلى رئاسة عامة فيهما. إذ لو تعدد الرؤساء في الأصقاع والبقاع ، لأدى إلى منازعات ومخاصمات موجبة لاختلال أمر النظام. ولو اقتصرت رئاسته على أمر الدنيا ، لفات انتظام أمر الدين الذي هو المقصود الأهم ، والعمدة العظمى ، وأما الكبرى فبالإجماع عندنا ، وبالضرورة عند القائلين بالوجوب العقلي. واعتراض صاحب تلخيص المحصل بأن بيان الصغرى عقلي من باب القبح والحسن وليس من مذهبكم ، والكبرى أوضح من الصغرى ، فلا حاجة إلى التعرض للإجماع مدفوع بأن كون الشيء صلاحا أو فسادا ليس في شيء من متنازع الحسن والقبح ، وكون دفع الضرر واجبا بمعنى استحقاق تاركه العقاب عند الله تعالى ليس بواضح فضلا عن الأوضح. ولا ينبغي أن يخفى مثل هذا عليه. ولا أن يكون الرجل العالم العلمي في هذه الغاية من الشغف بالاعتراض. لا يقال : الإجماع على الوجوب إنما هو إذا لم يتضمن مضرة مثل المضرة المندفعة أو فوتها. وهاهنا نصب الإمام يتضمن مفاسد لا يضبطها العد والإحصاء لما في الآراء من اختلافات الأهواء ، وفي الطباع من الاستنكاف عن تسلط الأكفاء ، والإنسان قليل البقاء على ما عليه من الاهتداء وصلاح الاقتداء فتميل النفوس إلى الإباء والاستعصاء ويظهر الفساد. ويكثر البغي والعناد ويهلك الحرث والنسل (١) ويذهب الفرع والأصل. وكفاك شاهدا ما تسمع من قصص انقضاء خلافة عثمان (رضي الله عنه) إلى ابتداء دولة بني العباس ، لأنا نقول : مضاره بالنسبة إلى منافعه ، ومفاسده بالإضافة إلى مصالحه مما لا يعبأ بكثرته ، ويلحق بالعدم في قلته.

فإن قيل : لو وجب نصب الإمام ، لزم إطباق الأمة في أكثر الأعصار على ترك الواجب لانتفاء الإمام المتصف بما يجب من الصفات ، سيما بعد انقضاء الدولة

__________________

(١) قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ ، وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ). سورة البقرة الآيات ٢٠٤ ، ٢٠٥.

٢٣٨

العباسية ، ولقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تصير ملكا عضوضا» (١) وقد تم ذلك بخلافة علي (رضي الله تعالى عنه) فمعاوية ومن بعده ملوك وأمراء لا أئمة ولا خلفاء. واللازم منتف ، لأن ترك الواجب معصية وضلالة. والأمة لا تجتمع على الضلالة.

قلنا : إنما يلزم الضلالة لو تركوه (٢) عن قدرة واختيار لا عجز واضطرار ، والحديث مع أنه من باب الآحاد يحتمل الصرف إلى الخلافة على وجه الكمال. وهاهنا بحث آخر ، وهو أنه إذا لم يوجد إمام على شرائطه ، وبايع طائفة من أهل الحل والعقد (٣) قرشيا فيه بعض الشرائط ، من غير نفاذ لأحكامه ، وطاعة من العامة لأوامره ، وشوكة بها يتصرف في مصالح العباد ، ويقدر على النصب والعزل لمن أراد ، هل يكون ذلك إتيانا بالواجب؟ وهل يجب على ذوي الشوكة (٤) العظيمة من ملوك الأطراف ، المتصفين بحسن السياسة والعدل والإنصاف أن يفوضوا الأمر إليه بالكلية ويكونوا لديه كسائر الرعية؟ وقد يتمسك بمثل قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٥).

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية».

فإن وجوب الطاعة والمعرفة يقتضي وجوب الحصول ، وإما أنه لا يجب علينا عقلا ، ولا على الله أصلا فلما مر من بطلان الأصلين.

قال : قالوا : احتج القائلون بوجوبه

__________________

(١) الحديث رواه الإمام الترمذي في كتاب الفتن ٤٨ باب ما جاء في الخلافة ٢٢٢٦ ـ حدثنا أحمد ابن منيع ، حدثنا شريح بن النعمان حدثنا حشرج بن نباتة عن سعيد بن جمهان قال : حدثني سفينة قال قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره. ثم قال لي سفينة أمسك خلافة أبي بكر ، وخلافة عمر ، وخلافة عثمان.

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (ورأيه).

(٣) سقط من (ب) لفظ (العقد).

(٤) في (ب) أصحاب القوة بدلا من (ذوي الشوكة).

(٥) سورة النساء آية رقم ٥٩.

٢٣٩

(عقلا بأن فيه دفع الضرر ، فيجب. قلنا : لا بمعنى استحقاق تاركه الذم والعقاب).

علينا عقلا بأن دفع الضرر واجب عقلا ، كاجتناب الطعام المسموم ، والجدار المشرف على السقوط ولو ظنا. قلنا : نعم بمعنى كونه من مقتضيات العقول والعادات وملائماتها ، والكلام في الوجوب بمعنى استحقاق تاركه الذم والعقاب في حكم الله تعالى. وهو ممنوع هاهنا. واحتجوا على عدم وجوبه على الله تعالى. مع أن الوجوب على الله في الجملة مذهبهم ، بأنه لو وجب على الله تعالى ، لما خلا زمان من الأزمنة من إمام ظاهر ، قاهر ؛ جامع لشروط الإمامة قاطع لرسوم الضلالة ، قائم بحماية بيضة الإسلام وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام. واللازم ظاهر الانتفاء.

قال : احتج القائلون

(وفي وجوبه على الله بأنه لطف محصل للمعرفة ، مقرب من الطاعة ، مبعد عن المعصية. ورد بمنع مقدمتي القياس ، كيف وفيه مفاسد تنشأ من اختلاف الآراء وميلها إلى الإباء عن امتثال الأكفاء. وأيضا فعل الطاعة وترك المعصية مع عدم الإمام أشق ، وأقرب الى الإخلاص. وأيضا لا يصير لطفا ، بل خلقهم معصومين ألطف ، والقول بأنه منفعة خالصة ولطف لا يحصل بالغير (١) وأيضا اللطف في ظهوره وأنهم لا يحبونه.

فإن قيل : مجرد الوجود لطف زاجر لخوف الظهور ، وتصرفه الظاهر لطف آخر فوته العباد بسوء اختيارهم ، حيث أضاعوه أخافوه وتركوا نصرته.

قلنا : فيكفي احتمال الوجود والحكم بأنه يوجد ولو بعد حين ، فإن الخوف من وجود مرتب بمنزلة الخوف من ظهور مترقب ، وينبغي أن يظهر للأولياء الذين قضوا في محبته وانتظاره الأعمار (٢) ، وبذلوا المهج (٣) والأموال ، ونحن نقطع بانتفاء

__________________

(١) في أ«مم» وفي (ب) مطلقا ونعتقد أن هذا هو الأقرب إلى الصواب.

(٢) في (ب) السنين الطوال بدلا من (الأعمار).

(٣) في (ب) الأرواح بدلا من (المهج).

٢٤٠