شرح المقاصد - ج ٥

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٥

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

ذهابا إلى أن الأعمال أعراض لا يمكن وزنها ، فكيف إذا زالت وتلاشت؟ بل المراد به العدل الثابت في كل شيء ، ولذا ذكره بلفظ الجمع ، وإلا فالميزان المشهور واحد. وقيل : هو الإدراك. فميزان الألوان البصر ، والأصوات السمع ، والطعوم الذوق ، وكذا سائر الحواس. وميزان المعقولات العلم والعقل.

وأجيب بأنه يوزن صحائف الأعمال. وقيل : بل تجعل الحسنات أجساما نورانية ، والسيئات أجساما ظلمانية ، وأما لفظ الجمع فللاستعظام ، وقيل : لكل مكلف ميزان. وإنما الميزان الكبير واحد إظهارا لجلالة الأمر وعظمة المقام ، ومنها الحوض. قال تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) (١).

وفي الحديث : «حوضي مسيرة شهر ، وزواياه سواء ، ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه أكثر من نجوم السماء ، من شرب منها فلا يظمأ أبدا».

وقال الصحابة له (عليه‌السلام) أين نطلبك يوم الحشر؟ فقال : على الصراط. فإن لم تجدوا فعلى الميزان. فإن لم تجدوا فعلى الحوض.

قال : المبحث الثامن ـ

(ذهب المحققون من الحكماء إلى أن ما ورد في الشرع من تفاصيل أحوال الجنة والنار ، والثواب والعقاب تمثيل وتصوير لمراتب النفوس وأحوالها في السعادة والشقاوة ولذاتها وآلامها ، فإنها لا تفنى ، بل تبقى ملتذة بكمالاتها (٢) فذلك ثوابها وجنانها ، أو متألمة بنقصانها ، فذلك عقابها ونيرانها ، وإنما لم تتنبه لذلك في هذا العالم ، لما بها من العلائق والعوائق الزائلة بالمفارقة وليست شقاوتها سرمدية (٣) البتة ، بل قد تتدرج من درجات الشقاوة إلى درجات السعادة. وإنما الشقاوة السرمدية هي الجهل المركب الراسخ ، والشرارة المضادة للملكة الفاضلة. وتفصيل ذلك أن فوات كمال النفس يكون إما لأمر

__________________

(١) سورة الكوثر آية رقم ١.

(٢) في (ب) بأحوالها بدلا من كمالاتها.

(٣) السرمدي : ما لا أول له ولا آخر.

١٢١

عدمي كنقصان الغريزة ، أو وجودي راسخ ، أو غير راسخ. كل من الثلاثة بحسب القوة النظرية أو العملية. فالذي بحسب نقصان الغريزة لا عذاب عليه. والذي بحسب مضاد راسخ في القوة النظرية كالجهل المركب ، فعذابه دائم. والثلاثة الباقية تزول بعد عذاب مختلف في الكيف (١) والكم (٢) بحسب اختلاف الهيئات المضادة في شدة الرداءة وضعفها ، وفي سرعة الزوال وبطئه ، وإن كانت النفس خالية عن الكمال والشوق إليه ، وعما يضاده فهي في سعة من رحمة الله تعالى. ولم يجوز بعضهم كونها معطلة عن الإدراك ، فزعم أنها لا بد أن تتعلق بجسم آخر ، على أن تكون نفسا له تدبره. وهذا هو التناسخ ، أو على أن تستعمله لإمكان التخيل ، فتتخيل الصور التي كانت عندها ، وتلتذ بذلك ، ولا يكون أن تستعمله لإمكان التخيل ، فتتخيل الصور التي كانت عندها ، وتلتذ بذلك ، ولا يكون ذلك الجسم مزاجا ليقتضي فيضان نفس ، بل يكون جرما سماويا ، أو هوائيا (٣) أو نحو ذلك. ولم يستبعد بعضهم المعاد الجسماني ، لأن للتبشير والإنذار نفعا ظاهرا في أمر النظام ، والإيفاء بذلك بثواب المطيع وعقاب العاصي ازدياد للنفع بالقياس إلى الأكثرين ، وإن كان ضررا للمعذب).

في تقرير مذهب الحكماء في الجنة والنار ، والثواب والعقاب ، أما القائلون بعالم المثل ، فيقولون بالجنة والنار ، وسائر ما ورد به الشرع من التفاصيل ، لكن في عالم المثل لا من جنس المحسوسات المحضة على ما يقول به الإسلاميون. وأما الأكثرون فيجعلون ذلك من قبيل اللذات والآلام العقلية ، وذلك أن النفوس البشرية سواء جعلت أزلية كما هو رأي أفلاطون (٤) ، أو لا كما هو رأي ارسطو (٥) ،

__________________

(١) سبق الحديث عن الكيف في كلمة وافية.

(٢) سبق الحديث عن الكم في كلمة وافية.

(٣) سقط من (ب) لفظ (أو هوائيا).

(٤) فيلسوف يوناني تتلمذ على سقراط ، ودون أفكاره على شكل محاورات أسس الأكاديمية في أثينا ووضع نظرية المثل وهي أقوى تأكيد لاستقلال المعقولات عن المحسوسات ولموضوعية القيم في الفكر الغربي كانت فلسفته السياسية تميل إلى النزعة الأرستقراطية. أشهر محاوراته «الجمهورية» التي رسم فيها أول صورة للمدينة الفاضلة ، ٤٢٧ ـ ٣٤٧ ق. م.

(٥) أرسطو : ٣٨٤ ـ ٣٢٢ ق. م فيلسوف يوناني تتلمذ على أفلاطون وعلم الإسكندر الأكبر وأسس اللوقيون حيث كان يحاضر ماشيا فسمي هو وأتباعه بالمشائين ألف (الأورغانون) في المنطق ، وأهم ما ـ

١٢٢

فهي أبدية عندهم ، لا تفنى بخراب البدن ، بل تبقى ملتذة بكمالاتها ، مبتهجة بإدراكاتها ، وذلك سعادتها وثوابها وجنانها على اختلاف المراتب وتفاوت الأحوال ، أو متألمة بفقد الكمالات ، وفساد الاعتقادات ، وذلك شقاوتها وعقابها ونيرانها على ما لها من اختلاف التفاصيل ، وإنما لم تتنبه لذلك في هذا العالم لاستغراقها في تدبير البدن ، وانغماسها في كدورات عالم الطبيعة لما بها من العلائق والعوائق الزائلة بمفارقة البدن.

فما ورد في لسان الشرع من تفاصيل الثواب والعقاب ، وما يتعلق بذلك من السمعيات فهي مجازات وعبارات عن تفاصيل أحوالها في السعادة والشقاوة ، واختلاف أحوالها في اللذات والآلام ، والتدرج مما لها من دركات الشقاوة إلى درجات السعادة. فإن الشقاوة السرمدية إنما هي الجهل المركب الراسخ ، والشرارة المضادة للملكة الفاضلة ، لا الجهل البسيط ، والأخلاق الخالية عن غايتي الفضل والشرارة ، فإن شقاوتها متقطعة بل ربما لا تقتضي الشقاوة أصلا.

وتفصيل ذلك أن فوات كمالات النفس يكون إما لأمر عدمي كنقصان غريزة العقل ، أو وجود كوجود الأمور المضادة للكمالات ، وهي إما راسخة أو غير راسخة. وكل واحد من الأقسام الثلاثة إما أن يكون بحسب القوة النظرية أو العملية ، يصير ستة ، فالذي بحسب نقصان الغريزة في القوتين معا فهو غير مجبور بعد الموت ، ولا عذاب بسببه أصلا ، والذي بسبب مضاد راسخ في القوة النظرية كالجهل المركب الذي صار صورة للنفس ، غير مفارقة عنها ، فغير مجبور أيضا ، لكن عذابه دائم. وأما الثلاثة الباقية ، أعني النظرية ، غير الراسخة ، كاعتقادات العوام ، والمقلدة ، والعملية الراسخة وغير الراسخة ، كالاختلاف والملكات الردية المستحكمة وغير المستحكمة فيزول بعد الموت لعدم رسوخها ، أو لكونها هيئات مستفادة من الأفعال والأمزجة فيزول بزوالها ، لكنها تختلف في شدة الرداءة

__________________

ـ في المنطق هو القياس الذي نستنبط به نتيجة يقينية من مقدمات ولأرسطو في العلم الطبيعي مؤلفات منها السماع الطبيعي ، والسماء ، والكون ، والفساد ، والنفس وله فصول في موضوعات مختلفة يطلق عليها (ما وراء الطبيعة).

١٢٣

وضعفها ، وفي سرعة الزوال وبطئه ، فيختلف العذاب بها في الكم (١) والكيف (٢) بحسب الاختلافين ، وهذا إذا عرفت النفس أن لها كمالا فاتها لاكتسابها ما يضاد الكمال ، أو لاشتغالها بما يصرفها عن اكتساب الكمال ، أو لتكاسلها في اقتناء الكمال ، وعدم اشتغالها بشيء من العلوم. وأما النفوس السليمة الخالية عن الكمال ، وعما يضاده ، وعن الشوق الى الكمال ، فتبقى في سعة من رحمة الله تعالى ، خالصة من البدن إلى سعادة تليق بها ، غير متألمة بما يتأذى به الأشقياء ، إلا أنه ذهب بعض الفلاسفة إلى أنها لا يجوز أن تكون معطلة عن الإدراك ، فلا بد أن تتعلق بأجسام أخر لما أنها لا تدرك إلا بالآلات الجسمانية ، وحينئذ إما أن تصير مبادي صور لها ، وتكون نفوسا لها ، وهذا هو القول بالتناسخ ، وإما أن لا تصير ، وهذا هو الذي مال إليه ابن سينا (٣) والفارابي (٤) من أنها تتعلق بأجرام سماوية ، لا على أن تكون نفوسا لها مدبرة لأمورها ، بل على أن تستعملها لإمكان التخيل ، ثم تتخيل الصور التي كانت معتدة عندها ، وفي وهمها ، فتشاهد الخيرات الأخروية على حسب ما تتخيلها.

__________________

(١) الكم : هو العرض الذي يقتضي الانقسام لذاته وهو إما متصل أو منفصل لأن أجزاءه إما أن تشترك في حدود يكون كل منها نهاية جزء وبداية آخر وهو المتصل أو لا وهو المنفصل ، والمتصل إما قار الذات مجتمع الأجزاء في الوجود وهو المقدار المنقسم إلى الخط والسطح والثخن وهو الجسم التعليمي أو غير قار الذات وهو الزمان والمنفصل هو العدد فقط كالعشرين والثلاثين.

(٢) الكيف هيئة قارة في الشيء لا يقتضي قسمة ولا نسبة لذاته فقوله هيئة يشمل الأعراض كلها ، وقوله قارة في الشيء احتراز عن الهيئة الغير قارة كالحركة والزمان والفعل والانفعال ، وقوله لا يقتضي قسمة ، يخرج الكم ، وقوله لا نسبة ، يخرج الأعم إلخ.

(٣) هو الحسين بن عبد الله بن سينا أبو علي شرف الملك الفيلسوف الرئيس ، صاحب التصانيف في الطب ، والمنطق والطبيعيات والإلهيات ، أصله من بلخ ، ومولده في إحدى قرى بخاري نشأ وتعلم فيها ، وطاف البلاد ، وناظر العلماء واتسعت شهرته وتقلد الوزارة في همذان وثار عليه عسكرها ونهبوا بيته فتوارى ثم صار إلى أصفهان وصنف بها أكثر كتبه ، وعاد في آخر عمره إلى همذان فمرض في الطريق ، ومات بها عام ٤٢٨ ه‍.

(٤) هو محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ أبو نصر الفارابي ويعرف بالمعلم الثاني أكبر فلاسفة المسلمين تركي الأصل مستعرب ولد في فاراب (على نهر جيحون) وانتقل إلى بغداد فنشأ فيها وألف بها أكثر كتبه ورحل إلى مصر والشام ، واتصل بسيف الدولة ابن حمدان وتوفي بدمشق عام ٣٣٩ ه‍ كان يحسن اليونانية وأكثر اللغات الشرقية المعروفة في عصره ، ويقال إنّ الآلة المعروفة بالقانون من وضعه. راجع وفيات الأعيان ٢ : ٧٦ وطبقات الأطباء ٢ : ١٣٤ وآداب اللغة ٢ : ٢١٣.

١٢٤

قالوا : ويجوز ان يكون هذا الجرم متولدا من الهواء والأدخنة من غير أن يقارن مزاجا يقتضي فيضان نفس إنسانية. ثم إن الحكماء ، وإن لم يثبتوا المعاد الجسماني ، والثواب والعقاب المحسوسين ، فلم ينكروها غاية الإنكار ، بل جعلوها من الممكنات لا على وجه إعادة المعدوم ، وجوزوا حمل الآيات الواردة فيها على ظواهرها ، وصرحوا بأن ذلك ليس مخالفا للأصول الحكمية والقواعد الفلسفية ، ولا مستبعد الوقوع في الحكمة الإلهية لأن للتبشير والإنذار نفعا ظاهرا في أمر نظام المعاش وصلاح المعاد ، ثم الإيفاء بذلك التبشير والإنذار بثواب المطيع وعقاب العاصي تأكيد لذلك وموجب لازدياد النفع ، فيكون خيرا بالقياس إلى الأكثرين ، وإن كان ضرا في حق المعذب ، فيكون من جملة الخير الكثير الذي يلزمه شر قليل ، بمنزلة قطع العضو لإصلاح البدن.

قال : المبحث التاسع ـ الثواب فضل

(المبحث التاسع ـ الثواب فضل ، والعقاب عدل ، لا يجبان على الله إلا بمعنى أنه وعد وأوعد فلا يخلف على اختلاف في الوعيد ، ولا يستحقهما العبد إلا بمعنى ترتبهما على الأفعال والتروك ، وملائمة إضافتهما إليها في مجاري العقول. ووافقنا على ذلك البصريون من المعتزلة وكثير من البغدادية. لنا وجوه :

الأول ـ ما مر من أنه لا يجب عليه شيء.

الثاني ـ الطاعات ، وإن كثرت لا تفي بشكر بعض النعم ، فلا يستحق عوض عليها.

فإن قيل : تكليف الشكر على الإحسان مستقبح عقلا ، والشكر بلا مشقة صحيح ، فلا بد للمشاق من عوض لئلا تكون عبثا.

قلنا : بعد تسليم قاعدة الحسن والقبح ولزوم الغرض المستقبح هو الإحسان للشكر ، لا إيجاب الشكر على الإحسان. ولو سلم لزوم كون الغرض هو العوض فيكفي التفضل عوضا.

الثالث ـ لو وجبا استحقاقا لما سقطا عمن واظب طول عمره على الطاعات

١٢٥

ثم كفر ، أو على المعصية ثم آمن ، ولو كان الموت على الطاعة أو المعصية شرطا في الاستحقاق لم يتحقق أصلا لعدم اجتماع العلة والشرط. احتج المخالف بوجوه :

الأول ـ إلزام المشاق بلا منفعة تقابلها ـ وهي الثواب ـ ظلم ، وبلا مضرة في تركها ـ وهي العقاب ـ مستلزم لوجوب النوافل لثبوت المنفعة في فعلها. ورد بعد تسليم لزوم الغرض بأنه يجوز أن يكون الشكر على النعم ، أو السرور بالمدح على أداء الواجب ، وأن يكون إيجاب الفعل بناء على أن له وجه وجوب بصفة المشقة ، أو جعل (١) شاقا لغرض آخر.

الثاني ـ عدم وجوبهما يفضي إلى التواني في الطاعات ، والاجتراء على (٢) المعاصي. ورد بأن مجرد جواز الترك مع شمول الوعد والوعيد وكثرة النصوص في الوقوع غير قادح في المقصود.

الثالث ـ لو لم يجبا ، لزم الخلف والكذب في إخبار الصادق. ورد بأن الوقوع لا يستلزم الوجوب والاستحقاق من الله تعالى).

والعقاب عدل من غير وجوب عليه. ولا استحقاق من العبد خلافا للمعتزلة ، إلا أن الخلف في الوعد نقص لا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى ، فيثيب المطيع البتة (٣) إنجازا لوعده ، بخلاف الخلف في الوعيد ، فإنه فضل وكرم يجوز إسناده إليه. ، فيجوز ان لا يعاقب العاصي. ووافقنا في ذلك البصريون من المعتزلة وكثير من البغداديين ، ومعنى كون الثواب أو العقاب غير مستحق أنه ليس حقا لازما (٤) يقبح تركه. وأما الاستحقاق بمعنى ترتبهما على الأفعال والتروك ، وملائمة إضافتهما إليهما في مجاري العقول والعادات ، فمما لا نزاع فيه. كيف وقد ورد بذلك الكتاب (٥) والسنة في مواضع لا تحصى ، وأجمع السلف على أن

__________________

(١) في (ب) صار بدلا من (جعل).

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (ارتكاب).

(٣) سقط من (ب) لفظ (البتة).

(٤) في (ب) واجبا بدلا من (لازما).

(٥) في (ب) بزيادة لفظ (الكريم).

١٢٦

كلا من فعل الواجب والمندوب ينتهض سببا للثواب. ومن فعل الحرام ، وترك الواجب سببا للعقاب ، وبنوا أمر الترغيب في اكتساب الحسنات ، واجتناب السيئات على إفادتهما الثواب والعقاب. لنا وجوه :

الأول ـ وهو العمدة ، ما مر أنه لا يجب على الله تعالى شيء ، لا الثواب على الطاعة (١) ولا العقاب على المعصية.

الثاني ـ أن طاعات العبد ـ وإن كثرت ـ لا تفي بشكر بعض ما أنعم الله عليه. فكيف يتصور استحقاق عوض (٢) عليها. ولو استحق العبد بشكره الواجب عوضا ، لاستحق الرب على ما يوليه من الثواب عوضا ، وكذا العبد على خدمته لسيده الذي يقوم بمئونته ، وإزاحة علله (٣) ، والولد على خدمته لأبيه الذي يربيه ، وعلى مراعاته ، وتوخي مرضاته. لا يقال : لا يجوز أن تكون الطاعة شكرا للنعمة ، لأن العقلاء يستقبحون الإحسان إلى الغير لتكليفه الشكر ، ولأن الشكر يتصور بدون تكليف المشاق والمضاد ، كشكر أهل الجنة ، فلا بد لتكليف المشاق من عوض (٤) ليخرج عن العبث (٥) ، لأنا نقول بعد تسليم قاعدة الحسن والقبح ، ولزوم العوض ، وقبح الإحسان لتكليف الشكر. فوجوب الشكر على الإحسان لا يوجب كون الإحسان لأجله حتى يقبح ، وكون تكليف المشاق لغرض لا يوجب كونه لغرض. ولو سلم لكفى بترتب التفضل عليه عوضا.

الثالث ـ أنه لو وجب (٦) الثواب والعقاب بطريق الاستحقاق ، وترتب المسبب على السبب. لزم أن يثاب من واظب طول عمره (٧) على الطاعات. وارتد ـ نعوذ بالله تعالى ـ في آخر الحياة ، وأن يعاقب من أصر دهرا على كفره وتبرأ وأخلص

__________________

(١) في (ب) بزيادة (العبد).

(٢) في (ب) أجر بدلا من (عوض).

(٣) في (ب) أوجاعه بدلا من (علله).

(٤) سقط من (ب) لفظ (من عوض).

(٥) في (ب) بزيادة لفظ (اللهو).

(٦) في (ب) تحقق بدلا من (وجب).

(٧) في (ب) حياته بدلا من (عمره).

١٢٧

الإيمان في آخر عمره ضرورة تحقق الوجوب والاستحقاق. واللازم باطل بالاتفاق. لا يقال : يجوز أن يكون موت المطيع على الطاعة ، والعاصي على المعصية شرطا في استحقاق الثواب والعقاب على ما هو قاعدة الموافاة ، لأنا نقول : لو كان كذلك لم يتحقق الاستحقاق أصلا لعدم الشرط عند تحقق العلة ، وانقضاء العلة عند تحقق الشرط. احتج المخالف (١) بوجوه :

الأول ـ أن إلزام المشاق من غير منفعة مؤقتة تقابلها تكون ظلما ، والله منزه عن الظلم ، وتلك المنفعة هي الثواب. ثم إن الفعل لا يجب عقلا لأجل تحصيل المنفعة ، وإلا لوجب النوافل. وإنما يجب لدفع المضرة ، فلزم استحقاق العقاب بتركه ليحسن إيجابه. ورد بعد تسليم لزوم الغرض بأنه يجوز أن يكون شكرا للنعم السابقة (٢) ، أو يكون الغرض أمرا آخر ، كحصول السرور بالمدح على اداء الواجب ، واحتمال المشاق في طاعة الخالق ، على أنه يجوز أن يكون إيجاب الواجبات بناء على أن لها وجه وجوب في أنفسها ، وما يقال من أنه لو كان كذلك ، لوجب على الله تعالى أن لا يجعلها شاقة علينا بأن يزيد في قوانا لأن وجه الوجوب لا يتوقف على كونها شاقة ، كرد الوديعة (٣) ، وترك الظلم (٤) يجب سواء كان شاقا أو لا ، فليس بشيء لجواز أن يكون وجوبها بهذا الوجه. ولأن الوجوب ، وإن لم يتوقف على كونها شاقة ، لكن لم يكن منافيا لذلك ، فيجوز ان تجعل شاقة لغرض آخر.

الثاني ـ أنه لو لم يجب الثواب والعقاب ، لأفضى ذلك إلى التواني في الطاعات (٥) ، والاجتراء على المعاصي ، لأن الطاعات مشاق ومخالفات للهوى ، لا تميل إليها النفس إلا بعد القطع بلذات ومنافع تربى عليها. ورد بأن شمول الوعد والوعيد للكل ، وغلبة ظن الوفاء بهما ، وكثرة الأخبار والآثار في ذلك كاف في الترغيب والترهيب ، ومجرد جواز الترك غير قادح.

__________________

(١) في (ب) المخالفون بدلا من (المخالف).

(٢) في (ب) بزيادة (لا التي لم تقع).

(٣) في (ب) بزيادة (لأصحابها).

(٤) في (ب) بزيادة (عن جميع الناس).

(٥) في (ب) بزيادة لفظ (أداء).

١٢٨

الثالث ـ الآيات والأحاديث الواردة في تحقق الثواب والعقاب يوم الجزاء (١) ، فلو لم يجب وجاز العدم ، لزم الخلف والكذب. ورد بأن غايته الوقوع البتة ، وهو لا يستلزم الوجوب على الله ، والاستحقاق من العبد على ما هو المدعي هذا. والمذهب جواز الخلف في الوعيد بأن لا يقع العذاب ، وحينئذ يتأكد الإشكال ، وسنتكلم عليه في بحث العفو إن شاء الله تعالى.

قال : خاتمة ـ

((خاتمة) من فروع المعتزلة اختلافهم في أن الثواب والعقاب هل يستحقان على الإخلال بالقبيح والإخلال بالواجب؟ فقال المتقدمون : لا إذ العدم لا يصلح علة ، وإذ في كل لحظة إخلال بما لا يحصى من القبائح.

وقال المتأخرون به لقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) (٢) (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (٣)

ومنها أنه يجب اقتران الثواب بالتعظيم ، والعقاب بالإهانة ، ودوامهما خلوصهما عن الشوب للعلم الضروري باستحقاق التعظيم والإهانة ، ولأن التفضل بالمنافع حسن ابتداء ، فإلزام المشاق لأجلها عبث ، بخلاف التعظيم ، فإنه يحسن من غير استحقاق ولأن الدوام لطف فيجب ، والخلوص أدخل في الترغيب والترهيب.

ومنها اختلافهم في وقت الاستحقاق ، فقيل : وقت الطاعة والمعصية ، وقيل : في الآخرة ، وقيل : حالة الاخترام ، وقيل : وقت الفعل بشرط الموافاة ، وهي أن لا يحيط إلى الموت).

في فروع للمعتزلة على استحقاق الثواب والعقاب.

منها أنهم بعد الاتفاق على أنه يستحق الثواب والمدح بفعل الواجب

__________________

(١) قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) سورة الزلزلة آية رقم ٧ ، ٨.

(٢) سورة الحاقة آية رقم ٣٣.

(٣) سورة المدثر آية رقم ٤٣ ـ ٤٤.

١٢٩

والمندوب ، وفعل ضد القبيح ، بشرط أن يكون فعل الواجب لوجوبه كالواجب المعين ، أو لوجه وجوبه كالواجب المخير ، وفعل المندوب لندبيته ، أو لوجه ندبيته ، وفعل ضد القبيح لكونه تركا للقبيح بأن يفعل المباح لكونه تركا للحرام ، ويستحق العذاب والذم بفعل القبيح. اختلفوا في أنه هل يستحق المدح والثواب بالإخلال بالقبيح لكونه إخلالا به ، والذم والعقاب على الإخلال بالواجب؟

فقال المتقدمون : لا بل إنما يستحق المدح والثواب بفعل عند الإخلال بالقبيح هو ترك القبيح ، والذم والعقاب على فعل عند الإخلال بالواجب ، هو ترك الواجب ، لأن الإخلال عدمي لا يصلح علة للاستحقاق الوجودي ، ولأن كل أحد يخل كل لحظة بما لا يتناهى من القبائح.

وقال المتأخرون كأبي هاشم ، وأبي الحسين ، وعبد الحبار : نعم ، للنصوص الصريحة في تعليل العقاب بعدم الإتيان بالواجب ، كقوله تعالى : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ..) إلى قوله : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (١) وكقوله حكاية : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (٢)

ومنها أنه يجب اقتران الثواب بالتعظيم ، والعقاب بالإهانة للعلم الضروري باستحقاقهما.

وقيل. إنه يحسن التفضل بالمنافع العظيمة ابتداء ، فالزام المشاق والمضار لأجلها يكون عبثا ، بخلاف التعظيم ، فإنه لا يحسن التفضل به ابتداء من غير استحقاق ، كتعظيم البهائم والصبيان. ومنها أنه يجب دوامهما لكونه لطفا ، أو يقرب المكلف الى الطاعة ، ويبعده عن المعصية ، ولأن التفضل بالمنافع الدائمة حسن جماعا ، فلا يحسن التكليف للثواب المنقطع الذي هو أدنى حالا.

ومنها أنه يجب خلوصهما عن الشوب لكونه أدخل في الترغيب والترهيب ، ولأنه واجب في العوض مع كونه أدنى حالا من الثواب لخلوه عن التعظيم.

__________________

(١) سورة الحاقة آية رقم ٣٠ ، ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٤ ،.

(٢) سورة المدثر آية رقم ٤٢ ، ٤٣ ، ٤٤.

١٣٠

فإن قيل : ثواب أهل الجنة يشوبه شوق كل ذي مرتبة إلى ما فوقها ، ومشقة وجوب شكر المنعم وترك القبائح. وعقاب أهل النار يشوبه ثواب ترك القبائح فيها.

أجيب بأن كل ذي مرتبة في الجنة يكون فرحا بما عنده ، لا يطلب الأعلى ، ويعد الشكر لذة وسرورا لا يحصى ، ويكون في شغل شاغل عن القبائح وذكرها ، والتألم بتركها. وأهل النار لا يثابون لكونهم مضطرين إلى ترك القبائح.

ومنها اختلافهم في وقت استحقاق الثواب والعقاب. فعند البصرية حالة الطاعة والمعصية ، وعند البغدادية في الآخرة ، وقيل : في حال الاخترام ، وقيل : وقت الفعل بشرط الموافاة ، وهو أن لا تحبط الطاعة والمعصية الى الموت. وليس لأحدهم تمسك يعول عليه سوى ما قيل بأن المدح والذم يثبتان حال الفعل. فكذا الثواب والعقاب لكونهما من موجبات الفعل مثلهما. وإنما حسن تأخير تمام الثواب إلى دار الآخرة لمانع ، وهو لزوم الجمع بين المتنافيين. فإن من شرط الثواب الخلوص عن شوب المشاق ، ومن لوازم التكليف الشوب بها. وتمسك الآخرون بالنصوص المقتضية لتأخير الأجزية ، وبلزوم الجمع بين المتنافيين كما ذكر ، ولا خفاء في أن ذلك لا ينافي ثبوت الاستحقاق في دار التكليف. والظاهر أن مراد الأولين ثبوت أصل الاستحقاق ، ومراد الآخرين وجوب الأداء ، وقال بعضهم : الحق أن التكليف لا يجامع كل الجزاء للزوم المحال. بخلاف البعض كتعظيم المؤمن ، ونصرته على الأعداء ، وكالحدود فإنه بجامع التكليف ، فلم يجب تأخيره.

(قال : المبحث العاشر ـ

المبحث العاشر ـ لا خلاف في خلود من يدخل الجنة ولا في خلود الكافر عنادا أو اعتقادا في النار ، وإن بالغ في الاجتهاد لدخوله في العمومات ، ولا عبرة بخلاف الجاحظ والعنبري ، وكذا الكافر حكما كأطفال المشركين ، خلافا للمعتزلة ، حيث جعلوا تعذيبهم ظلما ، فهم خدم أهل الجنة.

وقيل : من علم الله منه الإيمان والطاعة ، على تقدير البلوغ ففي الجنة. ومن علم منه الكفر والمعصية ففي النار. وأما من ارتكب الكبيرة من المؤمنين ، ومات بلا

١٣١

توبة فالمذهب عندنا عدم القطع بالعفو أو العقاب ، بل إن شاء الله عفا ، وإن شاء عذب ، لكن لا يخلد في النار. وعند المعتزلة القطع بالخلود في النار. ولا عبر لقول مقاتل. ولبعض المرجئة (١) : إن عصاة المؤمنين لا يعذبون أصلا ، وإنما النار للكفار ـ لنا وجوه :

الأول ـ النصوص الدالة على دخول المؤمنين الجنة وليس قبل دخول النار وفاقا ، بل بعده أو بدونه.

الثاني ـ النصوص الدالة على خروجهم من النار.

الثالث ـ أن من واظب على الطاعات مائة سنة وشرب جرعة من الخمر ، فلو لم يكن تخليده في النار ظلما عندكم ، فلا ظلم.

الرابع ـ أن المعصية متناهية زمانا وقدرا ، فجزاؤها كذلك تحقيقا للعدل.

الخامس أن استحقاقه الثواب وعدا أو عقلا لا يزول بالكبيرة لما سيأتي ، ولا يتصور إلا بالخروج من النار. احتجت المعتزلة بوجوه :

الأول ـ عمومات الوعيد بالخلود : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) (٢) (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) (٣)

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) (٤)

(وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (٥)

__________________

(١) هي فرقة ميزت بين الأعمال والإيمان ، فالإيمان في نظرها هو التصديق بالقلب ، والإقرار باللسان ، وليس من الضروري أن يصدر عنه العمل ، فالمسلم العاصي الذي ارتكب الكبائر وضيع الفرائض سوف يتولى الله سبحانه وتعالى حسابه في الآخرة وأن الخلود في النار خاص بالكفار فقط وقيل : سمّوا مرجئة لأنهم يرجون الجنة بغير عمل ، وأشهر فرقهم هي الينوسية والغسانية ، وظهر هذا الاتجاه قويا في عهد الأمويين.

(٢) سورة الجن آية رقم ٢٣.

(٣) سورة النساء آية رقم ٩٣.

(٤) سورة السجدة آية رقم ٢٠.

(٥) سورة الانفطار آية رقم ١٤.

١٣٢

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (١)

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢)

والجواب بعد تسليم عموم الصيغ أنه قد أخرج من الأول التائب. وصاحب الصغائر ، فلم تبق قطعية وفاقا ، فليخرج منها مرتكب الكبيرة أيضا. على أن الاستحقاق فيها مغيا بغاية رؤية العذاب لقوله تعالى : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) (٣)

ولو سلم فاستحقاق العذاب المؤبد لا يوجب وقوعه ، وأن معنى متعمدا مستحلا قبله على ما فسره ابن عباس (رضي الله عنه) ، أو المراد بالخلود المكث الطويل جمعا بين الأدلة ، وأن المراد بالذين فسقوا الكفار المنكرون للحشر ، بقرينة قوله تعالى : (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (٤)

والبواقي مختصة بالكفار جمعا بين الأدلة ، أو المراد بعدم غيبتهم سلب العموم ، أو المبالغة في المكث ، وكذا الخلود ، والمراد تعدي حدود الإسلام وإحاطة الخطية بحيث لا يبقى الإيمان.

الثاني ـ أن الفاسق لو دخل الجنة لكان باستحقاق ، وقد انتفى بالإحباط أو الموازنة على ما سيجيء.

والجواب ـ منع المقدمتين.

الثالث ـ لو انقطع عذاب الفاسق لانقطع عذاب الكافر بجامع تناهي المعصية.

والجواب ـ منع علية التناهي ، ومنع تناهي الكفر قدرا ، ومنع صحة القياس في

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ١٤.

(٢) سورة البقرة آية رقم ٨١.

(٣) سورة مريم آية رقم ٧٥.

(٤) سورة سبأ آية رقم ٤٢.

١٣٣

مقابلة النص. وفي الاعتقادات.

الرابع ـ أن الوعيد بدوام العذاب لطف لكونه أزجر. فيجب ، ثم لا يزول.

والجواب بعد تسليم وجوب اللطف أن المنقطع أيضا لطف. فليكن للمؤمن ، والدائم للكافر ، إذ ليس يجب لكل احد ما هو الغاية في اللطف).

أجمع المسلمون على خلود أهل الجنة في الجنة ، وخلود الكفار في النار.

فإن قيل : القوى الجسمانية متناهية ، فلا تقبل خلود الحياة ، وأيضا الرطوبة التي هي مادة الحياة تفنى بالحرارة ، سيما حرارة نار الجحيم ، فتفنى إلى الفناء ضرورة ، وأيضا دوام الإحراق مع بقاء الحياة خروج عن قضية العقل.

قلنا : هذه قواعد فلسفية غير مسلمة عند المليين ، ولا صحيحة عند القائلين بإسناد الحوادث إلى القادر المختار. وعلى تقدير تناهي القوى وزوال الحياة يجوز أن يخلق الله البدل ، فيدوم الثواب والعقاب. قال الله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (١)

هذا حكم الكافر الجاهل المعاند. وكذا من بالغ في الطلب والنظر ، واستفرغ المجهود ولم ينل المقصود خلافا للجاحظ والعنبري ، حيث زعما أنه معذور ، إذ لا يليق بحكمة الحكيم أن يعذبه مع بذل الجهد والطاقة من غير جرم وتقصير. كيف وقد قال الله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢)

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (٣)

ولا شك أن عجز المتحير أشد. وهذا الفرق خرق للإجماع وترك للنصوص الواردة في هذا الباب. هذا في حق الكفار عنادا واعتقادا ، وأما الكفار حكما كأطفال المشركين ، فكذلك عند الأكثرين لدخولهم في العمومات ، ولما روي أن

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ٥٦.

(٢) سورة الحج آية رقم ٧٨.

(٣) سورة النور آية رقم ٦١ وسورة الفتح آية رقم ١٧.

١٣٤

خديجة (رضي الله عنها) سألت النبي عليه‌السلام عن أطفالها الذين ماتوا في الجاهلية ، فقال : هم في النار.

وقالت المعتزلة ، ومن تبعهم : لا يعذبون بل هم خدم أهل الجنة ، على ما ورد في الحديث ، لأن تعذيب من لا جرم له ظلم ولقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١) (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢).

ونحو ذلك.

وقيل : من علم الله تعالى منه الإيمان والطاعة على تقدير البلوغ ففي الجنة ، ومن علم منه الكفر والعصيان ففي النار ، واختلف أهل الإسلام فيمن ارتكب الكبيرة من المؤمنين ومات قبل التوبة ، فالمذهب عندنا عدم القطع بالعفو ولا بالعقاب بل كلاهما في مشيئة الله تعالى ، لكن على تقدير التعذيب نقطع بأنه لا يخلد في النار ، بل يخرج البتة ، لا بطريق الوجوب على الله تعالى ، بل بمقتضى ما سبق من الوعد. وثبت بالدليل كتخليد أهل الجنة. وعند المعتزلة القطع بالعذاب الدائم من غير عفو ولا إخراج من النار ، ويعبر عن هذا بمسألة وعيد الفساق ، وعقوبة العصاة ، وانقطاع عذاب أهل الكبائر ، ونحو ذلك (٣). وليس في مسألة الاستحقاق ووجوب العقاب غنى عن ذلك ، لأن التخليد أمر زائد على التعذيب. ولا في مسألة العفو ، لأنه بطريق الاحتمال دون القطع ، ولأنه شاع في ترك العقاب بالكلية ، وهذا قطع بالخروج بعد الدخول ، وما وقع في كلام البعض من أن صاحب الكبيرة عند المعتزلة ليس في الجنة ولا في النار فغلط نشأ من قولهم : إن له المنزلة بين المنزلتين. أي حالة غير الإيمان ، والكفر. وأما ما ذهب إليه مقاتل بن سليمان وبعض المرجئة من أن عصاة المؤمنين لا يعذبون أصلا ، وإنما النار للكفار تمسكا بالآيات الدالة على اختصاص العذاب بالكفار مثل :

__________________

(١) سورة الأنعام آية رقم ١٦٤ وسورة فاطر آية رقم ١٨.

(٢) سورة يس آية رقم ٥٤.

(٣) سقط من (ب) لفظ (ونحو ذلك).

١٣٥

(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (١)

(إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢)

فجوابه تخصيص ذلك بعذاب لا يكون على سبيل الخلود ، وأما تمسكهم بمثل قوله (عليه‌السلام) «من قال : لا إله إلا الله ، دخل الجنة وإن زنى وإن سرق» فضعيف لأنه إنما ينفي الخلود لا الدخول. لنا وجوه :

الأول ـ وهو العمدة ، الآيات والأحاديث الدالة على أن المؤمنين يدخلون الجنة البتة ، وليس ذلك قبل دخول النار وفاقا ، فتعين أن يكون بعده ، وهو مسألة انقطاع العذاب ، أو بدونه ، وهو مسألة العفو التام. قال الله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٣) (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ)(٤).

وقال النبي (عليه‌السلام) : «من قال : لا إله إلا الله ، دخل الجنة». وقال : «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، وإن زنى ، وإن سرق».

الثاني ـ النصوص المشعرة بالخروج من النار كقوله تعالى :

(النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) (٥)

(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) (٦)

وكقوله (عليه‌السلام) : «يخرج من النار قوم بعد ما امتحشوا وصاروا فحما وحمما ، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل».

وخبر الواحد ، وإن لم يكن حجة في الأصول ، لكن يفيد التأييد والتأكيد بتعاضد النصوص.

__________________

(١) سورة ط آية رقم ٤٨.

(٢) سورة النحل آية رقم ٢٧.

(٣) سورة الزلزلة آية رقم ٧ ، ٨.

(٤) سورة النساء آية رقم ١٢٤.

(٥) سورة الأنعام آية رقم ١٢٨.

(٦) سورة آل عمران آية رقم ١٨٥.

١٣٦

الثالث ـ وهو على قاعدة الاعتزال ، أن من واظب على الإيمان والعمل الصالح مائة سنة ، وصدر عنه في أثناء ذلك أو بعده جريمة واحدة كشرب جرعة من الخمر ، فلا يحسن من الحكيم أن يعذبه على ذلك أبد الآباد. ولو لم يكن هذا ظلما ، فلا ظلم ، أو لم يستحق بهذا ذما ، فلا ذم.

الرابع ـ أن المعصية متناهية زمانا ، وهو ظاهر وقدرا لما يوجد من معصية أشد منها فجزاؤها يجب أن يكون متناهيا تحقيقا لقاعدة العدل بخلاف الكفر ، فإنه لا يتناهى قدرا ، وإن تناهى زمانه. وأما التمسك بأن الخلود في النار أشد العذاب وقد جعل جزاء لأشد الجنايات ـ وهو الكفر ـ فلا يصح جعله جزاء بما هو دونه كالمعاصي. فربما يدفع بتفاوت مراتب العذاب في الشدة ، وإن تساوت في عدم الانقطاع.

الخامس ـ أنه استحق الثواب بالإيمان والطاعات عقلا عندكم ووعدا عندنا. ولا يزول ذلك الاستحقاق بارتكاب الكبيرة لما سيجيء ، فيكون لزوم اتصال الثواب إليه بحالة. وما ذاك إلا بالخروج من النار والدخول في الجنة ، وهو المطلوب. واحتجت المعتزلة بوجوه :

الأول ـ الآيات الدالة على الخلود المتناولة ما للكافر وغيره كقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) (١)

وقوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) (٢)

وقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها)(٣).

ومثل هذا مسوق للتأبيد ونفي الخروج. وقوله : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ).

__________________

(١) سورة الجن آية رقم ٢٣.

(٢) سورة النساء آية رقم ٩٣.

(٣) سورة السجدة آية رقم ٢.

١٣٧

(يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ. وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (١).

وعدم الغيبة عن النار خلود فيها : وقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (٢)

وليس المراد تعدي جميع الحدود بارتكاب الكبائر كلها تركا وإتيانا ، فإنه محال ، لما بين البعض من التضاد كاليهودية ، والنصرانية ، والمجوسية. فيحمل على مورد الآية من حدود المواريث. وقوله : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣).

والجواب بعد تسليم كون الصيغ للعموم أن العموم غير مراد في الآية الأولى ، للقطع بخروج التائب وأصحاب الصغائر ، وصاحب الكبيرة الغير المنصوصة إذا أتى بعدها بطاعات يربى ثوابها على عقوباته ، فليكن مرتكب الكبيرة من المؤمنين أيضا خارجا بما سبق من الآيات والأدلة. وبالجملة فالعام المخرج منه البعض لا يفيد القطع وفاقا. ولو سلم ، فلا نسلم تأبيد الاستحقاق ، بل هو مغيّا بغاية رؤية الوعيد لقوله بعده : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) (٤)

ولو سلم فغايته الدلالة على استحقاق العذاب المؤبد ، لا على الوقوع كما هو المتنازع لجواز الخروج بالعفو. وما يقال من أنا لا نسلم كون «حتى» للغاية بل هي ابتدائية. ولو سلم فغاية لقوله : (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) (٥)

أو لمحذوف ، أي يكونون على ما هم عليه حتى يروا ، فخارج عن قانون التوجيه. وكذا ما يقال : إنه لما ثبت الاستحقاق المؤبد جزما وهو مختلف فيه حصل إلزام الخصم ، ولم يثبت العفو ، والخروج بالشك.

وعن الثانية بأن معنى «متعمدا» مستحلا فعله على ما ذكره ابن عباس (رضي

__________________

(١) سورة الانفطار آية رقم ١٤ ، ١٥ ، ١٦.

(٢) سورة الجن آية رقم ٢٣.

(٣) سورة البقرة آية رقم ٨١.

(٤) سورة مريم آية رقم ٧٥.

(٥) سورة الجن آية رقم ١٩.

١٣٨

الله عنه) إذ التعمد على الحقيقة إنما يكون من المستحل أو بأن التعليق بالوصف يشعر بالحيثية ، فيخص بمن قتل المؤمن لإيمانه. أو بأن الخلود ، وإن كان ظاهرا في الدوام. والمراد هاهنا المكث الطويل جمعا بين الأدلة. لا يقال : الخلود حقيقة في التأييد لتبادر الفهم إليه ، ولقوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) (١)

ولأنه يؤكد بلفظ التأبيد مثل : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (٢)

وتأكيد الشيء تقوية لمدلوله ، ولأن العمومات المقرونة بالخلود متناوله للكفار. والمراد في حقهم التأبيد وفاقا. فكذا في حق الفساق لئلا يلزم إرادة معنيي المشترك أو المعنى الحقيقي والمجازي معا ، لأنا نقول : لا كلام في أن المتبادر إلى الفهم عند الإطلاق والشائع في الاستعمال هو الدوام. لكن قد يستعمل في المكث الطويل المنقطع ، كسجن مخلد ، ووقف مخلد ، فيكون محتملا على أن في جعله لمطلق المكث الطويل نفيا للمجاز والاشتراك فيكون أولى ، ثم ان المكث الطويل سواء جعل معنى حقيقيا أو مجازيا أعم من أن يكون مع دوام كما في حق الكفار ، وانقطاع كما في حق الفساق. فلا محذور في إرادتهم جميعا وحتى فلا نسلم أن التأبيد تأكيد ، بل تقييد. ولو سلم فالمراد أنه تأكيد لطول المكث ، إذ قد يقال : حبس مؤبد ، ووقف مؤبد.

وعن الثالثة بأنها في حق الكافرين المنكرين للحشر بقرينة قوله : (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٣).

مع ما في دلالتها على الخلود من المناقشة الظاهرة ، لجواز أن يخرجوا عند عدم إرادتهم الخروج باليأس أو الذهول ، أو نحو ذلك.

وعن الرابعة بعد تسليم إفادتها النفي عن كل فرد ، ودلالتها على دوام عدم الغيبة إنما يخص بالكفار جمعا بين الأدلة.

__________________

(١) سورة الأنبياء آية رقم ٣٤.

(٢) سورة التوبة آية رقم ١٠٠.

(٣) سورة السجدة آية رقم ٢٠.

١٣٩

وكذا الخامسة والسادسة حملا للحدود على حدود الإسلام ، ولإحاطة الخطيئة على غلبتها ، بحيث لا يبقى معها الإيمان ، هذا مع ما في الخلود من الاحتمال.

الثاني ـ أن الفاسق لو دخل الجنة لكان باستحقاق لامتناع دخول غير المستحق كالكافر. واللازم منتف لبطلان الاستحقاق بالإحباط أو الموازنة على ما سيجيء. ورد بمنع المقدمتين ، بل إنما يدخل بفضل الله ورحمته ووعده ومغفرته. وسنتكلم على الإحباط والموازنة.

الثالث ـ لو انقطع عذاب الفاسق لانقطع عذاب الكافر قياسا عليه بجامع تناهي المعصية.

ورد بمنع غلبة التناهي ، ومنع تناهي الكفر قدرا ، ومنع اعتبار القياس في مقابلة النص والإجماع وفي الاعتقادات.

الرابع ـ أن الوعيد بالعقاب الدائم لطف بالعباد لكونه أزجر على المعاصي. فإن منهم من لا يكترث بالعذاب المنقطع عند الميل إلى المستلذات ، ثم لا بد من تحقيق الوعيد تصديقا للخبر وصونا للقول عن التبديل.

ورد بمنع وجوب اللطف ، ومنع انحصاره في الدوام ، فإن من لا يكترث باللبث في الجحيم أحقابا ، قلما يستكثر الخلود فيها عقابا ، وإذ قد كان كل وعيد لطفا ، ولا شيء من الوعيد بلطف للكل ، فليكن لطف الخلود في النار مختصا بالكفار ، وكفى بوعيد النيران ، بل وعد الجنات لطفا ومزجرة لأهل الإيمان. ولو وجب ما هو الغاية في اللطف والزجر ، لما صح الاكتفاء بوعيد الخلود في النار لإمكان المزيد.

قال : المبحث الحادي عشر ـ

(المؤمن إذا خلط الحسنات بالسيئات فعندنا في الجنة ، ولو بعد النار. وعند المعتزلة مخلد في النار ذهابا إلى أن السيئات تحبط الحسنات. حتى ذهب الجمهور منهم إلى أن الكبيرة الواحدة تحبط جميع الطاعات. وهو فاسد سمعا للنصوص الدالة على أن الله لا يضيع أجر المحسنين ، وعقلا للقطع بقبح إبطال ثواب طاعة مائة سنة بشرب جرعة من الخمر ، ولأن جهة الاستحقاق عندهم ، وهو

١٤٠