شرح المقاصد - ج ٥

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٥

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

وأجيب بأن المعنى هو المبدأ أو الغاية ، أو هو الآلة لا غير ، أو هو الباقي بعد موت الأحياء ، أو هو الأول خلقا ، والآخر رزقا.

الثالث ـ قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١).

وليس المراد الخروج عن الانتفاع ، لأن منفعة الدلالة على الصانع باقية بعد التفرق.

وأجيب بأن الإمكان هلاك في نفسه ، وكذا الخروج عن الانتفاع الذي خلق الشيء لأجله ، وإن صلح لمنفعة أخرى ، وليس خلق كل جوهر للاستدلال.

الرابع ـ قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (٢) (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٣) والبدء من العدم ، فكذا العود.

وأجيب بأن بدء الخلق قد لا يكون عن عدم ، قال الله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٤).

الخامس ـ قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٥).

وأجيب بأن الفناء قد يكون بالخروج عن الانتفاع المقصود مثل : فني الزاد والطعام ، وأفناهم الحرب.)

يعني أن القائلين بصحة الفناء ، وبحقية حشر الأجساد اختلفوا في أن ذلك بإيجاد بعد الفناء ، أو بالجمع بعد تفرق الأجزاء ، والحق التوقف ، وهو اختيار إمام الحرمين ، حيث قال : يجوز عقلا أن تعدم الجواهر ، ثم تعاد ، وأن تبقى وتزول أعراضها المعهودة ثم تعاد بنيتها ، ولم يدل قاطع سمعي على تعيين أحدهما. فلا يبعد أن يغير أجسام العباد على صفة أجسام التراب ، ثم يعاد تركيبها إلى ما عهد ، ولا نحيل أن يعدم منها شيء ، ثم يعاد ، والله أعلم. احتج الأولون بوجوه :

__________________

(١) سورة القصص آية رقم ٨٨.

(٢) سورة الروم آية رقم ٢٧.

(٣) سورة الأنبياء آية رقم ١٠٤.

(٤) سورة السجدة آية رقم ٧.

(٥) سورة الرحمن آية رقم ٢٦.

١٠١

الأول ـ الإجماع على ذلك قبل ظهور المخالفين ، كبعض المتأخرين من المعتزلة ، وأهل السنة. ورد بالمنع ، كيف وقد أطبقت معتزلة بغداد على خلافه. نعم ، كان الصحابة مجمعين على بقاء الحق وفناء الخلق ، بمعنى هلاك الأشياء ، وموت الأحياء ، وتفرق الأجزاء ، لا بمعنى انعدام الجواهر بالكلية ، لأن الظاهر أنهم لم يكونوا يخوضون في هذه التدقيقات.

الثاني قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) (١)

أي في الوجود. ولا يتصور ذلك إلا بانعدام ما سواه. وليس بعد القيامة وفاقا. فيكون قبلها.

وأجيب بأنه يجوز أن يكون المعنى هو مبدأ كل موجود ، وغاية كل مقصود ، أو هو المتوحد في الألوهية أو صفات الكمال ، كما إذا قيل لك : أهذا أول من زارك أو آخرهم؟ فتقول : هو الأول والآخر ، وتريد أنه لا زائر سواه. أو هو الأول والآخر بالنسبة إلى كل حي. بمعنى أنه يبقى بعد موت جميع الأحياء. أو هو الأول خلقا والآخر رزقا كما قال : (خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) (٢)

وبالجملة فليس المراد أنه آخر كل شيء بحسب الزمان للاتفاق على أبدية الجنة ومن فيها.

الثالث ـ قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٣) فإن المراد به الانعدام ، لا الخروج عن كونه منتفعا به. لأن الشيء بعد التفرق يبقى دليلا على الصانع ، وذلك من أعظم المنافع.

وأجيب بأن المعنى أنه هالك في حد ذاته لكونه ممكنا لا يستحق الوجود إلا بالنظر إلى العلة. أو المراد بالهلاك الموت ، أو الخروج عن الانتفاع المقصود به اللائق بحاله. كما يقال: هلك الطعام إذا لم يبق صالحا للآكل ، وإن صلح لمنفعة

__________________

(١) سورة الحديد آية رقم ٣.

(٢) سورة الروم آية رقم ٤٠.

(٣) سورة القصص آية رقم ٨٨.

١٠٢

أخرى. ومعلوم أن ليس مقصود الباري تعالى من كل جوهر الدلالة عليه ، وإن صلح لذلك. كما أن من كتب كتابا ليس مقصوده بكل كلمة الدلالة على الكاتب. أو المراد الموت كما في قوله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) (١)

وقيل : معناه كل عمل لم يقصد به وجه الله تعالى ، فهو هالك ، أي غير مثاب عليه.

الرابع ـ قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (٢) (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٣) (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٤).

والبدء من العدم ، فكذا العود ، وأيضا إعادة الخلق بعد إبدائه لا تتصور بدون تخلل العدم.

وأجيب بأنا لا نسلم أن المراد بإبداء الخلق الإيجاد والإخراج عن العدم ، بل الجمع والتركيب على ما يشعر به قوله : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٥)

ولهذا يوصف بكونه مرئيا مشاهدا كقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) (٦) (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (٧)

وأما القول بأن الخلق حقيقة في التركيب تمسكا بمثل قوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) (٨) أي ركبكم. (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (٩)

اي يركبونه ، فلا يكون حقيقة في الايجاد دفعا للاشتراك ، فضعيف جدا لإطباق أهل اللغة على أنه إحداث وإيجاد ، مع تقدير سواء كان عن مادة كما في خلقكم من تراب أو بدونه ، كما في خلق الله العالم.

الخامس ـ قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (١٠)

والفناء هو العدم.

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ١٧٦.

(٢) سورة الروم آية رقم ٢٧.

(٣) سورة الأنبياء آية رقم ١٠٤.

(٤) سورة الأعراف آية رقم ٢٩.

(٥) سورة السجدة آية رقم ٧.

(٦) سورة العنكبوت آية رقم ١٩.

(٧) سورة العنكبوت آية رقم ٢٠.

(٨) سورة غافر آية رقم ٦٧.

(٩) سورة العنكبوت آية رقم ١٧.

(١٠) سورة الرحمن آية رقم ٢٦.

١٠٣

وأجيب بالمنع ، بل هو خروج الشيء عن الصفة التي ينتفع به عندها كما يقال : فني زاد القوم وفني الطعام والشراب ولهذا يستعمل في الموت مثل : أفناهم الحرب. وقيل معنى الآية كل من على وجه الأرض من الأحياء فهو ميت.

قال الإمام الرازي (١) : ولو سلم كون الهلاك والفناء بمعنى العدم ، فلا بد في الآيتين من تأويل ، إذ لو حملتا على ظاهرهما ، لزم كون الكل هالكا فانيا في الحال ، وليس كذلك. وليس التأويل بكونه آئلا إلى العدم على ما ذكرتم أولى من التأويل بكونه قابلا له ، وهذا منه إشارة إلى ما اتفق عليه أئمة العربية من كون اسم الفاعل ونحوه مجازا في الاستقبال ، وأنه لا بد من الاتصاف بالمعنى المشتق منه : وإنما الخلاف في أنه هل يشترط بقاء ذلك المعنى؟ وقد توهم صاحب التلخيص أنه كالمضارع مشترك بين الحال والاستقبال. فاعترض بأن حمله على الاستقبال ليس تأويلا وصرفا عن الظاهر.

قال : احتج الآخرون.

(احتج الآخرون بوجوه :

الأول ـ أن المعاد بعد العدم ليس هو المبتدأ بعينه ، فلا يكون الجزاء واصلا إلى مستحقه ، وقد عرفت ضعفه.

الثاني ـ وهو المعتزلة ، أنه لا يتصور في الإعدام غرض ، إذ لا منفعة فيه لأحد ، ولا يصلح جزاء الفعل.

وأجيب بأن من الغرض اللطف للمكلف ، وإظهار العظمة والاستغناء ، والتفرد بالدوام والبقاء.

الثالث ـ الآيات المشعرة بأن النشور بالإحياء بعد الموت ، والجمع بعد التفرق : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) (٢) (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) (٣) (كَذلِكَ النُّشُورُ) (٤) (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (٥) إلى غير ذلك.

__________________

(١) سبق الترجمة له في كلمة وافية في هذا الجزء.

(٢) سورة البقرة آية رقم ٢٦٠.

(٣) سورة البقرة آية رقم ٢٥٩.

(٤) سورة فاطر آية رقم ٩.

(٥) سورة الروم آية رقم ١٩.

١٠٤

والجواب ـ ان غايتها عدم الدلالة على الإعدام لكونها مسوقة لبيان الإحياء والجمع. ثم هي معارضة بآيات تشعر بالفناء كما سبق).

وهم القائلون بأن حشر الأجساد إنما هو بالجمع بعد التفريق ، لا بالإيجاد بعد لانعدام بوجوه :

الأول ـ أنه لو عدمت الأجساد لما كان الجزاء واصلا إلى مستحقه. واللازم باطل سمعا عندنا بالنصوص الواردة في أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا. وعقلا عند المعتزلة لما سبق من وجود ثواب المطيع ، وعقاب العاصي ، بيان اللزوم أن المعاد لا يكون هو المبدأ بل مثله ، لامتناع إعادة المعدوم بعينه.

ورد بالمنع ، وقد مر بيان ضعف أدلته ، ولو سلم فلا يقوم على من يقول ببقاء الروح والأجزاء الأصلية وإعدام البواقي ، ثم إيجادها إن لم يكن الثاني هو الأول بعينه ، بل مغايرا له في صفة الابتداء والإعادة ، أو باعتبار آخر. ولا شك أن العمدة (١) في الاستحقاق هو الروح على ما مر. وقد يقرر بأنها لو عدمت لما علم إيصال الجزاء إلى مستحقه ، لأنه لا يعلم أن ذلك المحشور هو الأول أعيد بعينه ، أم مثل له خلق على صفته؟ أما على تقدير الفناء بالكلية (٢) فظاهر ، وأما على تقدير بقاء الروح والأجزاء الأصلية فلانعدام التركيب والهيئات والصفات التي بها تمايز المثلين ، سيما على قول من يجعل الروح (٣) أيضا من قبيل الأجسام. واللازم منتف لأن الأدلة قائمة على وصول الجزاء إلى المستحق ، لا يقال : لعل الله تعالى يحفظ الروح والأجزاء الأصلية عن التفرق والانحلال ، بل الحكمة يقتضي ذلك ليعلم وصول الحق إلى المستحق ، لأنا نقول : المقصود إبطال رأي من يقول بفناء الأجساد بجميع الأجزاء ، بل أجسام العالم بأسرها ، ثم الإيجاد ، وقد حصل ، ولو سلم ، فقد علمت أن العمدة في الحشر هو الأجزاء الأصلية لا الفضلية ، وقد سلمتم أنها لا تفرق ، فضلا عن

__________________

(١) في (ب) الأصل بدلا من (العمدة).

(٢) سقط من (ب) لفظ (بالكلية).

(٣) الروح الإنساني : هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان الراكبة على الروح الحيواني نازل من عالم الأمر تعجز العقول عن إدراك كنهه ، وتلك الروح قد تكون مجردة ، وقد تكون منطبقة في البدن قال تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).

١٠٥

الانعدام بالكلية ، بل الجواب أن المعلوم بالأدلة هو أن الله يوصل الجزاء إلى المستحق ولا دلالة على أنا نعلم ذلك بالإيصال البتة ، وكفى بالله عليما. ولو سلم ، فلعل الله يخلق علما ضروريا ، أو طريقا جليا جزئيا أو كليا.

الثاني ـ وهو للمعتزلة أن فعل الحكيم لا بد أن يكون لغرض لامتناع العبث عليه ، ولا يتصور له غرض في الإعدام إذ لا منفعة فيه لأحد ، لأنها إنما تكون مع الوجود ، بل الحياة. وليس أيضا جزاء المستحق كالعذاب والسؤال والحساب ، ونحو ذلك ، وهذا ظاهر. ورد بمنع انحصار الغرض في المنفعة والجزاء ، فلعل لله تعالى في ذلك حكما ومصالح لا يعلمها غيره. على أن في الإخبار بالإعدام لطفا للمكلفين ، وإظهارا لغاية العظمة والاستغناء ، والتفرد بالدوام والبقاء ، ثم الإعدام تحقيق لذلك وتصديق ، وقد يورد الوجهان على طريق تفريق الأجزاء ، أما الثاني فظاهر ، وأما الأول فلانعدام التأليف والهيئات التي بها التمايز. فإما أن تمتنع الإعادة ، أو يلتبس المعاد بالمثل. ويجاب بأنه يجوز أن لا تنعدم الصفات التي بها التمايز كاختصاص الجواهر بما لها من الجهات مثلا ، ولو سلم فالمستحق هو تلك الجواهر الموصوفة الباقية ، لا مجموع الجواهر والصفات والتعينات ، كما إذا جنى وهو شاب سمين سليم الأعضاء ، واقتص منه حين صار هرما عجيفا ساقط الأعضاء ، وعن الثاني بأن في التفريق منفعة الاعتبار ، وإمكان اللذة والألم على طريق الجزاء.

الثالث ـ النصوص الدالة على كون النشور بالإحياء بعد الموت ، والجمع بعد التفرق لا الإيجاد ، وبعد العدم كقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) (١) الآية وكقوله : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) (٢) إلى قوله : (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) (٣).

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٢٦٠.

(٢) سورة البقرة آية رقم ٢٥٥.

(٣) سورة البقرة آية رقم ٢٥٩.

١٠٦

وكقوله : (كَذلِكَ النُّشُورُ) (١) (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (٢) (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)؟(٣).

بعد ما ذكر بدء الخلق من طين على وجه يرى ويشاهد مثل : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) (٤).

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (٥)

وكقوله : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٦)

إلى غير ذلك من الآيات المشعرة بالتفريق دون الإعدام.

والجواب ـ أنها لا تنفي الإعدام ، وإن لم تدل عليه. وإنما سيقت بيانا لكيفية الإحياء بعد الموت. والجمع بعد التفريق ، لأن السؤال وقع عن ذلك ، ولأنه أظهر في بادئ النظر ، والشواهد عليه أكثر ، ثم هي معارضة بما سبق من الآيات المشعرة بالإعدام والفناء.

قال : المبحث الخامس ـ

(المبحث الخامس ـ الجنة والنار مخلوقتان الآن خلافا لبعض المعتزلة لنا قصة آدم وحواء ، والنصوص الشاهدة بذلك مثل : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (٧) (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٨) (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) ، (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (٩)

وحملها على المجاز عدول عن الظاهر بلا دليل.

احتج المنكرون بوجوه : الأول ـ أن خلقهما قبل يوم الجزاء عبث ، وضعفه ظاهر.

__________________

(١) سورة فاطر آية رقم ٩.

(٢) سورة الروم آية رقم ١٩.

(٣) سورة الأعراف آية رقم ٢٩.

(٤) سورة العنكبوت آية رقم ١٩.

(٥) سورة العنكبوت آية رقم ٢٠.

(٦) سورة القارعة آية رقم ٤ ، ٥.

(٧) سورة آل عمران آية رقم ١٣٣.

(٨) سورة البقرة آية رقم ٢٤.

(٩) سورة الشعراء آية رقم ٩٠ ، ٩١.

١٠٧

الثاني ـ لو خلقتا لهلكتا ، لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١) وهو باطل بالنص والإجماع.

قلنا : يخصان من عموم الآية ، أو يحمل الهلاك على غير الفناء ، أو تفنيان لحظة ، وهو لا ينافي الدوام عرفا.

الثالث ـ لو وجدتا فإما في هذا العالم ، ولا يتصور في أفلاكه لامتناع الخرق والصعود والهبوط ، ولا في عناصره ، لأنها لا تسع جنة عرضها كعرض السماء ، ولأن عود الروح إلى البدن في عالم العناصر تناسخ. وإما في عالم آخر ، وهو باطل لأنه لافتقاره إلى تحدد الجهات يكون كريا ، فيكون بين العالمين خلاء ، ولأنه يشتمل على عناصر وأحياز طبيعية لها ، فيكون لعنصر واحد حيزان طبيعيان ، ويلزم ميله إليه وعنه. قلنا : أكثر المقدمات فلسفية ، مع أنه لا يمتنع كون العالمين في محيط بهما بمنزلة تدويرين في فلك ، ولا كون العناصر مختلفة الطبائع ، ولا كون تحيزها في أحد العالمين حيز طبيعي. والتناسخ تعلق النفس في هذا العالم ببدن آخر.)

جمهور المسلمين على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، خلافا لأبي هاشم والقاضي عبد الجبار (٢) ، ومن يجري مجراهما من المعتزلة ، حيث زعموا أنهما إنما يخلقان يوم الجزاء. لنا وجهان :

الأول ـ قصة آدم وحواء ، وإسكانهما الجنة ، ثم إخراجهما عنها بأكل الشجرة ، وكونهما يخصفان عليهما من ورق الجنة على ما نطق به الكتاب والسنة ، وانعقد عليه الإجماع قبل ظهور المخالفين ، وحملهما على بستان من بساتين الدنيا يجري

__________________

(١) سورة القصص آية رقم ٨٨.

(٢) هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني أبو الحسين قاض أصولي كان شيخ المعتزلة في عصره ، وهم يلقبونه قاضي القضاة ولي القضاء بالري ومات بها عام ٤١٥ ه‍ له تصانيف كثيرة منها تنزيه القرآن عن المطاعن ، وشرح الأصول الخمسة ، والمغني في أبواب التوحيد والعدل ، وغير ذلك كثير.

١٠٨

مجرى التلاعب بالدين والمراغمة لإجماع المسلمين ، ثم لا قائل بخلق الجنة دون النار ، فثبوتها ثبوتها.

الثاني ـ الآيات الصريحة في ذلك كقوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (١)

وكقوله في حق الجنة : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (٢) (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) (٣) (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٤)

وفي حق النار : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٥) ، (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (٦) وحملها على التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي مبالغة في تحققه مثل : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) (٧) (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) (٨)

خلاف الظاهر ، فلا يعدل إليه بدون قرينة. تمسك المنكرون بوجوه :

الأول ـ أن خلقهما قبل يوم الجزاء عبث لا يليق بالحكيم. وضعفه ظاهر.

الثاني ـ أنهما لو خلقتا لهلكتا لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٩) واللازم باطل للإجماع على دوامهما ، وللنصوص الشاهدة بدوام أكل الجنة وظلها.

وأجيب بتخصيصها من آية الهلاك جمعا بين الأدلة ، وبحمل الهلاك على غير الفناء كما مر ، وبأن الدوام المجمع عليه هو أنه لا انقطاع لبقائهما ، ولا انتهاء لوجودهما بحيث لا يبقيان على العدم زمانا يعتد به ، كما في دوام المأكول ، فإنه على التجدد والانقضاء قطعا(١٠) ، وهذا لا ينافي فناء لحظة.

الثالث ـ أنهما لو وجدتا الآن ، فإما في هذا العالم ، أو في عالم آخر ، وكلاهما باطل.

__________________

(١) سورة النجم آية رقم ١٣ ، ١٤ ، ١٥.

(٢) سورة آل عمران آية رقم ١٣٢.

(٣) سورة الحديد آية رقم ٢١.

(٤) سورة الشعراء آية رقم ٩٠.

(٥) سورة البقرة آية رقم ٢٤.

(٦) سورة الشعراء آية رقم ٩١.

(٧) سورة ق آية رقم ٢٠.

(٨) سورة الأعراف آية رقم ٤٤.

(٩) سورة القصص آية رقم ٨٨.

(١٠) سقط من (ب) لفظ (قطعا)

١٠٩

اما الأول ، فلأنه لا يتصور في أفلاكه لامتناع الخرق والالتيام عليها ، وحصول العنصريات فيها ، وهبوط آدم منها ، ولا في عنصرياته لأنها لا تسع جنة عرضها كعرض السماء والأرض ، ولأنه لا معنى للتناسخ (١) إلا عود الأرواح إلى الأبدان ، مع بقائها في عالم العناصر.

وأما الثاني فلأنه لا بد في ذلك العالم أيضا من جهات مختلفة ، إنما تتحد بالمحيط والمركز فيكون كريا فلا يلاقي هذا العالم إلا بنقطة ، فيلزم بين العالمين خلاء (٢) وقد تبين استحالته ، ولأنه يشتمل ـ لا محالة ـ على عناصر لها فيه أحياز طبيعية ، فيكون لعنصر واحد حيزان طبيعيان ، ويلزم سكون كل عنصر في حيزه الذي في ذلك العالم ، لكونه طبيعيا له ، وحركته عنه إلى حيّزه الذي في هذا العالم لكونه خارجا عنه. واجتماع الحركة والسكون محال. وإن لم يلزم الحركة والسكون ، فلا أقل من لزوم الميل إليه وعنه ، ولأنه لا محالة يكون في جهة من محدد هذا العالم ، والمحدد في جهة منه ، فيلزم تحدد الجهة قبله لا به ، مع لزوم الترجح بلا مرجح ، لاستواء الجهات.

والجواب ـ أن مبنى ذلك على أصول فلسفية ، غير مسلمة عندنا ، كاستحالة الخلاء ، وامتناع الخرق والالتيام ، ونفي القادر المختار الذي بقدرته وإرادته تحديد الجهات ، وترجيح المتساويات إلى غير ذلك من المقدمات ، على أن ما ادعوا تحدده بالمحيط والمركز إنما هو جهة العلو والسفل لا غير ، ودليلهم على امتناع الخرق إنما قام في المحدد لا غير. وكون العالمين في محيط بهما بمنزلة تدويرين في ثخن فلك ، لا يستلزم الخلاء ، ولا يمتنع كون عناصر العالمين مختلفة الطبائع ، ولا كون تحيزهما في أحد العالمين غير طبيعي. وليس التناسخ عود الأرواح إلى

__________________

(١) في (ب) النسخ بدلا من (التناسخ).

(٢) الخلاء : هو البعد المفطور عند افلاطون ، والفضاء الموهوم عند المتكلمين أي الفضاء الذي يثبته الوهم ويدركه من الجسم المحيط بجسم آخر كالقضاء المشغول بالماء أو الهواء في داخل الكوز فهذا الفراغ الموهوم هو الذي من شأنه أن يحصل فيه الجسم ، وان يكون ظرفا له عندهم وبهذا الاعتبار يجعلونه حيزا وباعتبار فراغه من شغل الجسم إياه يجعلونه خلاء ، فالخلاء عندهم هو هذا الفراغ مع قيد أن لا يشغله شاغل من الأجسام فيكون لا شيئا محضا ، والحكماء ذاهبون إلى امتناع الخلاء والمتكلمون إلى إمكانه.

١١٠

أبدانها ، بل تعلقها ببدن آخر في هذا العالم. لا يقال : هذا الدليل لا يليق بالقائلين بوجود الجنة والنار يوم الجزاء ، لأنه على تقدير تمامه ينفي وجود جنة يدخلها الناس ، ويوجد فيها العنصريات لابتناء ذلك على خرق الأفلاك ، لأنا نقول على تقدير إفناء هذا العالم بالكلية ، وإيجاد عالم آخر فيه الجنة ، والنار ، والإنسان ، وسائر العنصريات لا يلزم الخرق ولا غيره عن المحالات ، فلذا خص هذا الدليل بنفي الجنة. والنار ، مع وجود هذا العالم.

قال : خاتمة ـ

(خاتمة ـ لا قطع بمكان الجنة والنار. والأكثرون على أن الجنة فوق السماوات السبع ، وتحت العرش ، لقوله تعالى : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (١)

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سقف الجنة عرش الرحمن ، والنار تحت الأرضين». والحق التوقف).

لم يرد نص صريح في تعيين مكان الجنة والنار. والأكثرون على أن الجنة فوق السموات السبع ، وتحت العرش تشبثا بقوله تعالى : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (٢)

وقوله (عليه‌السلام) : «سقف الجنة عرش الرحمن والنار تحت الأرضين السبع». والحق تفويض ذلك إلى علم العليم الخبير.

قال : المبحث السادس ـ

(المبحث السادس ـ سؤال القبر وعذابه حق لقوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (٣) (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٤) (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٥)

__________________

(١) سورة النجم آية رقم ١٤ ، ١٥.

(٢) سورة النجم آية رقم ١٤ ، ١٥.

(٣) سورة غافر آية رقم ٤٦.

(٤) سورة نوح آية رقم ٢٥.

(٥) سورة غافر آية رقم ١١.

١١١

وليست الثانية إلّا في القبر. (يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ) (١)

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النيران» (٢) والأحاديث في هذا الباب متواترة المعنى. تمسك المنكرون بالسمع والعقل. أما السمع فقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (٣)

ولو كان في القبر حياة ـ ولا محالة ـ يعقبها موت لكان قبل الجنة موتتان. وقوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (٤).

وقوله تعالى حكاية : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٥)

ولو كان في القبر إحياء لكانت الإحياءات ثلاثة في الدنيا ، وفي القبر ، وفي الحشر.

والجواب ـ أنّ إثبات الواحد أو الاثنين لا ينافي الثاني والثالث. ثم الظاهر أن قوله تعالى : (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) :

الإحياء في الآخرة ، ولم يتعرض لما في القبر ، لأنه لخفاء أمره ، وضعف أثره لا يصلح في معرض الترغيب في الإيمان ، والتعجيب من الكفر ، وأن قولهم : (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٦) :

في الدنيا وفي القبر. وترك ما في الآخرة لأنه معاين. وقيل : بل القبر والحشر ، لأن المراد إحياء يعقبه علم ضروري بالله ، واعتراف بالذنوب ، وأما العقل فلأن اللذة والألم والمكالمة ، ونحو ذلك تتوقف على الحياة المتوقفة

__________________

(١) سورة آل عمران آية رقم ١٦٩ ، ١٧٠.

(٢) الحديث رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة ٢٦ باب ٢٤٦٠ حدثنا محمد بن أحمد بن مدوبه ، حدثنا القاسم بن الحكم العرني حدثنا عبد الله بن الوليد الوصافي عن عطيه عن أبي سعيد قال وذكره. قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

(٣) سورة الدخان آية رقم ٥٦.

(٤) سورة البقرة آية رقم ٢٨.

(٥) سورة غافر آية رقم ١١.

(٦) سورة غافر آية رقم ١١ وتكملة الآية (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ).

١١٢

على البنية والمزاج ، ولأن الميت ربما يرى مدة بحالة من غير تحرك وتكلم. وربما يدفن في مضيق لا يتصور جلوسه فيه. وربما يحرق فتذروه الرياح رمادا ، وتجويز حياته وعذابه ليس بأبعد من تجويز سرير الميت وكلامه وعذابه.

والجواب ـ أنه لا عبرة بالاستبعاد مع إخبار الصادق على أنه لو سلم اشتراط الحياة بالبنية ، فلا يبعد أن يبقى من الأجزاء الأصلية ما يصلح بنيته ، وأن يكون التعذيب والمسألة مع الروح أو الأجزاء الأصلية ، فلا يشاهده الناظر ، وأن يوسع القادر المختار اللحد بحيث يمكن الجلوس).

في سؤال القبر وعذابه. اتفق الإسلاميون على حقية سؤال منكر ونكير في القبر ، وعذاب الكفار وبعض العصاة فيه. ونسب خلافه إلى بعض المعتزلة. قال بعض المتأخرين منهم : حكى إنكار ذلك عن ضرار بن عمرو (١) وإنما نسب إلى المعتزلة ، وهم براء منه لمخالطة ضرار إياهم ، وتبعه قوم من السفهاء المعاندين للحق. لنا الآيات كقوله تعالى في آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (٢)

أي قبل القيامة ، وذلك في القبر بدليل قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٣)

وكقوله تعالى من قوم نوح : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٤)

والفاء للتعقيب ، وكقوله تعالى : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٥)

وإحدى الحياتين ليست إلا في القبر ، ولا يكون إلا لأنموذج ثواب أو عقاب

__________________

(١) هو صرار بن عمرو الغطفاني : قاض من كبار المعتزلة طمع برياستهم في بلده فلم يدركها فخالفهم فكفروه وطردوه وصنف نحو ثلاثين كتابا بعضها في الرد عليهم وعلى الخوارج وفيها ما هو مقالات خبيثة ، وشهد عليه الإمام أحمد بن حنبل عند القاضي سعيد بن عبد الرحمن الجمحي فأفتى بضرب عنقه فهرب مات نحو ١٩٠ ه‍ راجع لسان الميزان ٣ : ٣٠٣.

(٢) سورة غافر آية رقم ٤٦.

(٣) سورة غافر آية رقم ٤٦.

(٤) سورة نوح آية رقم ٢٥.

(٥) سورة غافر آية رقم ١١.

١١٣

بالاتفاق ، وكقوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ) (١)

والأحاديث المتواترة المعنى كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» (٢) وكما روي أنه مر بقبرين ، فقال : «إنهما ليعذبان ..» (٣) الحديث. وكالحديث المعروف في الملكين اللذين يدخلان القبر ، ومعهما مرزبتان ، فيسألان الميت عن ربه ، وعن دينه ، وعن نبيه .. إلى غير ذلك من الأخبار ، والآثار المسطورة في الكتب المشهورة. وقد تواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعاذته من عذاب القبر ، واستفاض ذلك في الأدعية المأثورة. تمسك المنكرون بالسمع والعقل. أما السمع ، وهو للمعترفين بظواهر الشرائع فقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (٤).

ولو كان في القبر حياة ـ ولا محالة ـ يعقبها موت إذ لا خلاف في إحياء الحشر لكان لهم قبل دخول الجنة موتتان لا موتة واحدة فقط.

فإن قيل : ما معنى هذا الاستثناء ، ومعلوم أن لا موت في الجنة اصلا ، ولو فرض فلا يتصور ذوق الموتة الأولى فيها.

قلنا : هو منقطع. أي لكن ذاقوا الموتة الأولى ، أو متصل على قصد المبالغة في عدم انقطاع نعيم الجنة بالموت ، بمنزلة تعليقه بالمحال ، أي لو أمكنت فيها موتة ، لكانت الموتة الأولى التي مضت وانقضت ، لكن ذلك محال.

فإن قيل : وصف الموتة بالأولى يشعر بموتة ثانية ، وليست إلا بعد إحياء القبر ،

__________________

(١) سورة آل عمران آية رقم ١٦٩.

(٢) سبق تخريج هذا الحديث في هذا الجزء.

(٣) الحديث أخرجه الإمام البخاري في كتاب الوضوء ٥٥ ، ٥٦ وكتاب الجنائز ٨٩ ، والأدب ٤٦ ، ٤٩ ورواه الإمام مسلم في كتاب الطهارة ١١١ ، وأبو داود في كتاب الطهارة ١١ والترمذي في كتاب الطهارة ٥٣ والنسائي في كتاب الطهارة ٢٦ ، ١١٦ ، وابن ماجه في كتاب الطهارة ٢٦ والدارمي في الوضوء ٦١ وأحمد بن حنبل في المسند ١ : ٢٥٥ ، ٥ : ٣٥ ، ٣٩.

(٤) سورة الدخان آية رقم ٥٦.

١١٤

فتكون الآية حجة على المتمسك لا له.

قلنا : المراد بالأولى بالنسبة إلى ما يتوهم في الجنة ، ويقصد نفيها.

فإن قيل : يجوز أن لا يراد الواحد بالعدد ، بل الجنس المتحقق المقابل بهذا المتوهم على ما يتناول موتة الدنيا ، وموتة القبر.

قلنا : يأباه بناء المرة ، وتاء الوحدة. وكذا قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (١) (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٢)

ولو كان في القبر إحياء ، لكانت الإحياءات ثلاثة : في الدنيا ، وفي القبر ، وفي الحشر ، وقوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٣)

ولو كان في القبر إحياء لصح إسماع.

والجواب ـ أن إثبات الواحد أو الاثنين لا ينفي وجود الثاني أو الثالث ، على أن التعليق بأحد المحالين كاف في المبالغة وإثبات الإماتة والإحياء ، فقوله تعالى : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (٤)

يمكن حمله على جميع ما يقع بعد حياة الدنيا من الإماتة والإحياء في الدنيا وفي القبر والحشر ، إذ لا دلالة للفعل على المرة ، لكن ربما يقال : إن في لفظ (ثُمَ) الثانية بعض نبوة عن ذلك ، ثم الظاهر أن المراد الإماتة في الدنيا والإحياء في الآخرة ، ولم يتعرض لما في القبر لخفاء أمره وضعف أثره على ما سيجيء فلا يصلح ذكره في معرض الدلالة على ثبوت الألوهية ، ووجوب الإيمان والتعجب والتعجيب من الكفر ، وأما في قولهم : (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٥)

فالإماتتان في الدنيا وفي القبر ، وكذا الإحياءان ، وترك ما في الآخرة لأنه

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٢٨.

(٢) سورة غافر آية رقم ١١.

(٣) سورة فاطر آية رقم ٢٢.

(٤) سورة البقرة آية رقم ٢٨.

(٥) سورة غافر آية رقم ١١.

١١٥

معاين ، وقيل : بل ما في القبر ، وما في الحشر ، لأن المراد إحياء تعقبه معرفة ضرورية بالله ، واعتراف بالذنوب. وأما قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (١).

فتمثيل لحال الكفرة بحال الموتى. ولا نزاع في أن الميت لا يسمع ، وأما العقل فلأن اللذة والألم والمسألة والتكلم ، ونحو ذلك لا يتصور بدون العلم والحياة ، ولا حياة مع فساد البنية وبطلان المزاج. ولو سلم فإنا نرى الميت أو المقتول أو المصلوب يبقى مدة من غير تحرك وتكلم ، ولا أثر تلذذ أو تألم ، وربما يدفن في صندوق أو لحد ضيق لا يتصور فيه جلوسه على ما ورد في الخبر ، وربما يذر على صدره كف من الذرة فترى باقية على حالها. بل ربما يأكله السباع أو تحرقه النار ، فيصير رمادا تذروه الرياح في المشارق والمغارب. فكيف يعقل حياته وعذابه وسؤاله وجوابه؟ وتجويز ذلك سفسطة. وليس بأبعد من تجويز حياة سرير الميت وكلامه ، وتعذيب خشبة المصلوب واحتراقها. ونحن نراها بحالها.

والجواب إجمالا ـ أن جميع ما ذكرتم استبعادات لا تنفي الإمكان كسائر خوارق العادات ، وإذ قد أخبر الصادق بها ، لزم التصديق. وتفصيلا ـ أنا لا نسلم اشتراط الحياة بالبنية ، ولو سلم فيجوز أن يبقى من الأجزاء قدر ما يصلح بنية ، والتعذيب والمسألة يجوز أن يكون للروح الذي هو أجسام لطيفة ، او للأجزاء الأصلية الباقية ، فلا يمتنع أن لا يشاهده الناظر ، ولا أن يخفيه الله تعالى عن الإنس والجن لحكمة لا اطلاع لنا عليها ، ولا أن يتحقق مع كون الميت في بطون السباع. ومن قال : بالقادر المختار المحيي المميت لا يستبعد توسيع اللحد والصندوق ، ولا حفظ الذرة على صدر المتحرك ، والقول بأن تجويز أمثال ذلك يفضي إلى السفسطة إنما يصح فيما لم يقم عليه الدليل ، ولم يخبر به الصادق ، وأما ما يقول به الصالحية والكرامية من جواز التعذيب بدون الحياة ، لأنها ليست شرطا للإدراك ، وابن الراوندي (٢) من أن الحياة موجودة في كل ميت ، لأن الموت ليس

__________________

(١) سورة فاطر آية رقم ٢٢.

(٢) هو أحمد بن يحيى بن إسحاق أبو الحسن الراوندي أو ابن الراوندي ، فيلسوف مجاهر بالإلحاد من ـ

١١٦

ضدا للحياة ، بل آفة كلية معجزة عن الأفعال الاختيارية ، غير منافية للعلم فباطل لا يوافق أصول أهل الحق.

قال : خاتمة ـ

(خاتمة) قد ثبتت بالضرورة من أن للميت في القبر نوع حياة قدر ما يتألم ويتلذذ ، ولكن في إعادة الروح إليه تردد وامتناع الحياة بدون الروح ممنوع).

اتفق أهل الحق على أن الله يعيد إلى الميت في القبر نوع حياة قدر ما يتألم ويتلذذ ويشهد بذلك الكتاب والأخبار والآثار ، لكن توقفوا في أنه هل يعاد الروح إليه أم لا؟ وما يتوهم من امتناع الحياة بدون الروح ممنوع. وإنما ذلك في الحياة الكاملة التي يكون معها القدرة والأفعال الاختيارية. وقد اتفقوا على أن الله تعالى لم يخلق في الميت القدرة والأفعال الاختيارية. فلهذا لا يعرف حياته كمن أصابته سكتة. ويشكل هذا بجوابه لمنكر ونكير على ما ورد في الحديث.

قال : المبحث السابع ـ

(المبحث السابع ـ سائر ما ورد في الكتاب والسنة من المحاسبة وأهوالها ، والصراط ، والميزان ، والحوض ، وتفاصيل أحوال الجنة والنار أمور ممكنة أخبر بها الصادق ، فوجب التصديق وأنكر بعض المعتزلة الصراط والميزان على ما وصفا لأن ما هو أدق من الشعر ، وأحد من السيف ، والعبور عليه لو أمكن فعذاب ، والأعمال أعراض لا يعقل وزنها. فالصراط طريق الجنة وطريق النار ، أو الأدلة الواضحة ، أو العبادات والشريعة والميزان العدل الثابت في كل شيء ، أو الإدراك كالحواس للمحسوسات ، والعلم للمعقولات.

والجواب ـ أن الله يسهل الطريق حتى يمر البعض كالبرق الخاطف وهكذا.

__________________

ـ سكان بغداد نسبته إلى راوند من قرى أصبهان قال ابن خلكان له مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام ، وقد انفرد بمذاهب نقلوها عنه في كتبهم وقال ابن كثير ، أحد مشاهير الزنادقة ، طلبه السلطان فهرب ولجأ إلى ابن لاوي اليهودي (بالأهواز) وصنف له في مدة مقامه عنده كتابه الذي سماه (الدافع للقرآن) مات عام ٢٩٨ ه‍ راجع وفيات الأعيان ١ : ٢٧ وتاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٨ ، ومروج الذهب ٧ : ٢٣٧

١١٧

حتى يخر البعض على الوجه والأعمال توزن صحائفها ، أو تجعل الحسنات أجساما نورانية ، والسيئات ظلمانية).

في سائر السمعيات المتعلقة بأمر المعاد ، وجملة الأمر أنها أمور ممكنة نطق بها الكتاب والسنة ، وانعقد عليها إجماع الأمة ، فيكون القول بها حقا ، والتصديق بها واجبا. فمنها المحاسبة المشار إليها بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١).

وبقوله (عليه‌السلام) : «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا» (٢) وأهوالها : هول الوقوف ، قيل : ألف سنة ، وقيل : خمسون ألفا ، وقيل : أقل ، وقيل : أكثر ، والله أعلم : قال الله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٣) (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) (٤) وهول تطاير الكتب. قال الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (٥).

وقال : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) (٦) وهول المسألة : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٧) (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٨).

وهول شهادة الشهود العشرة : الألسنة ، والأيدي ، والأرجل ، والسمع ، والأبصار ، والجلود ، والليل ، والنهار ، والحفظة الكرام. قال الله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩) وقال : (حَتَّى إِذا

__________________

(١) سورة غافر آية رقم ١٣.

(٢) الحديث أخرجه الإمام الترمذي في كتاب القيامة ٢٥.

(٣) سورة الصافات آية رقم ٢٤.

(٤) سورة النبأ آية رقم ٣٨.

(٥) سورة الانشقاق آية رقم ٧ ، ٨.

(٦) سورة الإسراء آية رقم ١٣.

(٧) سورة الصافات آية رقم ٢٤.

(٨) سورة الحجر آية رقم ٩٢.

(٩) سورة فصلت آية رقم ٢٠.

١١٨

ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما من يوم وليلة يأتي على ابن آدم إلا قال : أنا ليل جديد ، وأنا فيما يعمل فيّ شهيد (٢). وكذا قال في اليوم ، وقال الله تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) (٣).

وهول تغير الألوان ، قال الله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (٤).

وقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) (٥).

وهول المناداة بالسعادة والشقاوة. وقال عليه‌السلام يكون عند كل كفة الميزان ملك ، فإذا ترجح كفة الخير ، نادى : ألا إن فلانا سعد سعادة لا شقاوة بعدها أبدا. وإذا ترجح الكفة الأخرى ، نادى الملك الثاني : ألا إن فلانا شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبدا. والحكمة في هذه المحاسبة والأهوال مع أن المحاسب خبير والناقد بصير ظهور مراتب أرباب الكمال ، وفضائح أصحاب النقصان على رءوس الأشهاد زيادة في لذات هؤلاء ومسراتهم. وآلام أولئك وأحزانهم ، ثم في هذا ترغيب في الحسنات ، وزجر عن السيئات ، وهل يظهر أثر هذه الأهوال في الأنبياء والأولياء ، والصلحاء والأتقياء؟ فيه تردد. والظاهر السلامة :

(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) (٦) (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٧).

ومنها الصراط ، وهو جسر ممدود على متن جهنم ، يرده الأولون والآخرون ، أدق

__________________

(١) سورة فصلت آية رقم ٢٠ وقد جاءت هذه الآية محرفة في المطبوعة حيث قال : (يوم تشهد) وهنا تحريف.

(٢) سبق تخريج هذا الحديث.

(٣) سورة ق آية رقم ٢١.

(٤) سورة آل عمران آية رقم ١٠٦.

(٥) سورة عبس آية رقم ٣٨ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٤١.

(٦) سورة فصلت آية رقم ٣٠.

(٧) سورة يونس آية رقم ٦٢.

١١٩

من الشعر ، وأحد من السيف ، على ما ورد في الحديث الصحيح. (١) ويشبه أن يكون المرور عليه هو المراد بورود كل أحد النار على ما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (٢).

وأنكره القاضي عبد الجبار وكثير من المعتزلة زعما منهم أنه لا يمكن الخطور عليه. ولو أمكن ففيه تعذيب ، ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة.

قالوا : بل المراد به طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) (٣) وطريق النار المشار إليه بقوله : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٤)

وقيل : المراد الأدلة الواضحة ، وقيل : العبادات كالصلاة والزكاة ، ونحوهما. وقيل : الأعمال الردية التي يسأل عنها ويؤاخذ بها ، كأنه يمر عليها ويطول المرور بكثرتها ، ويقصر بقتلها.

والجواب ـ أن إمكان العبور ظاهر كالمشي على الماء ، والطيران في الهواء غايته مخالفة العادة. ثم الله تعالى يسهل الطريق على من أراد ، كما جاء في الحديث أن منهم من هو كالبرق الخاطف ، ومنهم من هو كالريح الهابة ، ومنهم من هو كالجواد ، ومنهم من تخور رجلاه ، وتتعلق يداه ، ومنهم من يخر على وجهه.

ومنها الميزان ، قال الله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (٥) وقال : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (٦).

ذهب كثير من المفسرين إلى أنه ميزان له كفتان ولسان وساقان ، عملا بالحقيقة لإمكانها ، وقد ورد في الحديث تفسيره بذلك ، وأنكره بعض المعتزلة

__________________

(١) سبق تخريج هذا الحديث.

(٢) سورة مريم آية رقم ٧١.

(٣) سورة محمد آية رقم ٥.

(٤) سورة الصافات آية رقم ٢٣.

(٥) سورة الأنبياء آية رقم ٤٧.

(٦) سورة القارعة آية رقم ٦ ـ ٨.

١٢٠