شرح المقاصد - ج ٤

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٤

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٥

قال صاحب التبصرة (١) ، وكذا تفسيرهما بالشيئين من حيث إن أحدهما ليس هو الآخر ، لصدقه على الكل مع الجزء كالعشرة مع الواحد ، وزيد مع رأسه مع أنه لم يقل أحد بكون الجزء غير الكل إلا جعفر بن حرب (٢) من المعتزلة ، وعدّ هذا من جهالاته ، لأن العشرة اسم للمجموع لا يتناول لكل فرد مع أغياره (٣) فلو كان الواحد غير العشرة لصار غير (٤) نفسه ، لأنه من العشرة ؛ ولن تكون العشرة بدونه وقال أيضا : كل الشيء ليس غيره ، لأن الشيء لا يغاير نفسه.

وأعجب من هذا من قال : لو كان الغيران هما الاثنان لكان الغيران والاثنان ليس بمستعمل ، والغير مستعمل.

والقول ما قال إمام الحرمين : إن إيضاح معنى الغيرين مما لا يدل عليه قضية عقلية ، ولا دلالة قطعية سمعية ، فلا يقطع ببطلان قول من قال : «كل شيئين غيران» نعم يقطع بالمنع من إطلاق الغيرية في صفات الباري وذاته لاتفاق الأمة على ذلك.

ثم قال : ولا يتحاشى من إطلاق القول ، بأن الصفات موجودات ، والعلم مع الذات موجودان ، وكذا جميع الصفات ، فظهر أن القول بالتعدد لا يتوقف على القول بالتغاير.

فقولنا : ولو سلم معناه لو سلم التغاير ، أو التعدد بدون التغاير.

__________________

(٥٠) هو أبو المعين ميمون بن محمد النسفي المتوفى سنة ٥٠٨ ه‍ وكتابه مجلد ضخم أوله : أحمد الله تعالى على

(١) مننه .. الخ جمع فيه ما جل من الدلائل في المسائل الاعتقادية وبين ما كان عليه مشايخ أهل السنة وأبطل مذاهب خصومهم ومن نظر فيه علم أن متن العقائد لعمر النسفي كالفهرس لهذا الكتاب.

(٢) هو جعفر بن حرب الهمدانيّ : من أئمة المعتزلة. من أهل بغداد. أخذ الكلام عن أبي الهذيل العلاف بالبصرة. وصنف كتبا. قال الخطيب البغداديّ إنها معروفة عند المتكلمين. وإن له اختصاص بالواثق العباسيّ.

قال المسعوديّ وإلى أبيه يضاف شارع «باب حرب» في الجانب الغربي من مدينة السلام توفي سنة ٢٣٦ ه‍.

راجع تاريخ بغداد ٧ : ١٦٣ ، ومروج الذهب ٢ : ٢٩٨.

(٣) في (ب) مع اعتباره.

(٤) في (أ) بزيادة (غير).

٨١

فالقول بأزلية الصفات لا تستلزم القول بقدمها لكونه أخص ، فإن القديم (١) هو الأزل القائم بنفسه ، ولو سلم أن كل أزلي قديم. فلا نسلم أن القول بتعدد القديم مطلقا كفر بالإجماع ، بل في القدم الذاتي بمعنى عدم المسبوقية بالغير ، وقدم الصفات زماني ، بمعنى كونها غير مسبوقة بالعدم.

ولو سلم أن القول بتعدد القديم كفر ذاتيا كان أو زمانيا ، فلا نسلم ذلك في الصفات، بل في الذوات خاصة ، أعني ما تقوم بأنفسها. والنصارى وإن لم يجعلوا الأقانيم القديمة ذوات ، لكن لزمهم القول بذلك حيث جوزوا عليها الانتقال! ، وقد سبق بيان ذلك ، وقوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) (٢) بعد قوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (٣) شاهد صدق على أنهم كانوا يقولون بآلهة ثلاثة. فأين هذا من القول بإله واحد له صفات كمال كما نطق بها كتابه.

__________________

(١) القديم في اللغة : ما مضى على وجوده زمان طويل ؛ ويطلق في الفلسفة العربية على الموجود الذي ليس لوجوده ابتداء ويرادفه الأول : قال ابن سينا : «يقال قديم للشيء إما بحسب ذاته وإما بحسب الزمان فالقديم بحسب الذات هو الذي ليس لذاته مبدأ هي به موجودة. والقديم بحسب الزمان لا أول لزمانه».

راجع النجاة لابن سينا ص ٣٥٥.

(٢) سورة المائدة آية رقم ٧٣.

(٣) سورة المائدة آية رقم ٧٣.

٨٢

شبهة أخرى للمخالفين والرد

عليها

(قال : وأما التمسك بأنه لو اتصف بالصفات لزم التركيب في الحقيقة الإلهية وبأن القدم أخص أوصاف الإله والكاشف عن حقيقته ، فلو اشتركت الصفات فيه لكانت آلهة ، وبأنه لا دليل على الصفات فيجب نفيها وبأنه لا يعقل من القيام إلا التبعية في التحيز فيلزم تحيز الباري فضعيف جدا).

قال : وأما التمسك إشارة إلى شبه أخرى ضعيفة جدا.

الأولى : أنه لو كان موصوفا بصفات قائمة بذاته ؛ لكانت حقيقة الإلهية مركبة من تلك الذات والصفات ، وكل مركب ممكن لاحتياجه إلى الأجزاء. والجواب : منع الملازمة بل حقيقة الإله تلك الذات الموجبة للصفات.

الثانية : أن القدم أخص أوصاف الإله ، والكاشف عن حقيقته ، إذ به يعرف تميزه عن غيره ، فلو شاركته الصفات في القدم ، لشاركته في الإلهية ، فيلزم من القول بها القول بالإلهية كما لزم النصارى.

والجواب : منع الأخص كون الكاشف هو القدم بل وجوب الوجودية.

الثالثة : أنه لا دليل على هذه الصفات لأن الأدلة العقلية لا تتم ، والسمعية لا تدل إلا على أنه حيّ عالم قادر إلى غير ذلك. والنزاع لم يقع فيه ، وما لا دليل عليه يجب نفيه كما سبق مرارا.

والجواب : منع المقدمتين.

الرابعة : أنه لا يعقل من قيام الصفة بالموصوف إلا حصولها في الحيز تبعا لحصوله ، والتحيز على الله تعالى محال ، فكذا قيام الصفات به.

والجواب : أن معنى القيام هو الاختصاص الباعث على ما هو مرادكم باتصافه بالأحوال والأحكام.

٨٣

من شبه المخالفين

(قال : والقوي إلزاما لزوم قيام المعنى بالمعنى في بقاء الصفات والدفع بأنها لا (١) تتصف بالبقاء أو باقية ببقاء الذات أو بقاؤها نفسها ضعيف).

قال : والقوي إلزاما يعني أن من الشبه القوية في هذا الباب ، وإن كانت مقدماتها إلزامية لا تحقيقية ، أنها لو كانت له صفات قديمة ، لزم قيام المعنى بالمعنى لأن القديم يكون باقيا بالضرورة. وعندكم أن بقاء الشيء صفة زائدة عليه قائمة به ، وأن قيام (٢) المعنى بالمعنى باطل. فمن الأصحاب من لم يجعل البقاء صفة زائدة ، بل استمرارا للوجود ، ومنهم من جوز في غير المتحيز قيام المعنى بالمعنى ، وإنما الممتنع قيام العرض بالعرض ، لأن معناه التبعية في التحيز ، والعرض لا يستقل بالتحيز ، ، فلا يتبعه غيره ، بل كلاهما يتبعان الجوهر. ومنهم من امتنع عن وصف الصفات بالبقاء ، فلم يقل علمه باق ، وقدراته باقية ، بل قال : هو باق بصفاته ، وهذا ضعيف جدا. لأن الدائم الموجد أزلا وأبدا من غير طريان فناء عليه أصلا ، اتصافه بالبقاء ضروري ، ولا يفيد التحرز عن التكلم به. ومنهم من قال : هي باقية ببقاء هو بقاء الذات ، فإنه بقاء للذات وللصفات ، وللبقاء لأنها ليست غير الذات بخلاف بقاء الجوهر ، فإنه لا يكون بقاء لأعراضه ، لكونها مغايرة له ، والبقاء القائم بالشيء لا يكون بقاء لما هو غيره.

بهذا صرح الشيخ الأشعريّ (٣) واعترض عليه :

__________________

(١) سقط من (أ) و (ب) لفظ (لا).

(٢) سقط من (ب) لفظ (قيام).

(٣) هو علي بن إسماعيل بن إسحاق ، أبو الحسن من نسل الصحابي أبي موسى الأشعريّ ، مؤسس مذهب الأشاعرة. كان من الأئمة المتكلمين المجتهدين. ولد في البصرة عام ٢٦٠ ه‍ وتلقى مذهب المعتزلة وتقدم فيهم ثم رجع وجاهر بخلافهم. وتوفي ببغداد عام ٣٢٤ ه‍ قيل بلغت مصنفاته ثلاثمائة كتاب منها «الإبانة» «ومقالات الإسلاميين» و «ومقالات الملحدين».

راجع طبقات الشافعية ٢ : ٢٤٥ والمقريزي ٢ : ٣٥٩ ، وابن خلكان ١ : ٣٢٦.

٨٤

بأن الصفات كما أنها ليست غير الذات ، ليست عينها ، فكيف يجعل البقاء القائم بالذات بقاء لما ليس بالذات ، ولما لم يقم به البقاء ، ولهذا لا يتصف بعض صفات الذات ، مع أنها ليست غير الذات بالبعض ، فلا يكون العلم مثلا حيا قادرا. فظهر أن علة امتناع جعل بقاء الجوهر بقاء العرض ليست تغايرهما ، بل كون أحدهما ليس الآخر ومنهم من قال: إن الصفة (١) باقية ببقاء جوهر (٢) هو نفسها ، والعلم مثلا ، علم للذات ، فيكون به عالما وبقاء لنفسه ، فيكون به باقيا ، كما أن بقاء الله تعالى بقاء له ، وبقاء للبقاء أيضا ، وهذا كالجسم يكون كائنا بالكون ، والكون يكون كائنا بنفسه ، وجاز حصول باقيين ببقاء واحد ، لأن أحدهما كان قائما بالآخر ، فلم يرد إلى قيام صفة بذاتين بخلاف حصول متحركتين بحركة ، وأسوديين بسواد.

فإن قيل : معلوم أن الشيء إنما يكون عالما بما هو علم ، قادرا بما هو قدرة ، باقيا بما هو بقاء إلى غير ذلك. وهاهنا قد لزم كون الذات عالما ، وقادرا بما هو بقاء ، والعلم باقيا بما هو علم ، والقدرة باقية بما هو قدرة وهو محال.

قلنا : اختلاف الإضافة بدفع الاستحالة ، فإن المستحيل هو أن يكون الشيء عالما أو قادرا بما هو بقاء له ، وباقيا بما هو علم أو قدرة له.

واللازم هو أن الذات عالم أو قادر بما هو بقاء للعلم أو للقدرة ، والعلم أو القدرة باق بما هو علم أو قدرة للذات.

ولقائل أن يقول : فحينئذ (٣) حتى لا يبقى قولكم بقاء الباقي صفة زائدة عليه ، قائمة به على إطلاقه. وأيضا إذا جاز كون بقاء العلم نفسه مع القطع بأن مفهوم البقاء ليس مفهوم العلم. فلم لا يجوز مثله في الصفات مع الذات بأن يكون عالما بعلم هو نفسه ، قادرا بقدرة هي نفسه ، باقيا ببقاء هو نفسه إلى غير ذلك ، ولا يستلزم إلا كون الجميع واحدا بحسب الوجود لا بحسب المفهوم والاعتبار.

__________________

(١) سقط من (ب) جملة (إن الصفة).

(٢) في (أ) بزيادة (جوهر).

(٣) سقط من (أ) فحينئذ.

٨٥

ادعاء المعتزلة نفي القدرة عن الله تعالى

(قال : ولهم في نفي القدرة.

أنه لو كانت له قدرة لما تعلقت بخلق الأجسام لأن قدرة الشاهد ليست كذلك إلا لعلة مشتركة هي كونها قدرة ولأنها إما أن تماثل قدرة الشاهد أو تخالفها بقدر تخالفها (١). قلنا : لعل العلة أخص والمخالفة أشد).

قال : ولهم في نفي القدرة تمسك المعتزلة في امتناع كون البارى تعالى قادرا بالقدرة بأنه لو كان كذلك لما كان قادرا على خلق الأجسام ، واللازم باطل وفاقا ببيان الملازمة من وجهين :

أحدهما : أن عدم صلوح قدرة العبد لخلق الأجسام حكم مشترك ، لا بدّ له من علة مشتركة ، وما هي إلا كونها قدرة ، فلو كان للباري أيضا قدرة ، لكانت كذلك.

وثانيهما : أن قدرة الباري على تقدير تحققها ، إما أن تكون مماثلة لقدرة العباد فيلزم أن لا تصلح لخلق الأجسام ، لأن حكم الأمثال واحد ، وإما أن تكون مخالفة لها ، وليست تلك المخالفة أشد من مخالفة قدرة العباد بعضها للبعض ، ومع ذلك لا يصلح شيء منها لخلق الأجسام ، فكذا التي تخالفها هذا القدر من المخالفة.

والجواب : أنا لا نسلم أنه لا بدّ للحكم المشترك من علة مشتركة. بل يجوز أن يعلل بعلل مختلفة ، إذ لا يمتنع اشتراك المختلفات في لازم واحد ، فها هنا يجوز أن يعلل عدم صلوح قدرة العباد لخلق الأجسام بخصوصياتها.

ولو سلم ، فلا نسلم أنه لا مشترك بينها سوى كونها قدرة لجواز أن تكون أمرا أخص من ذلك بحيث تشمل قدرة العباد ، ولا تشمل قدرة الباري. ولا نسلّم أن مخالفة قدرة الباري لقدرة العباد ، ليست أشد من مخالفتها فيما بينها لجواز أن تنفرد بخصوصية لا توجد في شيء منها ، فتصلح هي لخلق الأجسام دونها.

__________________

(١) سقط من (خ) جملة (بقدر تخالفها).

٨٦

ادعاء المعتزلة نفي العلم عن الله تعالى

(قال : وفي نفي العلم.

أنه لو كان عالما بعلم كما في الشاهد لكان العلمان متماثلين لتعلقهما بالمعلوم من وجه واحد ، فيلزم اشتراكهما في القدم أو الحدوث بخلاف العالمية فإنها فيه يتعلق الذات وفينا يتعلق العلم. ولكانت علومه (١) غير متناهية لكونه عالما بما لا نهاية له ولكان فوقه عليهم لقوله تعالى :

(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٢) قلنا لا يلزم من الاشتراك في اللازم التماثل ولا من التماثل الاستواء في الصفات ، ولا يمتنع كثرة تعلقات الواحد ولو إلى غير نهاية ولا تخصيص العمومات).

قال : وفي نفي العلم تمسكوا في امتناع كونه عالما بالعلم (٣) بوجوه :

الأول : أنه لو كان كذلك لزم حدوث علمه ، أو قدم علمنا ، وكلاهما ظاهر البطلان ، وجه اللزوم أنه إذا تعلق علمنا بشيء مخصوص تعلق به علمه كان كلاهما على وجه واحد ، وهو طريق تعلق العلم بالمعلوم. لا أن يكون علمه به (٤) بطريق تعلق الذات ، وعلمنا به (٥) بطريق تعلق العلم كما في عالميته ، وعالميتنا. وإذا كان كلاهما على وجه واحد كانا متماثلين ، فيلزم استواؤهما في القدم أو الحدوث.

والجواب : أن تعلقهما من وجه واحد لا يوجب تماثلهما لجواز اشتراك المختلفات في لازم واحد.

__________________

(١) في (ج) له علوم.

(٢) سورة يوسف آية رقم ٧٦.

(٣) العلم ضربان : إدراك ذات الشيء. والثاني : الحكم على الشيء بوجود شيء هو موجود له. أو نفي شيء هو منفي عنه.

فالأول : هو المتعدى إلى مفعول واحد. قال تعالى : (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ).

والثاني : المتعدى إلى مفعولين : نحو قوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ)

وقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا : لا عِلْمَ لَنا) إشارة إلى أن عقولهم قد طاشت.

(٤) في (أ) بزيادة (به).

(٥) سقط من (ب) لفظ (به).

٨٧

ولو سلّم ، فالتماثل لا يوجب تساويهما في القدم أو الحدوث لجواز اختلاف المتماثلات في الصفات ،! كالوجودات على رأي المتكلمين.

الثاني : لو كان عالما بالعلم لكان له علوم غير متناهية لأنه عالم بما لا نهاية له والعلم الواحد لا يتعلق إلا بمعلوم واحد ، وإلا لما صح لنا أن نعلم كونه عالما بأحد المعلومين ، مع الذهول عن علمه بالمعلوم الآخر ، ولجاز أن يكون علمه الواحد ، قائما مقام العلوم المختلفة في الشاهد للقطع ، بأن علمنا بالبياض يخالف علمنا بالسواد ، ولو جاز هذا لجاز أن يكون له صفة واحدة تقوم مقام الصفات كلها بأن يكون علما وقدرة وحياة وغير ذلك ، بل تقوم الذات مقام الكل.

ويلزم نفي الصفات. وإذا لم يتعلق العلم الواحد إلا لمعلوم واحد لزم أن يكون له بحسب معلوماته الغير المتناهية علوم غير متناهية ، وهو باطل وفاقا واستدلالا بما مرّ مرارا من أن كل عدد يوجد بالفعل فهو متناه.

فإن قيل : فكيف جاز أن تكون المعلومات غير متناهية ..؟

قلنا : لأن المعلوم لا يلزم أن يكون موجودا في الخارج. والجواب : أنه لا يمتنع تعلق العلم الواحد بمعلومات كثيرة ، ولو إلى غير نهاية وما ذكر في بيان الامتناع ليس بشيء لأن الذهول إنما هو عين التعلق بالمعلوم الآخر ، وعلمنا أيضا بالسواد والبياض لا يختلف إلا بالإضافة ، ولو سلم فيقام علمه مقام علوم مختلفة لا يستلزم جواز قيام صفة واحدة له مقام صفات مختلفة الجنس.

الثالث : لو كان الباري ذا علم لكان فوقه عليم لقوله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (١).

واللازم باطل قطعا. والجواب منع كونه على عمومه. والمعارضة بالآيات (٢) الدالة على ثبوت العلم كما مرّ.

__________________

(١) سورة يوسف آية رقم ٧٦.

(٢) قال تعالى : (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) سورة الأنعام آية رقم ٨٠.

وقال أيضا : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) سورة النساء آية ١٦٦.

٨٨

المبحث الثاني

إثبات القدرة لله تعالى

(قال : بمعنى تمكنه من الفعل والترك ، وصحتهما عنه بحسب الدواعي ، فأصل الباب ، أن قدم الصانع مع حدوث المصنوع لا يتصور في القادر لامتناع التخلف ، فإذا ثبت حدوث الكل أو صدور الكل عنه بواسطة فظاهر وإلا فلا بد من نفي أن تتعاقب حوادث لا بداية لها يكون شيء وطأ في صدور الحوادث عن الموجب القديم ، وقد سبق ، وأن يوجب الموجب قديما مختارا يستند إليه الحوادث فهو وفاق).

المشهور أن القادر (١) هو الذي إن شاء فعل ، وإن شاء ترك. ومعناه : أنه يتمكن من الفعل والترك. أي يصح كل منهما عنه بحسب الدواعي المختلفة. وهذا لا ينافي لزوم الفعل عنه. عند خلوص الداعي بحيث لا يصح عدم وقوعه ولا استلزام عدم الفرق بينه وبين الموجب ، لأنه الذي يجب عنه الفعل نظرا إلى نفسه. بحيث لا يتمكن من الترك أصلا ، ولا يصدق أنه إن شاء ترك كالشمس في الإشراق. والنار في الإحراق.

وميل الإمام الرازي إلى أن الداعي من جنس الإدراكات وهو العلم أو الظن أو الاعتقاد أن في الفعل مصلحة ومنفعة مثلا. وقيل : من جنس الإرادة ، وقيل : نفس المصلحة والمنفعة ، ولا خفاء في أنها لا يلزم أن تكون كذلك في نفس الأمر ، إذ ربما يظن المفسدة مصلحة ، فيقدم على الفعل ، ثم الأصل المعول عليه في باب إثبات قادرية الباري أنه صانع قديم له صنع حادث ، وصدور الحادث عن القديم إنما يتصور بطريق القدرة دون الإيجاب. وإلا فيلزم تخلف المعلول عن تمام علته ، حيث وجدت في الأزل العلة دون المعلول ، ولا يتم هذا إلا بعد إثبات أن شيئا من الحوادث

__________________

(١) هو قادر ومقتدر ، ذو قدرة ومقدرة ، والقدير : هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي حكمته لا زائدا عليها ولا ناقصا عنه ولذلك لا يصح أن يوصف به إلا الله تعالى ولا أحد يوصف بالقدرة من وجه إلا ويصح أن يوصف بالعجز من غير وجه الله تعالى فهو الذي ينتفي عنه العجز من كل وجه تعالى شانه.

٨٩

يستند إلى الباري بلا واسطة ، وذلك بأن يبين أنه قديم بذاته وصفاته. وأن العالم حادث بجميع أجزائه على ما قرره المتكلمون. أو يبين امتناع أن يكون موجبا بالذات ، ويكون في سلسلة معلولاته لأنه (١) قديم مختار يستند إليه الحوادث ، وهذا مما وافقنا عليه الخصم ، أو حركة سرمدية (٢) يكون جزئياته الحادثة شروطا ومعدات في حدوث الحوادث على ما زعمت به الفلاسفة. وقد سبق في بحث التسلسل بيان استحالة وجود ما لا نهاية لها مجتمعة كانت أو متعاقبة. وفي بحث حدوث العالم بيان استحالة أزلية الحركة.

قال إمام الحرمين رحمه‌الله تعالى : دخول حوادث لا نهاية لها لإمدادها على التعاقب في الوجود معلوم البطلان بأوائل العقول ، وكيف ينصرم بالواحد على أثر الواحد ، ما انتفت عنه النهاية كالدورات (٣) التي قبل هذه الدورة التي نحن فيها على ما تزعم الملاحدة من أن العالم لم يزل على ما هو عليه ، ولم تزل دورة قبل دورة إلى غير أول ، ووالد قبل ولد ، وبذر قبل زرع ، ودجاجة قبل بيضة ، وهذا بخلاف إثبات حوادث لا آخر لها ، كنعيم الجنان ، فإنه ليس قضاء بوجود ما لا يتناهى. وهكذا كما إذا قال : لا أعطيك درهما إلا أعطيك قبله دينارا ، أو لا أعطيك دينارا إلا أعطيك قبله درهما فلم يتصور أن يعطيه على حكم شرطه درهما ولا دينارا بخلاف (٤) ما إذا قال : لا أعطيك درهما ، إلا أعطيك بعده دينارا ، ولا أعطيك دينارا إلا أعطيك بعده درهما.

__________________

(١) في (أ) بزيادة (لأنه).

(٢) سرمدا : اي دائما ومنه قول طرفة :

لعمرك ما أمري عليّ بغمة

نهاري ولا ليلي علي بسرمد

وهو من السرد أي المتابعة ، ومنه قولهم في الأشهر الحرم ، ثلاثة سرد وواحد فرد ، والميم زائدة ، ووزنه فعمل.

أن يوصف بالعجز من وجه غير الله تعالى فهو الذي ينتفي عنه العجز من كل وجه تعالى شأنه.

(٣) الدورة في الفلك : فترة تتكرر بعدها المواقع النسبية أو خصائص الأجرام السماوية ، كحركة الأرض حول الشمس ، والقمر حول الأرض ، والدورة الشمسية أن تعود بعدها الشمس إلى نفس الموقع بالنسبة للأرض فيتكرر ترتيب الأيام في التقويم ، ودورات أخرى للبقع الشمسية ، والنجوم المتغيرة .. راجع الموسوعة الميسرة ص ٨١٥.

(٤) سقط من (أ) بخلاف.

٩٠

وبالجملة فالحدوث ينافي نفي (١) الأولية ، ولا ينافي نفي الآخرية.

لا يقال : قد يمكن تقرير هذا الاستدلال بحيث لا يفتقر إلى أحد الأمرين المذكورين ، كما ذكر في المواقف من أنه لو لم يكن قادرا لزم إما نفي الحادث أو عدم استناده إلى المؤثر ، أو التسلسل ، أو تخلف الأثر عن المؤثر التام لأنه إن لم يوجد حادث أصلا فهو الأمر الأول. وإن وجد فإن لم يستند إلى مؤثر فهو الثاني ، وإن استند فإن لم ينته إلى قديم فهو الثالث ، وإن انتهى فلا بدّ من قديم يوجب حادثا بلا واسطة دفعا للتسلسل وهو الرابع ، لأنا نقول هذا أيضا تقرير الاستدلال المشهور بزيادة مقدمات لا حاجة إليها وهي الشرطيات الثلاث.

الأول : لأن الكلام في قادرية القديم الذي إليه ينتهي الكل ، مع أن التالي في كل من الأولين عين المقدم ، ولذا عدل عنه. وقال : وإن شئت قلت : أي في تقرير هذا الاستدلال ، لو كان الباري موجبا بالذات لزم قدم الحادث ، إذ لو حدث لتوقف على شرط حادث وتسلسل ، ثم إنه لا يتم إلا بما ذكرنا على ما اعترف به حيث قال : واعلم أن هذا الاستدلال يغني على التقديرين لا يتم إلا إن تبين حدوث ما سوى الله تعالى ، وامتناع قيام حوادث متعاقبة لا نهاية لها بذاته ، أو تبين في الحادث اليومي أنه لا يستند إلى حادث مسبوق بآخر لا إلى نهاية محفوظا بحركة دائمة ، وذلك لأنه لو لم يتبين ما ذكر لم تصح الشرطية الرابعة من التقرير الأول ، ويلزم المحال المذكور في التقرير الثاني لجواز أن تنتهي الحوادث إلى قديم يوجب قديما يستند إليه الحوادث بطريق الاختيار دون الإيجاب ، فلا يلزم التخلف ولا التسلسل ، وأن لا يثبت قديم يوجب حادثا بلا واسطة ، بل يكون كل حادث مسبوقا بآخر من غير بداية كما هو رأيهم في الحركات ، ولا يكون هذا من التسلسل المسلم استحالته ، أعني ترتب العلل والمعلولات لا إلى نهاية ، فلا بدّ من بيان استحالة النوع الآخر من التسلسل. أعني كون (٢) كل حادث مسبوق بآخر لا إلى نهاية ليتم به (٣) الاستدلال.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (نفى).

(٢) سقط من (ب) لفظ (كون).

(٣) سقط من (ب) لفظ (به).

٩١

إيراد الأدلة في كونه تعالى قادرا

(قال : ولنعد من الأدلة عدة.

الأول : لما ثبت انتهاء الحوادث إلى الواجب لزم كونه قادرا وإلا فإما أن يوجب حادثا بلا وسط (١) فيلزم التخلف أو لا فيلزم التسلسل.

الثاني : تأثيره في وجود العالم إن كان بطريق الإيجاب فإما بلا وسط أو بوسط قديم فيلزم قدم العالم ، وإما بوسط حادث فتتسلسل الحوادث.

الثالث : اختلاف الأجسام بعوارضها ليس للجسمية ولوازمها لكونها مشتركة وإلا لعوارض أو ذاتيات ، أو أجسام لها نوع اختصاص لامتناع التسلسل وبتعين الفاعل المختار ، لأن نسبة الموجب إلى الكل على السواء.

الرابع : لو كان موجد العالم موجبا لزم من ارتفاعه ارتفاعه لأن ارتفاع الملزوم من لوازم ارتفاع اللازم لكن ارتفاع الواجب محال.

الخامس : اختصاص الكواكب والأقطاب بمحالها ، والأفلاك بأماكنها لو لم يكن بإرادة القادر ، لزم الترجح لأن نسبة الموجب إلى الكل على السواء.

السادس : فاعل أعضاء الحيوان وأشكاله إن كانت (٢) طبيعة أو مبدأ موجبا لزم كونه كرات مجردة أو متغامة فتعين القادر المختار وقد يتمسك بالأدلة السمعية من الإجماع وغيره ، وبأن القدرة وغيرها صفات كمال وأضدادها سمات نقص ، وبأن صانع العالم على أحكامه وانتظامه لا يكون إلا عالما قادرا بحكم الضرورة ، وهذه الوجوه مع ما فيها من مجال (٣) المناقشة ربما تفيد باجتماعها اليقين (٤)).

__________________

(١) في (ج) واسطة.

(٢) سقط من (ج) كانت.

(٣) في (أ) و (ب) : محال بدلا من (مجال).

(٤) في (ج) التعين بدلا من (اليقين).

٩٢

قال : ولنعد من الأدلة عدة بعد التنبيه على أصل الباب يريد إيراد عدة تقريرات للأصحاب.

الأول : لما ثبت بما سبق في إثبات الصانع وإبطال التسلسل انتهاء الحوادث إلى الواجب لزم كونه قادرا مختارا ، وإلا فإما أن يوجب حادثا بلا واسطة ، فيلزم التخلف ، حيث وجد في الأزل ، ولم يوجد في (١) الحادث أو لا فيلزم أن يكون كل حادث مسبوقا بآخر لا إلى نهاية وقد بين بطلانه.

الثاني : تأثير الواجب في وجود العالم يجب أن يكون بطريق القدرة والاختيار ، إذ لو كان بطريق الإيجاب ، فإما أن يكون بلا واسطة ، أو بوسط قديم فيلزم قدم العالم وقد بين حدوثه. وإما بوسط حادث ، فينقل الكلام إلى كيفية صدوره ، وتتسلسل الحوادث وقد بين بطلانه.

الثالث : اختلاف الأجسام بالأوصاف ، واختصاص كلّ بما له من الشكل واللون ، والطعم والرائحة ، وغير ذلك ، لا بد أن يكون لمخصص لامتناع التخصيص بلا مخصص ، فذلك المخصص لا يجوز أن يكون نفس الجسمية أو شيئا من لوازمها ، لكونها مشتركة بين الكل ، بل أمر آخر ، فينقل الكلام إلى اختصاصه بذلك الجسم ، فإما أن تتسلسل المخصصات وهو محال ، أو ينتهي إلى قادر مختار بناء على أن نسبة الموجب إلى الكل على السواء وهو المطلوب.

الرابع : لو كان موجد العالم وهو الله تعالى موجبا بالذات لزم من ارتفاع العالم ارتفاعه ، بمعنى أن يدل ارتفاعه على ارتفاعه. لأن العالم حينئذ (٢) يكون من لوازم ذاته ، ومعلوم بالضرورة أن ارتفاع اللازم يدل على ارتفاع الملزوم ، لأن ارتفاع الواجب محال. فتعين أن يكون تأثيره في العالم بطريق القدرة والاختيار دون اللزوم والإيجاب.

الخامس : اختصاص الكواكب والأقطاب (٣) لمحالها لو لم تكن بقادر مختار بل

__________________

(١) في (ب) بزيادة حرف الجر (في).

(٢) في (ب) حتى بدلا من (حينئذ).

(٣) في (ب) الأقطار بدلا من (الاقطاب).

٩٣

بموجب لزم الترجيح بلا مرجح ، لأن نسبة الموجب إلى جميع أجزاء البسيط على السواء.

السادس : فاعل الحيوانات (١) وأعضائها (٢) على صورها وأشكالها ، يجب أن يكون قادرا مختارا. إذ لو كان طبيعة النطفة أو أمرا خارجيا موجبا لزم أن يكون الحيوان على شكل الكرة ، إن كانت النطفة بسيطة ، لأن ذلك مقتضى الطبيعية ، ونسبة الموجب إلى أجزاء البسيط على السوية ، وعلى شكل كرات مضمومة بعضها إلى البعض إن كانت النطفة مركبة ، من البسائط بمثل ما ذكر.

وقد يتمسك في إثبات كون الباري قادرا عالما بالإجماع ، والنصوص القطعية من الكتاب والسنة (٣) ، وبأن القدرة والعلم والحياة ونحو ذلك صفات كمال. وأضدادها من العجز والجهل والممات سمات نقص يجب تنزيه الله عنها. وبأن صانع العالم على ما فيه من لطائف الصنع وكمال الانتظام والإحكام عالم قادر بحكم الضرورة. وهذه الوجوه لا تخلو عن محال مناقشة :

أما الستة (٤) الأول : قلما (٥) لا يخفى على المتأمل فيها ، الواقف على قواعد الفلسفة وأما السابع : فلأن مرجع الأدلة السمعية إلى الكتاب ، ودلالة المعجزات ، وهل يتم الإقرار بها ، والإذعان لها قبل التصديق بكون الباري قادرا عالما فيه تردد وتأمل ، وأما الثامن : فلأنه فرع جواز اتصافه (٦) [بها وكونها كمالات في حقه ووجوب اتصافه] بكل كمال ونحو ذلك من المقدمات التي (٧) ربما يناقش فيها. وأما التاسع : فلابتنائه (٨) على

__________________

(١) في (أ) الحيوان بدلا من (الحيوانات).

(٢) في (أ) وأعضائه بدلا من (أعضائها).

(٣) قال تعالى : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) سورة الأنعام آية رقم ٦٥ ، وقال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) سورة الرعد آية رقم ٩.

(٤) في (ب) الشبه وهو تحريف.

(٥) في (ب) فلما بدلا من (قلما).

(٦) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٧) في (ب) انتهى بدلا من (التي).

(٨) في (ب) فلا نهاية وهو تحريف.

٩٤

أن ما يشاهد من أمر السماء والأرض مستند إلى الواجب بلا واسطة ، إلى بعض معلولاته(١) على ما يزعم الفلسفي ، لكن من كان طالبا (٢) للحق غير هائم في أودية الضلال ربما يستفيد من هذه لوجوه القطع واليقين بلا احتمال.

__________________

(١) في (ب) معلوماته وهو تحريف.

(٢) سقط من (ب) لفظ طالبا.

٩٥

أدلة المخالفين في قدرة الله تعالى

(قال : تمسك المخالف بوجوه :

الأول : تعلق القدرة إن افتقر إلى مرجح تسلسل ، وإن لم يفتقر انسد باب إثبات (١) الصانع ، ورد بمنع الملازمتين لجواز أن يكون المرجح تعلق الإرادة لذاتها ولأن ترجيح القادر أحد مقدوريه بلا مرجح بمعنى تخصيصه بلا داعية غير ترجيح الممكن بلا مرجح ، يعني تحققه بلا مؤثر.

الثاني : أن تعلق القدرة والإرادة إما قديم فيلزم قدم العالم ، وإما حادث فتتسلسل الحوادث ، ورد بالمنع لجواز أن يتعلقا في الأزل بإيجاده في ما لا يزال ، أو يكون حدوث تعلقهما لذاتهما.

الثالث : أن الفاعل إن استجمع جميع ما لا بدّ منه وجب رده (٢) لامتناع التخلف في القادر ، ورد بأن الوجوب من القادر لا ينافي الاختيار بل يحققه ، بخلاف الوجوب من الموجب فإنه لا يصح فيه إنه إن شاء ترك.

الرابع : أن نسبة القدرة إلى الوجود نسبتها إلى العدم ، وهو لا يصلح مقدورا لكونه أزليا ونفيا محضا فكذلك الوجود. ورد بأن معنى القدرة على العدم أنه إن شاء لم يفعل وإن لم يشأ لم يفعل لا إن شاء فعل العدم.

الخامس : أن المختار إن كان الفعل أولى به من الترك يلزم الاستكمال بالغير وإلا فالعبث ، ورد بأنه يكفي في نفي العبث كونه أولى في نفسه أو بالنسبة إلى الغير.

السادس : أن أثر المختار إن امتنع في الأزل لزم الانقلاب وإن أمكن لزم جواز استناد الأزلي إلى المختار ، ورد بأنه في الأزل ممكن لذاته ممتنع لكونه أثر المختار.

__________________

(١) سقط من (ج) لفظ (إثبات).

(٢) في (ج) اثره بدلا من (رده).

٩٦

السابع : أنه يعلم في الأزل وجود الأثر فيجب أو عدمه فيمتنع فلا يكون مقدورا ، ورد بأنه يعلم وجوده بقدرته).

قال : تمسك المخالف بوجوه :

الأول : لو كان الباري تعالى فاعلا بالقدرة والاختيار دون الإيجاب ، فتعلق قدرته بأحد مقدوريه بالمتساويين ، بالنظر إلى نفس القدرة دون الآخرين ، افتقر إلى مرجح بنقل الكلام إلى تأثيره في ذلك المرجح ، ولزم التسلسل في المرجحات ، وإن لم يفتقر لزم انسداد باب ثبات (١) الصانع ، لأن مبناه على امتناع الترجح بلا مرجح ، وافتقار وقوع الممكن إلى مؤثر.

والجواب : منع الملازمتين. أي لا نسلم أنه لو افتقر تعلق القدرة إلى مرجح لزم التسلسل ، لجواز أن يكون الترجيح هو الإرادة (٢) التي تتعلق بأحد المتساويين لذاتها ، كما في اختيار الجائع أحد الرغيفين ، والهارب أحد الطريقين ، ولا يخفى أن هذا أولى مما قال في المواقف اقتداء بالإمام أن القدرة تتعلق لذاتها.

ولا نسلّم أنه لو لم يفتقر إلى مرجح لزم انسداد باب إثبات الصانع ، فإن المفضي إلى ذلك جواز ترجيح الممكن بلا مرجح ، بمعنى تحققه بلا مؤثر ، لا ترجيح القادر أحد مقدوريه بلا مرجح ، بمعنى تخصيصه بالإيقاع من غير داعية.

ولا يلزم من جواز هذا جواز ذلك.

الثاني : أن تعلق القدرة والإرادة بإيجاد العالم إن كان أزليا لزم كون العالم أزليا لامتناع التخلف عن تمام العلة ، وإن كان حادثا ينقل الكلام إلى تعلقهما بأحداث ذلك التعلق ، وتتسلسل التعلقات الحادثة (٣).

__________________

(١) (أ) بزيادة لفظ (بثبات).

(٢) الإرادة : هي المشيئة ، وراوده على كذا مراودة ، وإرادة الكلأ أي طلبه والرائد هو الذي يرسل في طلب الكلأ. وهي بمعنى القصد إلى الشيء.

وفي اصطلاح المتكلمين ، عند الأشاعرة : هي صفة قديمة زائدة على الذات قائمة بها تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه من الأمور المتقابلة.

راجع شرح البهجوري على الجوهرة ص ٧٨.

(٣) راجع المقصد الثاني من كتاب المواقف في قدرته تعالى ج ٨ ص ٤٩ وما بعدها.

٩٧

والجواب : منع الملازمتين.

أما الأولى : فلجواز أن تتعلق القدرة والإرادة في الأزل بإيجاد العالم فيما لا يزال.

وأما الثانية : فلجواز أن يكون حدوث تعلق القدرة والإرادة لذاتهما من غير افتقار إلى حدوث تعلق آخر. على أن التعلقات اعتبارات عقلية ينقطع التسلسل فيها بانقطاع الاعتبار.

الثالث : أن الواجب إذا (١) استجمع جميع ما لا بد منه في صدور الأثر عنه وجوديا كان أو عدميا ، وجب صدور الأثر عنه ، بحيث لا يتمكن من الترك لامتناع عدم الأثر عند تمام المؤثر ، فلا يكون مختارا بل موجبا ، وإن لم يستجمع (٢) جميع ما لا بدّ منه امتنع صدور الأثر ضرورة امتناع وجود الأثر بدون المؤثر ، وحاصل هذا يؤول إلى أنه لا فرق بين الموجب والمختار.

والجواب : أنه لو سلم امتناع عدم الأثر عند تمام المؤثر المختار. فلا نسلم أن هذا يستلزم كون الفاعل موجبا لا مختارا ، فإن الوجوب بالاختيار محقق للاختيار لا مناف له ، لأنه بحيث لو شاء لترك بخلاف الموجب فظهر الفرق.

الرابع : أن الفاعل لو كان قادرا على وجود الشيء ، لكان قادرا على عدمه ، لأن نسبة القدرة إلى الطرفين على السواء ، لكن اللازم باطل ، لأن العدم الأصلي أزلي ولا شيء من الأزلي بأثر للقادر ، وأيضا العدم ، نفي محض لا يصلح متعلقا للقدرة والإرادة. لأن معناه التأثر ، وحيث لا تأثير فلا أثر.

والجواب : أن معنى كون العدم مقدورا. أن الفاعل إن شاء لم يفعل ، أي إن شاء أن لا يوجد الشيء لم يوجده ، أو إن لم يشأ لم يفعل. (٣) أي إن لم يشأ أن يوجده لم يوجده.

__________________

(١) في (ب) إن بدلا من (إذا).

(٢) في (ب) يجتمع بدلا من (يستجمع).

(٣) في (ب) لم يقم به بدلا من (لم يفعل).

٩٨

ولا نسلم استحالة ذلك ، وإنما المستحيل هو أنه (١) شاء فعل العدم ، وهذان الوجهان لنفي كون المؤثر قادرا واجبا كان أو غيره ، وقد ذكرهما في المواقف بطريق السؤال والجواب بعد ما قال : احتج الحكماء بوجوه (٢).

الأول : ذكرنا أولا ولم يذكره غيره.

الخامس : أن الفاعل للشيء بطريق القدرة والاختيار ، إن كان الفعل أولى به من الترك لزم استكماله بالغير ، وإن لم يكن أولى لزم كون فعله عبثا وكلا الأمرين محال على الواجب.

الجواب : أنا لا نسلم أن الفعل إذا لم يكن أولى به كان عبثا (٣) لما لا يكفي في نفي العبث كونه أولى في نفس الأمر ـ أو بالنسبة إلى الغير من غير أن تكون تلك الأولوية أولى بالفاعل ، وإن سمي مثله عبثا بناء على خلوه من نفع للفاعل. فلا نسلم استحالته على الواجب.

السادس : أن الباري تعالى لو كان قادرا مختارا لزم انقلاب الممتنع ممكنا أو جواز كون الأزلي أثرا للقادر وكلاهما محال.

وجه اللزوم أن أثره إن كان ممتنعا في الأزل ، وقد صار ممكنا فيما لا يزال فهو الأمر الأول ، وإن كان ممكنا وقد أوجده القادر فهو الثاني لأن إمكانه في الأزل (٤). مع أن الاستناد إلى القادر في قوة إمكان (٥) استناده إلى القادر مع كونه في الأزل.

والجواب : منع الملازمة الثانية لجواز أن يكون ممكنا في الأزل نظرا إلى ذاته وممتنع وقوعه في الأزل ، نظرا إلى وصف استناده إلى القادر كالحادث ممكن في الأزل لذاته ،

__________________

(١) في (ب) إن شاء بدلا من (أنه شاء).

(٢) راجع ما ذكره صاحب المواقف في المقصد الثاني ج ٨ ص ١٥٣ حيث قال «احتج الحكماء على إيجابه تعالى بوجوه كثيرة أقواها ما صرح به المصنف وعبر عنه بقوله : الأول : لأنه الذي عليه يعولون .. الخ.

(٣) في (ب) عيبا بدلا من (عبثا).

(٤) سقط من (ب) من أول : وقد ... إلى (في الأزل).

(٥) في (أ) بزيادة (إمكان).

٩٩

ويمتنع مع حدوثه ، فلا يلزم جواز الاستناد إلى القادر لما هو أزلي بل لما هو ممكن في الأزل بالذات.

ولا نسلّم استحالته.

السابع : أن أثر الباري تعالى. إما واجب الوقوع أو ممتنع الوقوع ، لأنه إما يعلم في الأزل وقوعه فيجب أو لا وقوعه فيمتنع ، وإلا لزم الجهل ولا شيء من الواجب والممتنع بمقدور لزوال مكنة (١) الترك في الأول (٢) والفعل في الثاني. بل كليهما في كليهما.

والجواب : أنه يعلم (٣) ممتنع وقوعه بقدرته ومثل هذا الوجوب لا ينافي المقدورية بل يحققها.

__________________

(١) في (ب) ممكنة.

(٢) في (ب) الأولى بدلا من (الأول).

(٣) في (ب) ممتنع بدلا من (يعلم).

١٠٠