شرح المقاصد - ج ٤

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٤

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٥

خلق الشرور والقبائح أيضا ، كذلك ، فلا يكون شرا وسفها ، ومنهم عبدة الملائكة ، وعبدة الكواكب ، وعبدة الأصنام ، أما عبدة الملائكة والكواكب فيمكن أنهم اعتقدوا كونها مؤثرة في عالم العناصر مدبرة لأمور قديمة بالزمان ، شفعاء العباد عند الله تعالى مقربة إياهم إليه تعالى (١) وأما الأصنام (٢) فلا خفاء في أن العاقل لا يعتقد فيها شيئا من ذلك.

قال الإمام : فلهم في ذلك تأويلات باطلة :

الأول : أنها صور أرواح تدبر أمرهم وتعتني بإصلاح حالهم على ما سبق.

الثاني : أنها صور الكواكب التي إليها تدبير هذا العالم فزينوا كلا منها بما يناسب ذلك الكوكب.

الثالث : أن الأوقات الصالحة للطلسمات القوية الآثار لا توجد إلا أحيانا من أزمنة متطاولة جدا فعملوا في ذلك الوقت طلسما لمطلوب خاص يعظمونه ويرجعون إليه عند طلبه.

الرابع : أنهم اعتقدوا أن الله تعالى جسم على أحسن ما يكون من الصورة ، وكذا الملائكة ، فاتخذوا صورا بالغوا في تحسينها وتزيينها وعبدوها لذلك.

الخامس : أنه لما مات منهم من هو كامل المرتبة عند الله تعالى اتخذوا تمثالا

__________________

ـ لصرف. قال أبو إسحاق : فلما لم يصرف دل على أنه أعجمي. قال ابن جرير : لم يصرف وإن كان عربيا لقلة نظره من كلامهم فشبهوه بالأعجمي. وقال الواحدي : الاختيار أنه ليس بمشتق لاجتماع النحويين على أنه ممن يمنع من الصرف للعجمة والعلمية.

واختلفوا هل هو من الملائكة أم لا ..؟ فروي عن طاوس ومجاهد عن ابن عباس أنه من الملائكة وكان اسمه عزازيل فلما عصى الله تعالى لعنه وجعله شيطانا مريدا وسماء إبليس وبهذا قال ابن مسعود وسعيد.

(١) سقط من (ب) لفظ (تعالى).

(٢) في (ب) الأجسام بدلا من الاصنام.

٤١

على صورته وعظموه تشفعا إلى الله تعالى وتوسلا (١) ، ومنهم اليهود القائلون : إن عزيرا ابن الله (٢) ؛ لما أحياه الله تعالى بعد موته وكان يقرأ التوراة عن ظهر قلبه ، ومنهم النصارى القائلون بأن المسيح ابن الله حيث ولد بلا أب ، وورد في الإنجيل ذكرهما بلفظ الأب والابن.

والجواب : أنه إن صح النقل من غير تحريف ، فمعنى الأبوة الربوبية ، وكونه المبدأ والمرجع ، ومعنى النبوة التوجه إلى جناب الحق عزوجل بالكلية كابن السبيل أو قصد التشريف والكرامة ، ولهذا نقل في الإنجيل مثل ذلك في حق الأمة أيضا حيث قال : إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم.

وبالجملة فنفي الشركة في الألوهية ثابت عقلا وشرعا وفي استحقاق العبادة شرعا ، (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣)

__________________

(١) وبهذا المعنى فسر ما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة ـ رضي الله عنها أن أم حبيبة ، وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة تسمى مارية فيها تصاوير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة.

وذكر الثعلبي عن ابن عباس ـ قال : هذه الأصنام أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسمّوها بأسمائهم تذكرونهم بها ، ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت من دون الله.

(٢) قد روى أن سبب ذلك القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه‌السلام فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم ، فخرج عزير يسيح في الأرض فأتاه جبريل فقال : أين تذهب. قال : أطلب العلم ، فعلمه التوراة كلها فجاء عزير بالتوراة إلى بني إسرائيل فعلمهم ، وقيل : بل حفظها الله عزيرا كرامة منه له : فقال لبني إسرائيل إن الله حفظني التوراة فجعلوا يدرسونها من عنده ، وكانت التوراة مدفونة ، كان دفنها علماؤهم حين أصابهم من الفتن والجلاء والمرض ، وقتل بختنصر إياهم ثم إن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي متساوية لما كان عزير يدرس فضلوا عند ذلك وقالوا : إن هذا لم يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله. حكاه الطبريّ. وظاهر قول النصارى أن المسيح ابن الله ، إنما أرادوا نبوة النسل كما قالت العرب في الملائكة ، وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبريّ وغيرهما وهذا أشنع الكفر.

قال أبو المعالي : أطبقت النصارى على أن المسيح إله وأنه ابن إله قال ابن عطية ، ويقال إن بعضهم يعتقدها نبوة حنو ورحمة ، وهذا المعنى أيضا لا يحل أن تطلق النبوة عليه وهو كفر.

(٣) سورة التوبة آية رقم ٣١.

٤٢

المبحث الثاني

(أنه تعالى ليس بجسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ، ولا في مكان وجهة.

فالحكماء (١) : لأن الجسم محتاج إلى جزئه ، والعرض إلى محله والجوهر وجوده زائد على ماهيته ، والمكان والجهة من خواص الجسم.

والمتكلمون : لأن الجوهر ينبئ لغة عمّا هو أصل الشيء والعرض : عمّا يمتنع بقاؤه ، وإن دار مع القائم بنفسه والقائم بغيره ، والجسم حادث ، لما سبق ومتحيز بالضرورة ومتصف ببعض الامتداد والاشكال لمخصص فتحتاج ، ولو كان الواجب متحيزا لزم قدم الحادث ، أعني الحيز ، ولزم إمكان الواجب ووجوب المكان ، لأن التحيز محتاج إلى الحيز دون العكس ولكان إما في كل حيز فيخالط ما لا ينبغي مع لزوم التداخل ، وإما في البعض بمخصص فيحتاج أولا فيلزم الترجيح بلا مرجح).

قال : الواجب ليس بجسم (٢) لأن كل جسم مركب من أجزاء عقلية هي الجنس والفصل ، ووجودية هي الهيولي والصورة ، أو الجواهر الفردة ومقدارية

__________________

(١) الحكيم : صاحب الحكمة ، ويطلق على الفيلسوف ، والعالم والطبيب وعلى صاحب الحجة القطعية المسماة بالبرهان والحكماء السبعة عند قدماء اليونانيين هم طالس ، وبيتاكوس ، وبياس وصولون ، وكليوبول ، وميزون ، وشيلون.

راجع : كتاب بروتاغوراس لأفلاطون.

(٢) الجسم في بادئ النظر هو هذا الجوهر الممتد للأبعاد الثلاثة الطول ، والعرض ، والعمق ، وهو ذو شكل ووضع ، وله مكان إذا شغله منع غيره من التداخل فيه معه ، فالامتداد ، وعدم التداخل هما إذا المعنيان المقومان للجسم ويضاف إليهما معنى ثالث وهو الكتلة. والجسم الطبيعي عند قدماء الفلاسفة هو مبدأ الفعل والانفعال ، وهو الجوهر المركب من مادة وصورة.

٤٣

هي الأبعاض ، وكل مركب محتاج إلى جزئه ، ولا شيء من المحتاج بواجب ، وليس بعرض لأن كل عرض محتاج إلى محل يقومه ، إذ لا معنى له سوى ذلك ولا جوهر ؛ لأن معنى الجوهر ممكن يستغني عن المحل أو ماهية إذا وجدت كانت لا من موضوع فيكون وجوده زائدا عليه ، والواجب ليس كذلك على ما سبق ، وليس في مكان وجهه ؛ لأن المكان (١) اسم للسطح الباطن من الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوى أو للفراغ الذي يشغله الجسم والجهة اسم المنتهى مأخذ الإشارة ، ومقصد المتحرك فلا يكونان إلا للجسم والجسماني والواجب ليس كذلك.

وللمتكلمين خصوصا القدماء منهم في هذه التنزيهات مسلك آخر ففي نفي الجوهرية والعرضية أن الجوهر اسم لما يتركب منه الشيء ، والعرض لما يستحيل بقاؤه وإن كان يصح في الشاهد أن كل جوهر قائم بنفسه وكل قائم بنفسه جوهر ، وكل عرض قائم بالغير وكل قائم بالغير عرض ، إلا أن إطلاق الاسم ليس من هذه الجهة ، بل من جهة ما ذكرنا بدلالة اللغة.

يقال : فلان يجري على جوهره الشريف ، أي أصله وهذا الثوب جوهريّ. أي محكم الأصل جيد الصنعة وهذا الأمر عارض أي يزول ، وعرض لفلان أمر

__________________

(١) المكان الموضع ، وجمعه أمكنة وهو المحل المحدد الذي يشغله الجسم تقول مكان فسيح ، ومكان ضيق ، وهو مرادف للامتداد ، ومعناه عند ابن سينا السطح الباطن من الجرم الحاوي المماس للسطح الظاهر للجسم المحوي (راجع رسالة الحدود ٩٤). وعند المتكلمين : الفراغ المتوهم الذي يشغله الجسم ، وينفذ فيه أبعاده (تعريفات الجرجاني). والمكان عند الحكماء الإشراقيين هو البعد المجرد الموجود ، وهو ألطف من الجسمانيات ، وأكثف من المجردات ، ينفذ فيه الجسم وينطبق البعد الحال فيه على ذلك البعد في أعماقه وأقطاره ، فعلى هذا يكون المكان بعدا منقسما في جميع الجهات ، مساويا للبعد الذي في الجسم ، بحيث ينطبق أحدهما على الآخر ، ساريا فيه بكليته (كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي). والمكان عند المحدثين وسط مثالي غير متداخل الأجزاء ، حاو للأجسام المستقرة فيه ، محيط بكل امتداد متناه ، وهو متجانس الأقسام متشابه الخواص في جميع الجهات.

٤٤

أي معنى لا قرار له ولا يدوم ، ومثله : العارض للسحاب ، ومن هاهنا لا يجعلون الصفات القديمة القائمة بذات الله تعالى أعراضا. وفي نفي الجسمية وجوه :

الأول : أن كل جسم حادث لما سبق.

الثاني : أن كل جسم متميز (١) بالضرورة. والواجب ليس كذلك لما سيأتي.

الثالث : أن الواجب لو كان جسما. فإما أن يتصف بجميع صفات الأجسام. فيلزم اجتماع الضدين كالحركة والسكون ونحوهما ، وإما ألا يتصف بشيء فيلزم انتفاء بعض لوازم الجسم ، مع أن الضدين قد يكونان بحيث يمتنع خلو الجسم عنهما ، وإما أن يتصف بالبعض دون البعض ، فيلزم احتياج الواجب في صفاته إن كان ذلك لمخصص (٢) ، ويلزم الترجيح بلا مرجح ، إن كان لا لمخصص.

الرابع : أنه لو كان جسما لكان متناهيا لما مرّ من (٣) تناهي الأبعاد ، فيكون شكلا ، لأن الشكل عبارة عن هيئة إحاطة النهاية بالجسم ، وحينئذ (٤) إما أن يكون على جميع الأشكال وهو محال ، أو على البعض دون البعض لمخصص فيلزم الاحتياج أو لا لمخصص فيلزم الترجيح بلا مرجح.

لا يقال هذا وارد في اتصاف الواجب بصفاته دون أضدادها.

لأنا نقول : صفاته صفات كمال يتصف بها لذاته ، وأضدادها صفات نقص تنزه عنها لذاته بخلاف الأضداد المتواردة على الأجسام ، فإنها قد تكون متساوية الأقدام ، وفي نفي الحيز والجهة وجوه.

الأول : أنه (٥) لو كان الواجب متحيزا للزم قدم الحيز ضرورة امتناع المتحيز بدون الحيز(٦) واللازم باطل لما مرّ من حدوث ما سوى الواجب وصفاته.

__________________

(١) في (أ) متحيز بدلا من (متميز).

(٢) في (ب) بمخصص.

(٣) في (أ) في بدلا من حرف الجر (من).

(٤) في (ب) وهي بدلا من (حينئذ).

(٥) سقط من (ب) لفظ (أنه).

(٦) سقط من (أ) لفظ (الحيز).

٤٥

الثاني : أنه لو كان في مكان لكان محتاجا إليه ضرورة. والمحتاج إلى الغير ممكن فيلزم إمكان الواجب. ولكان المكان مستغنيا عنه لإمكان الخلاء والمستغني عن الواجب يكون مستغنيا عما سواه بطريق الأولى فيكون واجبا والمفروض أن (١) الواجب هو المتمكن لا الإمكان (٢) ومعنى الوجهين على أن الحيز موجود لا متوهم.

الثالث : لو كان الواجب في حيز وجهة. فإما أن يكون في جميع الأحياز والجهات فيلزم تداخل المتحيزات ، ومخالطة الواجب بما لا ينبغي كالقاذورات. وإما أن يكون في البعض دون البعض ، فإن كان لمخصص لزم الاحتياج ، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح.

__________________

(١) سقط من (ب) حرف (أن).

(٢) في (أ) المكان بدلا من (الإمكان).

٤٦

المخالفون في تنزيه الله تعالى

(قال : وأما المخالفون : فمنهم أطلق الجسم بمعنى الموجود والجوهر بمعنى القائم بنفسه، والحق المنع شرعا واحتياطا ومنهم (١) المجسمة : القائلون بأنه جسم على صورة شاب أمرد أو شيخ أشمط أو شبيكة بيضاء تتلألأ.

والمشبهة (٢) : القائلون : بأنه في جهة العلو وفوق العرش مماسا له أو محاذيا ببعد متناه أو غير متناه متمسكين بأن كل موجود جسم أو جسماني أو متحيز أو حال فيه ومتصل بالعالم أو منفصل وداخل العالم أو خارجه ، وبظواهر النصوص المشعرة بالجهة والجسمية والجواب ظاهرا).

أما المخالفون إجراء الجسم مجرى الموجود فمخالف للعرف واللغة. ولما اشتهر من الاصطلاحات ، لكن إطلاق الجوهر بمعنى الموجود القائم بنفسه ، وبمعنى الذات والحقيقة اصطلاح شائع فيما بين الحكماء.

فمن هاهنا يقع في كلام بعضهم إطلاق لفظ الجوهر على الواجب.

وفي كلام ابن كرام (٣) أن الله احدى الذات ، احدى الجوهر ، ومع هذا فلا ينبغي

__________________

(١) المجسمة : أتباع محمد بن كرام ويرى الشهرستاني : أن ابن كرام بدأ صفاتيا ثم غلا في إثبات الصفات حتى انتهى فيها إلى التشبيه والتجسيم ، ومن الواضح أن أول ما فجأ ابن كرام هو أنه آمن بالعرشية والجهة فالله عنده مستقر على العرش وأنه بجهة فوق ذاتا ، ولا يمكن هذا إلا لجسم.

(٢) المشبهة : اتباع مقاتل بن سليمان. والمقدسي يرى أن مقاتل بن سليمان زعم أن الله جسم من الأجسام ـ لحم ودم وأنه سبعة أشبار بشبر نفسه.

(٣) هو محمد بن كرام ولد بسجستان ثم انتقل حين شب إلى خراسان نشأ في موطن الحشوية والمشبهة ، ارض مقاتل بن سليمان القديمة وكانت خرسان ملتقى المذاهب الغنوصية القديمة وقد بشر محمد بن كرام بجانب مذهبه في التجسيم بروح الزهد والتنسك توفي عام ٢٥٥ ه‍.

٤٧

أن يجزأ على ذلك ، ولا على إطلاق الجسم عليه بمعنى الموجود. إما سمعا فلعدم ادن الشارع ، وإما عقلا فلإيهامه بما عليه المجسمة من كونه جسما بالمعنى المشهور ، ولما (١) عليه النصارى من أنه جوهر واحد ، ثلاثة أقانيم (٢) على ما سيجيء. وأما القائلون بحقيقة الجسمية والحيز والجهة ، فقد بنوا مذهبهم على قضايا وهمية كاذبة تستلزمها ، وعلى ظواهر آيات وأحاديث مشير (٣) بها. أما الأول : فكقولهم كل موجود فهو إما جسم أو حال في جسم والواجب يمتنع أن يكون حالا في الجسم لامتناع احتياجه فيتعين أن يكون جسما. وكقولهم : كل موجود إما متحيز أو حال في التحيز ويتعين كونه متحيزا لما مرّ ، وكقولهم : الواجب إما متصل بالعالم أو منفصل عنه ، وأيا ما كان يكون في جهة منه.

وكقولهم : الواجب إما داخل في العالم فيكون متحيزا أو خارجا عنه فيكون في جهة منه ، ويدعون في صحة هذه المنفصلات ، وتمام انحصارها الضرورة والجواب : المنع كيف وليس تركيبها عن الشيء ونقيضه ، أو المساوى لنقيضه ، وأطبق أكثر العقلاء على خلافها ، وعلى أن الموجود إما جسم أو جسماني ، أو ليس بجسم ، ولا جسماني ، وكذا باقي التقسيمات المذكورة ، والجزم بالانحصار في القسمين ، إنما هو من الأحكام الكاذبة للوهم ، ودعوى الضرورة مبنية على العناد والمكابرة ، أو على أن الوهميات كثيرا ما تشتبه بالأوليات.

وأما الثاني : فلقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) (٤) (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ

__________________

(١) في (ب) وبما بدلا من (ولما).

(٢) يراجع في ذلك ما كتبه الإمام الجويني في كتابه (الشامل في أصول الدين) حيث تكلم عن الأقانيم وذكر مذاهب النصارى فيها مع استقصاء وجوه الرد فيها. وناقشهم مناقشة العالم الفاهم لأمور دينه وفند مذاهبهم في الاتحاد ودرع اللاهوت بالناسوت ص ٥٧٥ وما بعدها وقد قمنا بالتعريف بالأقانيم فيما تقدم من هذا الكتاب.

(٣) في (أ) تشعر بها.

(٤) سورة الفجر آية رقم ٢٢.

٤٨

اللهُ) (١) (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٢) (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (٣) (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) (٤) (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (٥) (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٦) (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٧) (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (٨) (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (٩). إلى غير ذلك وكقوله عليه الصلاة والسلام للجارية الخرساء : «أين الله» فأشارت إلى السماء فلم ينكر عليها ، وحكم بإسلامها (١٠).

«إن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا» (١١) الحديث.

«إن الله خلق آدم على صورته» (١٢).

«إن الجبار يضع قدمه في النار» (١٣).

«إنه يضحك إلى أوليائه حتى تبدو نواجذه» (١٤).

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٢١٠ وقد جاءت هذه الآية محرفة في المطبوعة بزيادة (الفاء) وفي المخطوطة بزيادة (الواو).

(٢) سورة طه آية رقم ٥.

(٣) سورة فاطر آية رقم ١٠.

(٤) سورة الرحمن آية رقم ١٧.

(٥) سورة الفتح آية رقم ١٠.

(٦) سورة طه آية رقم ٣٩.

(٧) سورة ص آية رقم ٧٥.

(٨) سورة الزمر آية رقم ٦٧.

(٩) سورة الزمر آية رقم ٥٦.

(١٠) الحديث رواه مسلم في المساجد ٣٣ وأبو داود في الصلاة ١٦٧ والإيمان ١٦ والنسائي في الوصايا ٨ صوم ٢. والموطأ في العتق ٩ وأحمد بن حنبل ٢ : ٢٩١ ، ٣ : ٤٥١.

(١١) الحديث رواه البخاري في التهجد ١٤ ومسلم في المسافرين ١٦٨ ، ١٧٠ وأبو داود في السنة ١٩ والترمذي في الصلاة ٢١١ والدعوات ٧٨ وابن ماجه في الإقامة ١٨٢ والدارمي في الصلاة ١٦٨ والموطأ في القرآن ٣٠ ، وأحمد بن حنبل ٢ : ٢٦٤ ، ٢٦٧ ، ٢٨٢.

(١٢) الحديث رواه البخاري في التفسير سورة ٥٠ والايمان ١٢ وتوحيد ٧ ، ٢٥ ومسلم في الجنة ٣٥ ، ٣٧ ، ٣٨ ، والترمذي في الجنة ٢٠ وتفسير سورة ٥٠ وأحمد بن حنبل ٢ : ٢٦٩ ، ٥٠٧ ٣ : ١٢.

(١٣) الحديث رواه أحمد بن حنبل في مسنده ، ٢ : ٢٤٤ ، ٢٥١ والبخاري في الاستئذان ١. ومسلم في البر ١١٥ ، والجنة ٢٨.

(١٤) الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده ح ٥ : ٢٧٨ ولم يعثر على هذا الحديث في غير هذا الكتاب.

٤٩

«إن الصدقة تقع في كف الرحمن» (١) إلى غير ذلك.

والجواب : أنها ظنيات سمعية في معارضة قطعيات عقلية ، فيقطع بأنها ليست على ظواهرها ، ويفوض العلم بمعانيها إلى الله تعالى مع اعتقاد حقيقتها (٢) ، جريا على الطريق الأسلم الموافق للوقف على (إِلَّا اللهُ) في قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) (٣).

أو تأول تأويلات مناسبة موافقة لما دلت عليه (٤) الأدلة العقلية على ما ذكر في كتب التفسير ، وشروح الحديث سلوكا للطريق الأحكم الموافق للعطف في (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (٥).

فإن قيل : إذا كان الدين الحق نفي الحيز والجهة (٦) فما بال الكتب السماوية! والأحاديث النبوية مشعرة في مواضع لا تحصى بثبوت ذلك؟ من غير أن يقع في موضع منها تصريح بنفي ذلك ، وتحقيق كما قررت الدلالة على وجود الصانع ووحدته وعلمه وقدرته ، وحقية المعاد وحشر الأجساد في عدة مواضع ، وأكدت غاية التأكيد ، مع أن هذا أيضا حقيق بغاية التأكيد ، والتحقيق لما تقرر في فطرة العقلاء مع اختلاف الأديان ، والآراء من التوجه إلى العلو عند الدعاء ورفع الأيدي إلى السماء.

__________________

(١) الحديث رواه مسلم في الزكاة ٦٣ والنسائيّ في الزكاة ٤٨ وابن ماجه في الزكاة ٢٨ وأحمد بن حنبل ٢ : ٢٦٨ ، ٥٣٨ ولفظه عند مسلم «ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيديه وإن كانت ثمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله».

(٢) في (ب) حقيقيتها.

(٣) سورة آل عمران آية رقم ٧.

(٤) في (ب) دلّ بدلا من (دلت).

(٥) سورة آل عمران آية رقم ٧.

(٦) الجهة : هي الجانب والناحية والموضع الذي تتوجه إليه وتقصده قال ابن سينا : إننا نعنى بالجهة شيئا إليه مأخذ حركة أو إشارة راجع جامع البدائع ١٥٤.

والجهة والحيز متلازمان في الوجود لأن كلا منهما مقصد للمتحرك الأيني ، إلا أن الحيز مقصد للمتحرك بالحصول فيه ، والجهة مقصد له بالوصول إليها. والقرب منها فالجهة منتهى الحركة لا ما تصح فيه الحركة (راجع كليات أبي البقاء).

٥٠

أجيب : بأنه لما كان التنزيه عن الجهة (١) مما تقصر عنه عقول العامة حتى يكاد يجزم بنفي ما ليس في الجهة كان الأنسب في خطاباتهم ، والأقرب إلى اصطلاحهم ، والأليق بدعوتهم إلى الحق ، ما يكون ظاهرا في التشبية وكون الصانع في أشرف الجهات مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق عما هو من سمات (٢) الحدوث ، وتوجه العقلاء إلى السماء ، ليس من جهة اعتقادهم أنه في السماء ، بل من جهة أن السماء قبلة الدعاء ، إذ (٣) منها يتوقع الخيرات والبركات ، وهبوظ الأنوار ، ونزول الأمطار.

__________________

(١) في (ب) عما بدلا من (مما).

(٢) في (ب) مسمات بدلا من (سمات).

(٣) في (ب) أو بدلا من (إذ).

٥١

الواجب لا يتصف بالكميات ولا الكيفيات

(قال تنبيه فلا يتصف بشيء من الكميات والكيفيات من الطول والعرض والصورة واللون والطعم والرائحة والفرح والغم والغضب واللذة والألم.

وقول الحكماء : باللذة العقلية لما أنه يدرك كمالاتها فيبتهج بها إنما يتم لو ثبت أن إدراك الملائم في الغائب لذة أو ملزوم لها كما في الشاهد).

تنبيه : لما ثبت أن الواجب ليس بجسم ظهر أنه لا يتصف بشيء من الكيفيات المحسوسة بالحواس الظاهرة أو الباطنة مثل الصورة ، واللون ، والطعم ، والرائحة ، واللذة ، والألم ، والفرح (١) والغم ، والغضب ، ونحو ذلك ، إذ لا يعقل منها إلا ما يخص الأجسام ، وإن كان البعض منها مختصا بذوات الأنفس. ولأن للبعض منها تغيرات وانفعالات وهي على الله تعالى محال (٢).

وأثبت الحكماء اللذة العقلية ، لأن كمالاته أمور ملائمة وهو مدرك لها ، فيبتهج بها.

واعترض بأنه إن أريد أن الحاجة التي تسميها اللذة هي نفس إدراك الملائم فغير معلوم. وإن أريد أنها حاصلة البتة عند إدراك الملائم ، فربما يختص ذلك بإدراكنا دون إدراكه، فإنهما مختلفان قطعا.

واعلم أن بعض القدماء بالغوا في التنزيه حين امتنعوا عن إطلاق اسم الشيء بل العالم والقادر وغيرهما على الله تعالى زعما منهم أنه يوجب إثبات المثل له ، وليس كذلك (٣) ، إذ المماثلة إنما تلزم لو كان المعنى المشترك بينه وبين غيره فيهما على

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (والفرح).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (تعالى).

(٣) في (أ) لأن بدلا من (إذ).

٥٢

السواء ، ولا تساوي بين مشيئته ومشيئة (١) غيره ، ولا بين علمه وعلم غيره ، وكذا جميع الصفات. وأشنع من ذلك امتناع الملاحدة عن إطلاق اسم الموجود عليه (٢). وأما الامتناع عن إطلاق الماهية ، فمذهب كثير من المتكلمين. لأن معناها المجانسة (٣) ، يقال ما هذا الشيء من أي جنس هو؟.

قالوا : وما روي أن أبا حنيفة (٤) رحمه‌الله كان يقول : «إن لله تعالى مشيئة (٥) لا يعلمها إلا هو» ليس بصحيح ، إذ لم يوجد في كتبه ، ولم ينقل عن أصحابه العارفين بمذهبه. ولو ثبت فمعناه أنه يعلم نفسه بالمشاهدة لا بدليل أو خبر أو أن له اسما لا يعلمه غيره ، فإن لفظة (٦) ما قد يقع سؤالا عن الاسم.

قال الشيخ أبو منصور (٧) رحمه‌الله : إن سألنا سائل عن الله تعالى (٨) ما هو؟.

قلنا : إن أردت ما اسمه؟ فالله الرحمن الرحيم. وإن أردت ما صفته؟ فسميع بصير ، وإن أردت ما فعله؟ فخلق المخلوقات ووضع كل شيء موضعه ، وإن أردت ما ماهيته (٩)؟ فهو متعال عن المثال والجنس.

__________________

(١) في (أ) شيئيته وشيئية غيره.

(٢) سقط من (ب) لفظ (عليه).

(٣) التجانس وكذا المجانسة : بحسب الاصطلاح الكلامي الاتحاد في الجنس كالإنسان والفرس ، وهما من أقسام الوحدة ، كذا في شرح المواقف والأصول. وهكذا عند الحكماء على ما يفهم من استعمالاتهم.

راجع كشاف اصطلاحات الفنون ج ١ ص ٣٢٨.

(٤) هو النعمان بن ثابت ، أبو حنيفة إمام الحنفية ، الفقيه المجتهد المحقق أحد الأئمة الأربعة عند اهل السنة ولد عام ٨٠ ه‍ بالكوفة ، وكان يبيع الخز ويطلب العلم في صباه ، ثم انقطع للتدريس والافتاء من كتبه (مسند في الحديث) والفقه الأكبر توفي عام ١٥٠ ه‍. راجع تاريخ بغداد ١٣ ـ ٣٢٣ وابن خلكان ٢ : ١٦٣ ، والنجوم الزاهرة ٢٠ : ١٢ والبداية والنهاية ١٠ : ١٠٧.

(٥) في (أ) ماهية بدلا من (مشيئة).

(٦) سقط من (ب) كلمة (لفظة).

(٧) هو محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي ، من أئمة علماء الكلام نسبته الى ماتريد محلة بسمرقند من كتبه التوحيد ، وأوهام المعتزلة ، والرد على القرامطة ، ومآخذ الشرائع في أصول الفقه وشرح الفقه الأكبر المنسوب للإمام أبي حنيفة. مات بسمرقند عام ٣٣٣ ه‍. راجع الفوائد البهية ١٩٥ ومفتاح السعادة ٢ : ٢١ والجواهر المضية ٢ : ١٣٠ وفهرس المؤلفين ٢٦٤.

(٨) في (أ) بزيادة لفظ (تعالى).

(٩) سقط من (ب) لفظ (ما).

٥٣

المبحث الثالث

الواجب لا يتحد بغيره

(قال : في أنه لا يتحد بغيره لما سبق ولامتناع كون الواحد واجبا ممكنا ولا يحل فيه لأن الحال في الشيء محتاج إليه ، ولأنه إن احتاج إلى المحل لزم إمكانه وإلا امتنع حلوله ، وقد يستدل بأن الحلول إما صفة كمال فيلزم الاستكمال بالغير أو لا فيجب نفيه وبأن ما اتفق العقلاء عليه من الحلول هو التبعية في التحيز وبأنه لو جاز حلوله في الأجسام لما وقع للقطع وبعدم حلوله في أصغرها).

المبحث الثالث : الواجب لا يتحد بغيره ، ولا يحل فيه. أما الاتحاد فلما سبق من امتناع اتحاد الاثنين ولأنه يلزم كون الواجب هو الممكن ، والممكن هو الواجب ، وذلك محال بالضرورة وأما الحلول فلوجوه :

الأول : أن الحال في الشيء يفتقر إليه في الجملة. سواء كان حلول جسم في مكان ، أو عرض في جوهر أو صورة في مادة كما هو رأي الحكماء ، أو صفة في (١) موصوف ، كصفات المجردات ، والافتقار إلى الغير ينافي الوجوب.

فإن قيل : قد يكون حلول امتزاج كالماء في الورد.

قلنا : ذلك من خواص الأجسام ، ومفضي إلى الانقسام ، وعائد إلى حلول الجسم في المكان.

الثاني : أنه لو حل في محل فإما مع وجوب ذلك وحينئذ يفتقر إلى المحل ويلزم إمكانه ، وقدم المحل ، بل وجوبه ، لأن ما يفتقر إليه الواجب أولى بأن يكون واجبا ، وإما مع جوازه وحينئذ يكون غنيا عن الحل.

__________________

(١) في (ب) من بدلا من (في).

٥٤

والحال يجب افتقاره إلى المحل فيلزم انقلاب الغني عن الشيء محتاجا إليه ، هكذا قرره الإمام رحمه‌الله.

ثم اعترض بأنه على التقدير الأول لا يلزم الافتقار لجواز أن توجب ذاته ذلك المحل ، والمحل الحلول ، أو توجب ذاته المحل ، والحلول جميعا ، ووجوب اللوازم والآثار عند المؤثر لا يوجب احتياجه إليها. وعلى التقدير الثاني لا يلزم الانقلاب لأنا لا نسلم (١) أن الحال في الشيء يكون محتاجا إليه كالجسم المعين بحل في الحيز المعين مع عدم احتياجه في ذاته إليه.

وقد تقرر بأنه (٢) إذا كان مستغنيا بالذات لزم إمكانه وقدم المحل وهو ظاهر. واعترض : بأن عدم الاستغناء بالذات لا يستلزم الاحتياج بالذات ، ليلزم إمكانه في قدم المحل لجواز أن يكون كل من الغنى والاحتياج عارضا بحسب أمر خارج.

وأجيب : بأن عدم مجرد الاستغناء بالذات يستلزم الإمكان (لأن الواجب مستغني بالذات ضرورة (٣)) ولا حاجة إلى توسيط الاحتياج بالذات ، وقد يقرر بأنه إن كان محتاجا بالذات لزم إمكانه ، وإلا امتنع حلوله.

وردّ : بأن عدم الاحتياج الذاتي لا ينافي عروض الاحتياج ، فلا ينافي الحلول.

الثالث : أن الحلول في الغير إن لم يكن صفة كمال ، وجب نفيه عن الواجب ، وإن كان لزم كون الواجب مستكملا بالغير وهو باطل وفاقا.

الرابع : أنه لو حل في شيء لزم تحيزه. لأن المعقول من الحلول باتفاق العقلاء هو حصول الفرض في الحيز تبعا لحصول الجوهر.

وأما صفات الباري عزوجل (٤) فالفلاسفة لا يقولون بها. والمتكلمون لا

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (لا نسلم).

(٢) في (ب) إن بدلا من (إذا).

(٣) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٤) في (أ) بزيادة (عزوجل).

٥٥

يقولون بكونها أعراضا ولا بكونها (١) حالة في الذات ، بل قائمة بها بمعنى الاختصاص الناعت (٢).

الخامس : أنه (٣) لو حل في الجسم على ما يزعم الخصم ، فإما في جميع أجزائه فيلزم الانقسام أو في جزء منه فيكون أصغر الأشياء ، وكلاهما باطل بالضرورة والاعتراف.

السادس : لو حل في جسم والأجسام متماثلة لتركبها من الجواهر الفردة المتفقة الحقيقة على ما بين ، لجاز حلوله في أحقر الأجسام وأرذلها ، فلا يحصل الجزم بعدم حلوله في مثل البعوض وهو باطل بلا نزاع.

__________________

(١) سقط من (ب) ولا بكونها.

(٢) مذهب السلف وأئمتها أنّهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل يثبتون الأسماء والصفات وينفون عنه مماثلة المخلوقات إثباتا بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل كما قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). الشورى آية ١١. ونفاة الصفات أخذوا يقولون : إثبات الصفات يقتضي التركيب والتجسيم. إما لكون الصفة لا تقوم إلا بجسم في اصطلاحهم. والجسم مركب في اصطلاحهم ، وإما لأن إثبات العلم والقدرة ونحوهما يقتضي إثبات أمور متعددة وذلك تركيب.

راجع كتاب الصفدية ص ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٣) سقط من (ب) لفظ (ه).

٥٦

الحلول والاتحاد محكى عن النصارى

(قال : والاتحاد محكى عن النصارى في حق عيسى عليه‌السلام ، وعن بعض الغلاة في حق أئمتهم (١) وعن بعض المتصوفة في حق كلمتهم ، وأما ما يدعي بعضهم من ارتفاع الكثرة عند الفناء في التوحيد ، أو أنه لا كثرة في الوجود أصلا فبحث آخر).

والقول بالحلول يعني كما قامت الدلالة على امتناع الحلول والاتحاد على الذات فكذا على الصفات ، بل أولى لاستحالة انتفاء (٢) الصفة عن الذات ، والاحتمالات التي يذهب إليها أوهام المخالفين في هذا الأصل ثمانية (٣).

حلول ذات الواجب أو صفته في بدن الإنسان أو روحه ، وكذا الاتحاد. والمخالفون منهم نصارى ومنهم (٤) منتمون إلى (٥) الإسلام. أما النصارى : فقد ذهبوا إلى أن الله تعالى جوهر واحد ، ثلاثة أقانيم (٦) ، هي الوجود والعلم والحياة ، المعبر عنها عندهم ، بالأب ، والابن ، وروح القدس على ما يقولون : أبا ابنا روحا قدسا ، ويعنون بالجوهر القائم بنفسه ، وبالأقنوم الصفة ، وجعل الواحد ثلاثة جهالة ، أو ميل إلى أن الصفات نفس الذات ، واقتصارهم على العلم والحياة دون القدرة وغيره جهالة أخرى ، وكأنهم يجعلون القدرة راجعة إلى الحياة ، والسمع والبصر إلى العلم ثم قالوا : إن الكلمة وهي أقنوم العلم ، اتحدت بجسد المسيح ، وتدرعت بناسوته بطريق الامتزاج كالخمر بالماء عند

__________________

(١) في (ج) في حق على بدلا من (أئمتهم).

(٢) في (ب) انتفاء بدلا من (انتقال).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (ثمانية).

(٤) في (ب) وهم بدلا من (ومنهم).

(٥) في (ب) في بدلا من حرف الجر (إلى).

(٦) الأقانيم : الصفات ، كالوجود والحياة والعلم ، وسموها الأب والابن ، وروح القدس. وإنما العلم تدرع وتجسد دون سائر الأقانيم.

٥٧

الملكانية (١) ، وبطريق الإشراق كما تشرق الشمس من قوة على بلور عند النسطورية (٢) ، وبطريق الانقلاب لحما ودما بحيث صار الإله هو المسيح عند اليعقوبية (٣).

ومنهم من قال : ظهر اللاهوت (٤) بالناسوت (٥) ، كما يظهر الملك في صورة البشر ، وقيل : تركب اللاهوت والناسوت كالنفس مع البدن.

وقيل : إن الكلمة قد تداخل الجسد (٦) فيصدر (٧) عنه خوارق (٨) للعادات.

وقيل : تفارقه فتحله الآلام والآفات إلى غير ذلك من الهذيانات.

وأما المنتمون إلى الإسلام ، فمنهم بعض غلاة الشيعة (٩) القائلون ، بأنه لا

__________________

(١) الملكانية : أصحاب ملكا الذي ظهر بأرض الروم واستولى عليها ومعظم الروم ملكانية قالوا : إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته ويعنون بالكلمة أقنوم العلم ويعنون بروح القدس قنوم الحياة.

(٢) النسطورية : أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون وتصرف في الأناجيل بحكم رأيه ، وإضافته إليهم إضافة المعتزلة إلى هذه الشريعة. قال : إن الله تعالى واحد ذو أقانيم ثلاثة الوجود ؛ والعلم والحياة. وهذه الأقانيم ليست زائدة على الذات ولا هي هو ... الخ.

(٣) اليعقوبية : أصحاب يعقوب قالوا بالأقانيم الثلاثة إلا أنهم قالوا انقلبت الكلمة لحما ودما فصار الإله هو المسيح. وهو الظاهر بجسده بل هو هو وعنهم أخبرنا القرآن الكريم «لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم. سورة المائدة آية ٧٢.

راجع الملل والنحل للشهرستاني ج ٢ ص ٢٨ ، ٢٩ ، ٣٠.

(٤) اللاهوت : كلمة سريانية بمعنى الألوهية. وقيل أصله لاه. بمعنى إله زيدت فيه الواو والتاء.

(٥) الناسوت : كلمة سريانية الأصل ومعناها طبيعة الإنسان وقيل أصلها الناس زيد في آخرها واو وتاء مثل ملكوت وجبروت.

(٦) في (ب) الجسم.

(٧) في (ب) فيصور وهو تحريف.

(٨) في (ب) فوارق بدلا من (خوارق).

(٩) الشيعة : هم الذين شايعوا عليا رضي الله عنه على الخصوص ، وقالوا بإمامته وخلافته نصا ووصية ، إما جليا ، وإما خفيا ، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده وإن خرجت فبظلم يكون من غيره ، أو تقية من عنده ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوبا عن الكبائر والصغائر وهم خمس فرق منهم الغالية وهم الذين غلوا في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخلقية وحكموا فيهم بأحكام الالهية. فربما شبهوا واحدا من الأئمة بالإله. الخ.

راجع ما كتبه الشهرستاني عنهم في كتابه الملل والنحل ج ٢ ص ١٧٣.

٥٨

يمتنع ظهور الروحاني بالجسماني كجبريل في صورة دحية الكلبي (١) ، وكبعض الجن أو الشياطين في صورة الأناسى (٢) فلا يبعد أن يظهر الله تعالى في صورة بعض الكاملين. وأولى(٣) الناس بذلك علي وأولاده المخصوصون الذين هم خير البرية ، والعلم ؛ وفي الكلمات العلمية ، والعملية (٤) فلهذا كان يصدر عنهم في العلوم والأعمال ما هو فوق الطاقة البشرية.

ومنهم بعض المتصوفة القائلون بأن السالك إذا أمعن (٥) في السلوك ، وخاصة لجهة الأصول ، فربما يحل الله فيه تعالى الله (٦) عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، وكالنار في الحجر ، بحيث لا يتمايز أو يتحد به بحيث لا اثنينية ولا تغاير.

وصح أن يقول : هو أنا ، وأنا هو. وحينئذ يرتفع الأمر والنهي ، ويظهر من الغرائب والعجائب ما لا يتصور من البشر ، وفساد الرأيين غني عن البيان. وهاهنا مذهبان آخران يوهمان بالحلول والاتحاد ، وليسا منه في شيء.

الأول : أن السالك إذا انتهى سلوكه إلى الله تعالى وفي الله يستغرق في بحر التوحيد والعرفان بحيث تضمحل ذاته في ذاته تعالى (٧) وصفاته في صفاته. ويغيب عن كل ما سواه ، ولا يرى في الوجود إلا الله تعالى وهذا الذي يسمونه الفناء في التوحيد (٨) وإليه يشير الحديث الإلهي «إن العبد لا يزال يتقرب إليّ حتى

__________________

(١) هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي ، صحابي بعثه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم برسالته إلى قيصر يدعوه للإسلام ، وحضر كثيرا من الوقائع ، وكان يضرب به المثل في حسن الصورة ، وشهد اليرموك ثم نزل دمشق وسكن المزة وعاش إلى خلافة معاوية توفي نحو ٤٥ ه‍.

راجع الاصابة ٤٧٢ ، وتهذيب ابن عساكر ٢٦٨ وفيه دحية بفتح الدال وفي القاموس بالكسر وتفتح.

(٢) سقط من (ب) في صورة.

(٣) في (ب) وأقل وهو تحريف.

(٤) في (أ) بزيادة العملية.

(٥) في (ب) أمضى بدلا من (أمعن).

(٦) سقط من (ب) لفظ (فيه).

(٧) في (أ) بزيادة لفظ (تعالى).

(٨) الفناء : زوال الشيء والفرق بينه وبين الفساد أن فناء الشيء عدمه على حين أن فساده تحوله إلى شيء آخر.

٥٩

حبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع ، وبصره الذي به يبصر» (١) وحينئذ ربما يصدر عنه عبارات تشعر بالحلول أو الاتحاد ، لقصور العبارة عن بيان تلك الحال ، وتعذر (٢) الكشف عنها بالمقال. ونحن على سبيل التمني ، نفترق من بحر التوحيد بقدر الإمكان ، ونعترف بأن طريق الفناء فيه العيان دون البرهان والله الموفق.

الثاني : أن الواجب هو الوجود المطلق ، وهو واحد لا كثرة فيه أصلا ، وإنما الكثرة في الإضافات والتعينات التي هي بمنزلة الخيال والسراب ، إذ الكل في الحقيقة واحد يتكرر على مظاهر لا بطريق المخالطة ، وبتكثرة في النواظر ، لا بطريق الانقسام ، فلا حلول هاهنا ، ولا اتحاد لعدم الاثنينية والغيرية. وكلامهم في ذلك طويل خارج عن طريق العقل والشرح. وقد أشرنا في بحث الوجود إلى بطلانه ولكن من يضلل الله فما له من هاد.

__________________

والفناء عند الصوفية : عدم شعور الشخص بنفسه ، أو بشيء من لوازم نفسه وقيل الفناء تبديل الصفات البشرية بالصفات الإلهية. وقيل : الفناء سقوط الأوصاف المذمومة ، والبقاء ثبوت النعوت المحمودة وعلامته عندهم ذهاب حظ المرء من الدنيا والآخرة إلا من الله تعالى. والبقاء الذي يعقبه هو أن يفنى أعماله ويبقى بما لله تعالى. وعلامة فنائك عن الخلق انقطاعك عنهم وعن التردد إليهم ، وعلامة فنائك عن نفسك وعن هواك. تركك التعلق بالأسباب التي تجلي النفع وتدفع الضر وآخر الفناء عند الصوفية أن لا ترى شيئا إلا الله.

راجع المعجم الفلسفي ج ٢ ص ١٦٧.

(١) الحديث رواه الإمام البخاري في الرقاق ٣٨ وأحمد بن حنبل ج ٦ : ٢٥٦ ولفظه عند البخاري : إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي عبدي لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته».

(٢) في (ب) وبعد بدلا من (وتعذر).

٦٠